أخر الاخبار

رواية وبالعشق اهتدى من ميثاق الحرب والغفران الجزء الثاني الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم ندي محمود توفيق

    

 رواية وبالعشق اهتدى من ميثاق الحرب والغفران الجزء الثاني 

الفصل الثالث والعشرون 23 

بقلم ندي محمود توفيق



توقف متسمرًا بأرضه عندما رأى " صابر " يقف أمام باب منزله بانتظاره وعلى ثغره ابتسامة صفراء وشيطانية، تطلعت آسيا في وجه صابر بتعجب تتساءل في قرارة نفسها عن هوية ذلك الرجل الذي يقف أمام باب منزلهم، ثم نظرت في وجه زوجها فوجدت عينيه أظلمت بشكل مرعب وتعابيره تبدلت لتحتلها السخط والوعيد، ودون أن ينظر لها شعرت بكفه الضخم يمسك بكفها ويحتضنه بقوة ويضمها إليه أكثر وكأنه يحميها من شر ذلك الرجل، لا تفهم شيء لكن معالم وجه عمران وتصرفاته ونظرات ذلك الرجل أثارت القلق في صدرها، ولا إراديًا وجدت جسدها يحتمي بجسد زوجها ملاذها الوحيد.

خرج صوت صابر الخبيث وهو يبتسم:

_عامل إيه يا معلم عمران، أنا أول ما عرفت أنك قاعد إهنه في شقتك الجديدة قولت لازم آجي اباركلك 

رفعت آسيا نظرها لعمران تراقب تعبيراته وتترقب ردة فعله فوجدته ينظر شزرًا بطريقة ارعبتها، لم يكن خوفها منه لكن كان عليه من ذلك الرجل المجهول، لم يدم وقوفهم لوقت طويل حتى وجدت عمران يصعد الدرج ويسحبها خلفه برفق حتى وقف أمام باب وأخرج المفتاح ووضعه بالقفل ليفتح الباب ثم ينظر لآسيا ويهمس لها بنظرة حادة وصوت رجولي غليظ:

_ادخلي چوا واقفلي الباب عليكي

نقلت آسيا نظرها بين عمران وبين ذلك الرجل بخوف بدأ تظهر علاماته بوضوح على وجهها وقالت له في قلق:

_في إيه ياعمران؟ 

لم يجيبها واكتفي بنظراته الصارمة لها ثم دفعها برفق لداخل المنزل واغلق الباب، وفورًا التفت بجسده كاملًا لصابر ورمقه بنظرة مميتة ثم انقض عليه وهو يقبض على فكيه، رغم فرق السن بينهم وأن صابر يكاد يكون مقارب لسن ابراهيم لكن بتلك اللحظة عمران لم يكن يبالي بأي شيء وعينيه غطت العمامة عليها فلم يعد يرى أي شيء، سوى أن ذلك الشيطان ماهو إلا تهديدًا على سلامًا زوجته وابنه ولابد من إيقافه عند حده.

انتفضت آسيا فزعًا وتسارعت نبضات قلبها فور رؤيتها لردة فعل عمران، فقد كانت تنظر من العين السحرية للباب، ولسوء الحظ أن صوتهم لم يكن يصل لأذنها جيدًا واستمعت فقط لكلمات غير مفهومة خلال حديثهم.

عمران بنظرة تطلق شرارات الوعيد الحقيقية:

_شكل إكده الكلام بالحسنة معاك ممنهوش فايدة، چاي تقف قصاد بيتي اللي كان ممكن تكون فيه مرتي وولدي

دفع صابر يد عمران بقوة عنه ونظر له بشر وقال:

_أنا سبق وحذرتك وأنا مسمعتش كلامي ياولد الصاوي وافتكرتني بقول كلام في الهوا والسلام

صرخ به عمران بصوت جهوري يشيب الشعر:

_اقسم بالله لو فكرت تقرب من مرتي ولا ولدي لاخد روحك بيدي ومفيش حد هينچدك مني، خليك بعيد عني احسلك أنت لساتك متعرفنيش زين أنا مش كيف أبوي واصل أنا لدغتي والقبر

 ابتسم صابر بشيطانية وعينيه تنضج بالحقد والانتقام ثم دس يده في جيب بنطاله وأخرج منه سلاح ناري ثم رفعه وغرسه في جانب عمران وهو ينظر في عينيه بشر حقيقي ويهمس:

_متقلقش يامعلم احنا مبنخدش حقوقنا من حريم، لو لينا حق هناخده منك أنت

انتفضت آسيا عندما رأت صابر يخرج السلاح ويغرسه في جسد عمران، للحظة شعرت بتوقف قلبها واطلقت شهقة قوية في هلع وبسرعة فتحت الباب وهي تصرخ في عمران بعينان دامعة:

_عمران!

أعاد صابر السلاح فورًا في جيبه والقي نظرة بابتسامة صفراء على آسيا ثم انحنى على أذن عمران وهمس له يلقي تحذيره الأخير عليه:

_اعتبرها كيف ما بيقولوا عليها يامعلم بروڤا عشان تشوف بعينك أنا قادر اعمل إيه، لو خايف على روحك يبقى تصفي حساب ابوك وتدفع الدين اللي عليه، آه اصل دي فلوس ناس والحق لازم يرچع لصحابه ولا أنت مش صاحب حق عاد يامعلم 

كان عمران يجز على أسنانه ويتمالك انفعالاته واعصابه بصعوبة حتى لا يقبض على رقبته ويخنقه، فقط احتفظ بسكونه حتى لا يشتد الجدال بينهم أمام زوجته مراعاة لمشاعرها، أما صابر فألقى نظرة أخيرة على عمران وهو يودعه ثم ابتعد ونزل الدرج حتى اختفى عن أنظارهم ورحل، فركضت آسيا لعمران بعينان غارقة بالدموع وهو تسأله بخوف:

_أنت كويس؟ 

ابتسم لها بحنو ثم ضمها لصدرها وسار معها لداخل منزلهم واغلق الباب وهو ينظر في عينيه ويمسح دموعها متمتمًا:

_في إيه يا آسيا أنا كيف الحصان قصادك مالك بتبكي ليه مفيش حاچة اهدى!! 

صاحت به باكية بانهيار وعصبية:

_اهدى كيف الراچل حط السلاح على بطنك وكان بيهددك لولا أني طلعت كان يمكن يعملك حاچة

مسح على رأسها ووجهها بحب وقال في نبرة رجولية هادئة كلها وقار وصلابة:

_متخافيش مكنش يقدر يعمل حاچة من الأساس، وأنا اهو واقف قصادك بخير

نظرت آسيا في عينيه بحدة وسألته باهتمام وقلق:

_مين الراچل ده ياعمران وعاوز منك إيه؟!! 

