رواية إعلان ممول
الفصل التاسع 9
بقلم رحمة نبيل & فاطمة طه سلطان
صلوا على نبي الرحمة ...
________
دخل إلى المنزل وصعد، ثم فتح الباب وسار بضعة خطوات ليجد والدته تجلس على الاريكة تربط رأسها بوشاح أسود بشكل مخيف وابناء شقيقه يجلسون بجانبها بوجة حزين وشاحب، منتكسة رؤوسهم....
هناك كارثة بالتأكيد...
أقترب من والدته وجثى على ركبتيه قائلا في تردد من شدة قلقه:
_أيه اللي حصل يا أمي؟! حامد كويس؟!.
لا يدري لما ظن بأن شقيقه قد أصابه مكروه مما جعل والدته تهز رأسها في إيجاب بمعنى أنه بخير ليسألها داوود في الاحتمال الأخر:
_طلق مراته؟!..
هزت رأسها نافية مما جعل داوود يتحدث في استغراب:
_أيه فتح دماغ الواد اللي متقدم لطليقته؟!.
تحدث ابن شقيقه الكبير نافيًا:
_أنتَ مصمم تشوه صورة بابا وخلاص.
غمغم داوود مستنكرًا:
_أسكت بس أنتَ أبوك مش محتاج حد يشوهه وبعدين ما تنطقوا وحد يتكلم يقول في أيه، ما تقولي في أيه يا جيهان جبتيني على ملى وشي ومش عايزة تقولي في أي!
تمتمت جيهان في نبرة درامية من الدرجة الأولى:
_قلبي مش مطاوعني أنطقها يا ابني، حد يقوله يا عيال.
تحدث ابن شقيقه الأخر متمتمًا في توضيح:
_أفكار سابت البيت والشغل ومش جاية تاني خلاص.
ضيق داوود عيناه وقال مستفسرًا:
_ليه سابت الشغل ليه؟!.
غمغمت جيهان هنا بانفعال واضح:
_مش عارف سابت الشغل ليه؟! سابت الشغل من زعيقك ومعاملتك ليها، البت عندها كرامة، شايلاني وشايلة عيال أخوك ومن ساعة ما دخلت البيت وأنا عايشة في راحة ولاقية اللي يونسني بس هقول أيه حسبي الله ونعم الوكيل في اللي كان السبب وقطع بعيشها للمرة الثانية..
لا يدري لما تقوم والدته بجعله يشعر بالذنب هناك جانب منه بالفعل بدا في عتابه ولكن الجانب الأخر لم يهتم بذلك وهو يقول في نبرة حازمة بعد أن نهض وأعتدل في وقفته:
_براحتها الباب يفوت جمل، أنا اصلا كنت شفقان عليها علشان كده مشغلها، وبعدين هي اللي مقموصة بعد البلاوي اللي عملتها دي؟!.
غمغم ابن شقيقه ببراءة:
_بس طنط أفكار كانت طيبة وواخده بالها مننا وأحنا اتعودنا.
لا يصدق ما يحدث!!
من الذي أعتاد عليها؟!!!!
لم يمر الكثير على إتيانها من الأساس وجعلوها جزء من العائلة سُيصاب بأزمة قلبية بسبب ما يسمعه....
الأطفال الصغار تأثروا بها كما لو كانت والدتهم
تحدث داوود في نبرة حاسمة:
_ أتعودتم أيه؟!!!! أنتم لحقتوا، وبعدين محصلش حاجة زي ما جيبتها هجيب غيرها متقلقوش.
نهضت والدته لتعقب قبل رحيلها حتى تنفرد بنفسها في الغرفة:
_مش هتلاقي زي أفكار مهما حصل..
أردف داوود مستنكرًا بنبرة هامسة:
_ليه سميرة موسى؟!!...
_____________
منذ عودتها من السوق وهي على وشك أن ترتكب جريمة كاملة الأركان..
بدل من الحزن والندم عليها، بحث عن فتاة غيرها بكل سهولة، صرخت وهي تحدث نفسها بجنون بالتأكيد والدته المصون هي من وجدتها حتى تجعله ينساها، سخرت من نفسها لمَ يهمها أمره؟؟ فليذهب للجحيم، أتى من هو أجمل وأفضل منه بكثير حسب مقاييسها هي ووالدها العالية فهو سيظل بائع عطور....
