رواية إعلان ممول
الفصل الثالث والعشرون 23
بقلم رحمة نبيل & فاطمة طه سلطان
صلوا على نبي الرحمة
______________
صمت هي كل ما استطاعت أفكار أن تشعر به عقب إلقاء قنبلتها في وجه داوود، دون مقدمات ودون تفكير حتى .
تنفست بصوت مرتفع وهي تحرك يديها أمامها محاولة التحدث أو إيجاد كلمات لتخبره أي أسباب وحجج واهية تبرر بها قرارها الغبي الذي اتخذته في لحظات يأس منها .
لكن كل ما خرج منها هو تمتمات غير مفهومة لم تصل حتى لحدود أذن داوود والذي كان متسع الأعين فاغر الفاه مصدومًا بما وصل له منها، وعيونه معلقة على علبة الذهب ينتظر أن تتبخر وتثبت له أن ما سمعه كذبة ليس إلا..
لكن لم يحدث ذلك، بل فقط كل ما حدث هو استقامة افكار عن مقعدها، ثم نظراتها له وتحركها للخارج دون سماع أي شيء منه، هي حتى لم تمنحه فرصة إدراك ما حدث ليجيب عليها ..
وافكار سارت للخارج بقلب ممزق وشعور ملح بالانهيار على حلم جميل عاشته أيام قليلة قبل أن تستيقظ على كابوس واقعها البشع.
هو حتى لم يعترض أو يخبرها ألا تفعل، فقط صمت، أولم يقال أن الصمت علامة الرضا ؟؟
كان داوود يتنفس بصوت مرتفع عقب خروجها يحاول أن يفهم ما حدث ولم يخرج من أفكار سوى على صوت والدته التي استيقظت لتوها تقول بنعاس :
_ داوود ايه اللي مقعدك كده يا بني و...
فجأة انتبهت لعلبة الذهب أمامه، ابتسمت باتساع وسعادة وهي تركض لتجلس على المقعد المقابل له حيث كانت تستقر افكار منذ ثواني و...لحظة هل كانت هنا حقا أم أن كل ذلك أضغاث احلام ؟!
وتلك العلبة التي لوحت بها والدته في وجهه صفعته مخبرة إياه أنها حقيقة ..
_ جبت ليا هدية يا داوود ؟؟ جايبلي أنا الدهب ده صح؟
كانت تتحدث وهي تفتح العلبة بلهفة شديد معتقدة أنها لها، لكن فجأة تعجبت حين أبصرت مصوغات ذهبية تعلمها تمام العلم :
_ الآه مش دي شبكتك يا بني؟ هي بتعمل ايه هنا ؟! أنت هتغيرها ؟؟
نظر لها داوود والصدمة ما تزال على ملامحه يهمس بصوت خرج بصعوبة :
_ أفكار جابتها .
_ افكار جابتها ؟؟ امتى ده ؟؟ هي افكار كانت هنا ولا ايه ؟! مصحتنيش ليه طيب ؟؟ بعدين هي جابت الدهب ليه ؟؟
قال داوود دون تصديق :
_ فسخت الخطوبة ... افكار فسخت الخطوبة يا امي، أنا... أنا....هي مش عايزة تكون مخطوبة ليا .
شعر بقلبه يكاد يقفز خارج صدره، للمرة الثانية يمر بذلك الموقف، لكنها المرة الأولى التي يشعر بتلك المشاعر .
شهقت جيهان بصدمة :
_ فسخت ايه الحزينة دي ؟؟ وفسخت ليه ؟؟ أنت عملت ليها ايه يا بني يخليها تفسخ ؟؟
_ والله ما عملت ليها حاجة أنا ...أنا آخر حاجة امبارح كنت قاعد معاها عادي وهي ...
صمت يتذكر ملامحها وشحوبها، ليبتلع ريقه وتتأكد ظنونه أن هناك سبب قوي خلف ما فعلت افكار .
تنفس بصوت مرتفع ينتزع العلبة من يد والدته بهدوء قائلًا :
_ أنا لازم اروح ليها افهم سبب اللي حصل، اكيد حصلت ليها مشكلة، أفكار عمرها ما هتعمل كده بدون سبب .
قالت جيهان بلهفة وقد اوجعها قلبها على ابنها الذي لم يقدّر له يوما أن يسعد كالباقيين :
_ أيوة يا حبيبي روح شوفها وبإذن الله يكون سوء تفاهم يا ضنايا .
