
رواية رحيل العاصي الجزء الثاني2 الفصل الثاني2 بقلم ميار خالد
نظرة أم طعنة
فطالعته هي بقلقٍ واضطراب، وهربت الكلمات عن لسانها حتى قالت:
- أنت بتراقبني يا عاصي!
رد عليها وكأنه لم يسمع كلماتها الأخيرة:
- قولت من أمتى بتخبي عليا حاجه، بلاش تغيري الموضوع
فقالت هي بصوتٍ مرتجف:
- مش بغير الموضوع، بس موصلتش إنك تراقب مكالماتي كده، فين خصوصيتي؟!!
صمت الآخر وظل يطالعها بترقب لأنه قد تفهم محاولاتها تلك في تغيير الموضوع، ابتسمت هي بتوتر لأنها أدركت أنه قد فهم ما فعلته، فتحركت من مكانها وجلست بجوار قائلة:
- أنت عارف إني مش بخبي عليك حاجه، بس أنا المرة دي لما خبيت كان علشانك والله، والموضوع طلع صغير مش مستاهل أصلًا
وقتذاك رد "عاصي" قائلًا:
- ده على أساس إنك صدقتي فعلاً موضوع شركة المياه اللي عز قالك عليها؟
طالعته بعينين مُتسعتين وقالت:
- أنت عرفت منين!! عاصي أنت بتسمع مكالماتي!!
فصاح بها الآخر:
- أيوة بسمع المهم منها بس، عشان عارفك مجنونه واللي بيطلع في دماغك بتعمليه، أي حاجه تخصك مش بتدخل فيها، لكن أنا عارف أفعالك الطايشه وأنا مش هستني لما توقعي نفسك في حاجه تاني
فقالت "رحيل" بذهول:
- تقوم تسمع مكالماتي!! أنت شايف دي طريقة يعني
رد عليها الآخر بهدوء:
- أولًا بلاش توصلي الموضوع لكده، أنا مش بتجسس عليكِ، بس لما لقيت رقم غريب متصل بيكِ وبعدها إنتِ اتصلتي بعز الدين قلقت! طبيعي كنت أسمع المكالمة عشان أفهم في إيه، وبالمناسبة أنا عارف بموت شريف من قبل ما عز يقولك
طالعته "رحيل" مطولاً، كانت تطالعه بقلة حيلة وضيق ولكن عشقها إليه قد عرف طريقه في تلك النظرات، كانت تشفق على نظرة القلق والاضطراب المتواجدة بعينيه، فما كان منها سوى الجلوس بجواره والإمساك بيده بحنوٍ ثم قالت:
- أنت ليه بتعمل في نفسك كده، ليه مش عايز تعيش في سلام
صمت الآخر للحظات ثم طالعها قائلاً:
- عشان طول ما إحنا في الدنيا دي مفيش سلام، الدنيا اوحش بكتير من العالم الوردي اللي موجود في دماغك، إنتِ قولتيها قبل كده أنا وإنتِ عاملين زي الأبيض والأسود مش شبه بعض، إنتِ الحلم وأنا الواقع، إنتِ السعادة وأنا الحزن، إنتِ مش بتشوفي غير النقطة البيضة الصغيرة اللي في الصورة لكن أنا بشوف السواد اللي حواليها بس
ردت "رحيل" برفق:
- عارفه، أنا أكتر واحده فاهمه يعني إيه قسوة الدنيا يا عاصي، بس عارف إيه اللي كان بينقذني كل مره، ضحكتي وتفائلي ده، موت أهلي قدامي كان كفيل إنه يدمر حياتي بس أنا معنديش اختيار الهزيمة كان لازم أقف على رجلي علشانهم حتى، لو فضلت تفكر بالطريقة دي هتتعب أكتر ما الدنيا هتتعبك
ثم صمتت للحظات وقالت بعدها وهي تربِّت على كتفه برفقٍ:
- بلاش تبقى أنت والدنيا على نفسك
رد عليها الآخر:
- مش عارف، صدقيني مش عارف
صمتت للحظات ثم قالت:
- طب إيه رأيك نسافر يومين كده نغير جو
