رواية إعلان ممول الفصل الاول 1 بقلم رحمة نبيل & فاطمة طه سلطان

 


رواية إعلان ممول

الفصل الاول 1

بقلم رحمة نبيل & فاطمة طه سلطان


صلوا على نبي الرحمة .


_________________


في إحدي المناطق السكنية الشعبية التي تجمع كثير من الفئات المختلفة أجتماعيًا، كان هذا المنزل يقف شامخًا محتفظًا بجماله وفخامته بمساحته الواسعة ورُبما سبب جماله هو نشأته الصلبة وحفاظ أهله على تجديده والإهتمام به فهو يتواجد وسط المباني القديمة والتي مر عليها الزمن، وحينما تنظر داخله تشعر بأنك في أحد القصور أو رُبما بالمصطلح الجديد "فيلا" كبيرة وحينما تنظر من شرفته ترى مهد غير متناسق تمامًا بتواجد فرن العيش أمامه يقف أمامها كثير من الناس ممسكين ببطاقة التموين في صف خاص بالرجال وصف خاص بالنساء، وسائق "التوكتوك" الذي يتشاجر كالعادة مع أحد الرجال على الأجرة معللًا بأن أسعار البنزين في التزايد فيرد عليه الآخر 

"أنتَ بتحط بنزين أصلا؟! ياسطا أنتَ مبرشم على الصبح بلاش اشتغالات الله يكرمك ده أنا لو واخد تاكسي هدفع أقل منه كده"


هذا مشهد بسيط من المشاهد التي يشاهدها مُلاك هذا المنزل كل يوم، وعلى الرغم من الثراء الذي يتملكهم يرفضون رفضًا تامًا من الخروج منه أو بيعه وترك المنطقة لا يريدون ترك جذورهم ووصاهم والدهم بذلك.


نهض "داوود" _البالغ من العمر سبعة وعشرين عامًا_ من نومه على صوت أذان الظهر فهذا هو وقت القيلولة الخاصة به، فيعود من صلاة الفجر يجلس في الهدوء ويقوم بقراءة ورده اليومي ويتناول فطوره ويقوم بمحاولة أن يصنع عطر جديد ومختلف بالأدوات البسيطة وبعض الروائح المتواجدة في زجاجات صغيرة يضعها في ركن غرفته، فهو يقوم بالعبث كل يوم حتى يخرج شيئًا جديدًا قبل ذهابه إلى متجره الصغير، ولكن اليوم لم يحاول أن يخترع تركيبه جديدة، ليس لديه طاقة لفعل ذلك عقله لم يكن فارغًا، مشغولًا وغاضبًا من خطيبته التي تشاجرت معه ولا تجيب عليه منذ ليلة أمس بعدما علمت أخيرًا بتركه لعمله في البنك بعد  أن كان موظف كبيرًا يتمني الكثير الحصول على وظيفته وهو تركها بمحض إرادته..


وصفته بالمجنون ومبرراته لم تعجبها أبدًا كانت كلها هراء بالنسبة لها.


نهض ثم ذهب إلى المرحاض وتوضأ وبعدها قضى فرضه، وخرج من الرواق متوجهًا صوب غرفة المعيشة ليجد والدته كالعادة تقوم بمشاهدة التلفاز على "الشيف الشربيني" الطباخ الشهير وفي النهاية لا تقوم بفعل أي شيء من وصفاته الشهية بل تقوم بفعل أي شيء على عجاله أو تقوم "أم حسن" المرأة التي تساعدها في المنزل هى بصنع الطعام والذي غالبًا ما يكن تقليدي أيضًا.


أبتسم داوود وجلس بجانب والدته" جيهان" التي تبلغ من العمر خمسة وخمسون عامًا، ولكنها ترى نفسها في الثلاثينات من عمرها لا تحب أن يقوم أحد بتذكيرها بسنها مطلقًا فمن يفعل ذلك كما لو أنه إرتكب خطئًا فادحًا في حقها ولا تعفو عنه بسهولة، هى أمراة مرحة وجميلة محبة لأولادها وكرست حياتها من أجلهم برغم من موت زوجها وهى لم تكن أتمت عامها الأربعين قط.


_صباح الخير يا أمي.


وجدها تمسك بيدها ورقة وقلم وتقوم بكتابة الخطوات، فهو على يقين أنها لن تفعل أي شيء مما تكتبه كالعادة، أجابته في عدم تركيز فكل تركيزها مع التلفاز:


-صباح النور يا قلب أمك.


هتف داوود في تهكم طفيف:


_مش كفايا بقى الشيف الشربيني اللي أنتِ فكراه جرافيك ده ومفيش ولا مرة فكرتي تحني علينا وتعملي وصفة من وصفاته.


