رواية سجينة جبل العامري الفصل التاسع9 والعاشر10 بقلم ندا حسن


 رواية سجينة جبل العامري الفصل التاسع9 والعاشر10 بقلم ندا حسن

ارتجف جسدها بعنف وقوة وهي تقع على الأرضية يتردد صدى الطلقة النارية في أذنها وهو يحمل ثقل جسده عليها بعد أن هبط معها على الأرضية..

سارت القشعريرة في بدنها بالكامل تنظر إليه وخصلاتها السوداء متبعثرة حول وجهها، يدق قلبها بسرعة ضارية ولوهلة شعرت بالخوف والهلع عليه معتقدة أن الطلقة أصابته..

شعرت بالدماء تسيل من جسده على ذراعها انتفض قلبها بين أضلعه وتأكدت من ظنها فقد فداها بعمره وأخذ الطلقة مكانها..

لم تستطع التحدث فقد لجم لسانها وهي تنظر إلى خصلات شعره السوداء القابعة فوق صدرها، لا تدري هل شعر قلبها بالهلع خوفًا أن يصيبه مكروه أو تتركه ينزف إلى أن يموت وتستطيع الهرب من سجنها!..

رفعت يدها عليه تهتف بشفتين ترتجف خوفًا:

-جبل! أنت كويس؟

رفع وجهه إليها بملامح مُتألمة فقد أخذ الرصاصة في ذراعه الأيسر، أومأ إليها برأسه دون حديث وعيناه تجوب وجهها مستقرًا على عينيها ينظر إلى الخوف بها الذي استشعره بمنتهى السهولة.. الخوف عليه ليس منه!..

-متخافيش

قالها بصوت حانٍ رقيق لأول مرة يخرج من بين شفتيه لها وهو ينظر داخل عينيها السوداء

نظرت إلى ذراعه الذي ينزف عليها وتفوهت بقلق بالغ ظهر في نبرتها الخافتة:

-أنت بتنزف

أغمض عينيه بألم وأجابها بإيجاز:

-بسيطة

وضعت يدها على جسده لأول مرة أمامه دون خوف، تلمسه بكل أريحية ولم تشعر بأن هذا خطأ بل شعرت أنه من الواجب عليها مساعدته لأنه "زوجها"

-طيب قوم

وقف ببطء يبتعد عنها وذراعه جوار جسده لا يستطيع تحريكه تخرج الدماء منه بغزارة تتساقط على الأرضية بعدما وقف على قدميه.. 

نظر إلى الخارج فوجد الحراس يركضون خلف بعضهم البعض يحاولون الإمساك بمن تجرأ وفعل ذلك..

مد يده اليمنى إليها وهي ممددة على الأرضية، نظرت إليه للحظات تحاول أن تجمع شتات نفسها تفكر في الأمور من زاوية أخرى ترى ما الذي يحدث معها وما الذي يريده منها بعد ذلك.. لما عقلها مشوش للغاية!

مدت يدها إليه فسحبها منها لتقف على قدميها أمامه تعدل من ملابسها وخصلاتها الثائرة..

وقفت تنظر إليه بعيون لا تفهم ما مضمون حديث لمساته وهمساته، تتسائل إن كان حنون أو غليظ القلب ليس به رحمة كما قال.. 

هي امرأة متحيرة بين هذا وذاك لأنها رأت قسوة قلبه وعنفوان أفعاله الذي أشتد بها عليها ورأت رحمة أحكامه وحنان نظراته لأي شخص بات مظلوم غيرها..

تابع النظر إليها يتوه داخل عينيها، يبادلها نفس الغرابة في الشعور فلا يدري أهو أراد جسدها وتربية ابنة شقيقة أو تغير شيء ما داخله ليقف الآن معتوه لسانه ملجم وحركاته مشلوله أمامها..

لم يستفق أي منهما إلا عندما دلفت والدته الغرفة تدفع الباب بقوة تتقدم منهما داخل الشرفة..

وجدت الدماء على ذراعها فاعتقد أن "زينة" المصابة فهلعت إليها تقول بخوف:

-زينة اتصابتي فين يا بتي ادخلي 

نظرت إليها بتوتر خائفة من أن تدلى بأن ولدها من أصيب وليست هي، تحدثت بخفوت قائلة:

-مش أنا.. ده جبل 

ابتعدت عنها تتقدم منه في الداخل بذعر وخشية من أن يكون أصاب ولدها مكروه وهو وحيد عمرها ومن تبقى لها:

-ابني.. جبل 

أومأ إليها برأسه ينظر إليها بحنان يبعث إليها الأمان والاطمئنان من نظرات عينيه:

-أنا بخير يما متخافيش جات سليمة 

رأت "زينة" نظرته لوالدته ونبرته الحنونة الخافتة المنبعثة لها، ودت لو كانت هذه النظرة والكلمات الرقيقة إليها فقط ليجعل قلبها يطمئن..

اعترضت والدته بقوة والدموع متحجرة بعينيها تنظر إليه بقلق وخوف:

-إزاي يابني الدم نازل منك سيل 

خرجت "زينة" من الشرفة وعادت إلى الداخل وهو يتحدث مع والدته

تابع يحاول تهدأتها ولكنه يتألم لا يستطيع مواساة أحد الآن فقال بجدية:

-قولتلك بسيطة متخافيش خدش في دراعي

دلفت إليهم مرة أخرى وتقدمت إليه بقطعة من القماش تهتف برفق:

-اربط ايدك بدي علشان النزيف لحد ما نروح الوحدة

أخذها من يدها وحاول لفها باليد الأخرى فلم يستطع أقتربت منه هي واخذتها منه مرة أخرى تقوم بلفها على ذراعه وربطها بأحكام تحت نظراته الفاحصة لها ونظرات والدته المتعجبة لما تفعله معه.. تتسائل هل لان الحديد وارتخى؟

قال بخشونة وجدية:

-الدكتور هيجي هنا مش هروح الوحدة مش مستاهلة 

رفعت بصرها إليه وأشارت إلى ذراعه قائلة بتوجس:

-إزاي دي رصاصة دخلت دراعك 

أجابها مُبتسمًا بزاوية فمه لا يدري هذه سخرية أو ابتسامة حقيقة بعد أن مس اهتمامها به:

-جرح سطحي.. وإلا إزاي بكلمكم وواقف كده 

أشارت إليه بيدها وهي تنظر إلى وجهه وابتسامته التي لا تدري لما تواجدت الآن بين حديثهم:

-طيب أدخل ارتاح

أكدت والدته على حديثها وهي تجذبه من ذراعه الأيمن ليدلف إلى الداخل:

-ادخل يابني ادخل

دلفت خلفهم إلى الداخل فتسائلت بعد أن جلس على الفراش:

-فين رقم الدكتور أكلمه

أجابها وهو يكرمش ملامح وجهه بألم شديد أصابه، هتف بجمود يُجيبها:

-شوية عاصم يجي يجيبه 

استشعر خوفها حقًا ورآه الجميع والدته وشقيقته عندما هتفت بانفعال وخوفها يظهر على ملامحها:

-شوية ايه ايدك بتنزف 

كانت شقيقته دلفت إلى الغرفة منذ لحظات فصاحت تتسائل وهي تتقدم منه:

-أنت بخير يا جبل؟

أومأ إليها برأسه وجد "وعد" تتقدم منه بخوف وذعر رُسم على ملامحها وتسائلت بخوف ونبرة قلقة مرتعشة:

-بابا جبل حصلك ايه 

أقترب بوجهه يقبلها مُحتضن إياها بذراعه وقال بحنان وحب:

-أنا كويس يا حبيبتي متخافيش 

بنظرات طفلة أشارت إلى ذراعه وقالت بخفوت:

-في دم عليك 

أردف بجدية والألم يشتد به يقول:

-دي شكة صغيرة.. روحي روحي مع خالتك دلوقتي

أخذتها "إسراء" التي كانت تقف على أعتاب الغرفة وخرجت وخلفها شقيقته لم يبقى معه سوى والدته وزوجته "زينة"..

لحظات والأخرى وأتى "عاصم" بالطبيب بعدما علم بأن "جبل" من أصيب بالطلق الناري بينما رأته "إسراء" وهي تسير في الخارج يتقدم إلى الأعلى مع الطبيب والعاملة "ذكية" التي تسير أمامهم لتفسح لهم الطريق.. 

تبادلت النظرات معه، لقد كانت نظرات محملة بالحب والاشتياق، ولوعة الغرام المخفي بينهم تحرقهم هما الاثنين، تحدثت الأعين تدلي بكل ما يشعر به القلب دون حركة واحدة من الشفاة..

دلف "عاصم" بالطبيب إليه فخرجت والدته ولكن "زينة" بقيت معه..

تقسم أنها لا تدري ما الذي يحدث لقلبها الخائن، لقد عذبها، سجنها، أخذ ما يحق لها، هددها بأبشع الأشياء وآخر ما فعله انتهك جسدها بكل غلظة وعنف والآن هي تشفق عليه وتشعر بالخوف والهلع بعدما حدث له؟.. 

لا تدري هذا حدث لأنها رأت الجانب الآخر منه أو ماذا؟ رأت ضعفة مع صغيرتها، حنانه عليها وعلى الآخرون غيرها، حكمته في العدل بين الناس ورد الظالم عن ظلمه وأخذ الحق للمظلوم..

لا تدري تغيرت لأنه أصبح يعاملها أقل خشونة وأكثر هدوء ورفق؟ ولكن كل هذا لا يشفع له عندها..

كل هذا لا يشفع حتى وإن تساقطت منه الرحمة والحنان حتى وإن اعترف بالحب وأراد الغفران على قلبها تتبع القسوة وأن يدلي بحرمانه الرحمة والغرام..

نظرت إليه وهو يتألم أسفل يد الطبيب الذي قال أنها لم تغوص داخل لحمه بل كانت سطحية للغاية، لم يأخذ المخدر لأنه من الأساس لا يوجد فتحمل وملامحه تصرخ بالألم ولكن لسانه لا يقدر على نطقها..

أقتربت منه، جلست على الفراش عندما شعرت بتألمه المكبوت قدمت يدها إليه تتمسك بيده بحنان تشدد عليها تحاول أن تجعله يطمئن.. ما تفعله من المؤكد نابع عن تربيتها الأصيلة فما فعله بها لا يستحق بعده أن تعامله هكذا..

شدد من مسكته ليدها وهو يتألم بقوة وخرجت آنة من بين شفتيه المضمومة على بعضها.. يشعر بالخجل والضعف لأنه يتألم أمامها ويشعر بالخجل من نفسه لأنها تقابل كل سيئاته بالحسنى..

هل هي تشعر بالشفقة تجاهه أو تشعر بشيء آخر مثله؟..

انتهى الطبيب وقام بربط يده وترك لهم روشته الأدوية المطلوبة فأبتعد "عاصم" لاحضارها لكن "جبل" أوقفه وهو يهتف بخشونة متألمًا:

-مين عمل كده؟

استدار "عاصم" ينظر إليه بتوتر لأن الرجل الذي فعلها هرب منهم ولم يستطيعوا الإمساك به:

-لسه مش عارف

اعتدل "جبل" في جلسته يتغاضى عن الألم الذي يشعر به وسأله باستفهام:

-يعني ايه مش عارف اومال هو راح فين 

قال بجدية شديدة يُجيبة وعيناه في الأرضية:

-هرب يا جبل 

كان يعتقد أنهم أمسكوا به فاستغرب بشدة وهو يسأله:

-هرب؟ يعني ايه هرب اومال انتوا بتعملوا ايه 

تحدث الآخر وهو يشير إليه بيده يقول ما حدث ولكنه يعلم أنه لن يصمت على هذا:

-دخل الغابة واختفى فيها معرفناش نمسكه وأنا رجعت على طول أشوفك لكن سبت الرجـ ـالة يدورا عليه 

سخر منه قائلًا:

-يا راجـ ـل؟ وفكرك هيلاقوه

صرخ بعنف وصوت عالي اهتز له جسد تلك الواقفة جوار الفراش:

-أنا اللي هقولك تشتغل إزاي يا عـاصـم

نظرت إلى عينيه التي عادت مُخيفة وتشنج ملامحه فقالت برفق:

-اهدى 

صرخ بها بقسوة شديدة يخرسها فلا يحب أن يتدخل أحد بحديثه:

-اسكتي 

تحدث يُكمل بصوته العالي، ونبرته تحمل الهمجية والعنفوان الشديد تجاة "عاصم":

-لولا ستر ربنا كان زمان مراتي ميته فاهم يعني ايه وتقولي هرب 

نظرت إليه باستغراب، إنه يقول زوجتي؟ لقد دافع عنها ووقف أمام المدفع وهو يعلم أنه على وشك الموت؟ ما الذي كان يفكر به عندما فعل ذلك؟

هل هي رجـ ـولة زائدة منه ولكنها تشك بهذا لأن الرجـ ـل الحقيقي لا ينتهك جسد امرأة عنوة عنها، أم لأجل ابنتها وابنة شقيقه أو هناك سبب أكبر من كل هذا هي لا تعلمه..

