رواية سجينة جبل العامري الفصل الاول1الثاني2 بقلم ندا حسن
"لم تكن تعلم أن لحظة ولوجها إلى جزيرة العامري ستكون نفس اللحظة الذي سجل بها التاريخ أنها سجينة جبل العامري"
تطاولت الأيام عليها، قللت منها ونالت من طموحها، رحل من كان لها الأمن والأمان، السكن والسكينة، حاولت الصمود فوجدت الهزيمة عنوانها، لا مفر من الوحدة والاحتياج، في بلد غريب عنها وعن أهلها..
وجدت العودة هي الحل الأنسب لأخذ ما بقيٰ لها منه، لتستطيع الصمود أمام كل محاولة اغتيال، لتقف في مواجهة كل عاصفة تنحدر نحوها ونحو ابنتها وشقيقتها فليس هناك حل آخر سوى العودة إلى المجهول، والإقتراب من وحش حذرها كثيرًا ألا تقترب منه.. ولكن لا مفر.
يا الله، لقت عانت كثيرًا كي تصل إلى هنا، أتت إلى هذا المكان مرة واحدة سابقًا مع زوجها "يونس" رحمة الله عليه، مرة واحدة فقط مُنذ الكثير ربما منذ سبعة أو ثمانية سنوات، هبطت من الطائرة القادمة بهم من مطار دبي في الإمارات العربية المتحدة إلى مطار القاهرة في جمهورية مصر العربية، وفي نفس المكان أخذتهم طائرة خاصة بشقيقه لتقوم بتوصيلهم إلى مكان معيشتهم تلك الجزيرة الغريبة كليًا عليها.. ولكن الآن هي لا تملك أي وسيلة إتصال به ليفعل ذلك ولا تستطيع الوصول إلى الجزيرة بتلك السهولة، ليس هناك أي وسيلة مواصلات أو طريق للوصول إليها إلا الطريق البحري.. "جزيرة العامري" أهناك أحد يعرفها من الأساس أو توجد على خريطة الجمهورية!..
الكثير والكثير من الوقت والمجهود المُفرط في محاولة للوصول إلى هناك..
قد أتت من دبي منذ يومان بالضبط في محاولة منها للوصول إلى أهل زوجها "يونس"، ولكن بائت كل محاولتها بالفشل لأنها في تلك المرة الوحيدة التي ذهبت فيها إلى هناك لم تهبط في أي محافظة سوى القاهرة كالآن ولم تجهد في محاولة الوصول مع زوجها بل كان الطريق أسهل مما يكون عليها من طائرة إلى أخرى خاصة والأولى كانت في الدرجة الأولى على متن الطائرة كأكبر رجال الأعمال والأغنياء بينما الآن الفارق كبير للغاية..
لا يوجد مال تمتلكه لتكون في الدرجة الأولى بل هي حصلت على مال السفر بالدين، واعدة مالكه بأنها سترده إليه في أقرب فرصة..
بقيت اليومان في فندق هي وشقيقتها الصغيرة وابنتها، بينما تحاول وتحاول الوصول إلى أن تذكرت صديق قديم لزوجها يعرف الطريق جيدًا، فعبثت كثيرًا إلى أن وصلت لهاتفه، وقد دلها على الطريق الذي اكتشفت أنه مُرهق للغاية ومُتعب ويستغرق الكثير من الوقت والمال.. ولكن على أي حال عليها التكملة..
الآن تقف على أول الخيط.. وصلت إلى الجزيرة بعد معاناة لا مثيل لها، رحلة بالقارب لم تقل عن ثلاث ساعات! كل هذا لتكون هنا؟ في هذا المكان النائي، الذي لا يعلم أحد بوجودة من الأساس! كل هذا لتكون هنا على هذه الأرض الرملية الغريبة عليها كليًا..
تقدمت للأمام بخطوات بطيئة وبيدها ابنتها الصغيرة واليد الأخرى بها حقيبة سفر كبيرة وشقيقتها جوارها هي الأخرى كالمثل معها حقيبة سفر مثلها، بينما الطفلة تحمل حقيبة فوق ظهرها..
تقدمت خطوة والأخرى وعينيها تجوب المكان من كل إتجاه، ليس هناك اتجاهات من الأساس سوى النيل! أيعقل أن يكون هناك بلدة يعيش على أرضها كثير من البشر وليس هناك طريقة للوصول إليها سوى النيل! أيعقل ذلك؟
أبتعدت بعينيها إلى مجموعة من الرجال تتهاتف أصواتهم العالية ويبدو أن هناك شجار بينهم، يقف جوارهم اثنين من الرجال كل منهما يحمل سلاح على كتفه..
سارت بمساعدة أحد الأشخاص ليصل بها إلى قصر العامري الكبير، في جزيرة العامري، لقد كان الجو حار للغاية والشمس ساطعة خصوصًا هنا في هذه المنطقة أكثر من البلدة بأكملها، وكانت غبية في اختيار ملابسها ترتدي بنطال أسود فضفاض وقميص أسود مثله يجعلها تشعر بالحرارة أكثر وأكثر.. الجميع من نساء ورجال ينظرون إليها بغرابة، تطلق العنان لخصلاتها السوداء الطويلة تنطلق على ظهرها كشقيقتها.. وكل النساء هنا يضعن على رؤوسهن وشاح منهن من تغطي رأسها بالكامل ومنهن من تغطي نصفه..
يرتدين عباءة فضفاضة سوداء، من في طريقها ومن في الشرف داخل البيوت الصغيرة يرتدين عباءة بيتية بألوان زاهية غريبة، والرجال جلباب بألوان مختلفة باهتة كالأسود والرصاصي..
أخرجت زفير حاد من فمها دليل على ذلك الشعور السيء الذي لازمها هذه الفترة، نظرت إلى السماء ذو الشمس الساطعة.. يا الله
بعد سير يقارب العشرون دقيقة وأكثر، وقفت أمام قصر العامري، أمام سور العامري الضخم، الأرض الخضراء، وقفت أمام بوابة المرور إلى عائلة العامري، المالكة الأكبر والأعظم لهذه الجزيرة..
تنفست الصعداء وارتسمت الابتسامة على شفتيها بعد أن مرت بإحباط دام كثيرًا، تركت الحقيبة على الأرضية وافلتت يد ابنتها الصغيرة واستدارت تنظر إلى الخلف، تتذكر ذلك المكان جيدًا..
نظرت بعينيها السوداء لترى كل شيء كما هو، مساحة كبيرة أمام قصر العامري في الخارج ومن بعدها هناك ترعة كبيرة للغاية في الطول والعرض لقد سارت على خطها إلى أن وصلت إلى هنا.. وعلى الضفة الأخرى يوجد ذلك الجبل المسمى بـ جبل العامري ككل شيء في الجزيرة..
ذلك الجبل الذي حذرها زوجها "يونس" في السابق الإقتراب منه، حاولت مرارًا أن تذهب إلى هناك وتستكشف المنطقة ولكنه رفض رفضًا قاطعًا وأبعدها عنه تمامًا وإلى اليوم بقي فضولها داخلها للتعرف على المنطقة وذلك الجبل الغامض بالنسبة إليها..
تركها من أوصلها إلى هنا ورحل فوقفت أمام هذه البوابة الضخمة المغلقة، خرج من الداخل أحد الحراس الذي شعر بأن هناك أحد في الخارج بسبب رؤيته لهم من تلك الفتحات الموجودة في البوابة بشكل مزخرف..
فتح البوابة ونظر إليهم فرفعت عينيها السوداء عليه وهتفت بصوتٍ مُرهق للغاية ومتعب إلى أقصى درجة:
-قصر العامري! أنا مرات يونس العامري الله يرحمه
فتح لها الطريق ومن معها وأشار لغيره من الحرس أن يأخذوا الحقائب منهم ففعلوا، تقدمت للداخل ومعها ابنتها وشقيقتها، نظرت في الأنحاء وكم بدى التغير واضح.. لم تكن أيام بل هي سنوات مرت على رحيلها من هنا.. مؤكد سيكون هناك تغير وبالأخص في الحرس الكثير والمبالغ بهم..