دافعت جيهان عن ذاتها في قوة مشيرة لما تحمل بين كفيها :


_ما أنا بكتب علشان أعمل أهو.


_كام مرة كتبتي ومعملتيش يا أمي؟!.


صاحت جيهان كالعادة في عصبية وانفعال شديد وهى تلقي بالورقة والقلم على الطاولة:


_أهو لسانكم الطويل وإحباطكم ده بيخلي الواحد ميفكرش ولا يجتهد في حاجة عالم غم، طب والله العظيم لأقعد أسبوع مدخلش المطبخ وهخلي أم حسن كل يوم تطبخ بامية وبسلة وكل الأكلات اللي بتأكلها غصب عنك.


هتف داوود في مرح:


_لا أبوس ايدك متزعليش مني زعلك وحش كده ليه؟! كله إلا البامية والبسلة.


قالت جيهان في كبرياء:


_لا يا شيخ داوود هتأكلهم دي نعمة ربنا هنكفر ولا أيه ؟؟غيرك  مش لاقيها ما أنتَ هتكلمني في الدين هكلمك أنا كمان يا روح أمك.


ضحك داوود ثم حاول الدخول في صلب الموضوع الذي يريد الحديث فيه:


_خلاص يا أمي سيبك من موضوع الأكل ده وخلينا في موضوعنا انا متخانق مع روضة وعايزك......


قاطعته جيهان ولم تعطيه الفرصة لتكمله حديثه وتلفظت في سعادة حقيقية لمعت داخل عيونها الغاضبة في ثواني :


_ يا ألف نهار أبيض يا ألف نهار مبروك والله يا ابني لو بعرف أزعرط كنت زغرطت، أم حسن وبنتها لما يجوا هخليهم يملوا الدنيا زغاريط.


شعر داوود بالضيق الشديد من طريقتها فهو مدرك جيدًا أنها لا تحبها بلا سبب واضح ولكنه يحاول تحسين تلك العلاقة ولا يدري لما لا ينجح الأمر معه؟!.


لاحظت جيهان بتغيير ملامح وجه أبنها وعلى ما يبدو قد بالغت في إظهار سعادتها أمامه، لا بأس من ادعاء الحزن الآن، ولتظهرها عند رحيلة أفضل.


_متخانقين ليه؟!.


تمتم داوود شارحًا لها الأمر على مضض:


_هى عرفت إني سيبت البنك بشكل نهائي علشان الحرمانية وأتضايقت إني خبيت عليها من الأول وشايفة إني اتجننت أسيب شغلانة زي دي وأنا عارف أن اي حد غيرها هيقول كده بس لو هديت وسمعتني كويس هتفهمني هى علطول بتفهمني وبتسمع كلامي.


أردفت جيهان في همس لذاتها:


_ياريتها ما سمعت.


قال داوود في رجاء:


_علشان خاطري يا أمي كلميها اكيد هترد عليكي وحاولي تخليها حتى تكلمني وترد عليا وأنا هتناقش معاهم.


لمعت أعينها في خبث وقالت:


_صعبت عليا رغم إني بكرهها كره العمى إلا أني بعد العصر كده  هكلمها أنا عندي كام داوود هعصر على نفسي طن ليمون علشان أعرف أكلمها.


عقب داوود في تهكم طفيف:


_طن مش كفاية عليكي، ارجوكِ يا أمي بلاش تقولي حاجة تضايقها علشان خاطري.


تحدثت في براءة عجيبة من نوعها:


_ عيب عليك هو امك عبيطة يا ابني؟! علشان بدل ما أصلح أخرب، انا هعمل اللي أنتَ عاوزه صدقني.


______________


في منزل هادئ صغير يقبع وسط إحدى الحارات المصرية الصاخبة، حيث اصوات الباعة تعلو فوق صوتك، ورائحة الرطوبة والمياه والصرف تغطي على رائحة طعامك...


كانت تجلس في منزلها متربعة أعلى أريكة مهترئة، وامامها طاولة ذات أرجل تكاد تتهاوى من كثرة ما مر عليها ..


ابتسمت تتناول تلك الأموال المرتصة أعلى الطاولة تعدهم للمرة التي لا تعلم عددها، تحاول أن ترتب أولوياتها في تجهيز نفسها لأجل زفافها الوشيك:


_ خمسة ... ستة...سبعة...تمانية،  كده ٨ الآلاف جنيه بالتمام و الكمال، أنا كده هقدر اكمل عليهم الف ولا اتنين واشتري الغسالة، وهحتاج تقريبًا ضعف المبلغ عشان اجيب التلاجة .


_ والراديو، عايزين راديو بدل اللي باظ، هفضل اقولك كام مرة عايزة راديو ؟!


