رواية إعلان ممول الفصل التاسع عشر 19 بقلم رحمة نبيل & فاطمة طه سلطان

          


رواية إعلان ممول

الفصل التاسع عشر 19 

بقلم رحمة نبيل & فاطمة طه سلطان

 


صلوا على نبي الرحمة.


بنعتذر على التأخير بسبب ظروف لينا، وراجعنا الفصل والله بسرعة، باذن الله المرة القادمة يكون اتنين .


قراءة ممتعة 


__________


تجلس أفكار أمامه في المطعم تقوم بتناول طعامها في نهم رهيب لا يدري حقًا من أين أتى لها؟!!..


كيف شعرت بتلك الرغبة في تناول الطعام بعد ما حدث؟! هو يراقبها فقط ولا يتناول شيء مازال الطبق المتواجد أمامه ممتلئ مثلما وضعه النادل، هو أتى فقط لأنه قد قطع على نفسه عهدًا أنه سيذهب معها لتناول الغداء، ولكنه فقط شهيته بعد ما حدث وتلك العلامة المنخفضة جدًا.


انتبهت أفكار أخيرًا وهي تبتلع الأرز الذي يحملق به بنظراته مما جعلها تبتلع الطعام بتوتر وهي تقول في اعتراض:


_ عارف أيه أكتر حاجة بكرهها؟!.


نظر لها داوود بعدم فهم مُعقبًا:


_أيه هي؟!.


تحدثت أفكار بضيقٍ:


-أن حد يفضل مبحلق في أكلي مش عارفة أبلع اللقمة لو كان نفسك في الرز البسمتي والفراخ المشوية مكنتش طلبت الخضار المشوي وحتة اللحمة دي بدل البحلقة دي في أكل غيرك.


ينتابه شعور غريب برغبته في قتلها وهذا الشعور ليس غريب عليه، فهو منذ رؤيته لها وتراوده تلك الفكرة، بل الغريب حقًا بأنه رغب في أن يضحك بسبب تعبيرات وجهها، لكن في كل الاحوال لم يفعل هذا أو ذاك بل تحدث ساخرًا:


_أنا مش عارف ازاي ليكِ نفس تأكلي بعد اللي عملتيه ده، جايبة خمسة ونص من ثلاثين وعماله تأكلي ولا همك.


أردفت أفكار في تهكم وهي تنظر له في نزق:


_وأيه يعني هموت نفسي يعني؟! وبعدين هو كان امتحان البكالوريا؟! ما أنا طول عمري مستوايا كده وبأكل وبشرب وزي الفل ولا ناقصة ايد ولا ناقصة رجل، ومخي يوزن بلد ودي....


قاطعها داوود في نبرة متهكمة:


_لا مش محتاجة تقوليها المعلومة دي أنا عارفها كويس وعارف افكارك كلها، أنتِ أفكار وكلك أفكار.


ابتسمت أفكار رغم إدراكها الكلي أنه يسخر منها بعض الشيء ويقصد بعض المواقف التي فعلتها ولم تعجبه، ولكنها أحبت ملامحه وشعرت بأن حديثه قد يحمل معنى جيد، لا تدري هل هذا من حماقتها  أم أنها باتت تتلاشى الغضب منه؟!...


لكنها على أي حال في أقصى مراحل سعادتها بسبب جلوسها معه..

شعور عجيب لا تستطيع وصفه..


تمتمت أفكار وهي تقطع جزء من الدجاج المشوي المتواجد في طبقها وتضعه في طبقه متمتمة:


_كُل بس ياخويا الامتحانات بتروح وتيجي أهم حاجة الغدا الحلو اللي يصلب طولك، كل علشان شكلك ضعفان شوية اليومين دول.


ردد كلمتها الاخيرة باستنكار:


_ضعفان؟!.


_ايوة يعني خاسس كده، شكلك في اللغة العربية مش كويس أبقى أحضر معايا الدروس بقى.