أطلق تنهيدة حارة بتعب وقال في إيجاز دون أن يجيب على سؤالها مباشرة وبالصدق:

_واحد في مشاكل بيني وبينه من بدري وبيحاول ينبش في الدفاتر القديمة دلوك، بس أنا هعرف اتصرف معاه واحل الموضوع ده متقلقيش 

آسيا بنظرة شك وصوت قوى وهي تستجوبه فعليًا:

_لا ياعمران ده مش دفاتر قديمة وإلا مكنش يقف قصاد بيتك إكده ويرفع عليك السلاح، أنت في حاچة ومداريها عني ومش عاوز تقولي

رسم الابتسامة اللطيفة على محياه ولف ذراعه حول كتفيها ثم انحنى على خدها ولثمه بعدة قبلات متتالية وسط همسه الغرامي لها:

_لا يا غزال أنا مقدرش اداري عنك حاجة أصلًا

دفعته بعيدًا عنها برفق وهتفت بغضب حقيقي:

_بعد عني.. بتداري عليا وتكذب وعاوزني اسامحك كمان

قالت عبارتها واندفعت لداخل المنزل شائطة فلحق بها وهو يهتف مازحًا:

_يعني لو قولتلك الحقيقة هترضي عني وتسامحيني؟! 

ردت بقسوة وجفاء من خارج قلبها:

_لا! 

ابتسم بقلة حيلة منها واكمل لحاقه به هاتفًا بضحكة رجولية ساحرة:

_طيب رايحة وين مش لما افرچك على البيت الأول ده أنتي كأنك عارفة البيت اكتر مني

توقفت مرغمًا وهي تلزم شفتيها وتعقد ذراعيها أمام صدرها ثم جاء من خلفها ولف ذراعه حول خصرها فرمقته بغيظ وابعدت ذراعه عنها ثم اشاحت بوجهها بعيدًا عنه فابتسم هو وهمس لها وهو يشير إلى  المطبخ الذي كانوا يقفون بجواره:

_طيب بصي واتفرچي على المطبخ، إيه رأيك؟

التفتت برأسها تجاهه ثم اقترب بخطواته أخل المطبخ وقد ارتفعت البسمة التلقائية على ثغرها وهي تتمعن في مملكتها الخاصة بها التي ستكون ملكها وحدها أخيرًا، لقد قام باختيار الألوان وكل شيء وكان يملك ذوق رفيع انبهرت به، لكن لم تلبث لتنغمس في تأمل مطبخها الجديد حتى شعرت بذراعه يلتف حول خصرها من جديد فالتفتت له وصاحت مغتاظة:

_عمران وبعدين! 

لوى فمه بيأس وتنحنح في ابتسامة خافتة ثم اقترب منها ووقف بجوارها لينحنى على أذنها ويهمس في مكر ولهجة منذرة:

_هنفضل صابرين على الغزال العنيد ده إكده لغاية ما ينخ ويستسلم، بس يارب مينشفش راسه ونضطر نصطاده ونتعشى بيه

رمقته آسيا بنظرة جانبية رافعة حاجبها بشموخ وقالت مبتسمة:

_آه يعني عاوز تصطادني غصب عني! 

لمعت عينيه بوميض شيطاني وقال مبتسمة وهو يغمز بلؤم:

_شكلك إكده متعرفيش قواعد الصيد.. الصياد بيعمل الفخ للفريسة وهي برچليها اللي بتچليه وتقع في الفخ، بس متخافيش هبقى حنين عليكي لما تقعي في شبكة الصياد

حاولت كبح ابتسامتها على تلمحياته الماكرة لها والعاشقة في نفس الوقت، ثم قالت بنظرة كلها ثقة وغنج:

_طب متنساش أن الفريسة دي ليها أنياب ومخالب يامعلم

قهقه بقوة في ضحكة رجولية ملكت قلبها لكنها كالعادة تصرفت ببرود وكأنها لا تبالي ثم ابتعدت عنه وقادت خطواتها لأول غرفة وجدتها أمامها لتكمل استكشافها لمنزلها.

                                  ***

قضي مروان الليل كله بمنزله بالأمس متأملًا أن تعود ثانية، يجلس على الأريكة بالصالة موضع جلوسها الدائم ويفكر ويحلل ويراجع نفسه، هل فعل لها سوء فامتعضت منه ورحلت عنه.. هل خرج من شفتيه كلام دون قصد فجرحها به وأخذت على خاطرها.. هل صدر عنه تصرف اهوج أشعرها أنها حمل ثقيل يحمله على كتفيه أم ماذا؟.. ألف سؤال وسؤال يطرحه على عقله من ليلة أمس الذي لم يذق فيها طعم النوم.

تتخبط مشاعره ما بين الخوف عليها والحب لها، وهو يقول الحب بكل ثقة فقد استحوذت على رقعة كبيرة في قلبه بتلك الأيام القليلة التي بقيت معه فيها، كان يراها كالطير المجروح العاجز الذي لا يستطيع حتى الرفرفة بجناحيه والتحليق في السماء وكان هو النسر الشامخ القوي الذي يحميه من شرور الحيوانات الأخرى التي قد تأكله دون رحمة، والآن هو فقد طيره الصغير وربما قد حل به ما كان يخشاه.

ظلت الأفكار تتوالي على عقله ويتساءل هل وصل لها زوجها وأخذها عنوة ولذلك هي لا تجيب عليه حتى لا تلحق به الضرر!.. بالنهاية وجد أن لا فائدة من طرح الأسئلة وقد طفح كيله من الانتظار وقرر لأخر مرة أن يجرب الاتصال بها ثانية وأن لم تجب فسيندفع يبحث عنها في كل مكان حتى لو اضطر إلى أن يجوب الشوارع شارع شارع بحثًا عنها.

بمكان آخر داخل أحد الفنادق البسيطة كانت تجلس خلود بإحدى الغرف التي استأجرتها ليلة أمس، كانت جالسة على الفراش تضم قدميها لصدرها وعيناها ممتلئة بالدموع وتحدق في اللأشيء أمامها لكن عقلها مشغول بالتفكير به، تحاول إيجاد سبب لآخر للقائه مع زوجها حتى لا تظلمه وتعود له فهي لا تستوعب أنه يفعل هذا، لكن لا تجدد مبرر آخر لما رأته سوى هذا.

انتفضت جالسة في فراشها على أثر صوت رنين هاتفها الذي أصبحت تعرف من المتصل دون أن تنظر للشاشة فمنذ ليلة أمس هاتفها لا يتوقف عن الرنين بسببه، والحاحه الشديد في التحدث معها، ترددت هذه المرة وفكرت أتجيب أم لا؟.. وقررت في الأخير أن تجيبه وتضع النقاط على الحروف حتى لا يستمر في ملاحقتها.

فتحت الاتصال ولم تتحدث بل بالوصف الأدق هو لم يترك لها الفرصة لتتحدث حيث صاح متلهفًا بمجرد إجابتها على اتصاله:

_خلود أنتي فين؟ 

سكتت تستجمع عباراتها التي ستنهي الحكاية بينما هو فتابع بقلق شديد واهتمام صادق:

_خلود ردي عليا أنتي كويسة؟! 