أكمل بكلمات مُهينة وهو ينظر إليه بغضب وعصبية شديدة:

-لو مشغل معايا رجـ ـالة مكنش هرب 

اغتاظ "عاصم" وشعر بالإهانة خاصة أنه يقول كل هذا أمام زوجته فأردف بعنف يعلمه بما يقول:

-جبل 

صرخ هو الآخر أمامه دون توقف وصوته يعلو أكثر بعد أن شعر بالعجز الشديد والبغض تجاة نفسه وحراسه:

-جبل ايه وزفت ايه.. القصر بقى حمام عمومي أي حد بيدخله ويعمل اللي عايزة الحرس كانوا فين.. فين اللي قولت يقفوا بره القصر 

تحدث "عاصم" بتذمر:

-كانوا بيلفوا حواليه 

أردف بصرامة وحزن وكلمات لا تحتمل النقاش:

-وقف حرس أكتر على مدخل الجزيرة مش عايز حد يدخل ولا يخرج منها لحد ما نلاقيه وهو لو في الغابة يا إما نلاقيه يا إما الديابة تاكله

أكمل بمنتهى القسوة والعنف على حديثه السابق:

-والحرس على القصر من بره يزيد واللي يقرب تدولة مكافأة نهاية الدنيا 

أومأ إليه عاصم وخرج من الغرفة بينما هي وقفت تنظر إلى عيناه المخيفة الذي عاد بريقها مرة أخرى وتعود كلماته مرة خلف مرة على أذنها بقسوة ضارية..

يأمر بالقتل ويدرك أنه إن بقي في الغابة ستأكلة الذئاب وقلبه لم يرق أو يلين بل بمنتهى العنفوان أمر هو بذلك..

نظرات الخوف منه عادت إلى عينيها وألجمت شفتيها عن الحديث فبادلها القوة بنظراته وكأنه يقول لها أن سقوطه ليس سهل ورحمته ليست دائمة بل قسوته وجبروته هم الدائمين وما تراه ليجعل قلبها يرق ناحيته ما هو إلا لحظات تمر على حياته كالهفوة السريعة أو لمسة الرياح المارة بسطحية..

❈-❈-❈

"بعد بضعة أيام"

أحاطت قلبها بسلاسل وأغلقته بأصفاد حديدية، خوفًا من اقتراب الجوى منه ليحترق بلوعته ورغبته الملحة في الاقتراب منه والغوص داخل أمواجه لمعرفة أسراره المكنونة في أعماقه..

دومًا ما كانت سريعة الفهم، جيدة التركيز، ولكن الآن سرعة الإدارك لا تعمل عندها، ترى كل شيء وتستغرب حدوثه، تبصر بعينيها أفعاله ولا تصل إليها أهدافه..

تخبطت أمواج قلبها الثائر بجسدها الهزيل الذي اعتبرته شاطئ هوى يغوي قلبه كلما نظر إليها وشاهد حضورها..

تنهدت بعمق تخرج زفرة حادة من صدرها المكبوت تستغرب أفعاله تجلس الآن جلسة صافية مع حالها لتحاول إدارك ما الذي يحدث وما الذي يريد فعله..

هل تعيد على عقلها كل ما حدث منذ بداية الأمر لتحاول الفهم أم ماذا!..

نعم ستفعل ذلك.. بداية الأمر أنه كان باردًا معها مُتجبر ومتكبر، أشعرها بأنه لا يبالي وجودها.. حضورها أو غيابها لا يعينه

ثم في الخطوة التالية أظهر إليها قليل من حقيقته فقط ليجعلها تهابه.. لم تخضع له ولم ترتوي بحديثه فازاح القناع عن وجهه وأظهر إليها ما بداخله لتقع خائفة والرهبة تزحف إلى قلبها وعقلها وارتجاف جسدها ما كان إلا رعبا منه..

رأت وجهه الحقيقة قتلة للبشر، تحديه لها، عنفه معها، وتهديده الصريح والواضح، والأسوأ والأسوأ من كل ذلك مرة بعد مرة إلى أن بغضته، شعرت بالكراهية الشديدة تجاهه لو كانت نالت الفرصة لقتله لفعلتها وهي بالفعل حاولت..

عندما قام بانتهاك ما لا يحق له، أنه فعلها مرة واحدة منذ أن كتبت زوجته والآن أدركت لما فعلها، فقط ليريها أنه يستطيع فعل أي شيء وبأي وقت ليجعلها تعلن أنه الأمر الناهي والمتحكم الوحيد، والقاضي الذي يحكم وينفذ 

عندما عارضته ورفضت هيمنته عليها علم كيف يستطيع أن يجعلها تنظر إلى عيناه الخضراء القاسية بكل قهر وكسرة، علم كيف يشعرها بالمذله والضعف ولم يبخل عليها في فعل ذلك بل منذ أول لحظة لها معه نهب أنوثتها وحريتها..

أقترب منها مرة واحدة فقط! ولم يفعلها ثانية ثم من بعد ذلك حاولت التأقلم وفهم ما يحدث فبادر هو بمعاملتها أفضل من السابق..

لا تدري كيف ولما، لا تدري لما نظراته التي تغرق بها والبحث داخلها عن أسباب تغيره معها، لا تدري لما حضرته تلبكها وتشعرها بالتوتر..

تغيره معها جعلها لا تفهم شيء أبدًا، بدأت تتحدث معه هي الأخرى ليس أفضل ولم تتقبله بعد ولكن تتحدث معه..

أصبح أب لابنتها، لاحظت تغير واضح في حياة ابنتها بعدما أصبحت تنادية باسم والدها وقد شكل هو هذا الدور حقًا معها منذ أن تزوج منها.. ترى حبه إلى الطفلة ظاهر بعينه وترى حب الطفلة إليه فتخاف أن تفعل شيء يفقدها ذلك الحب والحنان منه لأنها حرمت منه مبكرًا.. هل وجود "جبل" الآن يعوض ابنتها عن والدها "يونس"؟

هل تبقى فقط لأجل ابنتها؟ أو لأجل نفسها وتحاول خوض حياة أخرى معه!.. 

وقفت على قدميها ودق قلبها بعد ذلك الهراء الذي هتف به عقلها، ما الذي تتفوه به ما الذي تفكر به..

لوعة فراق زوجها المحب أثرت عليها أم ماذا!؟

آخر ما حدث تلك الرصاصة التي أخذها بدلًا منها، لقد كان يعلم أنه سيموت أن أتت به ولم يتردد في فعلها بل بصدر رحب استدار ليجعل نفسه في المواجهة 

ثم هتف بكلمة زوجتي بكل حرقة خوفًا عليها!..

ما هذه التراهات!.. ما الذي يريده من كل هذا أو ما الهدف منه، ما الذي تفعله هي وما الذي ينتظرها بعد؟.. 

احتارت في وصف مشاعرها واحتارت في الوصول إلى بر جاف تقف عليه! لن توصل إلى مرسى معه إلا بعد أن تسير في دروبه جميعها سوى أن كانت قاسية أو حنونة تربت على قلبها..

ستفعل، ستبقى إلى النهاية لتمر بكل مراحل المشاعر معه بداية من الكراهية إلى الغرام، ستبقى لتعرف كل سر خفي في الجزيرة، ستبقى لأجل ابنتها وحقوقها الذي أخذها منها بالإكراه

بينما هو على الناحية الأخرى يشعر بالنقيض تماما، يعلم ما الذي هو مقدم عليه ويفهمه جيدًا..

في البداية لم ينظر إليها بعيون رجـ ـل، لم يشتهي أي شيء بها إلا بعد حديث والدته له، أثارت مشاعره وحركت رغبته تجاهها..

فعلها بالقوة والعنف فعلها، أصبحت زوجته حلالًا له وأخذ ما يطيب مشاعره منها وما يرضي رجـ ـولته..

لكن يوم بعد الآخر يرى نفسه يصبح أكثر هدوءا معها، أكثر عقلانية، أكثر حديث، أحب ابنتها وأقترب منها وشعر أنها ابنته هو ليست ابنة شقيقه.. 

نظر إليها بعيون جائعة تحترق بها الرغبة المشتعلة تجاهها بالهوى القادم مع العاصفة التي ستدمج قلوبهم معًا..

نظرته الشغوفة نحوها وحديثه الهادئ اللين يعلم أثره عليه جيدًا ويعلم لما يخرج منه.. هل سيحيا قلبه مرة أخرى ويعود إلى الحب!..

هل سيكون هناك نقطة ضعف أخرى غير السابقة تدمر ما بقى منه وتزعزع كيانه وما وصل إليه!..

أنها لا تحبه بل تبغضه وتريد قتله والخلاص منه، إذا أحبها ستكون هي السكين الذي ينحر عنقه بكل شر وكراهية على عكس الأخرى كانت تحبه وكان يهوى كل ما بها فغدرت به وطعنته في منتصف قلبه..

لكنه مع كل ذلك رأى الخوف بعينيها عليه، لا يدري إن كان خوف حقًا أو شفقة خالصة تجاة ما حدث له أو هي وقفت جواره لأجل ما فعله خوفًا عليها..

الآن كل ما يستطيع فهمه أن قلبه بدأ لها بالخفقان، وعيناه بدأت بالنظر إليها بنظرات أخرى غير تلك الراغبة بها، بل أصبح يرمي سهام الحب والغرام متلهفًا لضمها ونيل عناق حاد منها يروي به ظمأ قلبه وحرمانه من الهوى لسنوات..

لن يحرم نفسه أكثر من هذا، سيترك العنان لقلبه ليفعل ما يريد وأن أرادها قلبًا وقالبًا ستكون معه رغما عنها وعن الجميع ولن يتركها ترحل من هنا إلى الأبد.. ستكون سجينة جبل العامري بحق..

طال الاشتياق لحبيب يغمر القلب بالحب واللوعة التي تحرقه بالغرام، طال الفراق الذي جعله وحيدًا ليلًا يعاني وحدة الآنات المتألمة مطالبة بالغفران، فكلما خفق اشتاق وكلما اشتاق احترق والتهبت نيرانه تخرج بفوران من داخل أعماق قلبه الثائرة..

دقات متعالية بها جمرات مُشتعلة تطالب بالحب لقلبين دامت الوحدة مرساهم الوحيد لفترة طويلة، فكانت أشبه بالحياة دون روح، ولم يكن أحد غيرهما "زينة" العاصفة القادمة عليه لتدمر كل ما به و "جبل" ذلك الصلب الشامخ الذي وعد بالبقاء وأن يبعثر عاصفتها إلى أن تخمد..

❈-❈-❈

جلست "إسراء" على الفراش مُمددة القدمين تستند بظهرها إلى ظهر الفراش تنظر إلى الفراغ أمامها في الغرفة بهيام وعيون لامعة بالحب والاشتياق..

ارتسمت ابتسامة هادئة على شفتيها وهو يأتي على خلدها بنظراته وحديثه وقوته..

عضلات جسده وطوله الذي يبتلعها، عينيه الساحرة! هل قالت ساحرة! لم تسحرها هذه العينين إلا قريبًا بعد أن توطدت العلاقة بينهم وأصبحت أقوى بكثير وأعمق من السابق..

حيث كانت تستمع إلى كلماته المعسولة التي تخجلها وتلبك كلماتها، ونظراته الغريبة الصارخة باللهفة، حركاته الذي كانت تعوقها كلما أرادت الذهاب والابتعاد عنه..

قلبها يدق بعنف أثناء وجوده أمامها ومتابعة نظراته إليها، روحها ترفرف وهي تتحدث معه وتستمع إلى خشونة صوته ورجـ ـولته الطاغية..

هل هذا حب! وقفت على قدميها بلهفة تسير بالغرفة تفكر في حديثها وما يمليه عليها عقلها.. هل أحبته! لأول مرة تمر بهذه المشاعر، تسير على جسر ملئ بالورود الحمراء ذات الرائحة الطيبة المشعة بالحب والغرام.. هل أحبته؟ هل هذا هو شعور المحبين؟ أن تطير الفراشات داخل معدتهم وأن يخفق قلبهم وكأن هذا الخفقان طبول تقرع للإعلان عن حرب ضارية! هل هذه مشاعر العاشقين! أن يشعروا بأمواج البحر الثائرة مقبلة عليهم تأخذ جسدهم ليطفو فوق سطح الماء بكل سعادة..