استدارت "أفكار" برأسها صوب والدتها الطاعنة في السن، والتي أوشكت على بلوغ الخامسة والسبعين من العمر، فقد أتت بها بعد سنوات وسنوات على ميلاد اصغر اشقائها، فأصبحت آخر العنقود لوالدين مسنين، توفي والدها منذ سنوات وبقيت والدتها التي تعاني من أمراض الدنيا كلها ..


_ راديو ايه بس ياما دي فلوس جهازي .


اقتربت والدتها أكثر بعدما كانت تجلس على بُعد صغير تراقبها وهي تردد ما يجب شراؤه :


_ يعني ايه ؟! مش هتشتري راديو ؟! ايه مش هسمع إذاعة القرآن الكريم ؟!


ودت أفكار لو تخبر والدتها فالحقيقة المرة، أنها تعاني من ضعف في السمع وأنها طوال اليوم بدلًا من محطة القرآن الكريم، تستمع لمحطة الاخبار .


_ يا امي يا حبيبتي، يعني يرضيكِ، ادفع من فلوسي اللي بحوشها من ميت وظيفة عشان اتجوز، واشتري راديو نركنه زي اللي قبله لغاية ما يصدي ؟؟


_ نركنه ايه يابنتي؟! ده انا طول النهار مشغلاه يونسني في البيت .


ابتسمت افكار وهي تقول بهدوء :


_ والله ياما من سنين وانا مش عارفة اصارحك ازاي بالحقيقة المرة دي، بس أنتِ اساسا طول النهار بتكوني قافلة  الراديو ومفكراه شغال، وتيجي آخر النهار تفتكري أنه كان مقفول فتشغلي لينا النشرة الإخبارية وتصحيني وتصحي الجيران .


رفعت "سكر" حاجبها بحنق من كلمات ابنتها التي تسربت عبر سماعة أذنها الطبية :


" قصدك ايه ؟! قصدك ايه يا بنت سكر ؟! قصدي اني طرشة ؟! 


_ لا يا امي العفو، طرشة ايه بس، أنا بس قصدي إن فيه حاجات مهمة استخدم الفلوس فيها، زي الثلاجة والغسالة والبوتجاز ..


أضافت سكر بلهفة كالطفل :


_ والراديو، عايزين راديو في البيت يونسني يابنتي .


كادت افكار تصرخ بجنون فها هي والدتها قد أدارت القرص في عقلها، لتبدأ المحادثة من البداية :


_ يا اما راديو ايه بس الله يكرمك، عايزة اجهز واتجوز .


_ يعني ايه مش هتجيبي ليا راديو؟! عايزاني اموت غضبانة عليكِ ؟؟


فتحت افكار عينيها في اتساع مذهولة من كلمات والدتها التي رمتها للتو على مسامعها:


_ هتموتي غضبانة عليا عشان راديو مش بتسمعيه اساسا ياما ؟؟


_ مش بسمعه ايه ؟! بقولك بشغل عليه إذاعة القرآن بصوت الشيخ محمود خليل الحصري الله يبارك له ويطول في عمره .


ضربت افكار كف بالآخر وهي تكاد تنفجر :


_ طب اقولها ايه دي طيب ؟؟ شيخ محمود خليل الحصري اللي ربنا يطول في عمره؟؟ الشيخ الحصري مات الله يرحمه، هو أنتِ آخر حاجة فاكراها ايه ياما ؟!


_ مات ؟! امتى ده ؟؟ 


_ من سنة ١٩٨٠ ربنا يرحمه يا حبيبتي .


انقلبت ملامح والدتها فجأة وكأنها للتو نُبأت بفقدان عزيز على قلبها، لتنهض من مكانها تندب، وهي تتحرك صوب غرفتها متكأة على عصاها:


_ لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله، بقينا في زمن الابن فيه مش بيبر أهله والعقوق بقى عيني عينك .


صُدمت منها افكار ومما تردده :


_ كل ده عشان مرضتش اجبلك راديو، امال لو رميتك في دار مسنين يا ما ؟؟


نفخت بغيظ شديد وهي تنظر للأموال أمامها تحاول أن تُصبر نفسها بأن القادم بالطبع افضل ...


______________


كانت تجلس في غرفتها مع جارتها وصديقتها العزيزة، تتحدث معها في مواضيع مختلفة كوجبة دسمة للغيبة والنميمة التي تزداد في مثل تلك الجلسات .


لم يقطع حديث الفتاتين سوى رنين هاتف روضة والتي نظرت له بطرف عينيها، ثم عادت لتندمج في الحديث مع صديقتها سلمى، استنكرت سلمى ما تفعله :


_ يابنتي مش كده، ده الولد رن يجي عشر مرات في نص ساعة، ما تردي عليه .