خرج صوتها ضعيفًا ويغلبه البكاء تحاول الثبات حتى لا تنهار وهي تحذره:

_اسمع يامروان أنا وثقت فيك واديتك الآمان في وقت أنا كنت واخدة عهد على روحي مثقش في صنف الرچال ده تاني واصل، بس قولت يمكن أنت تكون مختلف لكن بردك خذلتني وخليتني اندم على الثقة دي، بس رغم كل ده تشكر يابشمهندش دخلتني بيتك بدل ما كنت هبقى في الشوراع حتى لو كانت نوياك مش زينة بس على الأقل مأذتنيش أو يمكن كنت لسا وكنت هتعمل إكده، أن شاء الله قريب هبعتلك كل مليم وقرش صرفته عليا و....

قاطعها منفعلًا بعد كم السخافة التي تفوهت بها من وجهة نظره:

_إيه الكلام الفارغ اللي بتقوليه ده فلوس إيه وعبط إيه، بعدين أنا عملت إيه يخليكي تندمي على ثقتك فيا، أنا من امبارح عيني مغفلتش لحظة من القلق عليكي والتفكير روحتي فين وإيه اللي خلاكي تمشي وانتي تقوليلي فلوس، إيه اللي حصل لده كله؟!!! 

خلود بعصبية وقد ارتفعت نبرة صوتها مثلها:

_راچع روحك وأنت هتعرف حصل إيه وعملت إيه يامروان!

مسح على وجهه متأففًا بنفاذ صبر وحاول امتصاص غضبه قدر الإمكان وقال لها بحكمة:

_طيب ياخلود قوليلي أنتي فين وأنا هجيلك ونتكلم ونحل المشكلة أي كانت هي إيه وأنا عندي استعداد اعملك كل اللي أنتي عايزاه حتى لو مكنش الغلط مني

ردت بقوة ورفض قاطع:

_مروان كل واحد يروح لحاله وبعد عني واصل أنا مش حمل مشاكل تاني بزيادة اللي أنا فيه، هملوني في حالي عاد أنتوا عايزين مني إيه تاني! 

ضيق عينيه باستغراب من عباراتها الأخيرة وهو يتساءل من تقصد بصيغة الجمع وجمعته مع من!!.. لكنه حافظ على هدوئه أيضًا وحاول تهدأتها وهو ينصجها بلطف وحب:

_خلود بلاش عند أبوس ايدك، أنتي عارفة أن ده خطر عليكي ولو الحيوان جوزك ده شافك ممكن يأذيكي قوليلي مكانك فين واوعدك أني لو فعلًا عملت حاجة غلط وضايقتك سعتها هبعد عنك زي ما أنتي عايزة، متفقين؟!

ابتسمت ساخرة عندما ذكر زوجها ووصفه بالحيوان وكأنه ليس صديقه وعلى اتفاق معه وهم الأثنين خدعوها فقالت له بثبات وصلابة حقيقية:

_متقلقش ربنا معايا ومش هيضيعني أن شاء الله، وابقى روح قول لچوزي ده أنه لو عمل إيه مش هيقدر يلاقيني ولا يأذيني 

أنهت كلماتها الأخيرة وأغلقت الاتصال في وجهه دون أن تمهله اللحظة ليجيبها حتى، فاتسعت عينيه بدهشة وانزل الهاتف من فوق أذنه يحدق في شاشته بذهول والغضب يحتل ملامحه ويهتف بكيظ:

_انا هروح أقوله!!.. لا أنتي شكلك اتجننتي رسمي

ثم وثب واقفًا وهو ثائر ويهتف متوعدًا لها بنبرة رجولية:

_ماشي ياخلود لو هو مش هيقدر يوصلك فهتشوفي أنا هعرف اجيبك ازاي والنهاردة كمان 

التقط مفاتيحه سيارته والمنزل وحافظة نقوده وانطلق لخارج المنزل مسرعًا متجهًا إلى وجهة معينة ستساعده في معرفة مكانها فورًا بكل سهولة.

                                    ***

داخل أسوار المستشفى، خرجت فريال من غرفتها بعدما سمح لها الطبيب بالمغادرة والعودة لمنزلها، كانت تسير متكئة على جلال الذي يسندها ويحتويها بذراعيه، أصرت على الذهاب بحضانة الأطفال لترى ابنتها قبل رحيلها، فلن تغادر المستشفى دون أن تراها بعينها وتطمئن عليها، هي منذ أن ولدتها لم تراها سوى مرة واحدة وهذه ستكون الثانية، قد حرمت من ضمها لصدرها وشم رائحتها وقلبها ينزف دمًا حزنًا وخوفًا عليها.

وافق جلال ولم يرد طلبها وساروا باتجاه الحضانة ليطمئنوا على طفلتهم، توقفوا أمام الزجاج الذي يظهر الأطفال في افرشتهم الصغيرة من الداخل، راحت عينها تجوب بين الاطفال بحثًا عن صغيرتها حتى أشار لها جلال بعين دامعة على فراش صغيرتهم التي لا تظهر منه بوضوح وقال لها مبتسمًا:

_أهي حبيبتنا! 

أدمعت عين فريال فور رؤيتها لها وسماعها لجلال وهو يناديها بحبيبتهم تغزلًا بها بعدما اتفقوا على تسميتها حبيبة، وضعت ها على الزجاج الذي يفصل بينها وبين ابنتها ويمنعها من لمسها وضمها لصدرها واجشهت بالبكاء الشديد، فلف جلال ذراعيه حول كتفيها وضمها لحضنه وهو يمسح على ذراعها وظهرها بحنو ويهمس لها في ثبات يليق بصوته الرجولي:

_هتبقى زينة بإذن الله وهتطلع وتاخديها في حضنك لغاية ما تشبعي منها يافريال

هتفت بصوت يرتجف من فرط البكاء:

_خايفة عليها قوي ياچلال، ومتوحشاها نفسي اضمها واشبع منها أنا مشوفتهاش غير مرة واحدة قلبي بيتقطع عليها

ابتسم لها وقال بعطف وحب ليبث الطمأنينة في صدرها:

_هتضميها وتشبعي منها لغاية ما تزهقي منها كمان بس أنتي خلي عندك ثقة في ربنا وان شاء الله هو هيشفيها

رفعت يديها للسماء وهو تدعي ربها بقلب أم صادق وحب نقي ودموعها تنهمر فوق وجنتيها غزيرة بينما جلال فهمس لها بجدية بسيطة:

_يلا عاد عشان أمك مستنيانا برا وكمان العيال مستنينك في البيت هما كمان اشتاقولك

ابتسمت عندما ذكر بأولادها وحبيبيها الصغيرين، ثم هزت رأسها له بالموافقة والقت نظرة على ابنتها وهي تسأله باهتمام:

_أنا هاچي بكرا تاني عشان اطمن عليها واشوفها

رد جلال بالرفض في لطف وهو يمسح عن وجنتيها دموعها:

_لا ياحبيبتي أنتي متچيش لساتك مينفعش لساتك تعبانة، أنا ما يوم هاچي اطمن عليها واشوفها وكمان اشوف لو محتاچين أي حاچة في الحضانة لبن أو حفاضات أو غيره وهچيبه وهطمنك كل يوم 