خرجت من شرودها على صوت هاتفها المزعج الذي يدق يعلنها بوصول مكالمة إليها.. من هذا المزعج في هذا الوقت المتأخر من الليل 

أقتربت منه سريعًا حتى لا تستفيق "وعد" تخرسه وهي تنظر إلى شاشته الذي أنارت بإسم "عاصم"

رفرف قلبها ودق في ذات الوقت وارتسمت الابتسامة على شفتيها بفرحة وسعادة وهي لا تشعر إلا بفراشات الحب تطير داخل معدتها تعلنها بأنها أحبته حقًا!؟

استقر الهاتف بين يدها بعد أن انتهت المكالمة ولم تجيب عليها بسبب كثرة المشاعر الذي زارتها وجعلتها تنظر إلى الهاتف بعدم تصديق وتعيد على عقلها كل ما كانت تقوله منذ قليل.. 

نظرت إليه بيأس وانزعاج لأنها لم تُجيب عليه وعلقت ملامح وجهها بشدة وهي تلقي الهاتف جوارها على الفراش بحزن لكن ما لبست إلا وجدته يعلن عن وصول المكالمة إليها مرة أخرى.. أخذته سريعًا تنظر إليه وعندما وجدته هو يعاود الاتصال لم تنتظر كثيرًا وأجابت متلهفة:

-أيوة 

أجابها من الناحية الأخرى بصوته الرخيم يتحدث:

-فكرتك نمتي 

وقفت على قدميها تُسير في الغرفة وهي تحادثه وقالت بنفي سريعًا:

-لأ لأ أنا صاحية 

سألها بتطفل:

-مردتيش ليه أول مرة طالما صاحية 

أجابته وهي تكذب عليه فلا تستطيع قول أنها كانت تنظر إليه ولا تستطيع الإجابة بسبب المشاعر الذي حاوطتها بحبه:

-ملحقتش أرد عليه أصلي كنت بعيدة عنه 

استنكر حديثها وهو يجيب عليها قائلًا بيقين وهو يعلم أنها لا تترك الهاتف من يدها:

-بعيدة عنه! أنتي من ساعة ما أخدتيه تاني وأنا حاسس إن مافيش في حياتك غيره 

أردفت بجدية تسرد عليه ما يحدث معها ليجعلها تبقى طوال الوقت جليسة مع هاتفها وهي تشير بيدها وكأنه يراها تسير في الغرفة:

-أصل بصراحة الجو ملل أوي هنا يا إما نتفرج على التلفزيون يا إما أقعد مع زينة أو وعد يا أما الموبايل وأنت عارف جبل من وقت ما تعب طول ماهو هنا زينة بتعمله كل حاجه ووعد رجعلها التابلت فـ مافيش حاجه أعملها غير أقعد على الموبايل 

سألها بغلظة متهكمًا:

-وبقيت الناس اللي في القصر مش مقامك ولا ايه 

وقفت في موضعها وسألته بتوتر:

-أقولك بصراحة!

أومأ برأسه وقال بجدية ورفق:

-أكيد 

قالت بخوف وهي تتذكر نظرات والدة زوج شقيقتها لها وللجميع وأكملت بانزعاج وضيق من شقيقته:

-طنط وجيدة بخاف منها، نظراتها غريبة وتخوف وبتتكلم بجد أوي إنما فرح دي متكبرة أوي وبتكرهني أصلًا

ضيق ما بين حاجبيه واستنكر قولها فسألها بجدية ليعلم ما الذي بينها وبين "فرح":

-بتكرهك ليه

قالت بلا مبالاة وهدوء وهي لا تدري ما الذي يفكر به:

-معرفش بس من وقت ما جيت بتعاملني وحش أوي وبترمي كلام وحش فـ كبرت دماغي منها بقى 

صمت قليلًا ثم قال بمرح يشاكسها:

-أنتي بتعرفي تكبري دماغك أهو

ابتسمت بسعادة وهي تمازحه قائلة:

-طبعًا أنا أعجبك

تحرك في الحديقة وهو ينظر إلى شرفة الغرفة الموصدة ومن خلفها تظهر إنارة الأضواء الخافتة، قال بسخرية:

-لأ منا عارف أنتي كبيرة مش صغيرة وتعرفي تعملي كل حاجه 

سألته بانزعاج واقفة في موضعها:

-أنت بتتريق ولا ايه 

أجابها بلين يأكل ما بقي من عقلها:

-أنا أقدر اتريق عليكي بردو 

أكملت سيرها مرة أخرى وتفوهت بجدية متسائلة بعد أن شعرت بالملل يُسيطر عليها:

-بقولك يا عاصم هو أنا مقدرش أخرج بره القصر، أمشي في الجزيرة أشوف الناس أي حاجه أنا بجد زهقت 

حاصرها بسؤاله الخبيث وهو يبتسم باتساع:

-اشمعنى أنا بقى اللي بتقوليله

ارتبكت كثيرًا وصمتت قليلًا وهي تنظر إلى الأمام بوجنتين حمراء للغاية اشتعلت من شدة الخجل فلا توجد إجابة مناسبة ولكنها أردفت:

-مش... مش أنت صاحبي بردو 

مرة أخرى بمكر يحاول إخراج الكلمات منها وهو يعلم أنها الآن تموت خجلًا:

-صاحبك بس!

هربت من محاولة محاصرة لها وقالت متسائلة بصوت خافت رقيق:

-هتخرجني

أومأ بالموافقة ولكنه مصر على اخجالها بحديثه الماكر الخبيث الذي يعلم أثره جيدًا:

-ماشي هخرجك بس بشرط 

سألته باستغراب:

-ايه هو 

رد بمنتهى البساطة وخشونة صوته تثير ما بها ومع تلك اللهفة التي خرجت من بين كلماته واستشعرتها جيدًا:

-اخرجي البلكونة عايز أشوفك 

كررت كلمته مرة أخرى بذهول وخجل:

-تشوفني!

أومأ مرة أخرى برأسه للأمام يهتف بخبث ولوعة الاشتياق لها تحرقه:

-آه اخرجي مش أنا صاحبك بردو 

تقدمت من الشرفة المغلقة فتحتها ببطء حتى لا تصدر صوت وخرجت إليها تطل عليه بوجهها الحسن وعينيها الزرقاء الرائعة:

-أهو خرجت 

ينظر إلى وجنتيها الحمراء من كثرة الخجل الذي تشعر به إنه يدرك ذلك، ينظر إلى شفتيها الوردية ونظرتها الساحرة إلى عينيه، بعد أن تذوق حرارة رؤيتها الملتهبة في جسده قال بصوت رجولي أجش:

-تصدقي إن القمر نور دلوقتي بس

سخرت من حديثه قائلة بتهكم تشير إلى السماء:

-والقمر اللي في السما ده بيعمل ايه 

حرك رأسه يمينًا ويسارًا ينظر إليها ولا يستطيع إبعاد عينيه عن وجهها وسحره تفوه بحب يغازلها:

-لأ ده نجم إنما القمر الحقيقي هنا قدامي أهو

صمتت ولم تتحدث فقط يستمع إلى أصوات أنفاسها العالية تنظر إلى الأرضية بخجل بعد أن أبعدت عينيها عنه فقال مُمازحًا إياها يخجلها أكثر:

-مكسوفه ها

خرج صوتها مبحوحًا يصدر بخفوت وخجل يقتلها:

-بس بقى 

نظر إليها مطولًا وعشقه إليها الذي أعترف به مؤخرًا يدفعه نحوها بقوة ضارية، فتابع بصوت رجولي أجش:

-إسراء

حرك كل ما بها بعد الاستماع إلى نبرته الذي أسكرتها فقالت بخفوت ورفق:

-نعم

خرجت كلمة واحدة من شفتيه نابعه من قلبه الذي يدق بعنف في حضرتها وود إعلامها بكم الاشتياق الذي يشعر به نحوها فقال بلوعة قاتلة:

-وحشتيني 

نظرت إليه للحظة واحدة فقط فلم تستطع المواصلة اخفضت الهاتف من على أذنها ودلفت إلى الداخل راكضه تغلق باب الشرفة من خلفها، ووقفت خلفه تضع يدها على موضع قلبها الذي تعالت دقاته وخرج ليصل إلى مسامع أذنها..

ترفرف عاليًا بين الفراشات والعصافير المغردة بأسامي الحب والغرام في سماء صافية تماثل زراق عينيها وسحاب بيضاء تماثل بشرتها وما اختلف في الأمر شعورها بالنيران تخرج من وجنتيها بسبب خجلها التي شعرت به وهو يرمي عليها كلمة الاشتياق التي خرجت منه بلوعة ولهفة قاتلة..

بينما هو وقف ينظر إلى الشرفة وعيناه لا تستطيع أن تنحرف بعيدًا عنها فما كان يخطر على باله يومًا أن يقع لعشق فتاة صغيرة جميلة مثل هذه خجلها يربكها ويحرك ما بها..

لم يخطر على باله أن تأتي تلك الصغيرة التي تنزعج أن ناديتها بالصغيرة وتطير فرحًا كالطفل أن عبرت لها بأنك تراها فتاة كبيرة ناضجة..

أعترف لنفسه من فترة صغيرة للغاية أنه أحبها، ليس صغير وليس مراهق حتى لا يعلم ما الذي يشعر به ويمر به في حضورها واشتياقه لها ورغبته الملحة على أن تكون معه وله..

أدرك كيف يشعر بالحب والغرام، حين تهتز رجولته أن رأى رجـ ـل غيره يبصرها، أن يدق قلبه بكثرة في حضورها وحتى إن تذكرها، أن يتلهف لرؤيتها وتحرقه نار الاشتياق ولوعة الفراق إن غابت عن عينيه لحظة..

الآن يعترف، لقد عشقها وذلك الإعتراف الصحيح يخفي داخله الكثير..

على الناحية الأخرى كان هناك قلب يحترق أيضًا مثل قلبيهما ولكنه كان يحترق بالغيرة والغل، الحقد والكراهية..

تنظر إليه بعيون مشعة بالظلام الدامس والكره الدفين داخلها، تتنفس بعمق وسرعة شديدة ليست قادرة على مواكبة أنفاسها بانتظام بسبب انفعالها..

دلفت إلى غرفتها بعدما رأت ما حدث بينهم وأدركت أيضًا ان هناك مكالمات هاتفية إذًا تطور الوضع بينهم وأصبح أكثر سوءا بالنسبة إليها.. 

اشتعلت نيران الغيرة بقلبها ونهشت حشاياه، فار بركان غضبها وخرجت من الغرفة بعنفوان وكره لا نهائي أن تركته عليهم سيحرقهم هما الاثنين وكل من يقف أمامها..

هبطت إلى الأسفل وخرجت إليه نظرت إلى داخل عينيه وأخذته من يده بعد أن أقتربت منه تبتعد عن مسامع الحرس فصرخت به بعصبية:

-ايه اللي بتعمله ده يا عاصم

أجابها بعدم فهم لما تقصده بما فعل:

-ايه اللي عملته 

أردفت بحرقة تشير بيدها بعصبية وعنف تنظر إليه بشر وحقد:

-البت اللي اسمها إسراء شيفاك فعلًا مشغول بيها وعايزها وأنا مش هتوه عندك لما تعوز حاجه 

فهم ما الذي تقصده فـ أومأ برأسه للأمام وهتف بلا مبالاة وبرود:

-وافرضي ده صح وأنا عايزه أنتي عايزة ايه 

صدح صوتها الصارخ بوجهه بشراسة وعنفوان فلم تتخيل أن يُجيبها بهذا البرود:

-نعم؟ عايزة ايه أنت اتجننت يا عاصم 

أقترب منها وبعيون قاسية حادة تحدث بغلظة وخشونة ينظر إليها بعمق:

-لأ متجننتش أنتي اللي لسه معقلتيش أنا عايزك ترجعي بآخر مرة اتقابلنا فيها في محطة واحدة وأنتي هتعرفي إذا كنت اتجننت ولا لأ 

تابعت نظراته القاسية عليها ورأت اللا مبالاة الخالصة التي يتحدث بها فقالت بحرقة:

-وأنا عايزاك تعرف أنت بتلعب مع مين يا عاصم 

ابتسم بزاوية فمه وهو يتهكم قائلًا بسخرية:

-أنا مش بلعب أصلًا يا فرح

اشتعل جسدها بالغضب ونظرتها نحوه أصبحت نارية عنيفة تود الآن لو تأتي بسكين تنحر إليه عنقه أو تأخذ عينه الذي نظر بها إلى أخرى:

-خد بالك قلبتي وحشه 

لم يبتسم هذه المرة بل خرجت الضحكات من بين شفتيه بقوة وكم كانت خلابة يحرك رأسه باستياء فنظر إليها قائلًا بسخرية مرة أخرى:

-ده تهديد يعني 

قالت بجدية شديدة محاولة اخافته على الرغم من أنها تعلم أنه ليس ذلك الرجـ ـل الذي سيخيفه تهديد من رجـ ـل أو امرأة:

-اعتبره زي ما أنت عايز 

نظر إليها بعمق وهدوء ولم يريد أن يتحدث أحد عن شقيقه صديقة الغالي "جبل" حتى وإن كان ما بينهم سابقًا "خلف القصر":