القصر حوله زراعة خضراء أشجار فاكهه وغيرها ومساحة شاسعة للحديقة في الخارج تليق بهم على عكس الأرض الرملية في الخارج على عامه الشعب في هذه الجزيرة.. تهكمت وهي تلوي شفتيها وتحدث ذاتها فأنهم هنا في دولة منفصلة عن الدولة الأصلية هنا عامة الشعب على الجزيرة والحكام داخل هذا القصر الضخم.. الذي مؤكد سيكون داخله تكييف على عكسهم وعلى عكس ما رأته سابقًا..
لما كل هذا الحرس؟ أليس مُبالغة! أنهم هنا بعيدون تمامًا عن البشر الحقيقيون من سيكون عدو لهم ليتواجد كل هذا الكم من الحرس.. أنها ترى نفسها تدلف إلى فيلا زعيم عصابات وليس قصر عائلة زوجها..
وقفت أمام البوابة الداخلية الضخمة للغاية ولا تقل عن الأولى في الخارج وقام أحد الحرس الذين يحملون حقائهم بدفع الباب بعد أن فتحت الخادمة لهم..
تقدمت للداخل ووقفت تنظر إلى الخادمة التي تتذكرها جيدًا ولكن اسمها قد رحل تمامًا عن ذاكرتها، حاولت جمع شتات تفكيرها ثم هتفت بعد عذاب:
-ذكية! ذكية مش كده
نظرت إليها الخادمة وتقدمت منها بلهفة مُبتسمة تردد اسمها بتحيُر غير مُصدقة أنها هنا:
-ست زينة.. زينة هانم
قدمت الأخرى يدها إليها وابتسمت شاعرة أن الحياة ستبدأ معها من جديد بالسعادة التي افتقدتها:
-ازيك عامله ايه
سلمت الأخرى عليها بحفاوة وسعادة وأجابتها:
-الحمدلله يا ست زينة.. الحمدلله يا هانم
أشارت "زينة" إلى ابنتها الصغيرة ومن بعدها شقيقتها:
-دي وعد بنتي.. بنت يونس الله يرحمه ودي إسراء أختي
اقتربت من الفتاة الصغيرة، صاحبة العيون العسلية والوجه الملائكي البريء، ذات الخصلات السوداء الطويلة كوالدتها بالضبط وأردفت بحب وحنان:
-بسم الله الله أكبر قمر.. ازيك يا وعد هانم
اردفت الطفلة بهدوء ورقة لا يخلو منها الإرهاق:
-الحمدلله
اتسعت ابتسامتها بعد سماع صوت تلك الرقيقة وأشارت لهم بالدخول إلى القصر:
-اتفضلوا.. معلش يا ست هانم فرحتي بيكم نستني ادخلكم
تساءلت "إسراء" عن الحقائب:
-هما الشنط ودوها فين
أجابتها "ذكية" وهي تُسير بهم إلى الداخل:
-الحرس دخلوهم اوضة الضيوف يا هانم
مرة أخرى تساءلت "إسراء":
-هو ليه كل الحرس دول
حمحمت الأخرى بحدة وسارت بهم وهتفت مُبتعدة عن هذا السؤال:
-اتفضلوا من هنا.. الست الكبيرة هتتبسط أوي يا هانم
استغربت كل منهن أنها تغاضت عن السؤال وكأنها لم تستمع إليه من الأساس ولكن فعلوا مثلها وساروا معها للولوج إلى السيدة "وجيدة عمران" والدة "يونس" زوجها وجدة ابنتها..
وقفت على أعتاب الغرفة بعد أن استأذنت "ذكية" منها لتقوم بالدخول نظرت إلى الداخل بعينين تتفقد المكان ومن به، وجدت والدته، شقيقه الأكبر وشقيقته الصغيرة.. عائلة العامري
دق قلبها بسبب هذا اللقاء الغير مرتب له، الذي تواجهه وحدها، وتنتظر الرد منهم عليه بكل قلق وخوف، لم تكن يومًا قريبه منهم.. بل كانت بعيدة كل البعد عن الجميع هنا..
قلق وخوف البداية أنساها سعادة الوصول..
وقفت "وجيدة" على قدميها تنظر إليها بتلك العينان السوداء الحادة، لقد تفاجأت كثيرًا من رؤيتها تقف أمامها الآن دون سابق إنذار، دون أي شيء.. زوجة ابنها الراحل هنا ومعها ابنتها هذه!!.
تقدمت منها بخطوات ثابتة دون أي تعابير على وجهها فشعرت الأخرى بالتوتر أكثر من السابق ولكنها في لحظة تغيرت بالكامل وابتسمت باتساع تجذبها نحوها لتقوم باحتضانها
تهتف بسعادة والفرحة ظاهرة في صوتها وعلى ملامحها:
-زينة.. مرات الغالي، وحشاني وحشاني يا زينة
تنفست بعمق وارتياح ومكث قلبها داخل أضلعها تلف ذراعيها حولها تبادلها ذلك العناق تهتف بابتسامة:
-وأنتي كمان يا طنط وحشاني والله أوي
ابتعدت عنها للخلف ونظرت إلى الصغيرة بحنين واشتياق إلى ابنها المتواجد بها، نظرتها تحمل ألم أم ذاقت فراق ابنها وهي على قيد الحياة، وقلبها اشتعل بفتيل من الحرقة والاشتياق..
انخفضت نحوها وقامت باحتضانها بقوة شديدة، فقد فقدت الشعور به منذ الكثير ولكن الآن أتت إليها الفرصة لتعوض ذلك.. ولن تتركها أبدًا..
ابتسمت بفرحة عارمة والطفلة داخل أحضانها وعينيها تشوبها الدموع الغير مُصدقة والعائدة للخلف متذكرة الماضي الأليم:
-وعد! يا روح ستك بقيتي عروسة وجميلة يا ما شاء الله ايه الحلاوة دي
رفعت رأسها تنظر إلى والدتها التي تقف جوارها لا تستطيع تفسير ما يحدث معها الآن محاولة فهم الأمر من والدتها والذي كان جديد عليها كليًا فـ اومات لها الأخرى برأسها وتحدثت:
-دي تيته وجيدة يا وعد.. مامت بباكي يونس
نظرت إليها الفتاة الصغيرة ثانيةً وأردفت باحترام ورقة:
-ازيك يا تيته
ابتسمت الأخرى وخرجت الدموع من عينيها وهي لا تصدق ذلك، لقد تمنت كثيرًا أن تكون طفلة ابنها هنا بين عائلتها وتعوضهم عن فقدانه.. الآن الأمر يتحقق
-يا روح تيته أنتي
كل هذا وأكثر كان تحت أنظاره "جبل العامري" المسمى على اسم الجبل الموجود في الجزيرة بعد أن نال اسم العامري من العائلة، ينظر إليها بعينان حادة، ثابتة عليها هي فقط يحاول فهم تعابير وجهها، وجهها!.. هذا الوجه الذي يأخذ الشكل الطولي، حاجبيها المعقودان لونهما أسود كـ لون عينيها السوداء الحالكة وأهدابها الكثيفة التي يحيطها كحل أسود يجعل جمالها الباهت رائع، أنفها ذو الأرنبة المستديرة وشفتيها الوردية مُكتنزة كل هذا على بشرة بيضاء جذابة وخصلات سوداء للغاية كمعظم ملامحها تغطي ظهرها.. أيضّا ملابسها سوداء! أهي في حالة حداد على أحدهم! حفر وجهها داخله.