بدت على فريال علامات الرفض وهي تهز رأسها له بالنفي وعادت تبكي من جديد فتنهد جلال الصعداء بقلة حيلة وقال بحزم بسيط:

_فريال!!.. مينفعش تطلعي كل يوم هتتعبي وغلط عليكي وعلى صحتك وانتي لساتك نفسة وانتي عارفة ده كويس، متصعبهاش عليا عاد أبوس يدك ياحبيبتي، أنا خايف عليكي وعايزك بخير وتفضلي چاري وچار ولادك

ظهر اليأس على ملامحها وتطرقت رأسها باستساام دون أن ترد بأي عبارة تظهر رفضها، بينما هو فابتسم وانحنى على رأسها يقبلها بغرام ويهمس في صوت مبحوح:

_ربنا يحفظكم ليا يارب ويشفي حبيبتنا وترچع لحضننا

رددت خلفه" أمين " من صميم قلبها ثم اتكأت على ذراعه تستند عليه وسارت معه باتجاه الخارج قبل أن تلقي نظرة أخيرة على طفلتها تودعها.

                                    ***

داخل منزل خليل صفوان كان " علي " يجلس مع "حمزة " جده في غرفة الجلوس الكبيرة يتحدثون عن العمل ومشاكل متعددة، قطع حديثهم طرق الباب الرقيق ثم دخول غزل وهي تحمل بين يديها صينية فوقها كأس شاي، وترتدي فستان طويل لآخر قدميها وبأكمام طويلة وتترك الحرية لشعرها الناعم يستدل على ظهرها وكتفيها بانسابية، كان " علي " أول مرة يراها ترتدي ملابس محتشمة وجميلة هكذا جعلتها كالأميرة المتوجة، فعلقت نظراته عليها وهو يبتسم لا إراديًا لغندورته متأملًا جمالها الملفت، حتى وصلت لهم وانحنت أمام جدها تضع كأس الشاي على المنضدة الصغيرة أمامه متمتمة في رقة وابتسامة ناعمة:

_الشاي اللي طلبته باجدو اتفضل

ابتسم لها حمزة بحنو وقال متغزلًا في حبه لحفيدته:

_تسلم يدك ياحبيبة چدو 

كان علي يتابع الحديث الجاري بينهم وهو مازال محتفظ بابتسامته وعينيه لا تحيد عنها حتى قرر أن يعبث معها قليلًا وكأن شجارتهم المستمرة مع بعض أصبحت كالدم تجري في عروقه بل ويستمتع بها ولا تزعجه، فقال لها بلؤم وهو يرفع حاجبيه:

_هو چدو بس اللي ليه نفس يشرب الشاي يعني!! 

لوت فمها مغلوبة منه بعدما فهمت مقصده ومحاولاته لإشعال فتيل النيران بينهم ككل مرة، لكنها ردت عليه بكل برود لتثبت له أن هذه المرة لن تستطيع ازعاجي أيها المزعج: 

_أنا مكنتش اعرف أنك موجود وأنت مطلبتش مني

فهم ما تحاول إثباته له فضحك بخفة وقال بوقار وشموخ:

_مش لازم اطلب منك ده من الزوق والأدب إهنه أن الشاي يتعمل لكل اللي قاعدين في مجلس الرچال مش اللي يطلب بس

شعر حمزة بأن بشائر شجار وجدال بين تحفه سينشب كعادتهم مع بعض فقال لـ " علي " بنظرة حادة وصوت رجولي مهيب:

_علي مش وقته الكلام ده دلوك ورانا كلام أهم چرا إيه!!

أجابت غزل على جدها ببرود رغم أن نظراتها لـ " علي " كانت نارية تظهر عيدها الحقيقي الذي تحاول إخفائها حتى لا تخسر أمام ذلك الشيطان:

_عادي ياجدو أنا متعودة عليه هو دايمًا كدا بيحب يضايقني في كل فرصة يلاقيها قصاده

وكأنه دلو من الثلج مسكوب على " علي " لا يجعله يشعر بأي غصب أو احتراق من الداخل بل يضحك بكل استفزاز ومتعة في عينيه وهو يجيبها في النهاية بالعبارة التي وضعت نقطة النهاية لحربهم الباردة:

_لا مسمهاش بحب اضايقك، اسمها بحب اناكفك وانكشك

التفتت غزل لجدها الذي كان ينظر لـ " علي " ويرفع حاجبه مبتسمًا بدهشة من رده، عندما التفت تجاه غزل ورآها تتطلع فيه باستفهام تريده أن يشرح لها مقصده فضحك حمزة ومسح على يده بلطف متمتمًا:

_روحي يابتي روحي ملكيش صالح بيه ربنا يصلح حاله، روحي شوفي مصالحك يلا 

أطلقت عزل تأففًا قوي غيظًا من " علي " والقت عليه نظر متوعدة وشرسة فقابلته بأخرى متلذذة وباردة منه بتشتغل نيرانها أكثر وتندفع لخارج الغرفة مسرعة، فتتركه يضحك عليها مستمتعًا بينما حمزة فظل يراقب حفيده بنظرة ماكرة رافعًا حاجبه، ثم التقط كأس الشاي وقربه من فمه يرتشف منه وعندما أبعده عن فمه سأله برجولية ونظرة ثاقبة:

_بصلي إهنه ياولد منصور، أنت إيه حكايتك بالظبط مع بت عمتك؟!!

التفت علي برأسه تجاه جده وتنحنح بإحراج وتأدب ليجيبه مبتسمًا ببلاهة:

_حكايتي كيف يعني!!.. مفيش حاچة ياچدي 

رفع حمزة عصاه وضربه بها في ذراعه برفق هاتفًا وهو يضحك بدهاء يليق به:

_هو أنت شايفني أعمى قصادك ولا عبيط يا واد مش فاهم حركاتك ولا نظراتك

تنحنح علي ثانية بإحراج أشد بعدما أدرك أنه انكشف أمره أمام جده، وهذه المرة التزم الصمت ولم يجد ما يناسب من الرد ليجيب على كلام جده الذي تابع وهو يغمز لها مازحًا إياه وبحب:

_لو عچباك قولي.. قول لچدك.. ياچدي أنا عچباني بت عمتي وعاوزها.. وأنا اخطبهالك طوالي.. لكن شغل النظرات والابتسامات والكلام ده ميصحش..  الرچالة صُح تقف وتقول طوالي من غير لف ودوران أنا رايد فلانة

اتسعت عيني " علي " بصدمة من تصريح جده الحقيقي له وهو يعطيه الإنذار الأخضر للانطلاق إذا أراد خطبتها بالفعل، فردد خلف جده كلمته مجددًا ليتأكد من صدق كلامه:

_تخطبهالي!!!

حمزة بتأكيد وجدية تامة:

_أيوة بس أنت عاوزها ولا لا الأول ولا كل اللي بتعمله ده تـ.....