-فرح.. بلاش تقولي كلام أنتي مش قده ويلا اطلعي بقى ولا عاجبك شكلك هنا وأنتي معايا قدام الحرس

أكملت على حديثه متهكمة بعد أن وضعت يدها اليمنى في وسط خصرها:

-ولا خايف أنت حد يقول لجبل إني واقفة معاك 

نظر إليها بقوة قائلًا بقسوة وغلظة:

-أنا مبخافش من حد.. وحتى لو أكيد مش هخسره علشانك 

هددته بقوة ووضوح وعلمت أن هذه الكلمات هي المناسبة التي ستجعله يخاف حقّا فغمزت بعينيها بشر قائلة:

-أنت فعلًا مش هتخسره يا عاصم.. أنت هتخسر حد تاني لو متعدلتش معايا 

احترق قلبه من مجرد فكرة أتت على عقلة فصاح بها بعنف وعصبية وصوته يعلو:

-احترمي نفسك واتكلمي كويس أنتي لسه مشوفتيش قلبتي وبعاملك على إنك عيله هبلة مش فاهمه حاجه 

حركت يدها على خصرها تحاول مضايقته بلا مبالاتها بعد أن أشعلت قلبه بالنيران خوفًا عليها فقالت بتكبر:

-لأ العيله دي البت اللي أنت باصصلها إنما أنا فرح ستك وتاج راسك 

نظر إليها بشر وود لو يقتلع عنقها من مكانه فمن هذه سيدته! صاح وهو يجز على أسنانه محاولًا للتحكم في نفسه حتى لا تنفلت الأمور منه:

-قسمًا بالله إن ما خفيتي من وشي هتصرف معاكي تصرف يناسب وساختك.. غوري 

علمت أنه وصل إلى ذروة غضبه فلم تريد أن تتأزم الأمور أكثر من هذا.. نظرت إليه بقوة وألقت عليه آخر كلماتها المهددة:

-ماشي يا عاصم.. ماشي أنت اللي بدأت 

سارت مُبتعدة عنه تعود إلى الداخل وهي ترفع حجاب رأسها الذي هبط ليستقر على عنقها.. عائدة إلى الداخل بقلب يشتغل وروح تحتضر من نظراته وغضبه الذي لم يخرج إلا عندما تحدثت بالسوء عنها..

لن تتركه هكذا، لن ينعم بحياته هكذا بتلك السهولة مع تلك الغبية التي أتت لتأخذ مكانها ولكنها ليست ضعيفة لتتركها تفعل ما تشاء بل ستجعلها تفكر ألف مرة قبل النظر إليه بعد ذلك..

بينما هو نظر إليها بغضب دمائه فارت داخل عروقه بسبب حديثها الغبي ونظراتها نحوه بل وتهديدها له أيضّا تلك الغبية الماكرة.. 

فتاة غبية مغرورة ومتكبرة تعتقد أن كل ما تريده سيكون لها دون حساب أو نقاش.. ليس هو ذلك الرجل الذي سيفعل لها ما تشاء على حساب نفسه وسعادته..

❈-❈-❈

ولج "جبل" إلى الغرفة ليلًا في ساعة متأخرة، أغلق الباب وتقدم إلى الداخل لينظر إليها نائمة على الفراش بهدوء ونعومة رآها بها.. 

تلك الشرسة القوية التي تقف أمامه خمدت نيرانها ومن أمامه الآن امرأة متفتحة كوردة حولها الأشواك بكثرة، فينجرح أثناء محاولة الوصول إليها..

ملامحها هادئة مرسومة بدقة وعناية، جميلة وجمالها الطبيعي خلاب، أقترب منها ينظر إلى جسدها الأبيض الذي يظهر بعضًا منه بسبب قميصها ذو اللون البنفسجي من قماش الستان..

كم بدت امرأة صارخة بالأنوثة تغريه ليقترب منها يطفئ نيران شوقه إليها الذي لم يخمدها إلا مرة واحدة فقط..

توجه إلى الفراش وصعد إلى مكانه فكانت تعطيه ظهرها في هذه الوضعية، أقترب منها بيده اليمنى يسير بكفه على ذراعها الأبيض الظاهر أمامه بنعومة وخفه..

أقترب من رأسها يستنشق خصلات شعرها ورائحة عبيرها الذي يسكره..

حرك أصابعه عليها ذهابًا وإيابًا وهو يقترب منها بكل الطرق ففتحت عينيها واستدارت بجسدها ببطء شديد تنظر إليه بعيون نصفها مغلقة يغلبها النوم..

أقترب منها بجسده وهبط عليها برأسه يضع يده حول وجهها يمسد عليه بحنان ورفق وهي تنظر إليه لا تدري ما الذي يحدث..

فهبط على شفتيها يقتنص منهما رحيق العسل الذي أخذه مرة واحدة من قبل عنوة وقهر فلم يكن يعلم حينها أنه سيشتاق إليه مرة أخرى وشوقه يزداد إلى هذه الدرجة..

وجدها مسالمة، ليست مغلوبة على أمرها ولكنها مستسلمة أسفل يده تترك له زمام الأمور غير معترضة على شيء..

اعتبرها دعوة صريحة منها ليأخذها ويدلف بها إلى بساتين الورود مختلفة الألوان والروائح ليس بها أشواك بل رقيقة ناعمة الملمس يعوض ذلك اليوم المشؤوم الذي خلده بذكراها..

مستمتعًا بكل لحظة تمر جوارها وهي راضية مستكينة بين يديه مستمتعة بنظراته ولمساته وكأنها تطالب بالمزيد منه لأول مرة منذ سنوات كثيرة لم تعلم طريق إلى هذه المشاعر..

المشاعر الجياشة الذي أخذتهم إلى عالم غريب لأول مرة تسير به معه وهو لأول مرة يشعر بحلاوته وتزداد رغبته الملحة في التكملة إلى النهاية وما بعد النهاية..

اشتعلت رغبته تجاهها فترك الأشواك متجاهلًا إياها متقدمًا منها يأخذها إلى شاطئ أمواجه ثائرة متضاربة كمشاعرة الراغبة، تقدمت أمواج المتعة واللذة الراضية تغطي على رمال البغض والكراهية وصدفها راضيًا مستمتعًا وكأنه بمرحلة من مراحل الهوى..


الفصل العاشر
"هل تخفي جزيرة العامري أسرار بعد!."
جالسة على الفراش في غرفة نومه التي أصبحت مشتركة بينهم بعد أن كتبت على اسمه وأصبحت زوجة له..

تنساب الدموع من عينيها على وجنتيها بغزارة تتساقط على يدها المُمسكة بالهاتف تطلع بعينيها على شاشته التي تُنير بوجه زوجها الراحل "يونس"

تبكي بقهر وحرقة وهي تنظر إلى صورته، تستمع إلى صوته بأذنها يعاتبها على ما فعلته..

ينظر إليها بخذلان من عبر الهاتف يقول لها كيف سمحتي له بأن يفعل ذلك وكيف تركتي كل ما بكِ إليه بهذه الطريقة المُهينة..

وضعت يدها على وجنتها تُزيل دمعاتها السائلة بكل انسيابيه وسهولة والحرقة تأكل قلبها والندم يتمسك بعقلها يسحقه أسفله على فعلته الخائنة..

تلك الأمواج التي تضاربت من كثرة الرغبة والغرام الآن تتهاتف نادمة على ما فعلته بالأمس ناحية كل شعور جميل مرت به ولم تترك لها إلا الآلام والندم..

كيف تركت نفسها بهذه السهولة وكيف سمحت له بالاقتراب، كيف كانت قطعة حرير بين يده تتحرك بسهولة ورقة.. ما الذي كان يسيطر عليها في هذه اللحظات.. ما الذي مرت به جعلها تلقي بنفسها داخل أحضان الذئب 

وهو ذلك المجنون الذي كان على أتم الاستعداد لفعل أي شيء كان يأتي مُتحضرًا لما سيفعله أو هي من أغرته بنموتها البريئة وملابسها الأنثوية التي لم يعتاد عليها معها! 

أغمضت عينيها السوداء بقوة تحاول أن تُمحي من ذاكرتها ليلة أمس وما حدث بها بينهما، تحاول أن تكون خفيفة غير محملة بالأوجاع وأيضًا الآن الندم والحزن على أشياء لم تكن بيدها أن تفعلها أو لأ

أنها كانت مغيبة عن الواقع لم تدري ما حدث إلا في الصباح عندما وجدت نفسها تنام بين أحضانه وكأنه زوجها الذي تعشقه منذ سنوات ليس ذلك الحقير الذي سجنها داخل الجزيرة وفعل بها ما لم يفعله أحد

ارتجف جسدها من شدة البكاء وحاصرها الندم والألم على قلب بات لا يدري ما السبيل في الخلاص من كل هذا العذاب وما السبيل في الوصول إلى طريق النور ليعرف أين تكون وجهته..

دلف إلى الغرفة بهدوء نظر إليها وجدها تعطي إليه ظهرها تجلس على الفراش مُنحنية على نفسها، لم يدرك ما الذي تفعله فأغلق الباب وتقدم إليها وجدها تتمسك بالهاتف مغيبة عن الواقع تنظر إلى صورة شقيقه الراحل وعينيها تأتي بالدموع وكأنه شلال يخرج من نهر منسوب المياة به عالي..

ظل واقفًا ينظر إليها وهي لا تشعر بوجوده معها يتابع نظراتها النادمة وبكائها الغريب وتلك الشهقات المباغتة التي تخرج منها.. لأول مرة تقع أمامه هكذا لأول مرة يرى بكائها بهذه الطريقة وضعفها هذا 

دائمًا كانت تقف صلبة شامخة أمامه وكأنها جبل من الثلج ولكن الآن يبدو أن هناك بركان فار فوقه فانصهر وأصبح مياة جارية كتلك التي تجري على وجنتيها دون توقف..

علم أنها نادمة على ما حدث بينهم، تلك النظرات والبكاء هذا لا يقول إلا أنها نادمة لم يكن يتوقع ذلك في الحقيقة فهي كانت لينة سهلة معه وهي من دعته دعوة صريحة ليأخذها بين أحضانه ولتكن ملك له برضاء تام منها وهو لم يفعل أي شيء سوى أنه لبى هذه الدعوة وقام بفعل دوره كما توجب عليه كرجل..

الآن بعد ليلة رفعت بها رايات الحب والغرام مستسلمة بها شعارات الكراهية والبغضاء تبكي نادمة على ما فعلته، تبكي نادمة على شعور بالذة والهوى ساحبًا إياها معه بين السحاب تتمسك بيده وتشعر لأول مرة منذ خمس سنوات بالحب..

يا لها من غريبة وغبية، لقد توفى شقيقه، رحل عن عالمهم منذ الكثير وهي الآن أصبحت زوجته والعلاقة بينهما تتحسن وهو ترك لقلبه القرار فإن كان يريدها أو لأ فما الذي تفعله الآن!..

شقيقه أفضل منه! كيف أفضل منه وهو الذي أحب ابنتها وكأنها ابنته هو وعاملها غير كل البشر الذي بحياته حتى أنها أصبحت تعتبره والدها وهي أيضًا بدأ يعاملها أفضل وأفضل بكثير، تعيش بقصر العامري وتتزوج كبير جزيرة مثله، محامي، رجل له وضعه في الدولة وليس في الجزيرة فقط.. رجل يفعل الكثير ولكنها غبية فقط تراه مجرم قاتل لا يفعل غير ذلك..

فارت الدماء بعروقه عندما بدأ بالمقارنة بينه وبين شقيقه فتقدم منها بعنف وقسوة يجذب الهاتف من يدها فانتفضت بفزع لأنها كانت شاردة الذهن لا تعلم بوجوده..

نظرت إليه باستغراب وهو يقف بغضب وعصبية يظهران عليه فمسحت دمعاتها السائلة وحاولت أن تعود تلك التي يراها دائمًا على الرغم من أنها محتها بضعفها أمامه أمس..

سألها بغلظة وهو يضغط على الهاتف بيده:

-أنتي بتعملي ايه 

اعتدلت في جلستها على الفراش ونظرت إليه قائلة بصوت خافت وأعين ذابلة من كثرة البكاء:

-مش بعمل

سألها مرة أخرى بقسوة ونظرات عينيه حادة عليها:

-وبتعطي كده لـيـه

استمعت إلى سؤاله وعينيها تنظر إليه ولكنها لن تقوى على الإجابة فصرخ بها وهو يتقدم للأمام:

-ما تردي

لم تجب وظلت تنظر إليه بعينيها الباكية ونظرتها نادمة مُنكسرة فقال بحدة يمسك بذراعها:

-بتعيطي علشان ندمانه على اللي حصل بينا مش كده.. أنا جوزك وأنتي مراتي ومن حقي وحلالي أنا

حركت شفتيها باستهزاء تسأله ساخرة:

-أنت تعرف الحلال والحرام

ضغط على ذراعها بين قبضته بضراوة وصرخ أمام وجهها بعنف واستماته وهو يدافع عن حقه بها:

-لأ معرفوش بس عندك أنتي بقى وهعرفه أنتي حقي أنا مش حقه هو.. يونس مات من زمان أنتي دلوقتي مراتي 

تابعت نظراتها نحوه وأجابته بشراسة وعناد وصوتها يرتفع أمامه:

-يونس مات صحيح لكن عايش في قلبي 

نهشت الغيرة قلبه وفارت الدماء بعروقه من حديثها الذي تفوهت به عن شقيقه وهي زوجته هو، ثار غضبه عليها فترك يدها وتدم بكفه فجأة صافعًا إياها بعنف فقد أهانت رجل وحتى لو لم تكن تبغاه..