رجل ليس لديه أي طموح...
كان يجب عليها الرد على تلك الفتاة، كيف صمتت ولم تردع تلك الحمقاء التي ألجمت لسانها بالفعل وجعلها غير قادرة على إهانتها كما فعلت هي بحقها..
ولجت والدتها إلى الغرفة متمتمة في سخرية:
_الجزار ضاحك عليكي في اللحمة كلها دهن وأنا عايزاها حمراء كان لازم تتحمقي وتنزلي ياريتني كنت نزلت أنا.
أردفت روضة في ضيقٍ شديد هي تعقد ساعديها وتجلس على الأريكة المتواجدة في الغرفة:
_معلش يا ماما أنتِ عارفة إني مبعرفش اشتري حاجة وحاولت أجرب، وبعدين كويس أنك جيتي كنت عايزة أتكلم معاكي في موضوع.
سألتها والدتها باستغراب:
_موضوع ايه ده؟!.
أردفت روضة بوضوح وتحدي فهي تريد إثارة غضب داوود على حسب ظنها:
_موضوع أننا نعلن خطوبتنا انا وياسر رسمي ونعمل خطوبة ونفرح والناس كلها تعرف.
_معداش كتير على فسخ خطوبتك أنتِ وداوود وفي نفس الوقت خدي وقتك يعني مستعجلة على أيه؟؟ لازم تعرفوا بعض كويس علشان متتحسبش عليكي خطوبة تاني يا بنتي أفهمي.
قالت روضة في إصرار رهيب:
_لما بابا يجي أنا هفتاحه في الموضوع لازم ناخد خطوة مش هيفضل داخل خارج علينا هو وعمتي على أساس قراءة فاتحة وأنا من حقي أصحابي وكل اللي حواليا يفهموا ويعرفوا إني مخطوبة أنا مش عاملة عملة ومش أول واحدة يتفسخ خطوبتها ومش هستنى أكتر من كده.
كانت والدتها تنظر لها بنظرات عجيبة فهي لا يعجبها تصرفات ابنتها وزوجها من الأساس وبعد أن أقتنعت روضة برأيها في التريث والانتظار ما الذي حدث جديد لتكون بهذا الإصرار والرغبة....
_براحتك يا بنتي أنا نصحتك وخلاص أمشي بدماغك أنتِ وأبوكي لغايت ما نشوف أخرتها معاكم.
__________
-لا، لا الشغل ده مش عاجبني يا وردة، عملت الحوار ده من سنة ونص ومش جايب همه، فين وفين عقبال ما واحدة تتجوز وتجيب حد يرصلها الحاجة، أنا عايزة حاجة ليها مكسب يومي.
كانت أفكار تتحدث مع جارتها الحبيبة "وردة" التي تبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا تعمل في أحد المطاعم نادلة ولكنها تركت العمل منذ عدة أيام وتبحث عن عمل أخر...
غمغمت وردة في نبرة ساخرة:
_ما تتهدي يا أفكار بقا صدعتي اللي جابوني، ياستي مش كده ده أنتِ ملحقتيش تأخدي نفسك نامي وبعدين نفكر هتعملي أيه.
قالت أفكار بسُخطٍ:
_هو أنا لسه هستنى، هستنى لما الفلوس اللي معايا تخلص وملاقيش أكل ولا أنا ولا أمي؟!! لازم ألاقي حاجة أعملها، والله عارفة يا بت يا وردة أنا كل يوم بتأكد إن اللي زينا ملهمش نصيب في الحياة غير الشقى..
-ليه بس كده يا افكار وهو يعني احنا مش عايشين كويس ؟؟!.
تنهدت أفكار وهي تهتف لها بتأثر:
_مهوا اللي معهوش شهادة بيتمرمط علشان يعرف يلاقي شغل زينا كده أقل حاجة لازم يكون معاكي دبلوم، غير كده هتروحي فطيس ولا مكان هيرضى ياخذك، والكل بيتنك علينا زي اللي اسمه داوود ده قلبي وربي غضبانين عليه حسبي الله ونعم الوكيل من ساعة ما دخل حياتي وهي خربت على الأقل شغلي في الشركة كان أرحم شوية.
تحدثت وردة محاولة أن تواسيها:
_ياستي ياما دقت على الرأس طبول أنتِ بس نامي وريحي والصباح رباح أنا هقوم أمشي علشان عايزة أروح للبت منى تكويلي شعري علشان حنة بنت عمتي بكرا بليل.