ضحك داوود من قلبه رغمًا عنه وهو يقول:


_معاكِ حق أنا محتاج أحضرها فعلا، يبقى نحضرها سوا يا افكار .


نظرت له ببسمة وكأنها تشجع تلك الفكرة لينفجر في الضحك على ملامحها تلك ويبدأ في تناول طعامه بهدوء وهو يتحدث لها بكلمات لطيفة، وقد تقبل كليًا أن أفكار تعجبه لأنها أفكار...


____________


ذهب وأخذ الكثير من المقرمشات والحلوى التي يفضلها أبناؤه ولن ينكر أنه أختار بعض الاشياء التي تروق إلى ألاء جدًا فهو مازال يتذكر كل شيء يخصها ما تحب وما تكره، قرع الجرس وظل واقفًا أمام الباب بحماس كبير ويقوم بضبط ياقة قميصه وينتظر أن يُفتح الباب له..


وبالفعل ما هي إلا دقائق وفتحت ألاء الباب بنفسها، وهي ترتدي إسدال الصلاة الخاص بها فقد أنتهت لتوها من أداء فريضتها ..


_حامد!!.


تمتم حامد في بشاشة:


_أنا جيت علشان اشوف العيال أصلهم وحشوني أوي.


قال كلمته الأخيرة بتلميح ملحوظ فهي تستطيع قراءة عينه ومعرفة ما يقصده وما يخبئه خلف كلماته ولكنها تحدثت بانزعاج واضح:


_ ومتصلتش ليه قبل ما تيجي؟!..


أردف حامد في تهكم:


_هو أيه اللي متصلتش ليه؟!!  كلنا في نفس المنطقة قولت بس هديهم الحاجات وأسلم عليهم وامشي أيه الغلط في كده؟!.


تمتمت ألاء بجمود:


_ولا غلط ولا حاجة بس هما جوا في الاوضة وأنتَ مش هينفع تدخل البيت علشان ولا بابا ولا ماما هنا فكان المفروض تتصل قبل ما تيجي.


بكل جدية كان حامد يسألها:


_ليه راحوا فين؟!.


كانت على وشك الصراخ فيه وهي تقول بغضب:


_أبقى أتصل اسألهم لو قلبك واكلك عليهم.


مد حامد يده بالأكياس البلاستيكية مغمغمًا بأدب لا تصدق أنه يخرج منه:


_خلاص طيب مدام مش هينفع أدخل ادي دول للعيال.


أخذت منه الأكياس قائلة بنبرة عادية:


_ماشي.


أخيرًا قرر الاعتراف بخطئه وهو يعتذر لها متمتمًا:


_أنا اسف بسبب اللي عملته في الخطوبة أنا غلطت واتصرفت بطريقة غلط خصوصًا لما شجعت العيال على كده.


_طيب.


ردد كلمتها البسيطة باستغراب وهو ينظر لها هل حقًا هذا ردها:


_طيب!!!.


هزت رأسها في إيجاب ثم غمغمت بتسلية:


_عموما مكنش ليا نصيب ان شاء الله ربنا هيعوضني بالاحسن واللي يستاهلني، وأنا مش زعلانة كده كده مكنتش بحبه ربنا يرزقني بالانسان اللي احبه ادعيلي، اللي مزعلني بس على فكرة أنك شجعت الولاد على حاجة زي كده.


أتبعت حديثها ببساطة:


- يلا مع السلامة.


أنهت حديثها وأغلقت الباب في وجهه دون أن تسمع رده تاركة أياه يحترق بنيران أشعلتها قاصدة، فليحترق قليلا كما يفعل بها...


____________________


"بعد مرور بضعة أيام"


في أحد المساجد كان يتم عقد قرآن ياسر وروضة بحضور العائلة وعدد محدود جدًا من الأصدقاء حسب رغبة ياسر بألا يقوموا بدعوة الكثيرون فهو لا يحب الازدحام فليفعلوا ما تريد في حفل الزفاف..