صدح صوته أمام وجهها وتبعثرت أنفاسه عليها بعد أن جذبها من خصلاتها لتنظر إليه بعمق:

-محدش ليه الحق يبقى في قلبك غيري أنا.. أنا جوزك 

ثار بركان غضبها هي الأخرى بعد صفعته لها مرة بعد مرة أنه رجل غير متحضر مختل، صرخت بوجهه بعدما كانت أصبحت علاقتهم تتحسن:

-أبعد ايدك عني أنت حيوان 

لم يصغي إلى ما تقوله بل أكمل هو بمنتهى الغرور والعنجهية يطنعها بقلبها ويطعن قوتها وأنوثتها كما طعنته الآن بسكين الغيرة:

-لو كان يونس عايش في قلبك مكنتيش رميتي نفسك عليا بالشكل ده 

ضربته بقبضة يدها الصغيرة بصدره وهي تنفي حديثه قائلة بعصبية:

-أنا مرمتش نفسي أنت كداب.. أنت اللي قربتلي 

أكمل بنظرات حادة وصوته خافت أمام وجهها يخرج كالفحيح ناظرًا:

-وأنتي عملتي ايه؟ كنتي موافقة ولا لأ كل حاجه حصلت كانت برضا منك مش بالغصب جاية دلوقتي تعيطي عليه وندمانه 

أومأت إليه برأسها ونظرت إليه بتحدي وقوة تماثل نظراته نحوها:

-آه ندمانه 

سخر منها وهو يبتسم بزاوية فمه ثم ضغط على خلاصتها السوداء الطويلة وهو يجذبها أكثر لتقترب منه وأردف يكمل حديثه بثقة كبيرة وتأكيد ونبرته القاسية تضعي على كل شيء:

-لأ مش عندي.. الندم ده مش عندي يونس تنسيه تطلعيه من دماغك يا غزال الله وكيل لو ما اتعاملتي باحترام وعرفتي إنك متجوزة هوريكي وش اوسخ من اللي شوفتيهم وأنتي عارفه أنا مبتوصاش 

أكمل وهو يُشير بيده المُمسكة بالهاتف التي كانت بها الرصاصة ولكنه فك رباطها فقط يلتف الشاش حول ذراعه.. أشار على قلبها يمثل ما يقوله بغلظة وخشونة:

-ولو كان في قلبك زي ما بتقولي.. فقلبك ده أنا اخلعه من مكانه بأيدي أشيل منه يونس وارجعه مكانه تاني 

تابع وهو يقترب أكثر من شفتيها قائلًا بخبث:

-حطي الكلام ده في عقلك.. أنا جوزك واللي حصل بينا هيتكرر كتير علشان ده حقي.. وحقك

صرخت بوجهه وتناثرت أحرف كلماتها عليه وهي تقول بعنف وشراسة:

-مش عايزة من وشك حاجه يا جبل.. مش عايزة 

ابتسم إليها بثقة وأومأ برأسه قائلًا بمكر:

-لأ عايزة يا غزال.. عايزة وأنا شوفت ده بنفسي 

علمت ما الذي يتحدث عنه ولكنها لا تستطيع أن تظهر الضعف إليه وتثبت أن حديثه صحيح فقالت مُتسائلة بسخرية وتهكم محاولة مداراة ضعفها:

-شوفته إزاي بقى

حرك عينيه الخضراء على وجهها وأخفى ذلك الرعب الذي يتكون داخلها ويبعثه إليها في كل نظرة منه ظاهرًا فقط الخبث والمكر وهو يهتف بصوت خافت حنون يتذكر كل ما حدث بينهم في شريط سريع على عقله:

-شوفته امبارح في كل لمسة وهمسة خرجت منك وأنتي معايا.. تحبي أقولك أكتر شوفته إزاي

حركت يدها وحاولت دفعه للخلف ولكنه كان مُتمسك بخصلاتها بقوة فصاحت به بعد أن خانها عليها حديثه:

-سيبني يا جبل 

تابع ضعفها الذي تحاول إخفاءه ونظر إلى عينيها التي تحاول الهرب منه فقال بصوت رخيم ينظر إليها:

-أول مرة اسمي يبقى حلو كده

رفعت عينيها عليه بغرابة وذهول فصاحت قائلة: 

-أنت مجنون ومختل 

دفعها للخلف فأبتعدت على الفراش ألقى الهاتف جوارها وأبتعد هو الآخر يقف مستقيم شامخ وقال بثقة وتأكيد:

-بس أنتي لسه مشوفتيش جنون 

نظرت إليه بعينين متحيرة، قسوة قلبه تشبه نهر ارتفع منسوب المياة به فأحدث فيضان ومات الجميع بسببه، ورحمته تشبه نفس ذلك النهر الذي ارتفع منسوبه فأحدث فيضان وارتوى منه الجميع وكان سبب في احيائهم بعد جفاف حل لسنوات..

من هو بينهم!..

أبتعد عنها يفتح خزانة الملابس الخاصة به ليصل إلى خزنة أوراقه وماله الموضوعة بها يتذكر نظراتها الشرسة والضعيفة..

امرأة قوية شرسة تشبه الجواد الذي يُسير راكضًا يعبر الحواجز بتفوق ليفوز على الجميع يصعب ترويضه والوقوف إلى جواره.. 

ولحظة أخرى بنظرات ضعفها وحزنها تشبه نفس الجواد الذي خرج خاسرًا بعد أن فاز عليه الفارس الذي روضه وأصبح ملك له..

ابتسم بمكر وهو يدرك جيدًا أنها ذلك الجواد الذي سيروضه ويصبح ملك له.. كل الإشارات تقول ذلك وهو يعشق التحدي واللعب بهذه الطريقة وإلا لم يكن الآن "جبل العامري" 

❈-❈-❈

منذ اليوم الذي تلقى به جبل تلك الرصاصة وهو يمنع دخول أو خروج أي شخص من الجزيرة إلا عندما يعلمون من هو جيدًا والحراس على كل مدخل ومخرج بالجزيرة، يلتفون حول القصر ليلًا نهارًا خوف من حركة اغتيال أخرى قد تصيب أحدهم..

إلى أن وجدوا ذلك الخائن الذي قام بإطلاق النار عليه ملقى في الغابة بعد أيام فلم يستطع الخروج منها ولا الاختباء بها..

عثر عليه الحراس أثناء بحثهم مرة أخرى كما أمرهم وفي هذه المرة قاموا بالإمساك به ولكنه كان بحاله سيئة متدهورة للغاية.. بضعة أيام دون طعام أو شراب في الغابة تحت أشعة الشمس الحارقة لا يخفيه عنها سوى أوراق الشجر، والخوف ينهش قلبه ليلًا كلما استمع إلى أصوات الذئاب يصعد على أغصان الأشجار كي يبتعد عن أعينهم..

الآن بعد اتخاذ الأوامر هو ملقي على مقعد داخل الجبل في تلك الغرفة التي رأتها "زينة" مليئة بأدوات التعذيب يلتف حول جسده والمقعد معًا سلاسل حديدية تعيق حركته..

نظر إليه جبل وهو يقف ومعه حراسه، رفع يده إلى أحدهم يشير إليه فقام بالتلبية حيث أمسك بجردل مياة ثم ألقاه على ذلك مغمض العينين الذي أمامهم..

استفاق مفزوعًا ينظر إليهم واحد تلو الآخر واستقر بنظراته على "جبل العامري" ابتلع تلك الغصة التي تشكلت بحلقة وهو ينظر إليه خوفًا ورهبتةً منه

أشار "جبل" بيده مرة أخرى فاتى إليه أحدهم بمقعد آخر ثم وضعه أمامه، أمسك "جبل" بالمقعد وقام بعكسه ليجلس عليه جاعلًا ظهره للأمام ووجه للخلف، نظر إلى الرجل ونظراته جميعها لا تعبر إلا عن الشر..

أردف متسائلًا وكأنه يجلس بقاعة محاكمة:

-اسمك وسنك 

اجابه الآخر بعدما ابتلع لعابه وهو ينظر إليه بفزع فالمكان الذي به وهولاء الراجل وذلك كبيرهم يجعلونه يشعر بالرعب:

-شكري مهران.. أربعين سنة 

رفع أحد حاجبيه وقال بجدية وهو ينظر إليه بحدة:

-مهران.. يعني مش من العوامرية

أومأ الآخر إليه قائلًا وجسده يرتجف:

-لأ يا بيه 

ثبت "جبل" نظرته عليه واستند بيده الاثنين على ظهر المقعد من الأعلى يقول بغلظة:

-مين اللي وزك تعمل اللي عملته 

أجابه الآخر بصوت مرتفع وملامح صارخة بالرعب:

-محدش وزني 

حرك جبل لسانه داخل جوفه وأردف يسأله بجدية وعيونه لا توحي بالخير أبدًا:

-ليك طار عندي

حرك رأسه بالنفي قائلًا:

-لأ يا بيه 

صدح صوت "جبل" الصارخ بوجهه بعنفوان وشراسة وعينيه مثبتة عليه تنظر إليها تبعث بجسده الخوف والارتعاب:

-اومال جالك الوحي تضربني بالنار يا روح أمك

تدلى الخوف منه وانسابت الدموع من عينيه معلنة ضعفة ورهبته:

-يا... يا بيه أنا مقدرش أتكلم أنا عبد المأمور

أجابه الآخر بثقة وقوة وهو يُشير أسفله يكمل حديثه منتهى البرود والهدوء:

-وعبد المأمور لو متكلمش هيندفن مكانه.. ومتقلقش مش هتبقى لوحدك في تحت منك كتير 

صرخ به فجأة عندما وجده لا يتحدث:

-انطق مين اللي وزك 

أجابه بصوت مُرتجف والبكاء يُسيطر عليه بضعف خوفًا على أولاده:

-يا بيه مقدرش.. هيقتل عيالي 

تحدث بقسوة وعنفوان وهو يبعث الرعب به أكثر:

-ما أنت بردو لو متكلمتش هقتلهم أنا.. أنت تسافر وهما هيحصلوك 

وقد كان قلبه يدق بعنف وضرباته تشتل خوفًا ورهبةً مما هو به ولكنه قال مرة أخرى:

-يا بيه أنا.. أنا عبد المأمور مقدرش أتكلم 

صدح صوت "جبل" بإسم "جلال" ونظراته مثبتة على الرجل أمامه ولم يرف له جفن:

-جلال 

أتى جلال بصاعقة كهربايئة قام بتشغيلها ثم وضعها على جسده تحت صراخته المتوسلة لهم بأن يرحمه لأنه قليل الحيلة وليس له يد بما حدث أنه فقط كان ينقذ ما طلب منه مقابل الكثير من المال ليأمن به حياة أبنائه الفقيرة..

أبتعد عنه جلال عندما شعر أنه يفقد صوابه فنظر إليه جبل قائلًا بقسوة وشر وهو يبتسم بلا مبالاة:

-قبل ما نسفرك هنستعمل عليك كل الحاجات دي.. عايزين نجربها

تدلى رأس الرجل على جسده بضعف فلم يعد يتحمل كل ما يحدث به ولم يشفع له سنة الكبير عنهم جميعًا.. 