شرد داوود في العلبة بين أنامله يضغط عليها بقوة وإصرار :
_ هروح ومش هرجع غير لما اعرف ايه اللي حصل ...
__________
منذ أن عادت تبكي وبشدة حتى أنه من كثرة انهيارها وألمها النفسي لم تكن بوسعها شرح ما يحدث إلى والدتها بل أكتفت بالبكاء فقط...
وحينما وجدت سكر الأمر هكذا نهضت وذهب إلى المطبخ لصنع عصير الليمون وتلك خطوة كبيرة منها تنتظر أن تقدرها أفكار عليها، فهى لم تفعل أي شيء مهما كان بسيطًا في المنزل بنفسها بل تترك كل شيء على أفكار فهى باتت أمرأة مُسنة، ولجت سكر إلى الغرفة وجلست بجانب أفكار على الفراش ووضعت الليمون على الطاولة الخشبية المتهالكة قائلة:
_ما تقولي يا بنتي أيه اللي معيطك كده ومنكد عليكي عيشتك، هتخبي على أمك حبيبتك.
لم تجب عليها أفكار فقالت سكر بانفعال:
_ما تردي عليا يا بنتي وتفهميني عمل أيه ابن جيهان فيكي؟!
تحدثت أفكار بوجع فهو تخلى عنها لم يفكر حتى بأن يتمسك بها :
_معملش حاجة يا امي سبيني لوحدي.
_يابنتي ما تنطقي بقى متتعبيش قلبي ده أنا عاملة ليمون علشانك وعلشان تروقي دمك.
ابتسمت أفكار من وسط دموعها، متمتمة:
_تعبتي نفسك ليه ياما بس؟!.
تمتمت سكر وهي تأخذ الكوب وتأخذ جرعة منه وتبتلعها بتلقائية:
_هو أنا عندي أعز منك يا حبيبتي؟!!...
_أما هو أنتِ بتشربي الليمون اللي أنتِ عاملاه ليا؟!! ده أنتِ معملتهوش ليا من أيام ما كنت في اعدادي..
قالت سكر بعد أن أدركت ما تفعله مدافعة عن نفسها:
_اعمل ايه ؟! أنتِ نشفتي دمي وحسيت ضغطي علي فقولت أشرب بوق عصير أيه مستكتره على أمك بوق عصير؟!.
_لا مش مستخسرة يا أمي، بالهنا والشفاء.
أبتلعت سكر الباقي ثم سألها وهي تتثائب:
_الله يهنيكي أبقي قومي اعملي لنفسك واحد بقا علشان مفاصلي وجعاني، المهم قوليلي يا بنتي بتعيطي ليه؟! عملك ايه الواد ده من ساعة ما دخل حياتك وأنتِ كل يوم والتاني ترجعي تعيطي صراحة ربنا وشه فقر بس أنا مبحبش أجيب سيرة حد أنتِ عارفة.
ردت أفكار على حديث والدتها الطويل بجملة واحدة:
_انا اديت داوود شبكته يا ماما.
ضيقت والدتها عيناها بريبة وتحدثت بقلق ناسية تمامًا ما فعله راضي بابنتها:
_ليه عملك ايه قولي وأنا هشتغله في الأزرق هو وامه مش هسيبهم انا برضو كنت حاسه أنه في حاجة غلط في الموضوع عايزني أبطل حوار الفنجان علشان مكشفهوش ما أنتِ عارفة فنجان أمك كلمتي مبتنزلش فيه كان خايف اكشفه.
_يا امي فنجان ايه بس حرام بقى والله كل ده .
ضربت سكر على صدرها وهي تقول:
_اهو ده اللي كنت عاملة حسابه احنا نروح نزور السيدة زينب وبعدها نطلع على الحسين علطول الموضوع ده ميتسكتش عليه.
قالت افكار حتى تنتهي من ثرثرة والدتها:
_ داوود معمليش حاجة يا امي أنا اصلا من الاول مكنش ينفع أوافق داوود راجل محترم ومتربي ونضيف اوي، ويستاهل واحدة تشرفه وتكون نضيفة زيه.
بكل سذاجة عقبت والدتها بهدوء:
_ما أنتِ نضيفة يا بنتي وزي الفل هو في حد في نضافتك؟!.