بعد أن عقد الشيخ عقد القرآن وقال جملته الشهيرة:

"بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير"


تعالت "الزغاريد" والتهليلات والسعادة كانت تغمر الجميع تحديدًا حينما نهضت روضة وأخذها ياسر في أحضانه تاركًا قُبلة على رأسها وبعدها ذهبت إلى صديقاتها وأقاربها كي يقوموا بتهنئتها تاركة له الحرية أيضًا مع الأصدقاء..


 على أحد الجوانب كانت والدة روضة تقترب من والدة ياسر التي كانت تذرف دموع الفرح، فقالت الأولى بهدوء:


_أم ياسر، ايه فين الكانزات عايزين نوزع على الناس كتب الكتاب خلص.


ضربت والدة ياسر يدها على صدرها قائلة في صدمة كبيرة وتصنع واضح وضوح الشمس:


_يالهوي ده أنا نسيتهم في البيت الواد ياسر الله يسامحه فضل يستعجلني أنا وأبوه بعد ما خلص لبس ونسيت خالص.


تحدثت والدة روضة وهي تكز على أسنانها:


_وهي دي حاجة تتنسي؟!!.


غمغمت والدة ياسر في انفعال:


_ما خلاص بقى يا مرات اخويا أعمل ايه يعني؟! نسيت واللي حصل حصل..


هي ليست مجنونة حتى تفتعل شجار في هذا اليوم الخاص بابنتها فتركتها وذهبت ناحية زوجها قائلة:


_اختك بتستعبط وبتقول أنها نسيت الحاجة الساقعة ومش عارفة تعمل ايه؟! أيه الناس تقول علينا أيه؟!!.


رمق شقيقته من بعيد بضيقٍ، ثم غمغم بهدوء محاولً ألا يعطي المساحة لزوجته للحديث أكثر من ذلك:


_خلاص حصل خير أنا هبعت الواد محمود يجيب من أي حته قريبة ويجي متقلقيش.


في الوقت نفسه كانت روضة قد أقتربت منهما فكانت تشعر بالدهشة بأنهما في هذا الوقت الهام بالنسبة لها لا يقفا بجوارها وسمعت حديثهما ولم تدعهما يشعرا، بل سارت بخطواتها وتوجهت صوب ياسر الذي أبتعد عن صديقه بمجرد أن رأها وأقترب منها قائلا في ابتسامة واسعة:


_أيه يا قلبي؟!.


تحدثت روضة بضيق شديد:


_هو أيه اللي أيه يا قلبي؟! يعني ازاي تنسوا الحاجة الساقعة دي أمك قصدها بقى تبوظ اليوم..


غمغم ياسر متصنعًا أنه لا يفهم عن أي شيء اتحدث:


_أنتِ بتتكلمي عن أيه؟!.


بملامح غاضبة ونبرة مغتاظة كانت روضة تجيب عليه:


_يعني مش عارف بتكلم على أيه؟! بقولك مجيبتوش الحاجة الساقعة معاكم وأبويا رايح يتصرف بدل ما نتفضح قدام الناس....


قاطعها ياسر بانفعال أربكها جعلها تصمت حينما وجدت أن الجميع بدأ ينتبه لهما:


_مدام أبوكِ هيتصرف يبقي تنقطينا بسكاتك نسينا وخلاص مش هتفتحي لينا محضر يا روضة، إيه من أولها نكد هو أحنا لحقنا؟! لا بقولك أيه أنا مبحبش النكد والقرف ده اتعدلي يا روضة..