فقال "جبل" مرة أخرى ولكن ما قاله خرج منه بقذارة وتفكيره منحدر نحو الهاوية:

-ولو عندك بنات قبل ما يسافروا ليك بردو الرجالة تجرب عليهم حاجات تانية 

رفع رأسه سريعًا عنوة عنه وهو لا يستطيع ولكنه صرخ عاليًا وارتجاف جسده لم يهدأ:

-لأ... لأ هتكلم بس تدوني الأمان أنا وعيالي 

أومأ إليه بثقة:

-خدته.. أتكلم

سأله بخوف وعدم ثقة:

-خدته إزاي يعني 

أكمل بصرامة وقوة:

-كلمة جبل العامري أمان وسيف.. أتكلم 

استرسل الرجل في الحديث يسرد عليه من أمره بفعل ذلك ولما قد يفعل:

-اللي خلاني أعمل كده واحد اسمه طاهر أداني فلوس كتير علشان عيالي وقالي اضربك بالنار.. أنا شغلتي اخوف حد أعمل لحد عاهة لكن مموتش بس الفلوس غوتني 

أكمل بجدية وهو ينظر إليه:

-قالي محدش في الجزيرة يقدر يعملها مافيش غيري وافقت 

سأله ناظرًا إليه وهو يعلم أن الخائن مازال في الجزيرة أو مجموعة الخائنين لـ "جبل العامري":

-دخلت الجزيرة إزاي

اجابه بصدق وجدية فلم يكن يعلم حقًا:

-أنا معرفش يا بيه هو اللي امنلي طريق الدخول من النيل ومشيت فيها كأني واحد من العوامرية

أومأ إليه برأسه ثم نظر إليه وباغته بسؤاله الذي استغربه الجميع:

-دفعلك كام 

قال الرجل بخوف:

-عشرين ألف

صرخ جبل في وجهه حتى أنه افزعه وهو يقول بعد ذلك بمنتهى البرود والنرجسية:

-غبي.. حياة جبل العامري بعشرين ألف بس!

وقف على قدميه ليخرج من الغرفة وهو يقول بقسوة ضارية:

-علموه الأدب وارموه في النيل يا إما حد لحقه يا إما غرق 

صرخ الرجل عليه وهو يراه يخرج من الغرفة بعد أن أعطى الأوامر القاتلة له:

-جبل بيه أنت ادتني الأمان يا جبل بيه 

استدار ينظر إليه بعينين ثابتة مخيفة لكنه قال باستهزاء:

-تصدق.. كنت ناسي، تحب تخرج عن طريق الغابة ولا النيل 

قال بتوتر وهو ينظر إليه:

-اللي تشوفه يا جبل بيه 

أبتعد إلى الخارج وتركه لا يدري ما الذي سيحدث له، وقف مع "عاصم" في الخارج وهتف بنبرة حادة:

-الخونة كترو في الجزيرة يا عاصم.. مش هنعرف نسيطر ولا ايه 

تفوه "عاصم" بالحديث الجاد مثله وهو يحاول أن يجعله يشعر بالاطمئنان ولو قليل على الرغم من أن الوضع لا يسمح:

-من بكرة الصبح هطلع حراس يلفوا في الجزيرة كلها من شرقها لغربها وأي حد خاين معروف مصيرة ايه 

قال بقوة وهو يسير بيده إلى الداخل:

-غورو الراجل ده بس علموه الأدب الأول.. 

ثم أكمل بقسوة وصرامة ونظرات عينيه مخيفة للغاية ولكن كلماته كان لها مغزى واضح وصريح:

-عايز الجزيرة كلها تعرف أننا قتلناه 

أومأ إليه "عاصم" وقد أدرك ما الذي يريد الوصول إليه:

-تمام

أبتعد يخرج تاركًا إياهم معه يفكر في ذلك "طاهر" الذي لا يريد أن يرحم نفسه من يدي "جبل" هو من يحفر قبره بيده ويسارع متعجلًا بالولوج إليه.. يا له من غبي..

❈-❈-❈

"بعد مرور عدة أيام"

جلست شقيقتها جوارها على الفراش في غرفتها نظرت إليها بعينيها الزرقاء مطولًا بعمق وشفتيها تود التحرك بالحديث ولكنها تعود عنه..

رفعت "زينة" وجهها إليها وهي تعلم أنها تود قول شيء منذ أن جلست معها فقال بجدية ناظرة إليها:

-اتكلمي قولي اللي عايزة تقوليه 

رفعت عينيها وبقيت أمام سوداويتها مباشرة متسائلة باستغراب:

-عرفتي منين إني عايزة أقول حاجه 

ابتسمت برفق قائلة بهدوء:

-شكلك بيقول إن في كلام جواكي ومش عارفه تطلعيه 

خرجت الكلمات منها بعفوية تامة وهي تتابعها تتسائل:

-أنتي إزاي حبتيه بالسرعة دي 

للحظة بقيت بعينيها تنظر إليها تحاول أن تفهم ما الذي تقصده وما الذي تتسائل عنه، ما يأتي على خلدها لم تكن تصدقه فقالت:

-هو مين ده اللي حبيته

اجابتها بهدوء وثقة:

-جبل

استغربتها كثيرّا واستنكرت حديثها فتابعت هي الأخرى تتسائل مضيقة عينيها عليها:

-حبيته! مين قال إني حبيته 

اعتدلت في جلستها أمامها وأردفت قائلة بجدية شديدة ما تراه أمامها:

-أنا حاسه بكده.. نظراتك في الفترة الأخيرة ليه كلامك معاه سكوتك عن قعدتنا هنا مع أنك كنتي رافضة أوي وعد اللي سيباه ياخد مكان يونس في حياتها 

قالت هي الأخرى بجدية وقوة توضح لها ما تفعله معه وأن كان حب أو لا:

-نظراتي وكلامي معاه ميقولوش إني بحبه أبدًا هو يمكن في الفترة الأخيرة فعلًا اتغيرت شوية بس ممكن تكون شفقة أو حزن عليه.. على قد ما هو صعب زي ما أنتي شايفة بس عادل وبيعرف يتصرف وأتاخد على خوانة 

أشارت بيدها بقلة حيلة وعدم معرفة وهي تقول:

-بالنسبة لحكاية قعدتنا هنا فأنا دلوقتي مراته ومش عارفه هنمشي امتى ولا هاخد حقي ولا لأ ووعد دي الحاجه الوحيدة اللي ممكن أكون مبسوطة بسببها

أكملت وهي تعلم أن دوره في حياة ابنتها الشيء الوحيد الجيد الذي يفعله معهم وهذا سبب من الأسباب الذي تدفعها للتكملة معه فقط لأجل ابنتها:

-وعد اتحرمت من يونس بدري وبقت يتيمة أنا شايفة جبل بيعوضها وبياخد دور أبوها علشان تعرف تعيش 

نظرت إليها شقيقتها للحظات ثم باغتتها بذلك السؤال وهي تتابع عيناها:

-يا ترى هياخد دور جوزك ويقدر يقوم بيه زي ما قام بدور الأب لوعد

حركت كتفيها بعد أن نظرت للبعيد تفكر في كلماتها التي دلفت قلبها مباشرة وعقلها لم يتركها دون التفكير بها:

-معرفش 

سألتها مرة أخرى:

-لو عمل ده هتفضلي معاه!

وقفت "زينة" على قدميها تبتعد عنها تسير في الغرفة تعطي إليها ظهرها وحقّا لا تستطيع تحديد موقفها تجاهه:

-معرفش بردو.. بس في حاجات كتير أوي تمنعني أعمل كده.. الجزيرة بيحصل عليها حاجات مقدرش استحملها وهو بيعمل حاجات......

بترت حديثها عندما علمت أنها تدلف باشياء لا تدري بها شقيقتها ومن المفترض ألا تدري بها أبدًا.. سألتها هي بعدما قطعت حديثها بفضول:

-بيعمل ايه كملي!

حاولت التغاضي عما كانت ستتفوه به وقالت كلمات أخرى حقيقة للغاية تعذبها عندما تدرك أنها لا تفهم شيء ولا تستطيع الاختيار:

-بيعمل تصرفات غريبة وحاجات أغرب مش فهماه مش عارفه هو الخير ولا الشر مش عارفه أقدر أكمل على الجزيرة وأشوف نهايتها ولا مش هستحمل 

سألتها بثقة:

-أقولك أنا!

أومأت إليها قائلة:

-قولي 

أردفت بتعقل وكلمات عقلانية لم تعتقد أبدًا أن تخرج منها يومًا ولكنها كانت تعلم أكثر بكثير مما تعلم به شقيقتها وواجهتها باشياء لا تستطيع حتى التفكير بها:

-هتكملي معاه، عيونك بتقول إنك محتاجه ده.. يمكن أنا صغيرة وساذجة ومعرفش أتصرف من غيرك في أي حاجه وأنتي كنتي الأمان ليا بس أنتي محتاجة أمان لنفسك من بعد يونس ومش هيكون غير جبل

نفت ما تقوله بقوة وبغض: 

-أكيد لأ.. أنا مقدرش أكون الإنسانة اللي موجودة معاه بجسمها بس كمان في ظل الظروف دي

سألتها ثم أجابت هي أيضًا بثقة وتأكيد:

-ومين قال كده.. أنتي هتبقي معاه بقلبك

وضعت يدها على موضع قلبها وتذكرت زوجها "يونس" الذي قامت بخيانته مع شقيقه ومحت كل ذكرياته من عقلها في تلك الساعة المشؤومة:

-قلبي مفيهوش غير يونس وبس حتى وهو مش موجود 

وقفت "إسراء" هي الأخرى وتقدمت منها تضع كف يدها على كتفها وقالت برفق ولين:

-يونس الله يرحمه من خمس سنين أظن قلبك حل عليه الجفاف ومستني اللي يرويه 

استدارت زينة تنظر إليها باستغراب جلي وذهول لكل ما تفوهت به حتى الآن فهذه ليست شقيقتها:

-أنتي جايبه الكلام ده منين 

ابتسمت إليها بهدوء وتفوهت قائلة بكلمات أكثر تعقل ولكن نبرتها كان ينبع من داخلها كل معنى تقوله ويظهر على تعابيرها مع كل كلمة تغيرها من حب إلى اشتياق إلى لهفة وكأنها واقعة في الحب حقًا:

-كلام أغاني.. بس حقيقة.. القلب محتاج حنان وأمان وابتسامة وفرحة ولهفة وغيرة واشتياق وكل ده بيجي من الحب والشخص اللي بتحبيه حاليًا الشخص اللي بتحبيه أنتي مش موجود من مدة طويلة أظن قلبك هيلين مع أول واحد يدق بابه علشان يرجع يعيش كل الحاجات دي 

وجدت "زينة" تنظر إليها دون حديث تحاول فهم كيف أدركت كل هذا في أسابيع فقط مضت عليهم هنا فابتسمت أكثر اتساعًا وقالت لها:

-متستغربيش من كلامي ده الحقيقة.. قولتلك أنا صغيرة وساذجة بس فاهمه اللي قدامي وفاهمه الحب 

سألتها هذه المرة وأخذت دورها قائلة بجدية ونظراتها مُثبتة عليها:

-وفهمتي الحب منين يا إسراء

للحظة ترددت ووترتها تلك النظرات التي تخرج من أعين شقيقتها تجاهها ترمي عليها أسهم الشك ولكنها هربت من ذلك قائلة:

-هيكون منين غير المسلسلات التركي اللي بسمعها 

أومأت إليها برأسها قائلة بسخرية:

-ماشي ياست ياللي فاهمه الحب 

لم يعجبها نبرة السخرية والتهكم التي خرجت منها فقالت بجدية وثقة:

-بكرة تقولي إن كلامي صح وحقيقي 

حركت كتفيها إليها قائلة:

-جايز.. وجايز لأ بردو

واحدة منهم وقع قلبها أسيرًا للحب في جزيرة العامري، اعترفت به أمام نفسها بعد خجل دام كثيرًا عندما تشتعل وجنتيها بالحمرة أثناء حديثه معها، وعندما يغليها التوتر وهو ينظر إليها، وعندما تتعلثم في الحديث أثناء النظر إليه..

بينما الأخرى إلى الآن لا تدري ما الذي تشعر به تجاهه، لحظات تشعر بالبغض والكراهية ولحظات أخرى تشعر بالشفقة عليه ولحظات غير كل هذا تشعر بأن هناك شرايين في قلبها تتحرك تجاهه!..

هل تخفي جزيرة العامري أسرار بعد!.