أبتسمت فأحيانًا طريقة والدتها تهون عليها وأحيانًا أخرى قد تكون السبب الأساسي في أن تفقد أعصابها:
_أقصد نضافة القلب.
_وأنتِ قلبك بفتة بيضا .
ضحكت أفكار ثم قالت في وجع:
_بس مش كفايا يا امي، انا مش مناسبة لداوود من أي ناحية وكمان لو فضلت مكملة اخواتي هيفضحونى فامشي من غير ما شكلي يكون وحش أكتر من كده قدام داوود.
____________
هي في صدمة...
نعم صدمة...
تلك الحبوب التي أشترتها من الصيدلية مع والدتها سرًا حتى تأخذها من وراء زوجها ووالدته لم تجدي نفعًا...
أم أنها فعلت شيء خاطئ باستخدامها حتى لا تعطيها المفعول التي تنتظرة منها..
قامت بإجراء أكثر من فحص منزلي بعد شعورها ببعض الأعراض وجميع الاختبارات تؤكد شيء واحد أنها (حامل) كارثة حقيقية..
خرجت من المرحاض، ثم توجهت إلى غرفة النوم ومازالت تنظر إلى الاختبارات ببلاهة هي لا تستطيع تحديد شعورها، ولكنها تعلم شيء واحد أنها ليست سعيدة على الأقل.
ولج ياسر إلى الغرفة بعد أن تناول العشاء الذي قامت روضة بتحضيره لهما ومن وقتها تركتهما ولم يهتما بسؤالها لمَ لن تتناول الطعام أو ماذا تفعل بل كل ما يهتموا به هو...
_امي بتقولك اغسلي الاطباق وشطبي المطبخ قبل ما تنامي هي دخلت تنام وبقالها ساعة الأطباق مكانها ومعرفش انتِ بتعملي ايه؟؟
كان يتحدث وهو يغلق النافذة المتواجدة في الغرفة ويستعد للنوم فسمعها تقول بنبرة مترددة:
_أنا حامل.
أستدار لها بريبة قبل أن يبصر ملامحها المصدومة ويدها التي تحمل شيئًا خمن أنه يعرفه، قائلا بحماس حقيقي:
_أنتِ بتتكلمي بجد؟!.
هزت رأسها في إيجاب لتجده سعيدًا بطريقة لم تتوقعها حقًا مما جعلها تسأله باستغراب:
_هو أنتَ فرحان كده ليه؟!.
_ ومفرحش ليه؟! ألف مبروك يا رورو ياللي كلها شوية وتجيبي لينا ولي العهد.
تحدثت روضة ساخرة في حنق :
_عهد ايه يا ابو عهد مش لما يكون فيه عهد الأول؟!.
قال ياسر محذرًا أياها من التمادي فهو لن يتحمل كثيرًا وبعدها يده ستتصرف وهي تعلم ذلك جيدًا ويحاول ان يكبح نفسه من أجل حملها:
_بطلي طولة لسان لأن ممكن ميهمنيش اللي في بطنك واديكي علقة تحلفي بيها عمرك كله، شوفي كل ما أحاول أصفى ليكِ يا بنت الناس ترجعي تتعوجي بس انا مش هقعد أناكف فيكِ كتير هروح أشوف امي لو لسه منامتش وأبشرها أنها هتكون جدة..
خرج تاركًا إياها تراقب أثره وشعور قوي يتضخم في قلبها، شعور تجاهلته طويلًا حتى برز بهذا الشكل ..الخسارة والنهاية .
___________
كالعادة حينما يشعر داوود بالوحدة والضيق يكن الملجأ الخاص به والذي يذهب له هو صديقه الحبيب سيف الذي كان بمثابة روحه، وتوأمه الذي يكون بالحديث معه كيفما يشاء وبكل حرية ولا يقوم بانتقاء الألفاظ معه فهو يأمن له، ويحبه، علاقتهما قوية متينة جدًا...
لذلك بكل عفوية منه حينما قابله أخذ يقص عليه ما حدث معه ومع أفكار وكيف أنه لم يفهم حقًا ما الذي حدث، فكل الأمور كانت تسير بطريقة جيدة..
ما الذي حدث ليجعلها تأتي وتفعل ذلك؟!...
تحدث سيف بعفوية شديدة منه:
_طب بقولك أيه يا معلم ما تروح كده اشتري ليها هدية حلوة وادخل البيت واتكلم معاها وافهم أيه اللي حصل.