رفعت عينيها عليه، وجدته يجلس ولم يرف له جفن، ينظر إليها بغموض وغلظة يتابع كل حركة تصدر عنها، ابتلعت ما وقف بحلقها وذكرت نفسها بتحذيرات زوجها "يونس" بألا تقترب منه إلى الحد الأعمق.. يكفي السلام والسؤال من أبعد خط قد تصل إليه معه، وأبعد محطة قد تتقابل معه بها.. جمعت شتات نفسها وخرج صوتها وهي توجه الحديث إليه بجدية تامة:
-ازيك يا جبل بيه
لحظات! والأخرى وعينيه عليها تحقق تحاول الوصول إلى الأعمق بعد ملابسها وداخلها، ثم أجابها وأخرج صوته الخشن:
-كويس يا مدام زينة
لم تستطع أبعاد عينها عنه، لقد كان مُروع للغاية وهي التي لم تخاف من شيء قبل، نظرة عينيه الخضراء ترسل إليها إنذار من كل إتجاه لتحافظ على حياتها..
وقف على قدميه وسار ناحيتهم لتفوح رائحته عليها، وترى وجهه الغريب، حاجبيه الكثيفان ذو اللون الأسود وكأنها توحي بالكره لا تدري لماذا هذا التعبير خصيصًا أتى على خلدها، عينيه الخضراء ذو النظرات المُهيبة الواثقة، أنفه الحاد الشامخ وشفتيه واحدة رفيعة والأخرى غليظة.. ملامحه جميعها تجعلها تشعر بالتوتر والقلق..
أقترب إلى الفتاة الصغيرة، هبط على ركبته اليمنى واستند بالآخرى، نظر إلى وجهها الملائكي ذو الرقة الخالصة المعهودة لدى الأطفال وهتف بصوت حاول قدر الإمكان أن يجعله حنون وهادئ:
-أنا عمك جبل.. أخو يونس
ابتسمت إليه قائلة:
-ازيك يا عمو جبل
أومأ إليها برأسه بجدية وقال ناظرًا إلى عينيها العسلية الرائعة كعيون والدها رحمة الله عليه:
-كويس.. أنتي عامله ايه
تنهدت بارهاق وتعب ثم هتفت قائلة:
-الحمدلله كويسه
أقتربت منها "وجيدة" ولم تترك فرصة الرد إلى "جبل" بل جذبت الطفلة صاحبة السبعة أعوام إليها ودلفت بها إلى داخل الغرفة تجلسها على الأريكة وهتفت بصوت مُرتفع بفرحة:
-وهتبقي كويسه على طول يا روح تيته طول ما أنتي هنا
وقف مُعتدلّا بعد أن أخذت والدته الطفلة فبقيٰ أمام وجهها، تبادل معاها النظرات وكل عين تحكي شيء مُختلف تمامًا عن الأخرى، ثم استدار برأسه قليلًا ونظر إلى شقيقتها فتاة صغيرة تبدو أقل من العشرون عام، بخصلات ذهبية وعيون زرقاء وشفاه تلطخها الحمرة وهي بالفعل جميلة لا تحتاج إلى ذلك..
صاح بصوته المعهود، الحاد الذي يحمل خشونه لا توصف:
-مين دي!
تمسكت شقيقتها "إسراء" بيدها بقوة، دق قلبها للحظة من تلك النظرة التي أخذتها من عينيه، لم يتزحزح عنها وانتظر أن يستمع إلى الإجابة..
ردت بتوتر لا إرادي تشعر به بسبب حركاته الصادرة عنه ووجوده ككل من الأساس وتمسكت بيد شقيقتها لتشعرها بالأمان:
-دي إسراء أختي
أبتعد بعينيه إليها وسألها بقوة وثبات واضح وهو يضع يده الاثنين داخل جيوب بنطاله:
-من امتى عندك أخوات
أردفت تُجيب على سؤاله الغليظ توضح له أكثر بما أنه لا يعلم بها:
-إسراء تبقى أختي من بابا.. كانت عايشة في تركيا مع مامتها وبقالها فترة كبيرة عايشة معايا
أعتدلت "فرح" شقيقته تنظر إليها من الأسفل إلى الأعلى، تنظر إلى الاثنين وكأنها تقول قصر الرعب بانتظار الآخرين من المهرجين..
صدح صوته الصارخ في أذنهم فجأة وهو ينادي بإسم "ذكية" التي حضرت ما أن نطق آخر حرف بإسمها
قالت وهي تتقدم سريعًا باحترام ولهفة:
-تحت أمرك يا جبل بيه
أشار إليها بيده المُحررة من جيب بنطاله:
-وريهم اوضهم يرتاحوا
أخفض عيناه إلى "زينة" وتحركت شفتيه بكلمات لم تفهم لها معنى وما الذي يريده منها:
-هشوفك ونتكلم بعد ما ترتاحي
ردت تتابع عيناه هي الأخرى باستغراب:
-في حاجه؟ نتكلم في ايه؟
خرج من الغرفة وهو يقول بثقة وعنجهية:
-هتعرفي وقتها
تقدمت منها الطفلة بعد أن حثتها "وجيدة" على الذهاب مع والدتها لكي تنعم بالراحة هى الأخرى فيبدو عليها الإرهاق الشديد.. تحركت إلى الخارج بعد أن قالت بهدوء:
-عن اذنك يا طنط
أومأت إليها بابتسامة لا مثيل لها وكأنها حصلت على كنز غالي كان يصعب الحصول عليه أو يستحيل:
-اتفضلي يا زينة
خرجت مع "ذكية" التي سارت بهم إلى الأعلى، لتعرف كل واحده منهم على غرفتها ولكن "زينة" وقفت في الردهة أمام الغرف وقالت..
-ذكية إحنا عايزين اوضه واحدة.. يكون فيها سريرين
أومأت إليها وهي تشير إلى الناحية الأخرى:
-حاضر يا ست هانم.. تعالي من هنا
سارت خلفها إلى أن وصلت إلى الغرفة التي تريدها لتكن مع ابنتها وشقيقتها فلا تريد ترك كل واحدة في غرفة أخرى بعيد عن عينيها، دلفت معهم إلى الداخل واستمعت إلى صوت الخادمة تقول:
-الشنط هتطلع حالًا يا ست هانم
حركت رأسها إليها فذهبت الأخرى وأغلقت الباب من خلفها، صعدت الصغيرة "وعد" على أحد الفراشين بعد أن ألقت حقيبة ظهرها على الأرضية وارتمت عليه بتعب شديد لأنها تحتاج كثيرًا إلى النوم..
جلست "إسراء" جوارها ونظرت إلى شقيقتها وتحدثت بقلق وخوف لا تريد كبته داخلها:
-زينة.. أنا خايفة من المكان ده والناس اللي فيه
لقد كانت هي الأخرى خائفة للغاية ليس من عاداتها، أنها المرأة التي تحملت كل الصعاب، لكن كثير من المؤشرات لا تقول أن القادم خير خصوصًا منه هو ولكنها نفت ذلك حتى لا تشعر الأخرى بالرهبة مُنذ اليوم الأول:
-خايفة من ايه بس الناس استقبلونا كويس وبعدين دول أهل يونس يعني وأنتي عرفاه كويس مش هنلاقي حد زيهم
تابعت وهي تنظر إليها باستغراب:
-بس اللي اسمه جبل ده غريب أوي.. والحرس دول كلهم ليه وهو ايه المكان اللي عايشين فيه ده طالما غنين كده والناس اللي بره دول عاملين كده ليه
جلست على الفراش الآخر مقابلة لها ثم ابتسمت كاذبة وهي تهتف:
-أنتي متعبتيش من الطريق؟ ارتاحي وبعدين نتكلم
ثم صعدت على الفراش تريح ظهرها عليه، وما أن فعلت ذلك تنفست بعمق وكأنها حصلت على الراحة في بداية طريق المشقة..
والحقيقة المُرة هي أن قلبها لا يهدأ عن العبث بها وذلك لا يحدث إلا في الحالات النادرة كالتي يحدث بها الكوارث.. على أي حال ليس هناك أي حل آخر كان على طريقها ولم تفعله.. هذا كان أولهم وآخرهم وأفضلهم بالنسبة إلى المواجهة مع الفقر..
عليها أن تهدأ فقط قليلًا والقادم كله سيأتي إلى عِندها سواء فكرت به أم لم تفكر..
نظرت إلى سقف الغرفة وتنهدت بقوة، يا الله، ساعدني في الوصول إلى مبتغاي دون الشعور بالقهر مرة أخرى، ودون الشعور بالذل والكسرة، دون الشعور بالفقد والفراق وحرقة الاشتياق ولوعته..