مسحت أفكار دمعة هبطت من عيناها بالمنديل الورقي المتواجد في يدها متمتمة في استغراب:
_صحيح أنتِ جيتي مرة واحدة ليه؟! من ساعة ما جيتي وأنا دخلت في الموضوع وعماله اشتكيلك من اللي حصلي غريبة أنك جيتي وأبوكي سابك كده...
تحدثت وردة في عفوية وهي تسرد لها السبب الذي جعلها تأتي:
_مهوا فرح وحنة بنت عمتي بقا وعمتي هي اللي قالتله يسيبني أكوي شعري وأظبط حالي علشان بتوعده إني هطلع بعريس من الفرح فروحت للبت منى في الكوافير لقيت قدامي عشرة والدنيا زحمة قولتلها هروح واجي تاني قولت اقعد عندك بدل ما أطلع عندنا السادس وأبويا يزرجن عليا وميرضاش ينزلني تاني.
كانت أفكار تسمع حديثها وخطر في عقلها تلك الفكرة المجنونة..
ثم سألتها في غموض:
_هي بتاخد منك كام على شعرك؟! وأي حاجة بتعمليها عرفيني الأسعار.
اندهشت وردة من طلب صديقتها فهي دومًا لا تذهب إلى صالون التجميل وتفعل كل ما تريده دون الذهاب إلى تلك الأماكن ترى بأنها تدخر تلك الأموال أفضل بكثير ورُبما لأنها ليست مهووسة عمومًا في شخصيتها بتلك الأمور ولكن كانت تخبرها بما تريده لعلها تريد التغيير بعد ما مرت به مؤخرًا من أزمات...
صرخت أفكار قائلة بحماس وهي تنهض من الفراش التي كانت شبه مستلقية عليه:
_لقيتها، لقيتها يابت وردة.
أنتفضت وردة وهي تقول بعدم فهم فما أصاب تلك المعتوهة:
_لقيتي أيه يا مجنونة براحة ؟!
تحدثت أفكار وفي نهاية حديثها كانت تشير للشرفة التي تطل على الشارع وعلى أرجاء الغرفة:
_أنا قررت افتح كوافير وأنضف ستات الحتة المقشفين دول تبقى الولية منهم تنشف ريقي لما أعملهم أكل عزومة ولا أعملهم حاجة تفاصل في الخمسة جنية وتروح تدفع بالميات وألالاف في شعرها ووشها في الكوافير كانت تايهة مني فين الفكرة دي من زمان، وكمان أعملها هنا في الاوضة والشباك على الشارع.
_أنتِ تعرفي حاجة عن الموضوع اساسا، أنتِ اتهطلتي صح؟!
هزت أفكار رأسها نافية وهي تقول:
_لا ده أنا عقلت خلاص وعرفت اللي هعمله.
لم تستطع وردة أن تتجادل معها أكثر من ذلك..
_طيب يا أفكار ياختي فكري مع نفسك كده واحسبيها ونبقى نشوف.
نهضت أفكار وتوجهت صوب الخزانة وهي تخرج عباءة سوداء منها:
_هو أنا لسه هفكر أنا فكرت خلاص يا حبيبتي ومن بكرا هتبقى الاوضة دي كوافير أفكار، هلبس العباية ونروح الموسكي ونيجي نجيب لينا شوية بضاعة وحاجات زي اللي عند البت منى وكده كده المكوى والاستشوار والحاجات دي عندي كنت جيباهم لجهازي وكنت بدفع قسطهم من دم قلبي المشروع أولى بيهم.
كانت وردة تفتح عيناها على أخرها لا تصدق بأنها تتحدث في جدية:
_أنتِ بتهزري صح؟!.
هزت أفكار رأسها نافية وتحدثت بنبرة جادة:
_لا مش بهزر.
_هو أنتِ تفهمي أيه في شغل الكوافيرات؟!
ضيقت أفكار عيناها وغنغنت في استنكار شديد:
_وهي البت منى بنت بياعة البليلة كانت تفهم أيه، يلا علشان منتاخرش فردة كعب ونيجي، وبعدين هطلع شوية ميكب كانوا في جهازي والدنيا هتتظبط ولما نرجع أنا اللي هكويلك سعرك بنص الثمن.