اتسعت أعين روضة في تلك اللحظة وقد شعرت لثواني بصدمة ضربت رأسها كمطرقة، ابتلعت ريقها وهو أدرك فجأة أنفعاله، فتنفس بصوت مرتفع يقول بهدوء :


_ أنا آسف يا روضة بس أنا مش بحب نعمل نكد من لا شيء، طالما الموضوع اتحل لازمتها ايه نتكلم ونبوظ يوم زي ده ؟؟ 


نظرت له باستنكار شديد ولم تكد تجيبه، حتى أقترب منهم رجل ما قائلًا ببشاشة جابرًا روضة أن تصمت:


_ألف مبروك يا ياسر...


انشغل معه ياسر سعيدًا أنه أنقذه من دقائق كان سيقضيها لتبرير موقفه لها، وهي فقط ابتعدت ببطء صوب أحد الأركان حيث رفيقاتها دون كلمة ودون رد ...

____________________


كان منزل أفكار البسيط يبدو الآن كجنة بالنسبة لها، فروع الإضاءة الملونة في كل مكان، وكذلك الزهور موضوعة في جميع الأركان، وهناك العديد من الرجال يحملون الحلوى والمشروبات لوضعها أعلى طاولة في ركن المنزل، وأمام المنزل تزينت الحارة احتفالًا بخطبة افكار، أمور لم تحدث في خطبتها الأولى حيث رأى خطيبها السابق أن تلك الأمور صورية ولا فائدة ترجى منها، لا والله، فرحتها الآن هي أكبر  من أكبر فائدة ..


ابتسمت أفكار وهي تخرج من غرفتها مع خليل الذي جاء يناديها، كانت تشعر أن دقات قلبها قد وصلت لأعلى معدل لها، هي سعيدة، سعيدة لأنها الآن تعيش كأي فتاة، تستشعر لحظات حلمت بها قديمًا ..


وفي أحد أركان المنزل حيث تنتظر عائلة داوود كان يشير داوود بعيونه لحامد صوب شقيق أفكار الأوسط والذي كان يسمى راضي يقول بهمس :


_ أنت عارف اللي هتعمله يا حامد ..


ابتسم له حامد غامزًا يتحرك بعيدًا عن داوود، ثم اتجه صوب راضي الذي كان يقف على باب المنزل يدخن سيجارة بشراهة، ربما هذه هي الثالثة التي يخرجها ويرتشفها بكل نهم..


_ مساء الخير .. ألف مبروك لاخت حضرتك يا استاذ ...


استدار راضي صوب حامد يبتسم له بسمة بسيطة :


_ راضي .


_ أيوة اتشرفت يا استاذ راضي، أنا حامد اخو العريس الكبير .


_ أيوة شوفتك وانت داخل معاه .


ابتسم له حامد ثم تنحنح وهو يقف جواره قائلًا :


_ أنت بقى الاخ الصغير ؟؟


_ لا أنا الوسطاني اللي بعد خليل على طول .


هز حامد رأسه ثم ابتسم يفتتح معه الحوار الذي اتفق مع داوود عليه :


_ أيوة بس شكلك مش زي خليل ابدا، يا جدع خليل شكله شديد شوية، إنما أنت ماشاء الله باين عليك فرفوش كده.


ابتسم له راضي يهز رأسه ببطء، ليسمع صوت حامد يقول :


_ بص يا راضي أنا ارتحت ليك، الصراحة أنت عارف أن خليل اخوك عليه طلعات مش لطيفة، وانا زيي زيك خايف الخطوبة بتاعة اخويا تبوظ، وأنت كمان دي اختك فـ ..


أخرج علبة سجائر يمدها لراضي وهو يقول ببسمة ماكرة :


_ فايه رأيك تساعدني في أننا نعدي اليوم على خير ؟؟


نظر راضي لعلبة السجائر يلتقطها من يد حامد وهو يقلبها بين أنامله، فقد كانت من نوع فاخر للغاية، ثم ابتسم يقول :


_ اكيد طبعا دي اختي يا جدع، بس نعدي اليوم ازاي لا مؤاخذة يعني نعمل ايه ؟؟ 


نظر حامد حوله لا يود أن ينتبه له أحد :


_ يعني كل ما تشوف خليل هيتدخل ويعكها شده بعيد وهديه وخليه يمرر اليوم، اقولك الزق لخليل وخليه ميقربش من العرسان لغاية ما نخلص .