❈-❈-❈

خارج القصر أمام بوابته الحديدية الخارجية وقفت فتاة في ربيع عمرها تغرق الدموع وجهها ونهش الحزن ملامحها مع نحافة وجهها وجسدها على الرغم من أنها جميلة بيضاء البشرة ذات خصلات حريرية تخرج من أسفل حجابها الغير مهندم تتحرك رافعة تلك العباءة الكبيرة عليها تدق بيدها الاثنين على البوابة من الخارج تصرخ بعنف باسم "جبل العامري"

صرخت بصوتٍ عالٍ وهي تدق بيدها تطلب النجدة:

-جبل بيه.. الحقني يا جبل بيه

لم تجد إجابة من أحد في الداخل فـ أشتد البكاء عليها وأخذت تدق بقوة أكثر صارخة:

-افتحولي البوابة دي أنا عايزة أشوف جبل بيه 

مرة أخرى تكرر النداء ولا أحد يلبي إليها:

-يا جبل بيه اسمعني 

فتح "جلال" البوابة وطل منها صارخًا بوجهها بصوتٍ خشن قاسي:

-في ايه يا بت أنتي

ما أن فُتحت البوابة حتى ركضت إلى الداخل بعدما دفعته بيدها وتسللت من جواره سريعًا فصاح بسبها وهو يركض خلفها:

-يا بت الكلب.. اقفي عندك يابت أنتي

وقفت عند البوابة الداخلة وسارت تدق مرة أخرى تكرر ما كانت تفعله بالخارج ولكن "جلال" أعاق حركتها وهو يقوم بالإمساك بها:

-جبل بيه.. يا جبل بيه الحقني الله يخليك 

نظرت "زينة" إلى "جبل" الذي كانت تجلس جواره في غرفة الصالون وبينهما ابنتها:

-في ايه 

لم يكن يدري ما الذي يحدث فأردف بعدم معرفة:

-مش عارف 

وقف على قدميه وسار للخارج.. فوقفت زينة خلفه مُشيرة لـ "إسراء" و "وعد" بالبقاء في الداخل وذهبت هي لترى ما الذي يحدث ومن تلك الصارخة بإسمه 

فتح البوابة وطلع منها ليجد "جلال" يتمسك بفتاة من معصمها يجبرها على الرحيل، تقدمت زينة هي الأخرى تنظر إليه وصرخت به بعنف بعدما استفزها ما يفعله معها وتذكرت موقف شقيقتها:

-ايه الجنان ده هو بيعمل ايه قوله يسيبها 

نظر إليها "جبل" بقوة لأجل صوتها المُرتفع الصارخ ولكنها لم تهدأ عاصفتها ونظرت إليه بتحدي فأبتعد بعيناه إلى الآخر يأمره:

-جلال.. سيبها 

تقدمت منه الفتاة مُتوسلة إياه والبكاء يغرق وجهها وتقدمت تقبل يده:

-جبل بيه الحقني يا جبل بيه أبوس ايدك.. أبوس رجلك ساعدني يا جبل بيه أنا تعبت علشان اوصلك

سحب يده سريعًا منها ينظر إليها بعمق واستغراب معًا فالأحداث الآن غريبة للغاية 

كاد أن يأمر "جلال" بتفتيشها فهو بات لا يثق بأحد على هذه الجزيرة ولكنه نظر إلى "زينة" عائدًا في حديثه فالرجـ ـل لا ينبغى أن يفعل ذلك..

أردف بقوة وصرامة ناظرًا إليها بجدية:

-زينة.. فتشيها 

أقتربت منها "زينة" وقامت بتفتيشها جيدًا والبحث في ملابسها من الخارج عن أي شيء قد يكون معها والأهم من أي شيء قد يكون سلاح فالجميع هنا حتى الأطفال تعتقد أنهم يملكونه..

قالت بثقة وجدية:

-معهاش حاجه 

مسحت وجهها بكف يدها وهي تتقدم منه تنظر إليه بخوف قائلة بصوت يرتعش ومن بين حديثها قالت عن ذلك الرجل الذي علمت به الجزيرة بأكملها:

-والله ما معايا حاجه يا جبل بيه ولا يمكن أذي حد لو مكنش علشان خيرك مغرقنا يبقى خوف علشان الراجل اللي قتـ ـلته لما ضرب عليك نار 

نظرت "زينة" إليه سريعًا عندما أتمت حديثها، بقيت عينيها عليه مستغربة للغاية وخائفة إلى ما لا نهاية، مرة أخرى يقـ ـتل رجل آخر! الأول كان خائن والثاني حاول اغتياله! لما القـ ـتل عنده شيء سهل إلى هذه الدرجة.. لما قـ ـتل الأرواح كقـ ـتل الطيور القابلة أن تصبح للطعام..

علم ما تفكر به زوجته عندما أطالت النظر عليه وعينيها تتسائل بألف سؤال كل دقيقة، سأل الفتاة بغلظة:

-أنتي مين وعايزة ايه 

أشارت إلى نفسها وهي تقول بلهفة وحزن وكلماتها تخرج من بين شفتيها بارتعاش وكأن هناك من يلاحقها إلى هنا:

-يسرية أنا يسرية العامري من الجزيرة واقعة في مشكلة هتطير فيها رقاب يا جبل بيه محدش غيرك يقدر يحلها

سألها مرة أخرى مُضيقًا عينيه عليها:

-مشكلة ايه دي 

نظرت حولها ورأت "زينة" و "جلال" فقالت بتردد:

-أتكلم كده

أومأ إليها قائلًا بكلمات تخرج منه بعفوية:

-دي مراتي اتكلمي 

تلبكت أكثر وهي تنظر إليها قائلة برفق تصلح ما أخطأت به ولكنها بقيت خائفة:

-أهلًا يا هانم زادني الشرف والله.. بس 

فهم "جبل" ذلك فنظر إلى الآخر الذي يقف خلفها وأشار إليه بيده ليرحل:

-روح أنت يا جلال 

تغاضت "زينة" عما برأسها وعقلها الذي تنهش به الأسئلة والتوقعات ناظرة إليه بعدما اشفقت على حالة الفتاة فلم تستطع النظر إليها وهي هكذا:

-ممكن تخليها تدخل؟ شكلها خايفة ومتبهدلة

أومأ إليها ومازال يشعر بالخوف منها أن تأذي أحدهم ولكنها أن فكرت فقط لن تخرج من هنا بقطعة واحدة كاملة في جسدها:

-ماشي دخليها المكتب وخدي بالك أنا جاي 

ذهبت معها إلى الداخل بهدوء تأخذها إلى مكتبه الخاص داخل القصر، جعلتها تجلس أمام المقعد على أحد المقاعد المقابلة له وجلست قابلتها قائلة بفضول تحاول أن تعلم ما بها:

-أنتي مالك.. ايه مشكلتك وليه شكلك عامل كده

تطلعت نحوها الفتاة ببعض من الاستغراب وهي تسألها: 

-كده إزاي يا هانم 

قالت "زينة" بعقلانية تشبهها بالوردة المنزوعة من مكانها قبل الأوان فذبلت إلى أن أصبحت هكذا:

-دبلانة كأنك وردة مقطوفة من مكانها

أومأت إليها وهي تتقدم في جلستها على المقعد لتقترب منها وهي تقول بلهفة وخوف:

-أنا مخطوفة فعلًا يا هانم ومشكلتي كبيرة وعويصه ومحدش يعرف يحلها ولا يدي فيها أمر غير جبل بيه

أكملت مرة أخرى بتوسل عندما وجدتها تنظر إليها ببلاهة:

-قوليله يسمعلي ويساعدني يا هانم 

تفوهت "زينة" بثقة تتحدث عنه بعدما رأت موافقة النبيلة مع الناس هنا على الجزيرة ووقوفه إلى جوارهم:

-أكيد هيساعدك من غير ما أقوله

أكملت الفتاة مرة أخرى وهي تعتقد أنه لن يساعدها ولن يستمع إليها من الأساس مُعتقدة أن زوجته هي من تجعله يستمع إليها ويساعدها:

-لو موافقش كلمة منك يا هانم استسمحك بيها 

قالت بجدية بعدما اختنق صدرها من هذا اللقب الذي يجعلها تشعر بالغرابة منهم وكأنهم يعيشون في العصور القديمة عندنا كان هناك ملوك وعبيد:

-اسمي زينة مش هانم 

وضعت كف يدها على صدرها وتشدقت بحركة غريبة بفمها لم تحاول حتى استيعابها وقالت:

-المقامات محفوظة يا هانم 

حركت رأسها بيأس من هؤلاء البشر الذين يجعلونها شخص غير الذي هي عليه 

دلف جبل إلى الغرفة بجدية يُسير شامخ وطوله فارع، أقترب إلى أن جلس خلف المكتب أمامهم هما الاثنين ثم نظر إلى الفتاة قائلًا بخشونة:

-اتكلمي في ايه 

مسحت عبراتها واعتدلت تنظر إليه هو قائلة بتعلثم والكلمات تقف على بابا شفتيها خجلًا:

-أنا.. أنا بحب واحد يا جبل بيه 

صمتت للحظات وهو ينظر إليها هو وزوجته ينتظر أن تكمل ما بدأته، بقيت صامته فصاح هو ساخرًا منها ثم أكمل بسخط:

-دي المشكلة اللي جايه علشانها.. عايزة اجوزهولك ولا ايه.. أنتي بتهرجي

نظرت إليه الأخرى وقالت بهدوء تحسه على الاسترخاء كي يستمع إلى الفتاة بهدوء ولا يخيفها فيكفي ما به:

-بالراحه يا جبل 

لم يصغي إلى حديثها وصاح بعنف وغلظة وهو يقترب إلى الأمام:

-اتكلمي يا بت

أردفت بجدية تقص عليهم ما حدث معها والدموع بدأت في الخروج مرة أخرى من عينيها وهي تحكي ما حدث:

-كنت بحب واحد يا جبل بيه.. وهو كان بيحبني آه والله كان بيحبني يا هانم.. جه اتقدملي أكتر من مرة أبويا وأخويا رفضوا الجوازة علشان عايزينه عنده ملك على الجزيرة..

لوعة الحب احرقتها وناره استوت عليها والحرقة بقلبها تحكي بها وتظهر عليها واللهفة تتحدث قبل منها متحدثة بمعانتها:

-مكانوش يعرفوا إني بحبه ولا حتى أعرفه هو كان جاي على أساس السيرة والسمعة وسؤاله عني وعن أهلي في الجزيرة ومحدش يعرف اللي بينا بس رفضوا مرة واتنين وتلاته وأنا بحبه يا بيه 

مرة أخرى يسخر منها بعدما توقفت عن الحديث:

-وبعدين مش فاهم أكلمهم يعني يجوزهولك ولا ايه

نفت ما قاله وصمتت لحظة ثم أردفت متعلثمة بخجل تخفض وجهها إلى الأرضية بعيد عنه:

-لأ يا بيه أنا.. أنا اتجوزته من وراهم

رفعت بصرها إليه مرة أخرى بعدما أشتد الحزن بها وهي تتذكر آخر ما حدث بينهم وما القادم معهم:

-أبويا وأخويا غصبوا عليا بغيره وأنا ريداه هو اتجوزنا عرفي ودلوقتي هما عرفوا حالفين يقتلوني ويغسلوا عاري ويقتلوه هو كمان علشان أتجرأ وعمل كده 

وقفت على قدميها وهي تحاول الإقتراب منه تتوسلة بكل ما بها وتبكي بحرقة كبيرة ظهرت عليها منذ أن دقت على البوابة في الخارج:

-الله يرضى عليك يا جبل بيه ويخليلك الهانم ويرزقك بالذرية الصالحة تقف معايا أنت بس اللي تقدر توقفهم أبعدهم عني وعنه يا بيه 

تابعها بنظراته الحادة وكلماته التي تخرج بجدية تامة:

-أبوكي اسمه ايه وقاعدين فين في الجزيرة 

أجابته بإسم والدها ومنطقة مكوثهم وهي تبتسم ببطء بعدما بعث الأمل إليها بأنه سيساعدها ويقف إلى جوارها ويبعدهم عنها وعن حبيبها وزوجها الذي لم يتخلى عنها إلى الآن..

-كمال جابر العامري في شرق الجزيرة 

أومأ برأسه إليها بهدوء مقررًا مساعدتها وأن يمنع ما يريد والدها فعله في وجوده على الجزيرة فكان سيبعث أحد الحراس إليه ليأتوا به إلى هنا ولكنه استمع إلى أصوات في الخارج عالية تصل إليهم فوقف سريعًا ليخرج يرى ما الذي يحدث..

عندما خرج من بوابة القصر وجد رجل في عمر الخمسين وشاب في الثلاثين يقف جواره يمسك السلاح بيده رافعة للأعلى..

تقدم منهم "جبل" ونظرات عينيه على ذلك الشاب الذي بعدما رآه ظل على وضعه رافعًا السلاح كما هو ولم يهابه حتى..

وقف أمامهم وتحدث بقوة وحزم:

-أنت واقف جوا ملك العامري ورافع السلاح!

قدم والده يده ليخفض يد ابنه الممسكة بالسلاح وتفوه قائلًا بدلًا عنه بتوتر:

-سماح يا جبل بيه مخدش باله 

تابع ونظراته على الشاب ووضع يده الاثنين في جيوب بنطاله ووقف ببرود كما المعتاد منه:

-لأ ياخد باله وإلا العواقب مش هتبقى كويسه أبدًا 

صاح الآخر بضجر وحنق وهو ينظر إليه:

-عواقب ايه إحنا جاين ناخد أختي ونغسل عارها إحنا عارفين أنها هنا 

أومأ إليه برأسه بمنتهى البرود واللا مبالاة يؤكد على حديثه ثم أكمل بثقة وعنجهية:

-آه هي هنا.. بس قولي أنت تقدر تاخدها من غير أذني ولا هي ممكن تخرج معاك من غير أنا ما أقولها تخرج!