_هتعملي مني أنا كمان مصلحة يا أفكار ياللي كلك أفكار.
_خمسة في عينك يا حبيبتي وبعدين البيسنيس مفيهوش عواطف ده أنا حتى هعملك ديسكوند واستفتح بيكي.
___________
ألا يستطيع الإنسان أن يحيا وينام في منزله بهناء وسكينة، لمرة واحدة فقط، ما بال هذا المنزل يعج بالازعاج والضوضاء ؟! كل يوم يستيقظ على صياح وصراخ ..
تأفف بصوت مرتفع يتقلب في فراشه محاولًا الابتعاد قدر الإمكان عن الضوضاء، لكن ذلك الصوت لم يتوقف، وتلك النغزات في كتفه والتي تكاد تثقبه لم تهدأ.
زفر بصوت مرتفع صارخًا بحنق :
_ يوووه بقى فيه ايه تاني ؟؟ لقيتوا حامد بيخطط لانقلاب عسكري ؟؟ ما هو أنا مبقاش ورايا غير حامد ومصايب حامد و...
وقبل أن يكمل جملته انتفض للخلف صارخًا بصوت مرتفع حينما قابله وجه والدته يكاد يلتصق في خاصته، وضع يده أعلى صدره يحاول التنفس :
_ ايه يا امي، فيه ايه ؟؟ هتجبيلي صرع حرام عليكِ
_ أنت لسه نايم لغاية دلوقتي !؟ بقالي ساعة بصحيك.
نظر لها بأعين شبه مغلقة ونعاس واضح على ملامح وجهه، ينظر حوله بعدم فهم :
_ مش فاهم لغاية دلوقتي ايه ؟؟ هي الساعة كام ؟؟
نظر جواره للمنبه الخاص به ليتفاجئ أنها لم تدق الثامنة بعد، فرك وجهه يعتدل في جلسته يقول بغيظ شديد :
_ ايه يا حاجة جيهان بس، ايه اللي بتعمليه ده ؟! لسه الساعة مجاتش ٨ حتى، أنا مش ببدأ شغل بدري كده .
ختم حديثه يرتاح بجسده على الفراش مرة أخرى مرددًا بصوت ناعس على وشك الدخول في غيبوبة نوم لذيذة أخرى :
_ شوية كده ويبقى اقوم اجهز يكون الفطار جهز و...
لكن فجأة انتفض جسده مرة أخرى عن الفراش بسبب صرخات والدته المتهكمة والمستهجنة لما يقول :
_ فطـــار ؟؟ فطار ايه يا ابو فطار ؟؟ امال أنا بصحيك ليه ؟!
_ عشان أفطر ؟!
_ لا عشان تعمل الفطار، وقبلها تصحي عيال اخوك وتجهزهم وبعدين تجيبهم عشان يفطروا وبعدين لو فيك صحى قبل الشغل يبقى تساعدني في شغلة البيت .
حدق فيها داوود ثواني وكأنه ينتظر أن تضحك ملء فاهها وتخبره أنها فقط كانت تمازحه، لكنها لم تفعل، هي ظلت بنفس الملامح الجادة التي توحي بمقدار صدق حديثها .
_ نعم ؟! هو ايه أصله ده ؟؟ هو أنا هشتغل خدامة هنا ؟!
_ اهو ده اللي عندي مش أنت اللي مشيت أفكار يبقى تشيل لغاية ما تجيب حد تاني .
انتفض يلقي بالغطاء بعيدًا صارخًا :
_ وأنا ذنبي ايه أشيل الهم ده ؟! هو اخويا يخلف وانا اشيل الطين من وراه ؟؟ حرام عليكم عايز اعيش زي البني ادمين ..
صمت يتنفس بصوت مرتفع :
_ بعدين أنا عايز اعرف حاجة واحدة، لما كل ده كانت افكار بتعمله أنتِ كنتِ بتعملي ايه ؟؟
ابتسمت له جيهان تجيب ببرود شديد وهي تتحرك خارج غرفته تنهي ذلك الحديث :
_ مشرفة ..
تشنج وجه داوود يراقبها يحاول أن يتنفس بصوت مرتفع فقط ليهدأ فورة غضبه التي بدأت تشتعل، وصدره يعلو ويهبط بقوة، مسح وجهه وهو يفكر فيما يحدث :
_ يارب الصبر من عندك يارب، أنا مبقتش قادر اعيش وسط كل ده .