أخرج راضي السيجارة من فمه وهو ينفث سمومها قائلًا بصوت أبح :


_ أيوة بس اني الزق لخليل دي مش سهلة، ده عيل ايده تقيلة وميقدرش عليه غير الشديد القوي، وعلبة السجاير دي مش كفاية عشان أضحي اوي كده .


انقبضت ملامح حامد بحنق شديد من هذا الشاب الجشع، يتنهد بشفقة وهو يدعو الله أن يخلص تلك المسكينة أفكار منهم على خير، الآن فقط أدرك أن شقيقه ألتقط جوهرة نادرة من الوحل، تلك الفتاة عزيزة النفس التي ترفض أخذ قرش دون أن تكد وتتعب به كيف نشأت بين هذين الاثنين؟!!! .


_ أنا مش معايا علبة تانية، بس ممكن ادفعلك حقها اتفقنا ؟؟


ابتسم راضي غامزًا :


_ اتفقنا ..


وعند داوود كان يعدل ثيابه وهو يراقب حامد يتمنى أن ينجح في إقناع الصغير بمراقبة خليل وإبعاده اليوم عنهم، هو سيفعل المستحيل كي يتأكد من مرور اليوم بسلامة وعدم إفساده لأجل أفكار فقط ..


ثواني ولمح حامد يقترب منه مبتسمًا، تحرك داوود صوبه بسرعة يهمس له بلهفة :


_ ها يا حامد عملت ايه ؟!


_ معفن اوي بعلبتين سجاير سكت .


تنفس داوود براحة لا يهم أي شيء، فقط تمر الليلة بسلام :


_ مش مشكلة يا حامد، اهم حاجة محدش يعرف باللي عملته ولا حتى امك يا حامد، مش عايز كلمة توصل لأفكار وأنت عارف لسان امك في ودان افكار ..


هز حامد رأسه:


_ عيب عليك محدش هيعرف باللي حصل ده ابدا .


تنهد داوود براحة قبل أن يسمع صوت حامد يردد بهدوء وهو ينظر خلف ظهره :


_ أفكار جات .


استدار داوود بسرعة كبيرة ولهفة لا يدري مصدرها، ليراها تتقدم منه وهي تتأبط ذراع خليل الذي كانت ملامحه لا تخبرك أنه يحضر خطبة شقيقته، بل هو أشبه بعاشق ذاهب لحضور جنازة محبوبته ..


لم يهتم له داوود وهو يتحرك صوب المكان المخصص لهم، والذي اوصى بتزيينه بالورود البيضاء والأضواء المبهجة، ابتسم يستقبلها بنظرات حنونة وهي كانت تنظر له بخجل، وبمجرد أن نزعت يدها عن مرفق خليل حتى جاء راضي وسحب الاخير بسرعة من بينهم بحجة الحديث في أمر هام .


ابتسم داوود باستحسان لراضي، على الأقل هو مخلص في عمله...


توقفت جواره أفكار وهي تبتسم بخجل، ليميل عليها داوود هامسًا :


_ تبارك الله زي القمر يا افكار ..


اتسعت أعين افكار بصدمة ترفع رأسها له بسرعة هامسة:


_ بجد والله عجبك الفستان والميكب ؟؟


ضحك داوود لملامحها التي تلاشى منها الخجل وحلت الصدمة محله :


_ بجد يا افكار .


اتسعت بسمة أفكار بقوة وهو نظر لها ببسمة هادئة، ليسمع الجميع صوت زغاريد النساء يصدح في المكان وقد بدأ الرجال يوزعون المشروبات على الجميع، واقتربت جيهان تحمل علبة من القطيفة بها الذهب الذي انتقاه الجميع سابقًا .