قاطعه " علي " فور بنبرة رجولية بعدما فهم ما سيقوله جده وقال بغلظة وصلابة:

_لا طبعًا أنت عارف ياچدي أنا مش إكده واصل، بس استغربت لما لقيتك بتقول أنك موافق ومستعد تخطبهالي لو رايدها

طال حمزة النظر في حفيده بصمت بين " علي " فسرح للحظة وهو يتخيل أنها أصبحت زوجته حقًا فظهر شبح ابتسامته الصغيرة على ثغره وسرعان ما اختفت عندما تذكر شيء وفورًا قاله لجده وهو يسأله بضيق:

_تفتكر هي هتوافق أصلًا!!.. دي مش بطيقني ياچدي

انحنى عليه حمزة ورتب على كتفه بحنان أبوي وقال مبتسمًا بلهجة حازمة:

_ملكش صالح بالباقي أنت عليك تشاور وأنا هظبط الباقي، بت عمتك ملهاش حد كيف المقطوعة من شجرة من وقت موت أمها، وأنا كنت خايف عليها لما ترچع لأبوها تتچوز واحد ميصونهاش ولا يراعيها، دي هي الأمانة الوحيدة اللي فاضلة ليا من بتي، وأنا متأكد دلوك أن مفيش حد هيصون الأمانة كيفك أنا مربيك على يدي وعارف زين أنك هتحافظ عليها ياولدي

ابتسم علي بعذوبة وتمتم في صوت رجولي قوي:

_أن شاء الله ياچدي متقلقش المهم بس هي توافق أصلًا 

هز حمزة رأسه بثقة وقال مبتسمًا بخبث:

_هتوافق

                                      ***

بمنزل ابراهيم الصاوي.......

وصل عمران بسيارته أمام منزل والده بعدما اوصل زوجته لمنزلها، اليوم يدخل منزل والده اول مرة منذ غياب يومين عنه بعد شجاره الأخير مع أمه، خرج من سيارته وقاد خطواته تجاه ثم فتح بمفتاحه الخاص ودخل.

احسن الحظ أنه لم يجد أحد بالصالة في هذا الوقت فتحرك فورًا تجاه الدرج يقصد غرفته بالاعلى ليأخذ ملابسه ويغادر قبل أن تلمحه أمه، هو من فرط غضبه منها لا يريد رؤيتها حتى، وصل لغرفته وفتح الباب ودخل لكن إخلاص قد رأته وهو يدخل فهي أيضًا عادت من المستشفى قبل قليل بعدما أصرت فريال أن تذهب لمنزل زوجها وتبقى بجوار أولادها وزوجها.

تهللت أسارير إخلاص وظنت للحظة أن عمران قد زال غضبه وعاد للمنزل مجددًا فأسرعت خلفه للغرفة متلهفة لتضمه وتعانقه وتروى شوقها لنجلها وحبيبها الوحيد، لكن تسمرت بأرضها فور دخولها عندما رأته يجمع ملابسه في حقيبة فهرولت نحوه وهي تصرخ به وتجذب الملابس من يده بهستيريا:

_بتلم هدومك ورايح وين ياعمران.. أنت مش هتهملني

رقمها بنظرة مشتعلة وساخجة ثم قال بصوت رجولي مهيب:

_چرا إيه ياما هو أنا عيل صغير ولا إيه.. بعدي عني ملكيش صالح بيا

هم بأن يكمل جمع ملابسها فاوقفته ثانية تمنعه من إكمال عمله وهي تحتضن ذراعه وتتوسله باكية:

_ياولدي حرام عليك اللي بتعمله فيا ده أنا مليش غيرك بعد أبوك هتهملني لمين، سامحني أبوس يدك واوعدك هشيل مرتك فوق راسي والله بس تفضل چاري

جذب عمران يده من قبضتها ببطء وهو على ملامحه علامات الضيق ثم قال بصوت غليظ:

_مرتي وولدي هيقعدوا في بيتهم وأنا هكون معاهم، من إهنه ورايح راحتهم اهم حاچة عندي وراحة آسيا مستحيل تكون في بيت أبوي إهنه، كفاية أني بحاول دلوك اصلح  علاقتنا وانقذ چوازنا وبيتي اللي أنتي كنت السبب في خرابه ياما

انهارت إخلاص باكية وراحت تبرر  له أفعالها بندم متمتمة:

_لا ياولدي والله أنا كنت عاوزاك تبقى مبسوط وكنت شايفة بت خليل مش مناسبة ليك

عمران بلهجة ساخرة واستياء مرعب: 

_وولدي كنتي شايفة أنه لما يموت أنا هبقى مبسوط برضوا!!! 

أطرقت رأسها أرضًا بأسف لا تعرف بماذا تجيب أو تبرر فعلتها المعترفة بذنبها فيها، اجهشت في البكاء ورفعت نظرها له تقول برجاء وأسف:

_حقك عليا ياولدي غلطت وندمانة والله، سامحني ومتعاقبنيش بفراقك عني

استطاع بصعوبة أن يقسي قلبه عليها حتى يعاقبها على أخطائها في حقه وحق زوجته وحق طفله، حيث راح يكمل جمع ملابسها هاتفًا بصوت رجولي جاف لا يحمل الشفقة ولا اللين:

_بعدي ياما عني خليني اخلص واروح اشوف شغلي، سبق وقولتلك اللي عملتيه ملوش غفران عندي 

قالها وهو يعلم جيدًا أنه حتمًا سيسامحها حتى لو بعد عشر سنوات، لكنه يقولها فقط ليشعرها بفداحة ذنبها أكثر علها تتغير للأفضل والله يصلح حالها ويهديها، بينما هي فانهارت باكية وجلست على فراشه وأخذت تراقبه بعيناها الدامعة حتى انتهى واغلق حقيبته وانزلها على الأرض ليحملها، فاستقام هي واقفة وهرولت إليه وعانقته بحرارة أمومية لتروى عطش روحها لابنها الحبيب، لم يبعدها عنه ولم يضمها حتى لا يوهمها أنه لان لها، تركها تحتضنه وتعانقه وهي تقبل رأسه ورقبته وتردد بصدق:

_متغيبش عني ابقى تعالي اطمن عليا وخليني اشوفك حتى لو مش هتسامحني، بس متحرمنيش من شوفتك ياولدي

ابتعدت عن أحضانه ونظرت لوجهه وهي تحتضنه بين بها وتهز رأسها له تحيه على الرد عليها وتأكيده أنه سيأتي لها ويطمئن على أحوالها، ابعد هو يديها عن وجهه وانزلها ثم أجاب بقوة دون أن يعطيها الجواب الذي تريده:

_سلام ياما

تركها تتعذب مقهورة على خسارتها لابنها وانصرف، قابل بلال أثناء مغادرته للمنزل، عندما رأى بلال الحقيبة في يد أخيه ابتسم بحب ورتب على كتفه مهنئًا إياه:

_مبرووك يا أبو سليم على البيت الچديد 

ضمه عمران إليه بحب أخوي وهو يضحك ثم همس عمران في أذن بلال بجدية واهتمام:

_بلال مش هوصيك على أمي خد بالك منها ولو حصل أي حاچة اتصل بيا وبلغني

هز بلال رأسه بالموافقة وتمتم في صوت رجولي ساحر كلها دفء:

_متقلقش عليها دي كيف أمي، المشكلة الوحيدة أن أنت هتهملني وحدي بينهم هما الاتنين وأنا مش حملهم 

ضحك عمران وقال غامزًا له بمرح:

_ما أنت خلاص كلها اسبوع وتدخل عش الزوچية وتهملهم كمان 

هز رأسه بلال ضاحكًا مؤيدًا كلامه بينما عمران فحمل حقيبته وودع أخيه ثم غادر المنزل ليستقل بسيارته وينطلق بها متجهًا لمنزله أولًا ومن ثم سيذهب لاستئناف عمله....