❈-❈-❈
بعد بضع ساعات نالت بهم بعض من الراحة بعد رحلة شاقة طويلة كهذه وحرب ضارية بينها وبين نفسها المعارضة إياها دائمّا، استيقظت من نوم كان عميق دلفت به دون تعب، بدلت ملابسها إلى أخرى غير تلك التي أصبحت مليئة برائحة الإرهاق وبدى عليها أنها مُتسخة.. بملابس أخرى مثلها مُحتشمة مُكونه من بنطال أسود وتيشرت رصاصي اللون ولأن أهل البيت كلهم محتشمون وملابسهم غير ملابسها هي وشقيقتها حاولت أن تكون مثلهم ولا تظهر شيء منها بالأخص في وجود ذلك الجبل الصلب الذي وقف أمامها شامخًا..
هبطت للاسفل بوجهًا مُتجمد وأثناء هبوطها الدرج قابلتها "ذكية" التي تحدثت قائلة بعد أن أبصرتها:
-كنت طالعة ليكي يا ست هانم.. جبل بيه مستنيكي في الصالون
دققت النظر بها ورأسها به ألف وألف سؤال عن ما الذي يريده منها! أومأت إليها وهبطت بهدوء مُتجهة إليه:
ولجت إلى الغرفة وهو جالس كما رأته أول مرة، تقدمت وعينيها لا تستطيع الإبتعاد عن خاصتيه المُخيفة الثابتة، وكأنه يجبرها على النظر إليه لتعرف إلى أين أتت..
جلست أمامه ثم خرج صوتها الذي رفعته ليظهر واضح وواثق:
-نعم يا جبل بيه
تقدم للأمام في جلسته، اتكأ بيده الاثنين على قدميه ورفع عينيه إليها بجمود وحدة، يرسل إليها عبارات لا تتفهم أي منها، تحاول جاهدة لكنه لا يساعدها..
قال بصوت حاد جامد خرج بخشونة من فمه:
-وصلتي الجزيرة إزاي
أجابته ببساطة وهي تشير بيدها بعفوية:
-بصراحة الوصول كان صعب أوي يعني مش هكدب عليك.. المرة اللي جيت فيها هنا كانت بالطيارة
تثير شكوكه، كيف لواحدة كهذه تستطيع الوصول إلى جزيرته بكل هذه السهولة، إذّا ماذا عن البقية من أفراد الشرطة!، كرر سؤاله مرة أخرى بوضوح:
-وصلتي الجزيرة إزاي
ابتلعت ما بجوفها وهي تنظر إلى عينيه المخيفة بذلك اللون الأخضر الغريب، فقالت سريعًا:
-ده واحد صاحب يونس الله يرحمه هو اللي دلني على الطريق بعد ما كنت تعبت ومش عارفه أوصل
وكأنه يجلس في مكتب ضابط شرطة وهي المُتهمة تحت يديه، بدأ معها تحقيق ومن هنا إلى هنا يكتب سؤال وجواب:
-اسمه ايه
أردفت باستغراب جلي ما السبب وراء كل هذه الأسئلة الغريبة:
-عماد ابراهيم
أومأ إليها بعد أن علم هويته، نظر إلى الأرضية ثم مرة أخرى إليها بجمود أكثر وحدة تُرهبها أكثر من السابق، تسائل بجدية وبرود:
-جيتك هنا غريبة.. جاية ليه
هل تُجيبه الآن! تتحدث عن السبب وراء قدومها إلى هنا؟ إنه قام بسؤالها إذًا عليها الإجابة أليس كذلك!؟
ما كانت إلا تتحدث ودخلت والدته "وجيدة" والإبتسامة على وجهها بالرغم من أن ملامح وجهها حادة للغاية ومخيفة بعض الشيء، جلست وهي تقول بجدية وهدوء:
-متعرفيش أنا فرحانه قد ايه أنكم معانا هنا يا زينة
ابتسمت إليها محاولة أن تخفف من حدة توترها بسبب ذلك المُتخلف عقليًا الذي تجلس معه وأجابتها بإحترام وهدوء:
-تسلمي يا طنط
وجدت صوته الحاد يخترق أذنها كالرياح الهادفة التي تأتي بصفير حاد في الأذن يكرر عليها:
-مجاوبتيش عليا
أبعدت نظرها إليه ثم إليها مرة أخرى وعادوت فعلها، ضغطت على يدها بالآخرى وتفوهت بالكلمات بجدية:
-بصراحة أنا جاية أخد حقي أنا ووعد بنتي في يونس
وجدت الاثنان ينظرون إليها دون حديث، هو ملامحه جامدة لا تستطيع أن تفهم منها شيء وعيونه الخضراء ترعبها ربما كل هذا لأنها اقتربت منه بعض الشيء فهي ليست بهذا الجُبن، والأخرى تحولت ابتسامتها إلى بؤس وأظهرت ملامحها المخيفة لتبقى جالسة بين فردين ترهبهم..
تابعت محاولة تبرير طلبها لحقها في زوجها:
-العيشة في دبي صعبة، وعد ليها مدرسة وعندنا مصاريف وأنا عليا مسؤولية.. أنا حاولت ألاقي شغل بس مقدرتش لأني معايش شهادة تشغلني هناك.. حتى الشركة اللي كان فيها يونس مأخدناش منها حاجه.. أنا مش طمعانه غير في حقنا وبس
وجدتهم صامتين هم الاثنين بعد كل هذا الحديث الذي قالته لتأخذ حقها هي وابنتها منهم، من المفترض أن لا تتحدث من الأساس فقط تطالب بما لها.. تابعتهم باستغراب ولم تعد تعرف ما الذي من المفترض قوله بعد الآن..
هو كان داخل رأسه حساب آخر لكل ما تقوله، أيعقل هي هنا فقط لتأخذ مالها؟!
تحدثت "وجيدة" وهي تحاول أن تضبط ملامح وجهها لكي لا تثير شكوك تلك الجالسة أمامها وأردفت بكل الود والمحبة:
-طبعًا طبعًا يا زينة أنتوا ليكم حق وهتاخدوه
ابتسمت إليها وقد انزاح عن قلبها هم كبير كانت تواجهه كل ليلة بمفردها خوفًا من عدم قبول طلبها بعد الوصول إلى هنا وتعود مرة أخرى إلى الفقر والدين من الأشخاص هناك..
بينما الأخرى كان داخل رأسها شيء آخر تمامًا غير الذي هتفت به إليها، عاجلًا وغير أجلًا ستتعرف عليه وتقوم بالموافقة به.. سوى كان بالغصب أو بالرضا..
وقفت "وجيدة" ومازالت مُبتسمة أشارت إليها قائلة:
-قومي هاتي وعد وأختك علشان نتعشى.. يلا
أومأت إليها ثم وقفت على قدميها وسارت خارجة من الغرفة تحمد ربها أن الأمر تم بسلام وستأخذ مالها وتعود من حيث أتت إلى حياتها هي وابنتها.. إلى الآن لا تعلم ما الذي يخفيه القدر داخل جزيرة تسمى بجزيرة العامري.. وهي داخل هذه العائلة..
قابلت في طريقها "فرح" شقيقة زوجها فوقفت قائلة إليها بابتسامة ساخرة:
-لسه زي ما أنتي يا فرح.. أنتي حتى شوفتيني لما جيت مسلمتيش عليا
سخرت الأخرى مُبتسمة مثلها وأجابت:
-هسلم على الملكة كليوباترا يعني يا زينة
ربتت "زينة" على ذراعها فهي تبدو كما هي فتاة غريبة متكبرة وترى نفسها فوق الجميع:
-على رأيك
مرت من جانبها وتركتها تقف في الطريق تستدير لتنظر إليها وهي تصعد على الدرج بنظرة ساخرة متهكمة عليها.. ولكن الأخرى لم تبالي هي الآن في قمة سعادتها.. المؤقتة
❈-❈-❈
محاولة الوصول إلى كل شيء.. إما أن تكون فاشلة إما أن تكون ناجحة ولكن عليك توخي الحذر من العدو قد تكون تسبقه بخطوات وهو في الخلف يغير خطته
كان يجلس على مقعد مكتبه والهاتف على أذنه يستمع إلى الكلمات التي تلقى عليه والشرر يخرج من عينيه السوداء وأنفه الحاد يتسع ويضيق بسبب تنفسه الغير مُنتظم الذي ينم عن غضبه وثورانه، رجل في الثلاثين من عمره ربما تخطى المنتصف بخصلات سوداء وعيون كذلك مخيفة.. رهيبة في النظرة قاتلة.. يرتدي ملابس سوداء كمثل قلبه وعيونه الواضحة، وبمعصم يده أسوار فضي يطيح به على المكتب..