فتحت العلبة تمدها لأفكار والتي بدأت تلتقط منها الخاتم ترتديه وكل شيء وهي تشعر بالحرارة تجتاح جسدها بأكمله، وكذلك حمل داوود خاتمه الفضي يرتديه، ثم نظر لها يقول بهدوء :


_ مبارك يا أفكار ..


رفعت أفكار عيونها له، ثم نظرت حولها لفرحة الجميع التي تشهدها للمرة الأولى والدتها ترقص وهي ترحب بالجميع وكأنها تزوج اول ابنائها، الجميع حولها فرح واليوم يمر بسلام لم تتوقعه  :


_ شكرا يا داوود، شكرا جدا .


مال داوود عليها بعض الشيء يهمس بنبرة شبه مرحة ولكنها خرجت منه سعيدة، هو حقًا سعيد بشكل لم يتخيله أو يعلم سببه ولن يرهق عقله في هذه اللحظة لمعرفته  :


_ العفو ..العفو يا افكار .. أي وقت وأي لحظة .


أبعدت أفكار عيونها عنه بخجل شديد وهي تراقب فرحة الجميع وهو يراقب فرحتها، كلٌ يراقب ما يحب وما يفرحه ...


_______________


دخل المنزل بعد انتهاء الخطبة وهو يجر قدمه بتعب وإرهاق شديد، كان قد ترك أمنية أمام المنزل قبل أن يذهب ناحية منزل أمه لتوصيلها فهي عادت بمفردها معه، فأصرت أفكار ووالدتها على أن يتعشى معهما داوود، بينما حامد أستأذن بأدب وكذلك جيهان تاركين داوود يجلس على راحته ويستمتع بيومه..


إرهاق شديد أصابه، لكن الحقيقة إرهاق ممتع وإرهاق جميل، أن يشاهد سعادة شقيقه بأعينه لهي متعة بحد ذاتها، في حين كانت وقتها أمنية كانت منطوية وتجلس على المقعد الخاص بها طوال الخطبة لا تتحرك من فوقه، فهي لم يعجبها الحي بأكمله، الفتاة تبدو جيدة رغم كل تصرفاتها السابقة التي قامت بها في اللقاءات القليلة بينهما، ولكنها ترى أنهما مختلفان جدًا عن بعضهما، تشعر أن داوود يبعد عن أفكار بعد المشرق والمغرب، لكن في النهاية هي لا علاقة لها بكل تلك الأمور حقًا، ليكتب لهما الله الخير .


تحرك حامد صوب غرفته كي يرتاح قليلًا، لكن فجأة توقف على صوت أمنية التي قالت :


_ حامد، مش عايز تاكل؟!.


ابتسم حامد ينظر لها بهدوء :


_ لا يا أمنية أنا اكلت قبل الخطوبة ومليش نفس، ممكن لو جعانة تأكلي أنتِ أو لو عايزة اطلبلك اكل ..


تغيرت ملامح أمنية وتلاشت بسمتها التي حاولت أن ترسمها على وجهها :


_ لا تسلم يا حامد أنا مش جعانة اكل، أنا جعانة اهتمام، وكنت واخدة الاكل ده حجة عشان نقعد مع بعض زي زمان ..


نظر لها حامد قليلًا يشعر بإحساس سييء داخله، هل يظلمها، ويظلم نفسه كذلك معها ؟؟ هو يرغب، يرغب وبشدة أن يهتم بها، ويحبها ويجلس معها للتحدث بود كأي اثنين، لكن ...لا يستطيع، هذا هو سبب أنه لم يرد أن تعود في هذا الوقت، لم يرد أن تعود قبل أن يفكر جيدًا في الأمر، أراد استراحة مع ذاته بعيدًا عن الجميع، لكن والدتها جرته من تلك الاستراحة لتلقيه في أعماق الحيرة .