فجأة اخترق صوت والدته الحاد مسامعه :
_ يلا يا داوود لأحسن العيال يتأخروا ..
_ حاضر ...هتنيل، يارب أنت العالم بيا .
تحرك بسرعة يغسل وجهه، ثم توضأ وانهى فرضه متحركًا للخارج يستغفر ربه ويدعوه أن يلهمه الصبر على هذه الحياة، تحرك صوب الغرفة الصغار مرورًا بوالدته التي كانت قد بدأت ندبها مبكرًا:
_ اتبهدلت من بعدك يا افكار، مين يشيلني في غيابك يا حبيبتي، مليش غيرك يا غالية .
زفر داوود يتجاهلها متحركًا صوب الصغار، يحاول أن يوقظهم، وبصعوبة فعل، ليتسائل خفية عن قدرة افكار الخارقة في جعلهم يستيقظون ...
خرج وهو يسحبهم للخارج بصعوبة شديدة، يمر بوالدته مجددًا والتي كانت مستمرة فيما تفعل بإصرار عجيب :
_ البيت والحياة بقت باهتة من غيرك يا افكار .
التوى ثغر داوود وهو يتحرك بالصغار صوب المرحاض ساحبًا إياهم خلفه متهكمًا :
_ ده أنتِ معملتيش كده لما ابويا مات ..
وجيهان التي لم يصل لها تعليق داوود زادت ورفعت صوتها :
_ ياللي كنت مريحاني ومهنياني يا افكار، مكنتش أشيل الهم وأنتِ موجودة .
_ ندب مسمعتوش يوم عزا المرحوم جوزك والله، ده ولا كأنها كانت بتصرف علينا .
دخل المرحاض يجبرهم على الاغتسال والتوضأ، ثم دفعهم للخارج آمرًا إياهم بالصلاة حتى يعد لهم الفطور والطعام الذي سيحملونه معهم، ثم نادى والدته لتتناول الفطور.
تقدمت جيهان من الطاولة وجلست وهو تنفس براحة أنها واخيرًا صمتت عن النحيب والندب وانشغل فمها بالطعام، لكن فجأة انفجرت مجددًا حاملة بين أناملها كسرة خبز محروقة بعض الشيء :
_ اه يا افكار ياللي عمرك ما شيطتي العيش يا حبيبتي .
وضع داوود رأسه بين يديه يصيح بصوت مرتفع وجنون :
_ يــــارب، يارب رحمتك يارب، هو أنا كنت جايب افكار دي دادة للعيال ولا ليكِ يا اما، أنا اساسا كنت جايبها ليه ؟؟ البنت من كتر الوظايف اللي كانت بتعملها نسيت هي كانت جاية ليه؟! دي ناقصها رخصة ونشغلها سواق وتبقى مسكت كل الوظايف عندنا .
تنفس بصوت مرتفع يرى الجميع تراجع للخلف من صراخ ليبتلع هو ريقه بضيق ويتنفس بصوت مرتفع يمسح وجهه بغضب :
_ تمام، تمام يا امي، بعد الشغل هروح لخطوبة واحد صاحبي ومن بعدها اعدي عليكِ نروح نستسمح السيدة المحترمة افكار ونرجعها .
وفجأة ودون أن يستوعب أطلقت والدته زغرودة عالية وكأنه للتو وجد نصفه الآخر ويخبرها أنهم ذاهبون لزيارتها والاتفاق على موعد الزواج .
تنفس بحنق يتمتم :
_ يارب بس نعرف نعيش زي البني ادمين....
_______________
_ يعني ايه يا آلاء ؟؟ مش قولتي شوية لما تعلني الموضوع رسمي ؟!
ابتلعت آلاء ريقها تحاول تلاشي نظرات والدته التي تتهمها صراحة بالتسرع وتخبرها أنها تعلم يقينًا السبب وراء تلك الخطوة المفاجئة، لكنها عقدت العزم ولن تتراجع .
نظرت لوالدها تستمد منه القوة :
_ أنا خلاص شايفة أنه كفاية اوي كده ونعمل خطوبة رسمي ونعلن للكل، يعني ...هو أنا خلاص حاسة براحة وأنه...