صدح صوته أمامه وهو يقول باستنكار وذهول:

-دي أختي

أجابه بجدية يوضح له من هو أيضًا بالنسبة إليها وإلى أهل الجزيرة ثم ختم حديثه بسخرية:

-وأنا مالك الجزيرة أخوها وأخ لكل واحدة عليها، ابن لكل أم وابن لكل أب وأنت شكلك كده مش عاجبني 

كان الشاب يشعر بالإهانة لأجل ما فعلته شقيقته به وبوالده وكان يقف أمام "جبل العامري" ويعلم من هو وما الذي يستطيع فعله ولكن النار المشتعلة داخله هي من تحركه:

-المفروض أعمل ايه علشان شكلي يعجبك 

تقدم منه "جلال" وأمسك به من تلابيب عباءته بعدما ازعجته نبرة حديثه:

-أنت بتتكلم كده ليه ياض أنت ما تتعدل ولا مش عايز تخرج من هنا حي

أمره "جبل" بهدوء:

-سيبه يا جلال 

تقدم منه والده وربت على يده يقول بخوف وتوتر وهو يحاول تبرير ما يفعله ابنه أمام كبير الجزيرة:

-الحق علينا يا جبل بيه سماح ابني دمه حامي ومقهور من اللي عملته أخته

تهكم عليه وهو يردف بسخرية:

-لأ ماهو واضح

سأل والدها ينظر إليه بجدية وحزم:

-أنت جاي علشان تاخد بنتك وتروح تقتلها هي وجوزها ولا جاي علشان هتسمع الحكم اللي هقوله وهتنفذه 

أردف شقيقها بدلًا عن والدها بتسرع:

-جايين ناخدها 

أخرج "جبل" يده اليمنى من جيب بنطاله وتقدم منه بعد أن استفزه ذلك الطائش ولكنه لا يريد أذيته، تقدم منه واضعًا يده على عنقه يشتد عليها قائلًا بغضب:

-الله وكيل مرة كمان وهتخرج من هنا عاجز 

تحدث والده سريعًا بذعر:

-جايين نسمع حكمك يا جبل بيه واللي أنت عايزة هنعمله 

أبتعد عنه ونظر إليه بعصبية وغضب، يُعكر صفوه وهو لا يريد أن يفعل به شيء يبدو أنه متهور ولا يفكر في الأمور قبل فعلها أو الأقدام عليها..

دلف بهم إلى داخل القصر بعد أن أخذ السلاح من شقيقها، تقدم معهم إلى الداخل ليصل إلى مكتبه المتواجد به زوجته والفتاة "يسرية" قبل أن يجعل أحد منهم يولج إلى الداخل وقف أمامهم قائلًا والباب مفتوح وهي تطل عليهم منه:

-أنا كلمتي بتطلع مرة واحدة بس، أي خطوة غلط من حد فيكم الله وكيل هعجزه 

نظر إلى "زينة" بعد أن دلف بهم كي تذهب إلى الخارج ولكن الحقيقة هي أرادت أن ترى كيف سيعالج هذا الأمر وكيف سيساعد الفتاة وينفذ والدها وشقيقها رغباته دون مجهود منه.. أقتربت منها وتحججت بها قائلة:

-خليني معاها 

لم يجيب عليها لأنه علم ما الذي تفكر به ويعلم أن فضولها هو من يسحبها خلفه دون إرادة منها فأعطى لها الفرصة وتركها لترى ما تريد 

أشار إليهم بالجلوس على الأريكة المقابلة لمكتبة وذهب هو الآخر ليجلس كما كان ناظرًا إليهم بكبر وعنجهية ثم قال متسائلًا:

-انتوا رفضتوا الشاب اللي أتقدم لبنتكم كام مرة لسبب مش منطقي 

أجابه شقيقها قائلًا بجدية:

-منطقي بالنسبة لينا 

أومأ إليه برأسه ثم سأله:

-علشان معندوش أرض؟

أومأ إليه الآخر وأجابه بتأكيد:

-أيوة

سألهم "جبل" مرة أخرى بخبث متواري خلف كلماته البسيطة التي تدل على أنه يريد معرفة أن كان هذا هو السبب فقط:

-في أي حاجه تانية تعيبه

تحدث والدها بجدية يقول الصدق:

-الشهادة لله لأ يا جبل بيه

ابتسم بهدوء وأبعد نظره إلى ذلك المتهور الفظ وسأله بجدية:

-أنت متجوز؟

أومأ برأسه يمينًا ويسارًا وقال:

-لأ لسه 

أعاد "جبل" السؤال مرة أخرى:

-خاطب

نفى مرة أخرى وقال بهدوء ينظر إليه ولا يدري ما السبب خلف أسئلته الذي لا علاقة لها بالأمر:

-لأ بردو لسه هخطب 

كرر أسئلته واستمر تحت أنظار الجميع وهو واثق من حديثه ويعلم ما الذي سيصل إليه في النهاية:

-عندك أرض

حرك رأسه يمينًا ويسارًا نافيًا:

-لأ معنديش 

نظرت إليه "زينة" بذهول يا لك من ماكر خبيث لا أحد يستطيع التغلب عليك، ذئب تأكل من أمامك وماكر كثعلب يغلب بالحيلة..

استمعت إليه وهو يُجيبه بسخرية يعود إلى ظهر المقعد يستند عليه بعنجهية بعد أن أوقعه بالفخ:

-يبقى مش هتتجوز بقى 

أجابه الآخر بضيق:

-ليه إن شاء الله ناقص ايد ولا رجل ولا يمكن ناقص حاجه تانية 

أشار إليه بيده بعدما نظر إليه بعمق وأتى فوق رأسه بخيبات لم يفكر بها، يقول بقسوة ضارية مُهينًا إياه في نهاية حديثه:

-ناقص أرض... لما تروح تتقدم لواحدة من الجزيرة وترفضك علشان أنت معندكش أرض ملك يبقى ده سبب منطقي ومن حق أي حد يرفضك ما أنت ناقص

وجده صمت هو ووالده، ينظر إليه بعمق ونظرات الكره حلت على وجهه لأنه تغلب عليه بالحديث فقط إلى الآن فتابع "جبل" بحديث عقلاني:

-الجواز بيتم بناءً على أسباب كتير منها، القبول والرضا بين الاتنين، الحب لو موجود، قبولك للي متقدم على أساس هو محترم ولا لأ شغال ويعرف يصرف على بيت ولا لأ وأسباب زي كده مش علشان معندوش أرض ملك 

نظرت إليه باستغراب مرة أخرى، الآن يقول الزواج يتم بالتراضي! بالحب ولأسباب أخرى لما إذًا هي فقط من تزوجت عنوة وقهرًا وكرهًا له وبه!..

استمعت إلى قسوته في الحديث وهو يتقدم منهم مرة أخرى يضع يده على المكتب يوجه عينيه الذي حولها لعيون مرعبة قائلًا:

-كلنا عارفين أن حتى اللي عنده أرض ملك في الجزيرة فهو وأرضه وماله وعياله ملك ليا... يعني الكل على الجزيرة معندوش حاجه 

يالا تلك القسوة والثقة! يالا هذا الجبروت الذي يخرج من مجرد نظرة عين منك أيها الجبل 

أومأ إليه الرجل بخوف وفزع بعدما تحدث "جبل" بهذا الحديث:

-أيوه يا جبل بيه أيوه

وقف على قدميه وأصدر حكمه الذي خرج كفرمان واجب التنفيذ دون النقاش بأي حرف به:

-بنتك هتتجوز.. بس المرة دي جواز على سنة الله ورسوله في حضورك وحضور أخوها وحضور الجزيرة كلها وفرحها ولو حاجه ناقصة في جهازها عندي أنا

وقفت الفتاة بعد وقوفه عن المقعد احترامًا له وهما أيضًا فعلوا مثلها ولم تستطع كبح دموعها في الخروج من عينيها.. فهي لم تخطئ عندما قصدت "جبل العامري"

تقدم منهم يضع يده في جيبه ونظر إلى شقيقها وخرجت الكلمات من فمه بتهديد واضح وصريح لهم:

-هتخرج من هنا معاكم.. الله وكيل ما حد يمس شعره منها أو من جوزها لاسفره مع اللي سافروا 

أومأ إليه الرجل وهو يرتجف خوفًا على ابنه إن أخطأ فلن يتحمل أحد منهم عقابه:

-كلامك هيتنفذ يا جبل بيه.. هيتنفذ 

ابتسم بزاوية فمه قائلًا بثقة:

-أنا عارف أنه هيتنفذ 

خرج معهم من المكتب بعد أن أخذوا الفتاة إلى الخارج ليذهبوا بها ويتم تنفيذ ما أمر به ويالا السعادة التي كانت تخرج من قصر العامري..

وقف شقيقها أمام "جلال" يطالب بسلاحه:

-السلاح 

وقف جبل أمام بوابة القصر الداخلية وصاح بصوت عالٍ كي يستمع إليه لأنه كان عند البوابة الخارجية:

-جلال.. متدلوش حاجه، السلاح مش أي حد يشيله لما تبقى تعرف تشيله إزاي الأول ابقى تعالى خده 

نظر إليه الشاب ببغض وغضب شديد يشعر به تجاهه فوالله لو تركوه عليه لمحى اسم "جبل العامري" من الوجود 

جذبه والده وهو يخرج به وبابنته بسرعة شديدة قبل أن يتحدث ويخطأ في الحديث فهو لا يريد سلاح فليس هناك أكثر منهم على الجزيرة..

دلف إلى الداخل، وقف في ردهة القصر أمام الدرج وخرجت هي من المكتب وقفت أمامه ابتسمت بسخرية وهي تقترب منه ثم قالت:

-خبيث ومكار 

غمزها بعينيه متهكمًا:

-وأعجبك 

هبطت "وعد" من على الدرج سريعًا وهي تهتف بإسمه فتح لها ذراعيه مُبتسمًا مُنتظرًا إياها تتقدم إليها، حملها على ذراعه يقبل وجنتها بحب وسعادة..

هناك من يقف على بوابة القصر، خرجت "ذكية" من الداخل وفتحت البوابة لتطل من خلفها فتاة في العشرينات، وقفت أمام البوابة ببنطال من الجينز الضيق وقميص بنصف كم تتطاير خصلاتها البنية على جانبيها.. جوارها حقيبة سفر كبيرة وبيدها غيرها..

استدار "جبل" الذي يحمل "وعد" على ذراعه ينظر ليرى من أتى من حراسه لكن قلبه خفق بقوة فجأة عندما رآها تقف أمامه..

ثبتت نظرات عينيه عليها، ترك "وعد" تهبط من على ذراعه دون حديث لتقف جوار والدتها وأعتدل هو في وقفته مرة أخرى ينظر إليها بعينه الخضراء..

ابتلع غصة مريرة وقفت بحلقة كما وقفت الذكريات بعقله الآن تسير بشريط سريع وكأنه على حافة الموت..

دقات قلبه المتعالية ونظرات عينيه نحوها، جسده الذي بقيٰ متشنجًا بعد رؤيتها وملامحه التي تغيرت مئة وثمانون درجة جعلو زوجته تنظر إليها هي الأخرى باستغراب.. فلم يأتي عليها الوقت الذي تراه يقف به هكذا مسلوب الإرادة غير قادر على التحرك فقط ينظر وعيناه لا تحرك اهدابها..

تقدمت هي إلى الداخل وتركت الحقائب في الخارج، دلفت القصر وهي تنظر إليه بقوة كما يفعل، حنين داخل قلبيهما يحرك عينيهما على بعضهم البعض.. لهفة ولوعة حارقة لكل منهما.. إحداهما خائن والآخر مطعون بسكين الحب في قلبه!..

تحركت شفتيه ببطء وصوته خافت للغاية تسيطر عليه كثير من المشاعر التي لم يستطع تحديدها، ندم وقهر، لهفة واشتياق، خذلان وحزن:

-تمارا

ما أن تفوه باسمها حتى تركت "وعد" والدتها وتقدمت منه لأنها شعرت بالضجر لأجل أنه تركها وهي كانت تريده، تمسكت ببنطاله قائلة بقوة:

-بـابـا

هذه الكلمة انتشلت الجميع من الحالة الذي هم بها، نظرت إليها "تمارا" بذهول واستغراب وحزن شديد ونيران اشتعلت داخل قلبها في لحظة واحدة بعدما كانت شعرت أن القادم سيكون أفضل..

وهو نظر إليها بقوة وكأنها تخرجه من الحالة الذي بها تنبهه بوجودهم معه هنا هي ووالدتها..

بينما تلك المسكينة التي كانت تقف لا تفهم ما يدور حولها نظرت إلى ابنتها مشفقة عليها، فيبدو أنها قريبًا ستفقد الأب الآخر الذي اكتسبته في فترة صغيرة..

نظرات من ثلاث أعين تنبع محتواها من داخل قلبهم، وكل نظرة تخرج من قلب تعبر عما به، إن كان اشتياق، أو حرقة، أو ندم..

تعليقات