_ أمنية أنا بس ..أنا بس عايز ارتاح مش اكتر وبكرة ...


قاطعته بصراخ وقد فاض بها :


_ وانا برضو .. وأنا برضو عايزة استريح يا حامد، أنا برضو عايزة استريح، عايزة أرسي على بر بدل ما أنا من بحر لبحر ومن موجة لموجة ومش عارفة أنت عايز ايه مني ؟!


سقطت دموعها وقد شعرت بالقهر يملئها، وحامد مسح وجهه بقوة يشعر بالعجز عن إيجاد الراحة له ولمن حوله :


_ وأنتِ يعني مفكراني مبسوط ؟! مفكراني مبسوط بحياتي وكل اللي عايشة ده ؟! هو فيه انسان هيكون مبسوط وهو عايش حياة مش عارف هو عايز ايه فيها ؟؟


نظرت له بدموع تشعر بأنها فاشلة، فاشلة كبيرة، لا تحسن الحفاظ على منزلها، لم تنجح في مساعدة زوجها لتخطي حياته السابقة، لم تحافظ على علاقتها معه...


ابتلعت ريقها تقول بصوت منخفض وتعب :


_ أنتَ... أنتَ عايز ايه يا حامد ؟؟ عايز ايه وانا هعمله ؟!


نظر لها حامد قليلًا يشعر بالوجع لأجلها، يقترب منها يضمها لصدره بحنان شديد لتنفجر أمنية في بكاء عنيف وهي تتمسك به تردد دون وعي من بين شهقاتها كلمات كانت تتردد على لسان والدتها سابقًا :


_ ايه يريحك وانا اعمله ؟؟ قولي يا حامد ...


_ أنك تكون مرتاحة يا أمنية، أنا آسف اني معرضك لكل الضغط ده، حقك عليا، أنا عايزك بس تديني فرصة، فرصة صغيرة أفكر فيها  واقدر ارجع فيها زي ما كنت .


نظرت له من بين دموعها ثم تنفست :


_ تمام يا حامد ...تمام، اللي تحبه، حاضر يا حامد .


ضمها حامد يشرد بعيدًا وهو من الأساس لا يسمع كل كلماتها تلك، كل ما يسمع هو صوت السوط الذي يجلده من الداخل، إلى متى ؟؟ إلى متى سيستمر كل هذا ؟؟


________________


صباح يوم جديد، يوم انتظرته بفارغ الصبر، يوم تحقق أحلامها، يوم زفافها على ياسر، لا تصدق أن الأمور سارت بخير حتى الآن ورغم كل المؤشرات التي كانت تدل على العكس .


صعدت للسيارة التي استأجرتها خصيصًا لليوم، بعدما دفع لها والدها كافة تكاليف اليوم الخاصة بها لتسعد فقط، فعمتها العزيزة كانت تود أن تكتفي بالذهاب لإحدى نساء الحارة كي تزينها، هي أرادت أن تتزين في أشهر المراكز في القاهرة، وبعد بكاء لم يكن لوالدها سوى أن يأخذ من ياسر ما كان سيدفع لأي امرأة هنا ويكمل هو عليه .


والآن ها هي مع صديقتها وجارتها الحبيبة تتحرك بالسيارة صوب واحد من أشهر مراكز التزيين في العاصمة، سعادة لا تضاهيها سعادة، قلبها يتراقص داخل صدرها ..


هبطت من السيارة تتحرك داخل المركز ليستقبلها أحد الرجال هناك يقودها صوب جناح العرائس وبمجرد أن خطت له شهقت بانبهار، ثم نظرت لجارتها بسعادة كبيرة تتلقى المعاملة الملوكية بصدر رحب ..


تحركت لتبدأ في عمل جلسات للبشرة وهي تستمتع بكل لحظة من لحظات يومها، ثم جاء وقت عمل شعرها...