وقبل أن تكمل جملتها قاطعتها والدتها بسرعة وصوت حانق حاد :
_ كل ده عشان طليقك ؟؟ كل ده عشان الخناقة اللي كل شوية تندب بينكم وعشان كلامه ؟؟
بُهت وجه آلاء تحاول أن تدافع عن نفسها :
_ لا أنا مش ...مش كده أنا بس شايفة أنه خلاص كفاية اوي كده هفضل لغاية امتى مخطوبة سكيتي ؟؟
_ يا بنتي أنا عارفاكِ اكتر من نفسك وعارفة اللي في دماغك كويس اوي، أنتِ عايزة تثبت لنفسك قبل أي حد أنك خلاص نسيتي حامد، لكن يا بنت بطني أنتِ كده بتغلطي .
انتفضت آلاء رافضة ذلك التحليل الجاحد من والدتها :
_ أنا مش حابة اثبت حاجة لحد، أنا عايزة اعيش واستمر في حياتي، مش هوقفها عشان تجربة فاشلة يا ماما، يعني هو يتجوز ويعيش وأنا اللي افضل ابكي على اطلاله؟؟
نظرت لها والدتها بشفقة :
_ يا بنتي أنا بس مش...
تدخل والدها في الحوار يقول منهيًا كل ذلك :
_ خلاص خلصنا مش كل يوم هنفتح مناظرة ونفضل نتكلم ونحلل تصرفات البنت ونخنقها، اللي هي عايزاه هيكون .
نظرت له آلاء شاكرة مساندته بينما والدتها رمقتهما بعدم رضا، ووالدها أصدر قراره وانتهى الأمر :
_ اتصلي يابنتي بخطيبك وحددي معاه الميعاد المناسب عشان نعملكم خطوبة رسمي والحارة كلها تعرف أنك خلاص اتخطبني عشان أي كلب بيقول كلمة عليكِ يخرس خالص .....
_______________
في مساء نفس اليوم ...
يسير بين الأزقة الضيقة حاملًا علبة فاخرة من الشوكولاتة وجواره والدته تنظر حولها بفضول شديد، وهو يتأفف، فها هو جاء للإعتذار رسميًا من( المربية الطباخة المساعدة ) التي أحضرها لتحمل منزلهم فوق اكتافها وحدها ..
كان يدور بين الشوارع وهو يرى نظرات الجميع له بأعين متسعة وفضول شديد، والبعض مستنكر لهيئته داخل مثل تلك الأماكن المتواضعة، وفي الحقيقة هو لا يلومهم البتة، فهو كمن جاء للتقدم إلى وظيفة أو التقدم لفتاة بهذه البدلة الرسمية الفاخرة والتي كان يحضر بها خطبة صديقه قبل المجئ .
_ اعتقد كان لازم تسبيني اغير لبسي يا امي بدل المنظر اللي انا فيه ده، حاسس اني رايح اقدم على الخارجية .
نظرت له والدته بحنق شديد :
_ يا بني ما أنت زي القمر اهو، بعدين يعني هي البدلة عشان الخارجية بس ؟؟ دي هيبة ماشاء الله وجمال، امشي أنت بس خلينا نسأل على بيتها..
زفر داوود وسار خلف والدته التي كانت تسأل كل امرأة في طريقها عن منزل افكار وهو غير مرتاح لما يحدث في تلك اللحظة .
وعند افكار في المنزل...
كانت تجلس في إحدى الغرف التي تطل على الشارع الرئيسي بنافذة كبيرة أسفلها تقبع أريكة مهترئة بعض الشيء يقبع فوقها بعض النساء بالعديد من الألوان في وجوههن.
وفي أحد أركان الغرفة كانت والدة افكار تجلس وتجمع حولها بعض النساء اللواتي ينتظرن دورهن في الزينة على يد ابنتها الخبيرة صاحبة خبر عشر ساعات في مجال تزيين النساء، تقرأ لهن الفنجان .
لوت سكر فمها تقرأ لواحدة الفنجان بين أناملها :
_ يا مايلة ده شكله البت اللي شغالة مع جوزك لفت عليه .
ضربت السيدة صدرها بقوة وهي تدس رأسها داخل الفنجان تحاول رؤية كل ما تقوله سكر :
_ يا مصيبتي ؟! فين دي يا سكر ؟؟
أشارت سكر لإحدى البقع الغير واضحة الملامح :
_ اهي اتعميتي ولا ايه ؟! البت لافة عليك اهي، الحقي جوزك قبل ما يطلق .