نفخت روضة بلا اهتمام تشيح بوجهها عن الهاتف الذي أضاءت شاشته باسم خطيبها العزيز داوود :


_ بقولك ايه سيبك منه، أنا كده كده مش طايقة اتكلم معاه ولا اسمع صوته .


_ ليه كده ؟! مش ده اللي كنتِ هتموتي عشان تتخطبي ليه، وقمر يا سلمى، معاه فلوس يا سلمى، هيدلعني ياسلمى، حصل ايه بقى يا روضة خلاكِ تغيري رأيك كده ؟!


وكعادة روضة لم تخفي على صديقتها ما يدور في ذهنها، بل سارعت لتفرغ وعاء أفكارها في رأس رفيقتها قائلة :


_ اللي حصل اني الصراحة مبقتش حابة اكمل في الخطوبة دي، تخيلي يا سلمى البيه المحترم ساب شغل البنوك والمرتبات العالية، وفتحلي محل عطور معفن ؟؟ وقال ايه اصل شغل البنوك حرام .


رفعت سلمى حاجبها لا تعجبها تلك النبرة التي تتحدث بها روضة، لكن الأخيرة سارعت بالقول :


_ ولولا بس إن هو على قلبه قد كده من ورث ابوه أنا كان زماني سيبته .


صُدمت سلمى من حديثها :


_ ياه تسبيه؟! للدرجة دي ؟؟ 


ابتسمت روضة بسمة لم ترح صديقتها وهي تقول :


_ اه اسيبه واروح للي احسن منه .


_ أيوة بقى قولي كده، قولي انك حاطة عينك على حد تاني؟ وياترى مين الاحسن من داوود ؟؟


ابتسمت روضة بأعين ملتمعة وهي تردد :


_ فاكرة ياسر ابن عمتي اللي سافر الخليج من خمس سنين و ....


وقبل أن تكمل حديثها قاطعهما صوت رنين الهاتف، ظنته داوود لكن عينها التقطت اسم حماتها الحبيبة يعلو الهاتف، علت دهشتها بشكل جذب انتباه سلمى لتتساءل :


_ ايه ؟! هتردي عليه ولا ايه ؟!


_ ده مش هو 


_ امال مين ؟!


التوت ملامح روضة بسخرية وغيظ مبطن :


_ دي امه وحماتي العزيزة .


رفعت سلمى حاجبها تراقب انتهاء الاتصال متعجبة من كره صديقتها لجميع أفراد العائلة، إذن لمَ وافقت على الارتباط بابن تلك العائلة ؟!


فاقت سلمى على صوت تأفف نابع من روضة بمجرد ارتفاع رنين الهاتف مجددًا :


_ ياباي على دي ست، مش بطيق اسمع صوتها .


أنهت روضة حديثها واضعة الهاتف على أذنها مجيبة بلطف مناقض تمامًا لحديثها السابق :


_ الو السلام عليكم .


وصل لها صوت جيهان واضحًا:


_ وعليكم السلام يا حبيبتي، عاملة ايه يا روضة ؟!


تصنعت روضة الحزن والهم :


_ الحمدلله يا ماما بخير 


هنا وأتت فرصة جيهان للانقضاض عليها وهي تقول :


_ اكيد عارفة أنا متصلة ليه، والله يا بنتي الواد ابني حلف عليا اتصل واطيب خاطرك، عشان هو يا حبة عيني فيه اللي مكفيه ومش ناقص نكد .


_ نكد ايه يا ماما ؟! أنا برضو اللي بنكد؟!  داوود اللي آخر فترة بقى يخنقني وبيعمل تصرفات غريبة، يعني يرضيكِ اللي عمله يا ماما ؟؟ يرضيكِ يسيب شغله في مكان الكل يحلم بيه ويروح يفتح محل عطور ؟؟


وصل صوت جيهان لها وقد اجادت اصطناع البكاء بمهارة :


_ معلش يا بنتي والله، ربنا وحده اللي عالم بحال الواد اليومين دول، أنا مش عارفة بس ايه اللي صابه عشان يعمل العمايل دي، الواد يا حبة عيني بقى يمشي يكلم نفسه ومبقاش واعي باللي حواليه، وبيته اتخرب وهو مش واعي بحاجة .


تعجبت روضة من نبرة الحسرة في صوت تلك المرأة، ولم تهتم  حتى بمواستها، بل سارعت لقول :


_ اتخرب ايه بس يا ماما، ما هو ربنا يبارك في عمي ساب ليه ورث يقدر يبدأ بيه من الاول ويعوض أي خسارة ..


ولم يكن غرض روضة طمأنت المرأة على الطرف الآخر بقدر ما كان غرضها أن تسحب معلومات ستحدد على أساسها مستقبلها مع ذاك الداوود الذي تتحمله فقط لأجل تلك الأموال الكثيرة التي تركها له والده .