صاح داوود في سخرية أثناء جلوسهما في القهوة:
_عارف يا سيف أنتَ لو نطقت كلمة هدية أو حتى جيبت سيرة حرف الهاء وبعده حرف الدال ورا بعض في أي كلمة تانية انا هلعب في وشك اكس أوه أهو الاقتراح بتاعك ده اللي خرب حياتي كلها والسبب في اللي انا فيه..
ثم توقف عن الحديث مدركًا ما يقوله وشريط الذكريات يمر أمام عينه وبعقله، يحاول تذكر ما حدث بداية من تفكيره في شراء هدية إلى روضة وبعدها بحثه عن مربية لأبناء شقيقه، حقًا مرعب هذا القدر...
كل هذا كان يحدث من أجل أم يقابل ويتعلق بغريبة الأطوار صاحبة الأفكار العظيمة (أفكار)..
لا يصدق هو وصف لصديقه ما حدث بأنه "تخريب" لكن كان الإصلاح كله حدث في حياته، نعم أفكار لا تشبهه في أي شيء، لا يتواجد أي شيء في حياتها قد يعجبه -قبل أن تتغير- لكنه شعر بها بشكل مختلف، شعور هو نفسه لم يفهمه جعله يذهب لخطبتها فهو لا يعرف السبب الذي دفعه لفعل ذلك ولكن يكفي معرفته أنه فعلها برغبة منه وليس رغبة في إنقاذ كلمة والدته، سيكون كاذب لو قال هكذا...
وأيضًا هناك شعور به مُريب..
يشعر بألم شديد وكبير من أعماق قلبه وحزن لا مثيل له لم يشعر به حتى عند انفصاله من روضة، ماذا فعلت به افكار ليكن لها مشاعر مبهمة وغير مفهمومة ولكنها عظيمة، عظيمة كأفكارها...
يا ليته قال أي شيء بدلًا من صدمته..
يا ليته لم يتركها تغادر دون الحديث معها..
لكن قد مر الكثير ومن الصعب أن يشعر بالندم الآن فليس هناك قيمة له....
تحدث سبف باستغراب من شرود صديقه وتوقفه عن الحديث:
_مالك يا داوود روحت فين؟!.
قال داوود بانتباه وبنبرة جادة:
_ولا حاجة بفكر هعمل ايه، لازم اروح وأتكلم معاها وأفهم هي ليه عملت كده، يمكن أنا عملت حاجة من اير ما اقصد ضايقتها..
__________
تجلس أمام هاتفها وهي تتصفحه بحزن شديد وقلب مثقل بالهموم، ما الذي فعلته، دمرت حلمها الجميل بتهور و..
لا لا هي اتخذت القرار الصحيح، داوود لا يشبهها وبيئته تختلف مع خاصتها بالكامل، لا تستطيع أن تستمر في زيجة غير متكافئة، ولا تريد أن تصل للمرحلة التي تتعرى فيها حقيقة ما تعيشه أمامه، ماذا لو علم بفعلة شقيقها ؟؟ لن تتمكن من رفع نظرها في وجهه يومًا ..
تنهدت بتعب شديد وهي تمرر نظراتها بلا اهتمام على الهاتف قبل أن تتوقف أصابعها على إعلان مُمَوّل لطلب عامل في أحد المحلات الضخمة، شعرت بقلبها يقفز وهي تتذكر ذلك الإعلان الذي ألقاها في طريق داوود دون تديبر أو إرادة من ايًا منهما .
حاولت مقاومة دموعها، وهي تنظر للعنوان جيدًا لتقرر وبكل تهور أن تنهض وتذهب لترى تلك الوظيفة، فهي الآن لا يمكنها الجلوس في المنزل بلا عمل، خاصة وقد فسد مشروع التزيين الخاص بها مرتين، والآن فقدت به الشغف ..
تحركت خارج المنزل تعدل من وضعية حجابها :
_ أما أنا رايحة اشوف شغل، مش هتأخر لو مناسب هتفق عليه وهرجع..
تحدثت سكر التي كانت تجلس جوار النافذة تراقب القاصي والداني :
_ ماشي، ابقي هاتيلي معاكِ حاجة حلوة بدل المر اللي انا عايشة فيه معاكِ ده .