نظرت لها السيدة بصدمة وملامح شاحبة وهي تكاد تبكي :
_ طب اعمل ايه يا حاجة سكر ؟! شوري عليا الله لا يوقعك في ضيقة .
ابتسمت سكر تربت على فخذها تقول بجدية :
_ كل يوم تيجي للبت افكار تعملك شوية الوان في وشك زي الستات دول وهو هيتهبل وهينسى البت دي ..
وفي منتصف الغرفة كانت تجلس افكار وهي تمسك بعض علب الزينة وتقوم بدهان وجه السيدة أمامها بشكل مبالغ به عملًا بمقولة ( كل ما الدهان بقى اتقل، كل ما الحلاوة بقت اسهل) ولم تكن تلك المقولة معروفة أو معترف بها، فافكار هي من ابتدعها للتو حينما سألت أمرأة عن سبب زيادة الطبقة الأولى عن الحد .
انتهت افكار من وضع طبقة كريم الاساس حتى أضحى وجه الفتاة كالشبح، لتشير لها وهي تضع تحت أسنانها قلم الكحل :
_ يلا يا حبيبتي روحي انشفي جنب اخواتك في الشباك لغاية ما اخلص اللي بعدك وبعدين تعالي احطلك الطبقة التانية ونشطب .
نهضت السيدة من أمامها تتحرك بين أجساد النساء المحتشدين في الغرفة كما لو كانت افكار تقدم خدماتها مجانًا، لكنها لطالما كانت ماهرة في التسويق لما تفعل .
جلست السيدة في الشباك كي يجف وجهها كما أخبرتها افكار، لكن وأثناء جلستها مع الباقيين لمحوا شاب وسيم غريب عن أهالي الحارة يحمل علبة حلوى ذات غلاف اسود وذهبي فاخرة مرتديًا بدلة فاخرة ومعه سيدة يتحركون متسائلين عن منزل افكار .
شهقت واحدة من النساء في النافذة تقول بسعادة :
_ ايه ده ؟؟ عريس لأفكار ولا ايه ؟؟
نظرن الجميع لبعضهن البعض لتقول فتاة :
_ يووه يا افكار بتشتغلي يوم ما العريس جايلك يا مخبولة .
نظرت لها افكار بعدم فهم :
_ عريس ايه ؟!
لكن الفتاة لم تهتم وهي تهتف في النساء مشيرة صوب النافذة :
_ عريس لأفكار يا ستات، العريس زي القمر .
وفي ثواني بدأت الزغاريد تعلو من أفواه النساء والجميع يتدافع صوب النافذة لرؤية ذلك العريس المزعوم حتى أصبحت الأجساد ملتصقة ببعضها البعض وافكار تجلس وحدها في منتصف الغرفة بعدم فهم، بدأت تمسح يديها الملوثة بالكريمات في ثيابها تتحرك صوب باب المنزل بتعجب :
_ عريس ايه ده اللي جاي ؟؟
وبمجرد أن خرجت لمحت داوود يتقدم منها حاملًا بين يديه علبة حلوى مرتديًا بدلة جميلة وجواره جيهان تبتسم لها بحب، وفورًا فغرت فاهها بعدم تصديق وهي تنظر لهما بصدمة ..
هل جاءوا لطلب يدها ؟؟ داوود جاء ليطلب يدها ؟؟ هل لهذا كان يتشاجر معها طوال الوقت؟! لأنه يحاول أنكار اعجابه بها أمام قلبه كما ترى في المسلسلات التركية .
وفورًا ارتسمت بسمة واسعة على فمها تعدل من وضعية الحجاب وهي تقول بصوت واثق حينما توقف الأثنان أمامها :
_ كنت عارفة أنك هتيجي على فكرة، مش واكل معاك جو التقل ابدا، باين اصلا عليك من اول يوم أنك واقع .
صمتت ولم تنتبه لنظرات داوود الغير مدرك لما تقول ووالدته التي كانت تتعجب كم النساء المتجمع داخل منزلها، لكن افكار أكملت حديثها :
_ بس يعني مكانش له لزوم تزعق وتمشيني عشان تيجي تتقدم بالشكل الدرامي ده ...
عند تلك الكلمات اتسعت أعين داوود يردد بعدم فهم مبهوتًا من حديثها :
_ اتقدم ؟؟؟؟؟؟؟؟