                                    ***

بتمام الساعة الحادية عشر مساءًا من ذلك اليوم.....

كان عمران يجلس بغرفته في منزله الجديد، متسطح على فراشه يحاول النوم منذ أكثر من نصف ساعة، لكن وحشته كانت أشد وأصعب عليه، كان يستوحش زوجته وابنه، ولا يطيق البقاء بمفرده ومن المفترض أن يكون هذا منزلهم الجديد الذي ستشاركه فيه زوجته وتؤنسه في وحدته، لكن تلك العنيد ترفض الاستسلام.

ظل يتكامل في فراشه يمينًا ويسارًا يحاول بكل الطرق لينام ولكن هيهات فقد عزمت الليلة على ألا تفارق عقله ولا تدعه يذق للنوم طعم، ألا يكفيها عقابها له بهجره والآن تريد حرمانه من النوم والراحة في الليل كالبشر.

كلما يغلق عينيه في الفراش يتخيلها أمامه وكلما يفتحها ويسقط نظره على جانب الفراش الفراغ يراها متسطحة به بجانبه، تلك الساحرة هل أقامت طقوس سحرها عليه وجعلته يهلوس بها وهو مستيقظ أم هذا فقط من فرط شوقه وعشقه لها، رفع يده يضعها على شعره ثم نزل من شعره لآخر وجهه ماسحًا وهو يستغفر ربه ويتأفف بنفاذ صبر، وإذا به يثب جالسًا في فراشه وهو يفكر ونظراته مشتعلة من الغيظ والوعيد قد لاحت بشائر في نظراته الرجولية، وقد عزم النية على أن الليلة ستكون تلك العنيد في فراشه حتى وأن كان رغمًا عنها، يكفيه عذاب.. إلى متى ستظل تمارس عليه هذه القسوة؟.. هو يتحرق شوقًا لها ولا يطيق فراقها وهي رأسها كرأس الماعز العنيد لا تتهاون.

تحدث بينه وبين نفسه في عقله مغتاظًا ومتوعدًا لها، " الليلة ستكونين بمنزل زوجك أيتها الماعز العنيد، شئت أم ابيتي" ، مد يده والتقط هاتفه ليجري اتصال بها فأجابته هي بعد وقت قصير لتسمع صوته الغليظ يدخل في جوف الموضوع فورًا:

_أنا چاي أخدك ناوية ترچعي معايا برضاكي ولا غصب عنك يابت خليل!!

ضيقت آسيا عيناها لعدم فهم ودهشة من كلماته ثم قالت بشراسة معتادة عليها:

_كيف يعني چاي تاخدني أنا مقولتش أني هرچعلك وبعدين إيه غصب عني وبت خليل دي من ميتا بتقولي بت خليل، طب مش راچعة ياعمران ووريني عاد هتعمل إيه

عمران بصوت محتقن من فرط الغيظ ونبرة رجولية مخيفة كلها وعيد:

_طبب جهزي روحك عاد عشان اوريكي هعمل إيه!

ولم يمهلها الفرصة لتجيبه حيث انهي الاتصال وتركها تحدق في شاشة الهاتف بذهول لا تصدقه ولا تستوعب ما حدث للتو وقاله، تسارعت نبضات قلبها خوفًا من وعيده لها وهي تعلم أنه أذا وعد لابد إن يفي به، ويبدو أنها حقًا ستعود معه رغمًا عن أنفها فقد أصدر مرسومه الذي لا رجعة فيه.

                                      ***

بمكان آخر داخل منزل بلال وحور، بينما كانت تقف حور بجواره يتفقون على بعض الأشياء في منزلهم ويتشاورون فقالت وهي تشير على غرفة حوائط غرفة بعد دخولها المطلية بلون أبيض ( اوف وايت ) :

_إيه اللون القديم ده يابلال

رفع حاجبه ونظر لها بغيظ من سخريتها لزوقه وقال:

_انتي عايزة إيه بقى اخلي لونها بامبي، ونقلب البيت كله باربي 

ابتسمت وقالت بطفولية جميلة:

_أه ياريت 

ىمقها بطرف عينه في قرف ثم قال بحدة:

_لا أنا منامش في اوضة كلها بامبي ليه شيفاني عيل لسا متفطمش، احنا اتفقنا انتي تختاري الوان البيت كله براحتك بس عند اوضة النوم استوب أنا مبعرفش انام في الوان المهرچانات اللي بتحبيها دي 

اتسعت عين حور بصدمة وقالت بحزن وغضب متصنع:

_أنت بتسخر من زوقي يابلال.. اه قول بقى أني مبفهمش وحمارة ووو....

قاطعها فورًا قبل أن يعاني الليل كله من وسائل النكد المختلفة التي ستمارسها عليه، وراح يضمها لصدره ويقبل رأسها بحب متمتمًا:

_يتقطع لسانه ياحوريتي اللي يقول عنك إكده، أنا بس كان قصدي أن أنا وأنتي زوقنا مختلف في الألوان، فمعلش بقى ارضيني وتقبلي الوان الأوضة عشان اتبسط وابسطك أنا كمان بعدين

رفعت رأسها عن صدره ونظرت له مبتسمة تقول بعينان تلمع بوميض طفولي:

_هتبسطني ازاي هتجبلي كل يوم شيكولاتة؟ 

هز رأسه بالنفي وقال متغزلًا بها وهو يغمز بعينيه في لؤم:

_لا الشيكولاتة اللي معايا احلى مليون مرة وتتاكل اكل كمان 

تجاهلت تلمحياته الجريئة وحتى مغازلته لها وابتعدت عنه فورًا بعد أن رسمت الانزعاج الشديد على ملامحها الطفولية وصاحت به:

_قصدك يعني أن أنت شايفني سمرة ومش حلوة 

نظر لها بعدم فهم وهو يرمش بعينيه تمامًا كشخص فقد القدرة على النطق من هول طريقة تفكيرها الطفولية والسخيفة، أما هي فعندما رأته على هذا الحال انفجرت ضاحكة بقوة وارتمت بين ذراعيه ثانية متمتمة في رقة:

_بهزر معاك والله انت اتصدمت كدا ليه؟!