طالعها "عاصي" بذهول قائلًا:
- رحيل إنتِ على وش ولاده عدي اليومين دول على خير بالله عليكِ
فقالت بإلحاح:
- بالله عليك، خلينا نسافر أنا مخنوقة أوي تعالى نعمل عُمره مره تانية ونزور الكعبة هتفرق معانا أوي
فقال الآخر بإصرار:
- تقومي بالسلامة وهاخدك إنتِ وحياة ونعمل عُمره أو نحج
طالعته "رحيل" بعينين مُتفاجئتين، لأنهم لم يقرروا اسم الطفلة القادمة إلى دنياهم، ولكنها تفاجئت حين أسماها "حياة" لأنه اسم والدتها، فقالت بسعادة تقفز من عينيها:
- بجد! هنسميها حياة
أبتسم "عاصي" قائلاً:
- بصراحه حابب آه لسببين، السبب الأول إنه اسم مامتك وعارف إنك بتحبيه والسبب التاني أناني شوية، عايز يكون أسمها حياة عاصي القاضي، لأنها حياتي فعلاً ومش هيبقى عندي أغلى منك ومنها، وأولادنا اللي هيجوا بعدها يعني
وقبل أن ترد عليه الأخرى توقفت لحظة! ثم نظرت إليه واتسعت عيونها بذهول:
- هو إحنا مش كُنا بنتخانق؟!!
تغيرت ملامح وجهه إلى الجمود حين قالت تلك الجملة ونهض من مكانه مُتذكرًا، ثم قال وقد حاول أن يُظهر بعض الغضب:
- الموضوع اتقفل أصلًا، ياريت بعد كده متتصرفيش من دماغك و..
فقاطعته هي بتأفف:
- بقولك إيه أنا جعانة
وفي اللحظة التالية قاطعهم صوت جرس الباب الذي أعلن عن وصول شخصاً ما أمام منزلهم!! فصمتوا الإثنان بتساؤل وقلق لأن صوت طرقات هذا الشخص كان صاخبًا ومزعج للغاية، وخصوصاً أن الوقت قد تأخر قليلاً على أن يأتي إليهم أحد.. وعندما أقترب "عاصي" من الباب سمع صوتها الباكي المميز فانتقض بقلقٍ..
***
وبعد خروجهم من البيت تلاشت تلك الابتسامة الزائفة عن وجوههم، قال "شادي":
- أنا خارج شوية
فأسرعت هي بقولها:
- ممكن تستني شوية، عايزه أتكلم معاك
فقال وهو يرتدي حذائه:
- المشوار مهم اخلصه وهجيلك نتكلم
طالعته هي بخوفٍ قائلة بتوتر:
- طيب هترجع أمتى؟!
ظل يطالعها بصمت، يجول رأسه في تلك اللحظة الكثير من الأسئلة التي لا يمتلك إجابتها، قد شعر بالضيق بسبب نظراتها تلك، وما تسبب في ضيقٍ أكثر له أنه هو الوحيد من يقدر على علاجها، كان دوائها وليس دائها، ولكن الآن أصبح دائها و دوائها، جزء منه يعرف أن كل ما تمر به في تلك الفترة شيئاً طبيعياً لشخصٍ قد مر بكل تلك الأحداث بحياته، ولكن رُغم ذلك شعر ببعض الضيق، فقال:
- هرجع مش هختفي يعني يا مريم، لو أتأخرت نامي إنتِ
قال تلك الكلمات وخرج من المنزل باضطراب وتركها في حرب ذهنية جديدة، كانت تود إخباره أن جفونها لن يقترب منها النعاس إلى أن يأتي بجوارها، كانت تود إخباره أنها ستظل قلقه ومضطربة حتى يصدق بوعده ويعود إليها مجددًا، كانت تود أن تعتذر له عن كل ما سبق قوله وأن كل هذا يحدث رُغماً عنها، كانت تتمنى لو تستطيع إستعادة كلماتها التي سرقتها منها الأيام..
***
وفي اللحظة التالية قاطعهم صوت جرس الباب الذي أعلن عن وصول شخصاً ما أمام بابهم!! فصمتوا الإثنان بتساؤل..