سمعت روضة صوت جيهان تمتص شفتيها بحسرة ومرارة، زافرة أنفاسها بوجع كبير وهي تردد بحزن :


_ ورث ؟! هو فين الورث ده يابنتي ما هو راح الورث .


انتفض جسد روضة بقوة من فراشها لدرجة أثارت ريبة سلمى التي رمقتها بتساؤل، لكنها لم تهتم وهي تقول :


_ يعني ايه راح ؟! ايه اللي حصل ؟؟


بكت جيهان بصوت مصطنع :


_ ابني، ابني اللي بختي قليل فيه بعد ما ساب الوظيفة، لقيته داخل عليا ماسك ورقة كده وبيقولي أنه أتنازل عن كل شيء لاخوه الكبير ومش عايز حاجة، الواد بقى زاهد الدنيا يا ختي .


وها هي جيهان تصيب هدفها بمهارة رامي محترف، فقد اتسعت عين روضة بصدمة تشعر أن الأرض تميد، هل وافقت على زيجة خاسرة ؟! خرجت خالية اليدين بعد كل ذلك ؟! 


فاقت روضة على صوت نحيب جيهان التي لم تتوقف :


_ بس انا رغم كل ده مش مطمنة غير أنك هتفضلي معاه يا روضة يا بنتي، عارفاكِ بنت حلال وهتقفي جنبه وتساعديه يبني نفسه من الاول، مش كده يابنتي ؟؟


_ ها ؟!


_ ها ايه بس يا بنتي ؟! بقولك هتقفي مع ابني يبدأ من الصفر ؟! هو الحمدلله محل العطور بيدخله في اليوم قرشين واهي ماشية ومحدش بينام من غير عشا .


تحدثت روضة دون الاهتمام لنواح المرأة:


_ طب معلش هقفل عشان مشغولة ..


ولم تنتظر ردًا بل أغلقت المكالمة بكل وقاحة ومازالت عينيها متسعة بصدمة، بينما صوت سلمى جوارها يتساءل عن سبب حالتها تلك، لكن كل ما خرج من فم روضة هو :


_ أنا لازم انهي الخطوبة دي، لازم تنتهي وأشوف مستقبلي بعيد عن الغبي داوود اللي مش عارف مصلحته ....


_____________


_ما تجيبوا حد يصلح التلاجة دي المياة مبتسقعش وأحنا في عز الحر مش كده.


قال محمد تلك الكلمات وهو يأتي من المطبخ ويتوجه إلى الخارج فكان يريد أن يشرب كوب من الماء البارد يرويه قبل هبوطه وذهابه إلى الموقف، ويستلم الميكروباص الذي يقوم بالعمل عليه من صاحبه.


تمتمت والدته في سخرية:


_الناس تقول صباح الخير ياما الأول مش صاحي تقولي تلاجة وزفت.


أجابها محمد في ضيق فهو لم يأخذ كفايته من النوم فهو يقوم بتكثيف عمله في الميكروباص من أجل أن ينهي مصاريف زواجه من أفكار :


_صباح النور ياما مهوا برضو الواحد ميبقاش نايم أربع ساعات على بعض، وأصحى ألاقي مفيش بوق مياة يبل ريق الواحد وهدومي متغسلتش بسبب أن الغسالة بايظة.


هتفت والدته في ضيقٍ:


_أعمل أيه ياخويا هنجيب فلوس منين ده أقلها هيجي حد يصلحهم بألفين جنية، وأنتَ مبقتش إيدك معانا في المصاريف وكل جنية بتحطه علشان تتجوز، وكمان البركة في عروستك لما تجيب الغسالة والتلاجة كل المشاكل هتتحل.


ضحك محمد وقال في تهكم وهو يرتدي حذائه:


_ وهو أنتم هتيجوا المسافة دي كلها علشان تغسلوا عندنا؟!.


أستطردت والدته في تهكم مماثل له:


_نغسل عندكم أيه يا أبن الهبلة، السنيورة تجيبلنا غسالة وثلاجة وبوتجاز لينا أحنا.


قهقه محمد وهتف بعدها ومازال يظن أنها مزحة:


_دمك شربات ياما، ولما هي تجيب ليكم الحاجات دي،  هتجيبلنا ايه؟.


تمتمت والدته في انفعال فهو يظن أنها تمزح على الأغلب:


_أنا مش بهزر معاك يا حبيبي دي عاداتنا من زمان وأختك الكبيرة لما اتجوزت جيبنا لحماتها، وابن خالتك  لما اتجوز مراته جابت لخالتك شيء وشويات وأنتَ مش اقل من أي حد.