تمتمت افكار بحنق شديد وهي تخرج من المنزل :
_ أنتِ برضو اللي عايشة في مر معايا ؟؟
خرجت من الزقاق الضيق الذي تسكن به وصوت والدتها الجهوري يصدح خلفها وهي تقول :
_ خد يا بتاع غزل البنات هاتلي واحدة بينك.
ضحكت افكار بيأس من والدتها تردد بصوت خافت :
_ يارب نص روقانك يا سكر.
تحركت خارج حارتها بالكامل واستقلت العديد من وسائل المواصلات حتى وصلت للمكان المنشود أحد محالات البيت الضخمة والتي تطلب فتاة للعمل في المبيعات ..
تنهدت وهي تتوكل على الله ثم خطت داخله :
_ يارب يا معين ..
_________________
بعد ساعة تقريبًا خرجت من العمل الذي ذهبت لأجله متلقية اتصالًا من رفيقتها تدعوها للخروج معها قليلًا لأجل الحديث، رفضت في البداية فما لها من طاقة لفعل ذلك .
لكن وبعد الكثير من الإلحاح وافقت أفكار للخروج أخيرًا مع صديقتها المُقربة جدًا وردة إلى السوق حتى ترافقها وهي تقوم بشراء احتياجات منزلها بعد أن قام والدها اعطائها المصروف، فهي منذ طلاق والدتها من والدها باتت هي من تستلم مهمة تدبير المنزل واحتياجاته، دومًا ذهاب للسوق بالنسبة إلى وردة وأفكار هي نزهة.
وقررت وردة أن تتحدث مع صديقتها بعيدًا عن منزلها وبعيدًا عن "الخالة سكر" كما تسميها التي تقوم بقراءة الفنجان لها مخبرة أياها في كل مرة أن هناك رجل ثري سيقوم بخطبتها، ولكنها لا تجد هذا الرجل من الأساس وتخبرها بأن هذا كله بسبب أمرأة تقوم بالحقد عليها وتحسدها لذلك لا شيء يتم في حياتها، وبسبب جلوسها في المنزل وعدم إيجادها عمل بعد طردها من عملها السابق قررت أن تستمع إلى حديث أفكار وتستكمل دراستها لعل خلاصها يكمن في أن تمتلك شهادة جامعية تستطيع العمل بها في مهنة محترمة ولا يهمها ماذا ستجني من ورائها هي تعمل من أجل اشغال وقتها، فهي لا تحتاج إلى النقود أو أن تعول أحد كأفكار التي دومًا تشفق عليها، وتلعن أشقائها.
ها هي تقف مع أفكار في المتجر الخاص بالعم (أبو محمد) لا تدري حقًا اسمه الحقيقي ولكنها منذ ولادتها وباتت تتعرف على الأشياء مع والدتها تعرف بأن هذا الرجل يُدعى أبو محمد الشهير بأنه صاحب أقدم (خضري) و (فكهاني) في المنطقة وورث هذا العمل من والده ومن عائلته.
تمتمت أفكار وهي تقوم بوضع الطماطم في الكيس البلاستيكي :
_عمالة تقوليلي تعالي أخرجك تغيري جو يا أفكار، انزلي وفُكي عن نفسك وأنتِ منزلاني علشان اشيل معاكِ يا زبالة .
قالت وردة في سخرية:
_ومن امتى ياختي في خروجة جمعتنا غير السوق أو جنينة الاورمان في العيد؟!.
حسنًا حديث صديقتها حقيقي نوعًا ما، فمن مثلهم كتب عليهم الكثير من المسؤوليات ولم يشعرن بالحياة كالفتيات التي تتواجد في أعمارهم.
حاولت وردة تغيير الموضوع متمتمة في حسرة:
_يعني يا غبية فيه واحدة تضيع واحد زي داوود ده من ايديها؟!! الراجل حبك، وقدرك وعمل اللي ميتعملش علشانك، وجه يعوضك بعد الهباب اللي كنتِ مخطوباله تروحي أنتِ بكل غباء تحطي الشبكة قدامه؟! ما مدام أخوكي عرفتي تهدديه وجبتي الدهب ليه تعملي كده؟!.
قالت أفكار بنفاذ صبر وهي تضع الكيس على الطماطم بانفعال:
_علشان اخواتي هيعروني، وبعدين داوود مختلف عني، مفيش أي نقطة مشتركة ما بينا، هو يستاهل واحدة كويسة تشرفه وأهلها يشرفوه أنا مش هكون غير حِمل عليه، ومش هيكون سعيد معايا.