لاحت بسمته على ثغره مغلوبًا منها ثم لف ذراعه حولها وضمها إليه إكثر وهو يهمس لها مبتسمًا:

_أنتي هتچيبي أچلي من اللي بتعمليه فيا

رفعت رأسها له وبكل تلقائية وعفوية طبعت قبلة على وجنته ولحيته الخفيفة متمتمة بكل غرام:

_متقولش كدا ربنا يحفظك ليا ويباركلي فيك ياحبيبي

رأت بلال ينظر لها بعين متسعة وابتسامة تشق وجهه حتى كادت تصل لأذنه من فرط سعادته ودهشته من تصرفها العفوي، لو علمت ماذا فعلت به قبلتها الرقيقة تلك وشفتيها الناعمتين لفرت هاربة خجلًا منه.

أدركت هي فعلتها وبسرعة ابتعدت عنه وهي تهمس باستحياء شديد معتذرة:

_طلعت بتلقائية على فكرة مكنتش اقصد أنا آسفة

بلال ضاحكًا وبحماس أشبه بحماس طفولي:

_انتي بتتأسفي ده أنا عايز واحدة تاني.. اللهم ديم التلقائية دي دايمًا يارب

مال ثغرها للجانب في بسمة خجلة وهي تجفل نظرها أرضًا بعيدًا عنه ثم قالت بارتباك وجدية:

_طيب الوقت أتأخر مش يلا عشان توصلني البيت، مينفعش أتأخر اكتر من كدا 

بلال بصوت خشن وجاد:

_هو إيه اللي مينفعش أنتي مع چوزك وبعدين أنا واخد تصريح من أبوكي يعني متقلقيش

رفعت رأسها له وقالت متوسلة إياه بوجه احمر من فرط الخجل:

_بلال روحني عشان خاطري أنا مكسوفة والله

قهقه بصوت مرتفع جعلها تضحك لا إراديًا في صمت على ضحكه، ثم وجدته يحتضن وجهها بين كفيه وينحنى عليها يقبلها من وجنتها متمتمًا:

_ده أنا ربنا يصبرني على الكسوف ده لغاية ما يتقفل علينا باب وارتاح

ثم تركها وقال وهو يشير إلى الباب فقط ليرضيها:

_يلا ياحورية عشان اوصلك، ميهنش عليا ارفضلك طلب خصوصًا وأنتي مكسوفة مني ووشك كله احمر إكده

ضحكت على مزاحه ولم تجيب وفقط غادرت الغرفة تسبقه وهو لحق بها ثم لف ذراعه حول كتفيها وسارا معًا جنبًا إلى جنب لخارج المنزل.

                                      ***

بمنزل جلال تحديدًا بغرفته هو وفريال، كانت تجلس على الفراش وحولها اولادها الاثنين يسألونها عن بعض المعلومات العامة التي كانت تشغل تفكيرهم وكانت هي تجيبهم بقدر معرفتها وسط ضحكهم ومزاحهم معها الذي اخرجها من نوبة حزنها على ابنتها قليلًا واعاد لها الأمل في قلبها.

دخل جلال الغرفة بعد وصوله من عمله وإذا يدخل في لحظة ضم فريال لأولادها وهو تقبلهم من رأسهم بكل حنان أمومي وتهمس لهم:

_ربنا يحفظكم ليا وميورنيش فيكم أي سوء ولا يحرمني منكم.. انتوا وابوكم سندي في الدنيا دي

ابتسم جلال باتساع عندما رأى ذلك المشهد وسمع اعترافها الأخير الذي اسعد قلبه بشدة، ثم تقدم للداخل وهو مازال محتفظ بابتسامته وفور رؤية عمار الصغير لوالده قفز من حضن أمه وركض لحضن أبيه ليضمه جلال بقوة مقبلًا شعره وهو يهتف ويغمز لمعاذ بخبث:

_إكده اقول ولادي رچالة صُح ويعتمد عليهم وعملوا بكلام ابوهم 

فهم معاذ ما يلمح إليه أبيه، لانه بالصباح بعد عودتهم من المستشفى وقبل مغادرته لعمله اوصاه أن يهتم بأمه هو وأخيه ويحاولوا إسعادها وإخراجها من تلك الحالة النفسية إلى حين عودته ولا يتركوها حزينة هكذا، وها هو نجله الكبير فعل بوصية والدته واعتنى بأمه، على النقيض كانت فريال لا تفهم ما يجول بين اولادها والوهم من نظرات وتلمحيات غريبة فراحت تسأل معاذ بحيرة:

_هو في إيه؟ 

نظر معاذ لأبيه يستأذنه هل يخبرها أم لا فأشار جلال بعينه له بالرفض وهو يبتسم فضحك معاذ ولم يجيب على أمه بل فقط انحنى عليها وقبلها من وجنتها متمتمًا:

_تصبحي على خير ياما

وفعل خلفه فورًا عمار المثل مرددًا نفس كلمات أخيه الأخرى فاسعدن فريال بشدة وتعالت اسراريها وردت بكل حب عليهم:

_وانتوا من أهل الخير ياحبايب أمكم

ثم غادروا غرفة والديهم واتجهوا لغرفتهم ليخلدوا للنوم، فاقترب جلال منها وجلس بجوارها ثم مسح على شعرها بعينان تفيضان حبًا فسألته هي دون تفكير بلهفة:

_روحت شوفت حبيبة تاني؟

سكت لثواني وهو يتذكر محادثته مع الطبيب وماذا قال له " والله يا چلال للأسف الوضع مش مطمن احنا بنحاول نعمل اللي نقدر عليه في الحضانة وننقذها لأن عندها مشاكل صعبة جدًا وبتتنفس بصعوبة احنا حطينا لها جهاز تنفس، وفي وضعها ده خطر تدخل عمليات حتى فبنحاول بكل الطرق الممكنة نعالجها دون تدخل جراحي، ادعيلها ربنا يشفيها " 

كظم حزنه والمه في قلبه ولم يظهره لها بل ورسم ابتسامة هادئة ومطمئنة وهو يجيبها:

_لا مروحتش الزيارة مرة واحدة في اليوم واحنا مش كنا عندها الصبح بكرا هروح أشوفها تاني ان شاء الله، بس انا ليا دكتور معرفة في المستشفى كلمته وسألته عليها وهي بخير متقلقيش

تنفست الصعداء براحة وهي مبتسمة وراحت تدعي ربنا أن يشفي لها طفلتها الرضيعة، بينما جلال فانحنى على فريال وراح يلثم شعرها بقبلة مطولة وهو يغلق عينه التي تلألأت بدموعه من الحزن على ابنته، وبسرعة مسح عينيه قبل أن تلاحظه ونهض من جوارها ليبدأ في تبديل ملابسه وبعد برهة من الوقت بعدما خرج من الحمام اقترب منها مجددًا وتمدد بجوارها ثم فرد لها ذراعه بحثها على الانضمام لحضنه هذه الليلة وتنام واسكن بين ذراعيه، فلبت الطلب بكل حب وفرحة ووضعت رأسها فوق صدره وبذراعه تضمها من خصره إليه أكثر مبتسمًا فقرر هو أن يفتح معها حديث مختلف حتى يلهيها عن التفكير بطفلتهم:

_تعرفي يا فريال اول مرة هعترف ليكي أني آسيا چبارة فعلًا

ضحكت فريال بصمت وسألته بفضول شديد:

_ليه؟! 