عقب في تردد:


_يا أمي بس دي مش من عواديهم وكمان أفكار هى اللي بتجهز نفسها وأنتِ عارفة هنا في الحارة مش بنمشي بالشكل ده، كل واحد على قده .


تحدثت والدته في أنفعال:


_مليش فيه هى اللي بتجهز.. اللي خلفوها بيجهزوا  أحنا مش أقل من أي حد حوالينا وزي ما أنتَ مش مقصر معاها في حاجة هى كمان المفروض تشرفك وسط أهلك وناسك، ولازم نمشي تبع الأصول ده مرات ابن خالتك كانت جايبه ليهم حتى الميكرويف ومروحة كمان.


صمتت ثم أكملت في تهكم قاتل :


_ وبعدين أنت مفكرها هبلة، دي على قلبها قد كده، دي شغالة ٢٤ ساعة، وأنت اهو رغم شغلتك القليلة جهزت اختك وجبت لحماتها أجهزة برضو .


_ أيوة بس لسه مديون بيهم لغاية دلوقتي .


نهت والدته الحوار وقد اشتعلت عيونها غضب من خنوع ولدها لتلك الفتاة :


_ بس جبت وشرفت اختك، وجه الوقت اللي يتجابلك يا قلب امك ...


______________


كان يجلس أعلى مكتبه الابنوسي في محله الذي افتتحه منذ أيام قليلة بعدما ترك وظيفته في البنك، كانت اصوات زفراته تخرج بوجع كل دقيقة والاخرة، بينما صديقه يجلس أمامه يضرب كف بآخر.


_ يعني يا بني آدم خطيبتك زعلانة منك، تبعت امك تصالحكم على بعض ؟؟


_ وفيها ايه يا سيف ؟! ما أنت عارف امي بتحب روضة قد ايه وميهونش عليها تشوفني زعلان .


سحب سيف مقعده ليقترب من داوود يحاول فهم ما يدور داخل رأسه:


_ يابني بتحبها ماشي مقولناش حاجة، بس أنت اللي زعلتها يعني لازم أنت اللي تصالح .


رمقه داوود بعجز :


_ فكرك محاولتش ؟؟ أنا من امبارح مش مبطل رن عليها بس هي مش بترد .


_ رن ايه ؟! يابني افهم الحالات اللي زي دي ليها حل واحد بس .


نظر له داوود باهتمام وهو يقول :


_ ايه ؟! اروحلها ؟!


_ يا بني ادم هدية، هاتلها هدية حلوة تراضيها بيها .


استاء داوود من صراخ صديقه في وجهه، عاد للخلف مبتعدًا عنه قدر الإمكان وهو يقول بغيظ :


_ طيب متزعقش، هدية ايه بقى ؟!


_ وانا كمان اللي هقولك هدية ايه ؟! فكر أنت هي محتاجة ايه ؟؟ ذوقها ايه ؟؟ بتحب ايه ؟؟ ناقصها ايه ؟؟ فكر كده وشوف .


أنهى سيف حديثه وهو ينهض من مقعده يتمطأ بوجع، ثم اخرج هاتفه يتفحصه سريعًا مضيفًا :


_ همشي أنا بقى واسيبك تفكر .


رفع داوود عينه لصديقه بتعجب :


_ رايح فين يابني ؟! ما تقعد نتغدا سوا .


_ لا معلش عشان سايب الورشة لوحدها، شوف كده دنيتك وابقى اقابلك بليل تقولي عملت ايه ..


هز داوود رأسه موافقًا، ثم استراح في مقعده يتنهد بهدوء، ومن بعدها أخرج هاتفه من جيب بنطاله يلوح به أمام عينه محاولًا التفكير في هدية مناسبة لأجل روضة، هدية تحتاجها وبشدة، لكن وقبل أن يصل لقرار انتفض على رنين هاتفه..


زفر قبل أن يجيب بهدوء على والدته :


_ أيوة يا امي .


_ داوود الحقني تعالى شوف اخوك وعمايله عشان أنا خلاص جبت اخري منه .


نهض داوود من مكانه بفزع يخرج خارج المحل وعقله يضخ عليه مصائب لا حصر لها قد يكون شقيقه المتسرع فعلها :


_ اهدي بس يا امي، حصل ايه ؟! حامد عمل ايه ؟! 


وصل له صوت والدته تقول بنفاذ صبر :


_ تعالى بنفسك شوف عمل ايه، أنا رميت طوبته وسلمت امري الى الله ...


هرول داوود للمنزل وعقله لا يتوقف عن التفكير :


_ يا ترى هببت ايه يا حامد المرة دي ؟؟؟


____________


_يالهوي ألطم على وشي الناس يقولوا الولية اتجننت في أخر أيامها، يا ابني مراتك زي الفل وبتحبك وعندك بدل العيل تلاتة، بتخلف ليه منها كل شوية مدام أنتَ مش طايقها هتخليني أقول كلام مينفعش ده بنتك الصغيرة عندها خمس شهور.