أبتلعت وردة ريقها بأسى وهي ترمق أفكار محاولة الحديث بإيجابية، وق انتبهت أن أصواتهم مرتفعة وحتى أن الرجل الذي يدعى أبو محمد وجميع النساء التي تتواجد بجانبهم قد استمعوا إلى حديثهم:
_بس الحب ميعرفش اختلافات يا أفكار وأنتِ حبتيه، وهو كمان واضح جدًا أنه حبك.
أحمرت وجنتي أفكار، ثم غمغمت نافية في إنكار رهيب:
_لا ياستي هو ادبس في الحوار من الأول علشان حوار امه، لكن هو محبنيش؛ افهميني يا وردة أنا مختلفة عن داوود جدًا.
قالت وردة بجدية وهي تنظر لها، تترك البطاطس هي الأخرى:
_الحب ميعرفش حاجة اسمها فروق اجتماعية يا أفكار، وأنتم حبيتوا بعض.
عقبت أفكار على حديث صديقتها بنبرة عنيدة وحزن واضح :
_لا بيعرف.
بنفس النبرة تحدثت وردة:
_لا ميعرفش.
ثم وجهت حديثها إلى أبو محمد الجالس خلفهم على مقعده الخشبي يدخن أرجيلته:
_مش الحب ميعرفش فروق اجتماعية يا عم محمد ؟!.
تحدث الرجل في نبرة ساخرة، ولكنها مجروحة:
_لا بيعرف يا بنتي أساليني أنا، بيعرف فروق اجتماعية، وبيوجع ويجرح، أحسن حاجة أن الواحد ياخد حد شبهه علشان ميتوجعش قلبه.
تمتمت أفكار بحزن من تأكيد الرجل لفكرتها وخصوصًا أنها تعرف حكايته المشهورة في المنطقة والمناطق المجاورة :
_شوفتي قولتلك؟!.
بعد وقت خرجت أفكار من المتجر الخاص بأبو محمد ثم غمغمت في عتاب:
الله يسامحك يا وردة، خلتينا نفتح جرح الراجل ياستي .
أردفت وردة بعدم تصديق:
_أنتِ بجد مصدقة أن في واحدة من الزمالك وكانت دكتورة اتجوزت أبو محمد وكانت عايشة معاه هنا زمان؟! بجد أنتِ مقتنعة بحكايات أمك وستات الحارة؟!!..
قالت أفكار بجدية وهي تقف في وسط الشارع وكذلك وقفت وردة تزامنًا مع فعل صديقتها:
_أيوة مصدقة طبعًا، وبعدين أنتِ مش شايفة الرجل عينه مجروحه ازاي بعد ما اتكلمنا، أنا متأكدة أنه معاه حق، وافترق عن مراته علشان هما مش مناسبين وخدت منه ابنه محمد زي ما امي بتقول، وبعدين أنتِ مش شايفة الراجل قمور ازاي؟! ده عينه خضراء يا حبيبتي ولغايت دلوقتي وسيم رغم سنه يعني هتلاقيه كان مشيب الستات في زمنه.
_يعني عم ابو محمد الخضري كان متجوز دكتورة من الزمالك، وأنتِ مستصعبة على نفسك أنك تتجوزي داوود بتاع العطور ؟!
نظرت لها أفكار بشر ثم تحركت تقول :
_المهم أن الراجل اتجرح، وأنا مش عايزة اتجرح ولا اجرح داوود هو يستاهل الحب كله ويستاهل واحدة تشرفه، وبعدين هو متعلم وكويس واشطر واحد بتاع عطور، وياريت يا وردة تبطلي تتكلمي في الموضوع ده متزوديش وجعي.
قررت وردة بألا تضع الملح على جرح صديقتها، فهي حزينة من أجلها وتتمني لها الخير على أية حال، وتتمنى لها السعادة لأنها تستحق، وبالرغم من حديثهما العابر عن العم (ابو محمد) إلا أن الحديث في أمره وحكايته تلك التي تعتبرها حكاية أسطورية ظلت عالقة في رأسها.