قالت "رحيل":
- أنت مستني حد؟
طالعها "عاصي" بتساؤل وقال:
- لا، خليكي هنا لحد ما أشوف مين
وتحرك من مكانه، ولكن كعادة الأخرى لم تستمع إلى كلماته وتحركت ببطء خلفه، وعندما أقترب "عاصي" من الباب وسمع صوتها الباكي المميز انتفض بقلقٍ وفتح الباب لتطل عليه "داليا" بوجهٍ باكي، وعندما وقعت عيون "رحيل" عليها تحركت من مكانها بسرعه وادخلتها فوراً ثم قالت بقلق:
- في إيه؟!! حصل إيه معاكي
فقالت "داليا" بصوتٍ مبحوح:
- أنا وفارس اتخانقنا وسيبتله البيت ومشيت
شهقت الأخرى بتفاجئ ثم قالت:
- اتخانقتوا ليه! وازاي يسيبك تخرجي في الوقت ده حتى لو متخانقين!
ردت "داليا":
- هو ميعرفش لحد دلوقتي إني سبت البيت، اتخانقنا ونزل لما يرجع بقى يبقى يعرف
فقالت "رحيل" بقلق:
- أيوة حصل إيه برضو لكل ده، مش معقول أنتم كل أسبوع خناقة كده!
استمرت الأخرى في البكاء وقالت من بين دموعها:
- نفس المشكلة كل مره، الشك، بيشك فيا بسبب ومن غير سبب، المرة دي في رقم أتصل بيا مش عارفه شركة مياه ولا إيه
فقاطعتها "رحيل" قائلة:
- أيوة اتصلوا بيا برضو
فاتسعت عيون "داليا" وهي تقول:
- شوفتي يعني الموضوع طبيعي أهو، عمل مشكله ومش مصدق إنها شركة مياه وفاكرني بكلم حد وبخونه وكلام كتير، وكل شوية يفكرني بموضوع حازم، هو مش الموضوع ده اتقفل حتى حازم نفسه اللي عرفته إنه اتجوز وسافر السعودية أصلًا، ليه مصمم يعمل كده ليه مصمم يعكر علينا حياتنا ده إحنا مكملناش كام شهر متجوزين!
ثم ارتمت في أحضان أختها وبكت بقهرة، ربَّتت "رحيل" على ذراعها برفق قائلة:
- أهدي طيب هو مكنش قصده كل ده تلاقيه غار عليكِ بس إنتِ عارفه هو بيحبك إزاي
وفي ناحية أخرى من نواحي الغرفة كان "عاصي" يقف بهدوء وبعد سماعه لكلمات "داليا" أتصل بـ "فارس" فوراً..
كان الآخر يجول على قدميه في إحدى الشوارع العامة حتى رن هاتفه برقم "عاصي"، تأفف بضيقٍ ثم رد عليه قائلاً:
- السلام عليكم
رد الآخر:
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ممكن أفهم مزعل داليا ليه؟
صاح "فارس" بدهشه:
- هي لحقت تقولكم!
فقال "عاصي" بتهكُّم:
- لا هي ملحقتش تقول، لأن هي عندنا دلوقتي أساساً
فصمت الآخر ثم أخرج تنهيدة حارة من صدره، ومن كثرة إضْطِرابه قال "عاصي":
- أنت فين اجيلك؟ خلينا نتكلم إحنا رجاله مع بعض ونحل الموضوع ده، مراتك عماله تعيط وبدل ما مراتي تهديها عيطت جنبها وبالوضع ده مش هنخلص أنا عارفهم
فضحك "فارس" رُغمًا عنه، وفي اللحظات التالية كان "عاصي" قد نزل إليه بالفعل بعدما أخبره الآخر بمكانه، وترك "رحيل" و "داليا" سوياً لينتهوا من جلسة بكائهم، وبعد فتره وصل إليه ثم جلسوا في أحدي المقاهي القديمة.