قالت جيهان تلك الكلمات وهى تجلس  على المقعد وعلى الأريكة يجلس أبنها الأكبر حامد الذي يبلغ من العمر ثلاثين عامًا ومتزوج من ألاء التي تبلغ من العمر ثمانية وعشرين عامًا، تزوج منها منذ ما يقارب عشر سنوات ولديه ثلاثة أبناء، ابنه الكبير يبلغ من العمر تسعه سنوات، والأوسط يبلغ من العمر ستة سنوات، وابنته الصغيرة تبلغ من العمر خمسة أشهر، وهو يعمل في معارض والده الخاصة "بالسيارات" فهو من أشهر المعارض في الجيزة والقاهرة.


تمتم حامد في ضيقٍ:


_جرا ايه يا أمي، هو أنا عيل صغير أنا راجل مقتدر أفتح بيتين، وعايز أتجوز تاني، ايه المشكلة وبعدين أنتِ متعرفيش احتياجاتي كراجل عايز يحس أنه متجوز واحده ست مش أم للعيال وبس، نفسي تهتم بيا اروح الاقيها مستنياني وتتكلم معايا كويس، وتبقى حنينة وتسمعني لما اكون في ضيقة، عايزة واحدة تشاركني حياتي مش جايبها تربي العيال بس .


سخرت منه جيهان قائلة:


_ياخويا متقوليش أنا احتياجاتك عرفها لمراتك وقولها ايه اللي أنتَ محتاجه.


قال حامد في ضيقٍ:


_يعني أنتِ فاكره إني متكلمتيش معاها؟! أتكلمت معاها ألف مرة وهى دايما تقولي العيال ومش العيال وطول ما أنا مهتمة بيهم ابقى عامله اللي عليا وتكلمني أن أنا اللي دماغي فاضية وبدور في تفاهات ومحسساني إني عندي خمسين سنة أنا راجل من حقي تكون واحدة في حياتي حاسة بيا وأنا لقيت ده في أمنية.


_وايه يخلي واحدة متجوزتش قبل كده تتجوز واحد متجوز وعنده تلت عيال؟! إلا انها طمعانة فيك طبعًا.


أجابها حامد في دفاع عنها وعن ذاته فالأمر ليس بعقلية والدته:


_يا أمي دي بنت ناس ومن عيلة كبيرة مش واقعة ولا حاجة، ومعاها عربية وأبوها دكتور كبير يعني من عيلة محترمة واللي يخليها توافق أنها بتحبني، وعارفة انه لا عيب ولا حرام.


فتح باب المنزل بواسطة "داوود" الذي أقترب منهما على عجالة وهتف في قلق فقد جعلتها والدته يأتي مذعورًا:


_خير يا أمي حامد ماله في ايه؟!.


كان قد أقترب منهما في نهاية حديثه وكاد حامد ان يطمأنه أنه بخير وليس به أي شيء، ولكن سبقته والدته في انفعال:


_متخافش على أخوك صحته زي الفل هو هيجلطني انا بس وهيموتني ناقصة عمر وأنا لسه في عز شبابي.


مازال داوود لم يفهم ما الذي يحدث مما جعله يتحدث في استغراب ولكنه بدأ أن يهدأ قليلًا وهو  يجد شقيقه بخير:


_يا جماعة اهدوا وفهموني في أيه؟!!.


أجابه حامد في سخرية:


_ولا حاجة أمك كالعادة عاملة موضوع من لا موضوع كل الحكاية أنا جيت بقولها أنا عايز اروح اتجوز وأخدت ميعاد وعايزكم تيجوا معايا علشان أنتم أهلي.


حاول داوود أن يستوعب الأمر قائلا:


_تتجوز؟!!! طب ومراتك.


قال حامد في برود:


_مراتي على عيني وعلى رأسي مفيش حاجة هتأثر عليها قبل ما تطلب الحاجة واللي في نفسها هيكون عندها هى مراتي وام عيالي.


سأله داوود في شكٍ:


-يعني مراتك عرفت وموافقة؟!.


قهقهت جيهان ثم قالت في غضب:


_لا مش هيعرفها هيتجوز من وراها.


هتف داوود في نبرة محايدة:


_أنا مش برجح الحوار ده.


صاح حامد في انفعال فلا أحد يشعر به:


_بقولكم أيه أنا مش عيل صغير أنا جاي علشان انتم أهلي وناسي وعايزكم معايا لكن انا مش منتظر حد يقولي موافق ولا  مش موافق، هتيجوا معايا ولا لا؟!!! انا مش بعمل لا حاجة عيب ولا حرام انا هتجوز على سنة الله ورسولة ولا أيه يا داوود هل أنا بعمل حاجة غلط؟!