وقف "طاهر" مُعتدلًا يبتعد عن المكتب صارخًا بعنف وقوة والهاتف على أذنه يلقي الكلمات على شخص آخر:
-التعليمات دي مش عليا.. أنا مش هسيبه يحكم البلد وياكل الجو
ضرب على زجاج باب الشرفة وهو يسير بعصبية والغضب يتملكه:
-بقولك ايه أنا اللي هقف ومش هوافق على الكلام ده.. جبل العامري مش هيمسكها لوحده
أجاب بعد الاستماع للكلمات بعصبية شديدة:
-وأنا مش موافق.. أنا أحق من جبل، أنا بسحب منهم كتير بيتوزع ولا لأ ميخصش حد المهم إني بسحب
جلس وهو يحاول التحدث بهدوء وأخذه في صفه:
-جبل لولا أهل الجزيرة مكنش وصل للي هو فيه ده.. ومسيرهم يقلبوا عليه ويعرفوا الخطر اللي هو محاوطهم بيه
تنفس بعمق وأغمض عيناه يضغط على الهاتف بيده:
-يعني ده آخر كلام عندك؟
مرة أخرى أردف بنفاذ صبر وضيق شديد:
-وأنا مش موافق والبلد مش هتشيلنا إحنا الاتنين.. هتشيلني لوحدي
ثم أغلق الخط بوجهه وألقى الهاتف على الأريكة جواره، صمد قليلًا ثم ضرب الطاولة بقدمه بعصبية شديدة وقهر من "جبل العامري" وما يفعله صارخًا باسمه بعنف وصوت عالي:
-جـــبـــل
وقف على قدميه ينظر إلى الفراغ قائلّا بتوعد وكره:
-مش هسيبك يا جبل.. مش هسيبك
❈-❈-❈
"في المساء"
احتجزت "وجيدة" الفتاة الصغيرة وعد معها، منذ تناول العشاء وهي جليسة المكان الذي تكون به، لأ تريد الإبتعاد عنها نهائيًا بل بقيت تنظر إليها كما أنها لو ترى ابنها الراحل هو الذي أمامها وتنتقل خلفها من هنا إلى هنا تحاول تعويض السنوات الضائعة منها في الفراق والاشتياق القاتل لحفيدتها وابنها الذي عاد إلى موضعه قبلها وشهدت رحيلة وكسرتها به..
اردفت بسعادة وهي ترفعها على قدميها:
-تعالي هنا بقى.. أنا مش هسيبك خالص
تحدثت الصغيرة بحب وهي تنظر إليها بعيون بريئة:
-أنا حبيتك أوي يا تيته ومش عايزة اسيبك
اتسعت ابتسامة "وجيدة" وأصبحت من الأذن إلى الأخرى ورفرف قلبها فرحًا بحديث حفيدتها:
-أنا اللي بموت فيكي يا روح تيته ومش هسيبك تمشي أبدًا أبدًا
جلست على قدميها مُعتدلة ونظرت إليها وتفوهت بالكلمات من بين شفتيها بحماس:
-بجد؟
أومات الأخرى إليها سريعًا تؤكد محركة رأسها من الاعلى إلى الأسفل:
-طبعًا مش هسيبك تمشي خلاص
وضعت الصغيرة إصبعها إلى جانب فمها تفكر قائلة بطريقة طفولية:
-طب والمدرسة يا تيته
اتسعت عينيها وهي تحل مشكلتها الكبيرة قائلة بحماس وحب كبير يظهر في كل لمسة وكلمة تخرج منها إلى الطفلة:
-هنحول لمدرسة هنا في الجزيرة
سألتها "وعد" بتركيز:
-فيها pool وملعب كبير علشان الرياضة اللي بتعلمها
حركت رأسها بعدم فهم وضيقت عينيها مُتسائلة بجدية ناظرة إليها:
-يعني ايه بول ده
أجابتها بهدوء ورقة وهي تبتسم بطفولية:
-يعني حمام سباحة..
أكملت حديثها إلى جدتها وهي تشير بيدها الاثنين تشرح إليها أكثر:
-حوض كبير أوي كده يا تيته بيبقى فيه مايه كتير أوي نقدر ننزل نسبح فيه ونتعلم السباحة..
رفعت رأسها للأعلى وقالت ببساطة:
-آه زي اللي قدامنا كده.. شوفتيه
حركت رأسها نافية:
-لأ
قالت جدتها بحنان وحب:
-هبقى اوريهولك
وأكملت الجلسة معها بكثير من الحب والحنان الذي يفيضان منها إلى ابنة ولدها وفلذة كبدها الراحل، التي لن تتركها ترحل مهما حدث..
❈-❈-❈
في الخارج، سارت "إسراء" في الحديقة الخاصة بالقصر والذي كانت كبيرة للغاية إذا سار بها أحد لا يعرف معالمها يضيع داخلها إلا إذا أنقذه أحد..
ظلت سير في الحديقة وتتأمل كل شيء بها، بتلك العيون الزرقاء الرائعة وهناك نسمة باردة تأتي عليها تحرك خصلات شعرها الذهبية الحريرية لتبقى سابحة في الهواء..
عيناها تنظر إلى النجوم مرة وإلى الطبيعة المحيطة بها مرة أخرى، والهواء يأتي من النيل ورائحة المياة تفوح في المكان على الرغم من أنها تبتعد عن هنا بكثير.. ولكن ربما هي المياة التي بالخارج..
انخفضت بجسدها وهي تسير وتستكشف المكان في الظلام الدامس وبتلك الملابس السوداء، سارت إلى أن وصلت إلى خلف القصر..
انخفضت لتعبر من أسفل تلك الأسلاك الموضوعة لا تعلم أهي حماية أم لتدخل في لحم جسدهم..
وقفت وقلبها يدق بعنف وخوف كبير وداخله يقرع من الفزع الذي تعرض إليه عندما استمعت إلى صوت غريب صعق أذنها:
-اقفي عندك
استدارت تنظر إلى الشخص الذي ارعبها فوقع قلبها بين قدميها ليس فقط ارتعب، واتسعت عينيها بخوف ورعب شديد وهي ترى رجل طويل وعريض المنكبين وضخم بالنسبة لحجمها يقف في الظلام خلفها يرفع عليها سلاح!..
الفصل الثاني
وقفت ثابتة لا تحرك ساكنًا.. كل ما يتحرك بها عينيها الزرقاء المُتسعة تنظر إليه بذعر ورهبة كبيرة، احتلت معالمها وجعلت قلبها يدق أسرع وأسرع في كل ثانية تمُر عليه شاعرة أنه سوف يخرج من مكانه بسبب كثرة الطبول به..
حركت عينيها عليه دون حديث تنظر إلى وجهه الغاضب وعينيه السوداء التي تنظر نحوها بحدة وجمود لا تستطيع وصفه، ومازالت يده ترتفع نحوها مُمسكة بالسلاح مصوبه عليها أمام رأسها بالضبط..
ذلك الطول الذي كاد يبتلع جسدها ويخفي عليها الضوء وهو يقف أمامها مع نظراته وذلك السلاح غير تلك الفزعة التي أخذتها منه كل ذلك جعلها تشعر بأنها ستفقد حياتها وقلبها سيتوقف عن النبض السريع هذا..