رد جلال وهو يزم شفتيه بغيظ من شقيقته:

_حارمة الراچل منها ومن ولده اللي لسا يدوب چاي على الدنيا من كام يوم، كتر خير عمران عليها وعلى راسها الناشفة، حتى لو منعرفش إيه اللي حصل بينهم وهي مش عاوز تقول المشكلة بس حرام عليكي تحرمي الراچل من ولده إكده ياقادرة

 قهقهت فريال بقوة وفورًا ابتعدت عنه وقال بصدمة:

_لا مش معقول.. أنت بتدافع عن عمران ياچلال!! 

جلال بجدية متراجعًا بسرعة في كلماته:

_لا أنا مش بدافع عنه أنا مش عاچبني تصرف اختى وأنها حارماه من ولده

قالت فريال بضحكة ماكرة وهي تغمز له:

_لا أنت بس عشان مشغول مش عارف اللي بيحصل هي مش حارماه ولا حاچة عمران كل يوم بيروح يشوف ولده في بيت أبوك، هي حرماه منها هي بس كيف ما قولت، لكن إيه رأيك أنت تحاول تتكلم معاها وتعقلها وأهو تاخد ثواب فيهم 

جلال برفض وهو يضحك بصمت:

_لا انا مليش صالح بمشاكلهم الاتنين دول رأسهم انشف من بعض، خليهم إكده وهما وحديهم هيعرفوا قيمة بعض ويرچعوا

ضحكت فريال بقوة ثم عادت تنام بين ذراعيه مجددًا وداخل حضنه متمتمة بتأييد لرأيه:

_عندك حق والله أنا اتكلمت معاهم هما الاتنين كتير ومفيش فايدة

                                     ***

استقامت خلود من فراشها بعدما سمعت صوت طرق الباب وظنت أن خدمة الفندق قد وصلت، فارتدت حجابها وملابسها الفضاضة ثم اتجهت إلى الباب لتفتح، وإذا بها تنصدم بمروان أمامها وقد نفذ وعده لها بأنه سيجدها حتى لو دخلت في قاع المحيط، اتسعت عيناها بذهول ورأت على معالم وجه مروان نظرات مرعبة وابتسامة مغتاظة تزين ثغره فخافت منه أكثر وبسرعة راحت تهم بغلق الباب ثانية حتى لا يكون له فرصة في الدخول لكنه وضع قدمه بين الباب وأحال دون إغلاقه يقول لها مبتسمًا في غيظ:

_هي وصلت لدرجة تقفلي الباب في وشي!! 

                                    ***

عودة لمنزل خليل صفوان حيث كانت آسيا بغرفتها تجول الغرفة يمينًا ويسارًا وتفرك يديها ببعضهم وكأنها تنتظر وصول جلادها وليس زوجها من فرط الخوف منه، رسمت عدة سيناريوهات في عقلها عن الطريقة التي يأخذها بها عنوة كما أخبرها ولكنها متأكدة أنه سيدهشها بطريقته المختلفة.

بالأسفل وصل عمران وفتحت له جليلة التي استقبلته بابتسامة ودية وقالت له:

_آسيا فوق بس يارب متكونش نامت اطلعلها

تنهد عمران الصعداء بقوة وكان يقف أمامها بكل وقار وعزة ويقول:

_أنا چاي اخدها هي وولدي عشان يرچعوا بيتهم

اختفت بسمة جليلة وسألته بحزم:

_وهي بتي وافقت ياولد الصاوي 

هز عمران رأسه بالنفي فتابعت جليلة بغضب بسيط وهي تعاتبه:

_يعني هي موافقتش وانت كمان عاوز تاخدها بالغصب وترچعها بيت أبوك وعند أمك اللي كانت بتأذيها و....

قاطعها عمران بنبرة رجولية مهيبة:

_آسيا هترچع بيتها مش بيت أبوي، شقتنا وبيتنا أنا كنت مجهزه من فترة ودلوك جه وقته أننا ننقل فيه 

تهللت اسارير جليلة فورًا، واستحوذتها الشماتة في تلك الأفعى إخلاص التي سيفارقها ابنها ردًا على أفعالها مع ابنتها، بينما عمران فقال وهو يسأل جليلة بأدب وكأنه يأخذ الأذن منها:

_تسمحيلي أخدها بطريقتي حتى لو رفضت

آماءت له بكل موافقة تعطيه التفويض الكامل في فعل كل ما يريد مع زوجته، وهي تبتسم باتساع فرحًا وشماتة في إخلاص ولولا خوفها عليها من العودة لمنزل ابراهيم الصاوي رغم معرفتها بأنها تحب زوجها وتعشقه وفقط تعاند معه، لم نكن لتغطيه تصريح كهذا أبدًا أن يأخذها رغمًا عنها ويذهب بها لمنزلهم الجديد.

اندفع عمران للأعلى حيث غرفة زوجته مسرعًا ولحقت به جليلة، فور وصوله لغرفتها فتح الباب على مصراعيه وهو ثائر دون أن أي انذار فانتفضت هي فزعًا وتقهقرت للخلف خوفًا منها ورفعت سبابتها في وجهه تحذره بقلق:

_بعد عني ياعمران اوعاك تقرب مني

للحظة جليلة خافت على ابنتها وندمت أنها وافقت عمران على طلبه وظنت أنه قد يفعل السوء بابنتها وكانت يتهم وتقف بطريقه تمنعه من أخذها لكنها وجدته يسألها بهدوء مريب لكن نظراته كانت على النقيض تمامًا:

_هسألك لآخر مرة هترچعي معايا بيتك برضاكي يابت الناس ولا لا

هزت رأسها بالرفض في عناد ونظرات مرتعدة منه فوجدته يندفع نحوها بسرعة افزعتها وكادت أن تصرخ لكنه كتم على  فمها وقال لها محذرًا بنظرة مميتة:

_حسك ميطلعش واصل فاهمة.. في خلق نايمة في البيت ولا أنتي عاوزة تلمي علينا البيت كله

دفعت يده بعيدًا عن فمها بغيظ وصاحت به مغتاظة وخائفة:

_هتعمل إيه؟!

انحنى عليها وحملها بين ذراعيه في قوة واحكم قبضتيه عليها حتى لا تحاول الفرار منه مجيبًا عليها بابتسامة مخيفة قليلًا:

_هعمل إكده

ثم سار بها لخارج الغرفة وعندما مروا من جانب جليلة صاحت على أمها المبتسمة لتنقذها وهي تترجاها:

_ياما الحقيني


الفصل الرابع والعشرون من هنا 

لقراءة باقي الفصول من هنا

لقراءة الجزء الاول من رواية ميثاق الحرب والغفران من هنا

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close