جلست على مقعد أمام المرآة وهي تتحدث بسعادة مع صديقتها :


_ والله ولا أنا كنت مصدقة، يا بنتي بابا دخل عليا امبارح فجأة وقالي ولا عاش اللي يزعلك روحي المكان اللي تحبيه .


فجأة قاطع حديثهم صوت رجولي يقول :


_ ها يا عروسة جاهزة عشان نعمل شعرك و ....روضة؟؟ مش معقولة.


استدارت روضة صوب الصوت المتعجب لتصدم من وجه معروف مألوف لها، وكيف لا وهو جارها منذ الصغر، جارها ورفيق ياسر المقرب....


ابتسمت روضة تقول بصدمة :


_ ايه ده حسن ؟؟ أنت رجعت امتى من الامارات ؟؟ 


ابتسم لها حسن يجيب بهدوء :


_ ايه يا بنتي ما أنا رجعت مع ياسر. 


_ أيوة صح أنتم كنتم مع بعض في نفس الشغل ..


نظرت حولها بانبهار ثم قالت بسعادة :


_ هو البيوتي سنتر ده بتاعك ؟؟ والله جدع أنك رجعت بلدك وعملت فيه مشروع كبير وفخم زي ده بالفلوس..


ولم تكد تكمل كلماتها أن ياسر لم يفعل مثله وقرر ترك أمواله هناك للاستثمار، حتى قاطعها حسن بسخرية :


_ بتاعي ايه بس صلي على النبي، بعدين فلوس ايه يا حسرة وهو احنا شوفنا فلوس ولا مسكنا فلوس ؟؟ ده انا يادوبك القرشين اللي عملناهم هناك كنا بناكل ونشرب بيهم، ده الحمدلله أننا لقينا فلوس نرجع البلد .


بدأ يجهز أدواته ولم يلحظ الشحوب الذي على ملامح روضة ولا التعجب الذي ملئ وجه رفيقتها، وبدأ يكمل كلماته :


_ يا شيخة ايًا كان البهدلة في بلدك احسن ميت مرة من البهدلة برة، الكفيل اللي روحنا معاه ده ابن حرام الله لا يوفقه، بهدلنا واخد مننا الاوراق وشغلنا زي العبيد، لولا واحد هناك ابن حلال ومحترم هو اللي ساعدنا .


ابتلعت روضة ريقها تشعر أنها لا تفهم ما يقال كأنه يتحدث بلغة أعجمية :


_ مش فاهمة يعني ايه ؟؟ كنت أنتَ ومين !!


_ أنا وياسر والواد محمد ابن ام مصطفى بتاعة الخضار، شوفنا هناك ايام ما يعلم بيها إلا ربنا، وقولنا كفايانا قرف بقا وننزل هنا نشوف رزقنا في البلد بعد ما رجعنا ايد ورا وايد قدام .


سمعت روضة صوت تكسير داخلها وإشارات تتابع أمام عيونها، لا تصدق ما تسمع منه تقول ببسمة غير مصدقة :


_ يعني ايه ؟؟ أنت تقصد ايه بالضبط ؟؟ أنتم مش معاكم فلوس كتير بسبب شغلكم هناك  و..


قاطعها حسن ضاحكًا بصوت مرتفع، ثم ألقى على مسامعها حقيقة ظاهرة كالشمس، لكنها طوال الوقت كانت تنظر لها من خلف نظرات سوداء ترفض رؤيتها مدعية أن هناك سحابة تغطي تلك الشمس، وفي الحقيقة تلك السحابة لم تكن سوى كتلة من الغباء بالإضافة لعناد تمسكت به :


_ فلوس كتير ؟؟ هو ياسر مقالش ليكِ ولا ايه؟؟ احنا روحنا مفلسين رجعنا مفلسين، يعني من الاخر ضيعنا سنين عمرنا من غير ما نكسب قرش واحد هناك....


       الفصل العشرون والواحد والعشرون من هنا 

لقراءة باقي الفصول من هنا 

تعليقات



<>