خرج صوته بخشونة يتسائل ناظرّا إليها بعمق:
-دخلتي هنا إزاي
تحركت شفتيها بعد لحظات تُجيب على سؤاله بتردد وشفتيها ترتعش لا تستطيع إخراج الكلمات مرة واحدة:
-من.. من.. هناك البوابة
حرك يده بالسلاح وسألها مرة أخرى بنفس نبرته:
-دخلتي من البوابة إزاي وبتعملي ايه هنا
عادت خطوة للخلف بقدمها لا تعلم كيف استطاعت فعلها وأجابته برعب شديد:
-هما فتحوا البوابة ودخلت
تحرك أكثر من خطوة نحوها غير الذي ابتعدتهم يصرخ عليها بغلظة وقسوة:
-أنتي هتنقطيني بالكلام.. انطقي يابت بتعملي ايه هنا
خرجت الدموع من عينيها بكثرة لحظة صراخه عليها بصوت عال واقترابه منها بهذه الطريقة وهو يخيفها بسلاحه، قالت من بين بكائها:
-أنا هنا مع أختي.. دخلنا سوا
أخفض سلاحه بعصبية وأقترب منها بعنف ونظرته نحوها لا توحي بالخير أبدًا.. أمسكها من ذراعها بقسوة يضغط عليها ساحبها معه إلى الحديقة في الأمام صارخًا عليها:
-أنتي هتستهبليني يا بت أنتي.. أختك مين دي اللي دخلت هنا.. تعالي دا أنتي يوم أهلك أسود
سارت خلفة بجسد هزيل مُمسكًا بذراعها يسحبها خلفه بقوة وعنف وقلبها يقرع داخل قفصها الصدري وبكاء عينيها لا يتوقف..
يجذبها خلفه وهي معه لا تُرى من الأساس يسير هو أمامها بجسد ضخم طويل للغاية إن نظرت إليه ترفع وجهها إلى الأعلى وكأنها تنظر للسماء وعريض المنكبين يغطي وجودها.. بعيون سوداء حادة ونظرته مُخيفة كذلك الجبل في الداخل وكأنها أتت إلى هنا كي تأخذ أكبر قدر من الخوف المنبعث منهم..
دفعها بيده إلى أمام البوابة الداخلية لقصر العامري، ثم مرة أخرى رفع عليها السلاح وهتف بعصبية وصوت عالي:
-لو مش عايزة تخسري حياتك هنا اتكلمي يا بت أنتي.. من باعتك ودخلتي هنا إزاي
انتحبت في البكاء وتصاعد صوتها فأجابته وجسدها يرتعش بخوف وتوتر:
-محدش باعتني والله أنا جيت مع أختي هي حتى جوا
تهكم عليها يلوي شفتيه هازئًا:
-صدقتك أنا كده.. مافيش حد بيدخل قصر العامري، في قوانين محدش بيكسرها يبقى اتكلمي أحسن
أتى من الخلف شاب مثله طويل ولكن ليس بنفس طوله وجسده الضخم ثم تسائل بهدوء:
-في ايه يا عاصم
أجابه وهو ينظر إليها لا يحرك عينيه قائلًا:
-واحدة من الرخاص اللي بيتحدفوا هنا كل يوم يا جلال.. بس المرة دي مش هسببها غير لما تقول مين اللي باعتها
أقترب "جلال" ذلك منه ليقف جواره ويظهر لها بملامحه الحادة والأسوأ بكثير من ذلك الغبي أمامها:
-اتكلمي أحسن ده مبيرحمش
للخلف خطوة وتكررها ومسحت وجهها بظهر يدها بعشوائية والخوف ينهش في قلبها.. ارتفع صوتها قائلة:
-والله قولتله أنا مع أختي هنا داخله الصبح من البوابة دي
نظر إليه "عاصم" وتساءل بجدية:
-شوفتها ولا شوفت أختها؟
حرك "جلال" عينيه عليها من الأسفل إلى الأعلى والعكس وعينيه تجوب وجهها بنظرات مقززة:
-أنا كنت معاك بره.. والحرس بيتعشوا دلوقتي
أكمل وهو يقترب منها بحركات ثابتة ونظراته نحوها لا تبشر بالخير:
-هتيجي تونسنا لحد ما الحرس يخلصوا.. ماهو مش معقول هندخل القصر ونزعج البشوات علشانك
عادت للخلف أكثر وهي تبكي وتنظر إليهم بهلع يحرك قلبها من مكانه بقوة..
الاثنين نظروا الآن إلى جمالها بعد كلمات "جلال" عيون زرقاء رائعة، خصلات صفراء، وجه أبيض وملامح بريئة وشفتين حمراء وغير كل ذلك فتاة صغيرة لم تتخطى سن العشرون..
عندما وجدته يقترب منها عادت الخلف أكثر وهي تنظر إليه بينما استمعت إلى صوت الآخر يقول ومازال السلاح بيده:
-اتكلمي علشان لو سيبته عليكي مش هيحصل كويس
ارتفع صوتها مع البكاء يخرج بضعف شديد:
-والله بس كده
سحب زناد مسدسه وثبته إلى وجهها ثم صرخ بها قائلًا بقسوة:
-أنتي اللي اختارتي بقى
صرخت عاليًا وتحركت بقدمها تركض إلى بوابة القصر وقلبها لا يدق بعنف بل يقرع طبول وكأنها بداية حرب أو ما شابه، في محاولة منها التوجه إلى الداخل لا تدري كيف والبوابة مُغلقة، ولكنها استمعت إلى صوت طلق ناري أوقفها في منتصف الطريق مُعتقدة أنه أصابها مع صوت صرخة أخرى عالية للغاية خرجت منها ووصلت إلى عنان السماء..
توقف قلبها الذي كان يقرع وحبست أنفاسها داخلها، وقفت تعطي إليهم ظهرها تخاف من اقترابه الغير مرئي إليها..
صرخ بها "عاصم" بعصبية وعنف:
-اقفي عندك قسمًا بالله يومك أسود
فُتح باب القصر، طلت من خلفه "زينة" ووالدة "جبل" السيدة "وجيدة"، ظهر على ملامح زينة القلق والتوتر الشديد وهي تتقدم إلى الخارج وتعلم أن شقيقتها بقيت في الحديقة.. وقع قلبها بين قدميها وشعرت به يُنتزع من مكانه وهي تستمع إلى صوت صرختها وصوت الطلق الناري..
ارتفع صوت "وجيدة" وهي تنظر إلى "عاصم" متسائلة بحدة:
-في ايه يا عاصم
صاح مُقتربًا يقبض على ذراع "إسراء" مرة ثانية وهو يجيب بهدوء:
-متقلقيش يا هانم اتفضلي إحنا هنتصرف
تقدمت "زينة" سريعًا تركض ناحيتهم ونزعت ذراع شقيقتها من يده ثم دفعته للخلف بيدها في صدره صارخة به:
-شيل ايدك دي إزاي تتجرأ تعمل كده وتمسك أيدها
نظر إليها باستغراب، وجه جديد عليه وكانت في الداخل أيعقل حديثها كان صحيح، تحامل بالقوة صراخها عليه ودفعها له فقط لحين أن يفهم ما الذي يحدث..
ارتمت "إسراء" في أحضان شقيقتها وارتفع صوت بكائها مع كلماتها المتقطعة:
-يلا نمشي من هنا.. خلينا نمشي يا زينة
دفعتها للخلف بخفة ونظرت إلى وجهها وحالتها المُزرية:
-ايه اللي حصل مالك
لم تجيبها بل ارتمت في أحضانها مرة أخرى تخفي وجهها عنهم..