________________
طالت جلسة سكر جوار نافذة منزلها وهي تتحدث لهذا وذاك، قبل أن تبصر فجأة ابنها يقترب من المنزل لتقول وهي تناديه من النافذة :
_ خد يا واد ياراضي، تعالى هنا يا حرامي يا نصاب ياللي مشوفتش ثانية رباية .
ركض رامي بجزع صوب والدته وهو ينظر حوله بخوف أن يكون هناك من انتبه لها، توقف أمامها يقول برعب :
_ أيه يا ما حرامي ايه ؟؟ هتفضحيني في الحارة انا ما اخدتش حاجة دي بنتك هي اللي بتتبلى عليا .
نظرت له سكر باستنكار تقول :
_ والله ايه ؟! خش في عبي يا واد .
وفجأة أمسكت به من تلابيبه تجره جرًا صوب النافذة وهي تصرخ في وجهه بغضب شديد :
_فين الشاحن بتاع اختك يا واد ؟! والله أما قبيت بيه لأكون مسيطاك في الحتة كلها .
قبل راضي يد والدته وهو يقول بصوت منخفض :
_ طب سيبني وانا هدخلك البيت الله يكرمك مش ناقص فضايح كفاية اللي بنتك عملته .
تركته سكر بالفعل ليركض راضي ويتحرك داخل المنزل يتنفس الصعداء أن والدته لا تعي ما يحدث ولم تتذكر أمر الذهب، ابتسم وهو يقترب منها يقول بمهادنة :
_ هروح جري اجبلك الشاحن ياما بس قوليلي أنتِ تعرفي افكار بتحط الورق بتاعها فين ؟!
نظرت له سكر دون فهم قبل أن تقول :
_ ورق ايه ؟! أنت عايز ايه بالضبط .
_ أنا عايز بس ورقة بتاعتي كنت قايل لأفكار تخبيها معاها، تعرفي هي بتخبي الحاجات دي فين ؟؟
نظرت له سكر ثواني في شك قبل أن تتذكر فجأة أمر سرقته للذهب فاتسعت عيونها بقوة، وقبل أن تتحدث سمع كلاهما صوت أفكار يصدر من خلفهما بكل هدوء وبرود :
_ ولو عرفت هتعمل ايه يا راضي ؟؟ هتسرقها زي ما سرقت دهبي ؟؟
استدار راضي برعب ينظر صوب افكار والتي يبدو على ملامحها الإرهاق الشديد، تلقي حقيبتها على الأريكة تحاول أن تتنفس من صعوبة الطريق، الحمدلله وفقها الله وحصلت على الوظيفة وجاءت تزف الاخبار لوالدتها لتجد ذلك الوقح يحاول أن ينبش بين أوراقها.
نظر لها راضي ووجد أنه لا بد من المواجهة :
_ فين وصولات الأمانة اللي مسكاهم عليا يا افكار ؟؟
رفعت افكار حاجبها وقالت :
_ ليه إن شاء الله ؟! معاك فلوسهم عشان تسدهم ؟؟
تحرك صوبها راضي يصرخ بعصبية :
_ هو مش أنتِ اخدتي الدهب امبارح وخلتيني اروح ارجعه من الصايغ ؟؟ فين بقى الوصولات .
_ أنا مشوفتش في بحاجتك، يعني فوق ما أنت سرقت دهبي وروحت بيعته، جاي تتكلم كأنك عملت فيا جميلة لما رجعته ليا؟
نظر لها راضي بشر لتقول هي مبتسمة بتشفي :
_ وعلى العموم يا راضي عشان ترتاح لا فيه وصولات ولا يحزنون .
بُهت وجه راضي بصدمة :
_ يعني ايه ؟!
_ يعني الوصولات أنا مقطعاها من زمان اساسا، اصل انا مش قليلة الأصل زيك عشان امسك على اخويا وصولات .
شعر راضي بالصدمة مما قالت، وهي رمقته بوجع وحزن لمعرفتها أن صدمته تلك لأنه فقد الذهب وليس لأنه صدم مما فعلت..
بلعت ريقها وهي تحاول أن توقف دموعها، تبعد وجهها عن شقيقها لتتنفس :
_ اطـ..
وقبل أن تنطق بكلمة واحدة اتسعت عيونها بصدمة حينما وقعت على ذلك الذي كان متصنمًا على باب منزلها بملامح شاحبة، لا يا الله ليس هو، لا ليس هو ..
همست بصدمة وقد كاد قلبها يتوقف :
_ داوود ؟؟؟