قال "عاصي":
- أنا سمعت اللي حصل من داليا، بس عايز أفهم منك أكتر ياريت
زفر "فارس" باختناق قائلاً:
- أنا نفسي مش فاهم اللي بيحصل، هتصدقني لو قولتلك إني مش بيكون قصدي ازعلها أو اضايقها بس غصب عني فجأة بلاقيني اتعصبت والأمور خرجت من أيدي
صمت "عاصي" للحظات ثم رد قائلاً:
- مش قصدي أكون بتدخل في خصوصيتكم بس أنت عارف إن داليا زي مريم بالنسبالي وراحتها مهمه عندي، هي قالت إنك بتشك فيها يا فارس
صمت "فارس" للحظات ثم قال بانفعال طفيف:
- هي قالتلك موضوع الشك ده بدأ أمتى؟ من ساعة ما جالها مكالمه من حازم وخبت عليا، مش قادر أطلع الموضوع من دماغي ودايمًا عايش في شك، الشك ده بيقل راحتي أنا أكتر ما بيقل راحتها
رد "عاصي" بهدوء:
- أكيد كان عندها أسباب، أنا بثق في داليا وبثق في حبها ليك وعارف إنها مستحيل تعمل حاجه تخسرك بسببها
وهُنا خرج عن سيطرته قليلاً ليصيح:
- المشكلة إني عارف!! أنا عارف كل ده بس صدقني غصب عني، حتى لما قولت أسألها دارت عليا وقالتلي إنه رقم حد غريب، مع إني شوفت الرقم واتصلت بيه وسمعت صوته! تفسر ده إيه!
رد "عاصي" بنفس هدوئه:
- أفسر إنها علشان بتفكر فيك وخايفة على زعلك دارت عليك، بالله عليك هي داليا بتروح مكان ولا بتعمل حاجه غير لما تقولك الأول، ده أنا رحيل نفسها بتعمل اللي بيطلع في دماغها وبعدين تقولي
طالعه "فارس" قليلاً ثم قال:
- للصراحة هي مش بتتحرك في أي حاجه غير لما تقولي الأول
فصاح به "عاصي":
- طب ما أنت عارف أهو أومال في إيه!! قوم صالح مراتك بقى قلّيت راحتي يا أخي
ضاق صدر "فارس" بشدة فتأفف قائلاً:
- أستغفر الله العظيم يا رب، ما قولتلك بيكون غصب عني
رد الآخر وهو ينهض من مكانه:
- يلا عشان تصالح مراتك طيب
ثم تحرك الإثنان بعدها إلى بيت "عاصي"، ولو كان يعرف ما سيحدث معهم تلك الليلة وكيف ستتغير حياتهم بعدها، كان تمنى لو لم يفارق "رحيل" إلى الأبد .
مدَّت يدها إلى "داليا" بكوب من العصير، ثم جلست بجوارها ولم تمر دقائق حتى صدع جرس المنزل رنيناً، نهضت "رحيل" بتساؤل قائلة:
- بيخبط ليه ما هو معاه المفاتيح؟!
قالت "داليا" بصوتٍ ارهقه البكاء:
- ممكن بيدينا إشارة عشان لو قاعدين براحتنا بس، روحي افتحي
وبالفعل تحركت الأخرى بعفوية باتجاه الباب وفتحته دون السؤال عن هوية الطارق لأنها كانت تظنه "عاصي"، ولكنها عندما فتحت الباب تسمرت مكانها وهي تنظر للواقفة أمامها بوجهٍ مهشم من الضرب
فشهقت من المنظر وقبل أن تتكلم أو تنطق بأي حرف أخرجت الواقفة أمامها سكيناً من ظهرها وطعنتها بقوة في بطنها!! تأوهت "رحيل" بألم ونظرت إليها بعينين مُتسعتين، ثم صرخت بوهن:
- بنتي..
***
خرج "شادي" من بيته باضطراب، كانت كلماتها ونظراتها و أفعاله تتخبط في رأسه حتى وجد نفسه يتحرك نحو إحدى البيوت في منطقة أخرى بعيدة
نوعاً ما عن بيته، وعندما وصل أمام الشقة المرادة، وضع مفاتحه في الباب ثم دلف إليها، وصاحب دخوله هذا تنهيدةً قوية
خرجت من صدره، وجلس على الأريكة مغمضاً عينيه، حتى جاءه صوتها المندهش وهي تقول:
- غريبة أول مره تيجي في الوقت ده، مالك أنت كويس؟