كادت أن تتحدث "زينة" ولكن صوت "عاصم" اخترق أذنها:
-مين دول يا هانم وإزاي دخلوا القصر وجبل مش موجود
نظرت إليه بحدة وأردفت مُجيبة إياه بصوتٍ عالٍ توبخه على ما فعله:
-دي زينة مرات يونس الله يرحمه وإسراء أختها.. أنت عارف أن محدش بيدخل القصر إلا بإذن مننا ايه لزوم اللي عملتوه ده
أخفض وجهه أمامها وتحدث بهدوء معتذرّا:
-كانت في الجنينة ورا في الضلمة بتتسحب زي الحرامية افتكرتها نطت من على السور.. على العموم أنا آسف يا هانم
صرخت بوجهه "زينة" وهي مُحتضنة إياها قائلة بعصبية:
-هو ايه اللي آسف يا هانم.. القصر كله ملغم حراس في كل مكان هتنط من على السور إزاي وبعدين ده شكل واحده تعمل كده.. إزاي ترفعوا السلاح عليها.. وازاي معاكوا سلاح أصلًا
رفع نظره إلى "وجيدة" هو و"جلال" باستغراب لم يفهم أحد منهم ما السؤال الأخير الغبي الذي ألقته عليهم هذا.. ولكن "وجيدة" احتوت الموقف سريعًا وتقدمت إلى "إسراء" تأخذها من "زينة" تحتضنها وتطمئن قلبها مربتة على ذراعيها وهي تتجه إلى الداخل
-تعالي يا زينة معلش يا حبيبتي هما مايعرفوش.. تعالي أنا هفهمك..
نظرت إليه شزرًا بعصبية وكأنها تود أن تنقد عليه لأنه مس شقيقتها ثم سارت خلف والدة زوجها إلى الداخل لتفهم ما الذي حدث..
نظر "جلال" إلى "عاصم" وتساءل قائلًا:
-هو ايه اللي بيحصل
حرك الآخر رأسه ورفع كتفيه يهتف:
-مش عارف
جلست في الداخل في صالون القصر الكبير جوار شقيقتها التي مازالت تزيل دمعاتها بيدها، نظرت إليها وتفوهت بالسؤال بجدية:
-ايه اللي حصل اتكلمي
رفعت بصرها إليها بعينيها الزرقاء المُنتفخة، أجابتها بشهقات متقطعة وهي تحاول الصمود:
-أنا كنت في الجنينة بتمشى ودخلت ورا لقيته ورايا ورافع عليا المسدس وبيقولي إزاي دخلت هنا.. قولتله إني دخلت معاكي مصدقنيش وكان هيضرب عليا نار
ابتعدت "زينة" بنظرها إلى "وجيدة" تنظر إليها بحدة واستغراب في ذات الوقت وما حدث في الخارج يؤثر عليها في حديثها الحاد ونظراتها نحوها:
-إزاي يعمل كده وإزاي معاه سلاح هنا
ابتسمت "وجيدة" بهدوء تقول بعقلانية:
-ماهو يا زينة دا قصر واللي برا حرس يا حبيبتي لازم يبقى معاهم سلاح.. عاصم رئيس الحرس أكيد مش قصده يعمل كده
أردفت "زينة" مُعقبة على حديثها بعقلانية أكثر:
-قصر ماشي ومحتاج حرس تمام لكن مش بالضرورة يكون معاهم سلاح خصوصًا لو في منطقة زي دي.. هو أنتي يا طنط مش شايفه الناس والمكان هنا عامل إزاي
تابعت تكمل بعد حديثها السابق بنفس الطريقة:
-دي أوامر يا زينة.. مش مطلوب إننا نخالفها
تذكرت حديث زوجها الكثير عن تلك الأوامر الذي تصدر عن شقيقه ولا يستطيع أحد مخالفتها أبدًا ولا يجب ذلك أيضًا وكأنهم يعيشون بسجن كبير يخرجون ويدلفون إليه ومنه فقط وهو حاكمه وعليهم السمع والطاعة..
وقفت شقيقتها على قدميها وجسدها يرتعش، قدميها لم تكن تستطيع أن تحمل جسدها بعد فزعته بصوت الطلق الناري الذي اعتقدت أنه أصابها وفارقت الحياة وما قابلته في الخارج قبل ذلك..
تحدثت بخفوت:
-عن اذنكم هطلع الاوضه
أومأت إليها والدته قائلة:
-اتفضلي يا بنتي ارتاحي
❈-❈-❈
"بعد مرور يومين"
جلست "زينة" مع "وجيدة" و "جبل" لتتحدث معهم في أمر حصولها على ميراثها هي وابنتها من زوجها الراحل مرة أخرى بجدية أكثر من المرة السابقة لأنهم ربما لم يفهموا جيدًا حديثها.. فهي لم تكن آتيه إلى هنا حتى تجلس وتستريح بل أتت لتأخذ ما لها هنا وترحل في أسرع وقت..
تعلم أن جميع الأمور لن تحدث إلا بأمر من "جبل" فنظرت إليه وأردفت بجدية:
-جبل بيه.. أنا لما جيت اديتكم خلفية عن سبب وجودي هنا بس تقريبًا أنت مأخدتش الموضوع بجد لأن محدش كلمني فيه.. وبصراحة أنا مش حابه أطول أنا عايزة أرجع
كان يضع يده على وجنته اليمنى فاردًا إصبعه السبابة على وجنته يستند بذراعه على المقعد ناظرًا إليها بعدم اهتمام وخرجت الكلمات من فمه بلا مبالاة:
-والمطلوب!
وزعت نظرها بينهم هم الاثنين ثم قالت بجدية وبعض من الحدة في نبرة صوتها:
-عايزة حقي أنا وبنتي علشان أمشي
أسرعت والدته تتحدث وهي تربت على يدها الموضوعة على ركبتها خوفًا من أن يُجيب "جبل" بشيء لا يروقها وهي لن تسمح بذهابهم:
-هتاخدي حقك وفوقه زيادة أنتي عارفه الخير كتير ويونس ليه كتير أوي أوي أوي وعمرنا ما نطمع فيه بس المسألة دي علشان تطلع مظبوطة وتاخدي حقك وعليه الزيادة لازم جبل يرتب أموره ويشوف حساباته واحدة واحدة وزي ما أنتي شايفة هو مش قاعد عنده شغل طول الوقت
وجهت نظرها إليه بعد أن استدارت مرة أخرى وطرق السؤال باب عقلها:
-هو حضرتك بتشتغل ايه
ظل ناظرًا إليها بمنتهى اللا مبالاة وإصبعه على وجنته بهذا الشكل.. شعرت بالإهانة لتجاهله حديثها ونظرته الغريبة إليها فمرة أخرى أردفت والدته:
-جبل كبير الجزيرة.. والناس مشاكلها كتير وكل حاجه هنا مسؤولة منه
أكملت بجدية مُعاتبة إياها في نهاية حديثها لتسترقها تجاهها:
-كل اللي محتاجينه شوية وقت علشان نعرف نظبط الدنيا يا حبيبتي وبعدين هو أنا ماليش حق عليكم ولا ايه ووعد دي مش بنت ابني
نفت "زينة" حديثها وأكدت عليها:
-لأ طبعًا ليكي حق
ابتسمت "وجيدة" باتساع وأشرق وجهها لأنها أخذت فرصة للحصول على ما تريد وقالت:
-يبقى خلاص أقعدوا معانا شوية كمان هو انتوا لحقتوا.. أنا ملحقتش أقعد مع وعد حتى
اومأت إليها زينة وأردفت بهدوء:
-أنا موافقة نقعد بس نحدد مدة أنا مرتبطة بمواعيد في دبي
استمعت إلى سؤاله الذي خرج بنبرة خشنة حادة:
-مواعيد ايه دي
التفت تنظر إليه وأكدت مرة أخرى على نفس الكلمة بوضوح وبنظرة حادة مثله لأنه تجاهلها وتعمد فعل ذلك:
-مواعيد!!