عقب داوود على حديثه في بساطة:


_يا حامد محدش يقدر يقول على اللي ربنا شرعه غلط وحرام، لكن أنتَ عايز تنفذه غلط من شروط الزواج الاشهار يعني الناس كلها تبقى عارفة مش مراتك وأهلها، مدام أنتَ مقتدر زي ما بتقول ومش بتعلم حاجة غلط قول لمراتك انا هتجوز وافقت أهلا وسهلا موافقتش حقها تكمل او متكملش وأنا مش هاجي على باطل لو مراتك موافقة أنا معنديش مشكلة أجي معاك.


_هقولها بس مش دلوقتي.


قالت والدته في نبرة متهكمة من ولدها البكر :


_لما يجيب الرابع هيبقى يقولها أن شاء الله يا خيبتك في ابنك البكري يا جيهان اللي بيخرب بيته بايده.


نهض حامد وتلقظ في عصبية شديدة:


_انا ماشي مش هتفضلوا تسموا بدني الميعاد يوم الخميس الجاي لو موافقين أتصلوا بيا لو هتيجوا معايا مش هتيجوا أخد خالي وأروح.


______________


في الصباح التالي لكل ذلك ..


كانت تجلس وأمامها يتواجد صناديق كرتونية وتقوم بلصق الأوراق عليهم؛ اوراق المتواجد عليها البيانات الخاصة بكل صندوق منها الأسم والرقم والعنوان وفي بعض الأحيان تقوم بالتسهيل على نفسها وتكتب عليهما قبل لصقهما على الصندوق وهذا ما فعلته اليوم.


_والله كتر خيرك يا محمد تصدق كنت صاحية مش في مود الضحك خالص وخلتني أضحك مع إني لسه دابه خناقة مع أمي لرب السماء.


أتاها صوت محمد من الهاتف قائلا:


_يا حبيبتي أنا مش بهزر أنا بتكلم بجد.


هنا كانت قد بدأت بلصق الأوراق الخاصة بعناوين الطلبيات على الصناديق تفتح كل صندوق وتجد الورقة الصغيرة المتواجدة بداخله تقوم  بأخذها وتقوم بلصق بعدها الورقة المطابقة لتلك الورقة الصغيرة التي تلقي بها في سلة القمامة.


فهي كانت تعمل في إحدى شركات الشحن كعمل اضافي جوار اعمال أخرى كثيرة .


غمغمت أفكار في سخرية:


_أنتَ منهم ولا أيه يا محمد مبلبع أيه على الصبح؟!!! ايه اللي أجيب لأمك غسالة وبوتجاز وتلاجة مش لما اجيبهم لنفسي؟! وده في شرع مين ده ولا في عرف مين يا عنيا ؟؟ 


تمتم محمد في لامبالاة:


_دي عوادينا يا أفكار العروسة بتجيب لحماتها أم عريسها كده ده العرف وانا مش أقل من حد.


صاحت أفكار ساخرة وهى تفتح الصندوق وأخذت الورقة دون ان تنظر فيها من غضبها وألقت بها في القمامة ولصقت اللاصقة المتواجد عليها بيانات غير متطابقة تمامًا معها على الصندوق :


_والله اجيب لأمك غسالة وبوتجاز وتلاجة؟؟ طب اجيب لأختك ايه؟؟ فريزر؟؟ ولا تحب اجيبلها ميكرويف؟! ولا مش في عرفكم أجيب لعمتي مع حماتي؟!.


_أفكار متتريقيش.


قالت أفكار في غضب وهي تلصق اوراق غير متطابقة على الصناديق، والنتيجة أنها بدلت البيانات:


_ بلاش هبل بقا وتخلي الواحد يغلط، وترجع تقولي أفكار متتريقيش الكلام اللي قولته ده انا هعتبره نكتة منك في الآخر عشان ميصدرش مني كلام يزعلك أنت وامك .


_يعني ده أخر كلام عندك؟!.


تمتمت أفكار في جدية:


_اه ده اخر كلام عندي ولما تقول كلام يدخل العقل يبقى نتكلم يا محمد .


تنفس محمد بصوت مرتفع وقد خطرت في رأسه فكرة أن يهددها بإنهاء الخطبة علها تتراجع، وإن لم تفعل حاول إقناعها مجددًا كي لا تغضب والدته وتفسد كل شيء :


_طيب وأنا هاجي النهاردة اخد شبكتي يا أفكار.......


                  الفصل الثاني من هنا

لقراءة باقي الفصول من هنا 

تعليقات



<>