أبعد يده من على وجنته وأعتدل في جلسته ناظرًا إليها بعينه الخضراء الحادة المخيفة وعلم أنها تعمدت لفعل ذلك فقال بجمود:
-سمعت! وسألت مواعيد ايه وبخصوص ايه
ابتسمت رافعة حاجبها الأيمن إلى الأعلى قائلة بجدية:
-مش المفروض حضرتك تعرف بخصوص ايه ولا أنا المفروض أجاوب
تقدم للأمام في جلسته يهتف وعينيه تنظر إليها بحدة:
-لأ المفروض أعرف والمفروض تجاوبي طالما بنت أخويا معاكي
ضيقت ما بين حاجبيها باستغراب وأكملت على حديثه متسائلة:
-يعني ايه طالما بنت أخوك معايا.. بنت أخوك معايا من وقت ما اتوفى يونس وهي بنتي على فكرة
ابتسم بزاوية فمه وكأنه نال منها وهو يقول بخبث ومكر:
-اللي متعرفيهوش إنك جيتي الجزيرة.. دخلتي القصر.. من وقت ما ده حصل كل شيء اختلف
رفعت حاجبيها مُتسائلة عن مقصده:
-قصدك ايه
تدخلت والدته في الحديث سريعًا وهي تعلم أن ابنها سيفسد الأمر إن طالت الجلسه أكثر من ذلك لأنه ليس الشخص الذي يتهاون في المعاملة:
-مقصدوش حاجه يا حبيبتي هو بس خايف عليكم.. المهم اقعدي معانا أسبوع كده يكون جبل خلص شغله وطلعلكم حقكم
أومأت إليها قائلة:
-ماشي يا طنط
ثم نظرت إليه شزرًا بعينيها السوداء وكأنها قطة بمخالب تود لو تنقض عليه تترك علامات أظافرها على جسده بأكمله لتنظر إليه وتبتسم بأنها انتصرت عليه بعد نظراته وحديثه معها.. وذلك التجاهل المُتعمد منه ذلك الحيوان الذي يرى نفسه قائد على الجميع..
لكنه لا يعلم من هي إلى الآن ولو كان يعلم ما فعل هذا..
وقفت على قدميها واستأذنت منهم للصعود إلى الأعلى ولم تكن تعلم تلك الغبية من هو.. تعتقد أنه رجل كأي رجل أو كزوجها؟ لم تفكر يومًا بأنها من الممكن ان تقع مع وحش وذئب بشري، ترى نفسها تستطيع أن تتغلب على الجميع بسبب الفترة التي قضتها وهي تصارع الجميع وكل من طمع بها.. لا تعلم من هو.. تعتقد أنها ستتغلب عليه أو تترك أثر به.. بل هو من سيترك أثر بها إلى الأبد..
❈-❈-❈
وقف الحارس في حديقة القصر في مكان بعيد عن الأنظار وقد كان كل مكان بها بعيد عن الأنظار بسبب كبر مساحتها والأشجار الكثيرة بها..
أخرج هاتفه من جيب بنطاله ووقف يعبث به، ثم وضعه على أذنه للحظات ومن بعدها أجاب بصوت رجولي خشن:
-أيوه يا طاهر
صدح صوت الآخر في أذنه بقوة حتى أنه أبعد الهاتف عنه بسبب ذلك الازعاج الذي سببه له:
-ايه يا رجولة اييه فين المعلومات اللي قولت هتنيل أخدها أول الشهر
لوى شفتيه هازئًا واسترد قائلًا بسخرية:
-هو أنا بكلمك دلوقتي ليه
تهكم الآخر عليه وهو يجيب بنفس نبرته الذي استشعرها عبر الهاتف:
-هو إحنا أول الشهر.. سلامتك ولا الشغل مع جبل كل عقلك
أجابه بجدية يوضح له سبب تأخيره الذي حدث في بداية الشهر:
-مكالش عقلي ولا حاجه.. البضاعة اتأخرت ومجاتش أول الشهر.. الحكومة اتسرب ليها معلومات وجبل وقف التسليم
تسائل الآخر بتلهف وفضول:
-ودلوقتي ايه الجديد
أكمل وهو يعلم أنه يموت ليعلم أي شيء عن التسليم ليقوم بضرب "جبل" الضربة الكبيرة ولكنه للأسف فاشل حتى وإن أخذ كل المعلومات فلا شيء يستطيع فعله ولا شيء يصيب "جبل":
-البضاعة في المخازن
ابتسم وقد شعر الحارس بها وقال بسعادة دُفعت إليه:
-حلو يا حِدق
أنكر الآخر ما قاله بابتسامة ساخرة ونبرة جدية وهو يطالب بحقه الذي أتى عن طريق الخيانة:
-لأ مش حلو.. أنا عايز حقي ناشف، ماليش في الحلو خالص
أومأ برأسه وقال بجدية وهدوء موافقًا فالآن السعادة تدق بابه بكثرة بسبب ما أخذه من معلومات يستطيع أن يفعل بها الكثير:
-هيوصلك حقك متقلقش
أنهى معه المكالمة بجدية:
-يلا بالسلامة
هناك مقولة شهيرة تنص على "يلعب على الحبلين" وهذا ما كان يفعله هو يسرب المعلومات إلى "طاهر" العدو الأكبر إلى "جبل العامري" ومن الناحية الأخرى لا يقول له الأماكن البديلة إلى المخازن والذي كان من أهمها أكبر وأفضل وأشهر مكان على الجزيرة...
خائن بين حراس "العامري" وإلى الآن لم يتعرف عليه أحد..
قد يكون جشع وما دفعه إلى فعل ذلك جمعه الكثير من المال من هنا وهناك وقد يكون هناك سبب آخر غير هذا هو الذي دفعه للخيانة مثل "الانتقام"..
❈-❈-❈
جلست والدته معه على الأريكة داخل غرفته، غرفة كبيرة للغاية المعنى الصحيح لغرفة داخل قصر، بها أثاث على الطراز القديم كالفراش أخشابه ثقيله باهظة، كبير للغاية يتسع لأربع أفراد ليس واحد أو اثنين به أربع أعمدة خشبيه من كل إتجاه واحد..
خزانة ملابس كبيرة نفس هيئة وشكل الفراش
أريكة كبيرة للغاية مع اثنين من المقاعد الخاصين بها وطاولة بينهم.. ومرآة كبيرة يُضع عليها فرشاة للشعر وواحدة من زجاجات العطر الفخمة..
ربتت على فخذه وهو يجلس جوارها:
-اسمع مني يابني زينة مش هتقعد غير بالطريقة دي أنت لازم تتجوزها
تابع عينيها وخرج صوته بخشونة وحدة يتحدث بتأكيد وثقة:
-لأ هتقعد وأنتي عارفه إني أقدر اقعدها غصب عن أي حد وده اللي هعمله لكن مش هتجوزها
عقدت حاجبيها وتسائلت بذهول:
-وليه لأ هتفضل لحد امتى من غير جواز
أجابها بحدة وعينيه تقابل عينيها بشرارة ورفض لحديثها ولكن هناك خفقة بسيطة في قلبه توافقها أمام كل ذرات عقله:
-وهو أنا يوم ما اتجوز اتجوز مرات أخويا
تفوهت بجدية تجيب على كلماته بكلمات بالنسبة إليها عقلانية إلى أبعد حد:
-كانت.. كانت مرات أخوك وهو الله يرحمه ميت من خمس سنين ده عمر يابني
أبعد وجهه عنها وتوجه بنظره إلى الفراغ ورفع صوته بحدة وهو يطيح بيده إليها رافضًا:
-بلا كانت بلا مكانتش... أنا مش بتاع جواز ومش هتجوزها ولا هي ولا غيرها
احتدت نبرتها وارتفع صوتها وهي تضرب على قدمها اليمنى بعصبية قائلة:
-ليه كل ده.. علشانها؟ ما تبص لنفسك يا ابن بطني ماهي غارت وسابتك هي وأهلها كلهم
وقف على قدميه بعصبية يُماثلها مُبتعدًا عنها مُتقدمًا من الفراش يتمسك بأحد اعمدته يُعطي إليها ظهره قائلًا بقسوة:
-بقولك ايه هي مش في دماغي وغارت زي ما قولتي أنا مش عايز اتجوز ولا تكوني أنتي ناسيه شغلي ده ايه؟ ده مش سبب يخليني مربطش حد بيا ولا أعمل عيلة؟
وقفت خلفه تهتف ببساطة وجدية:
-شغلك ماله يا جبل.. محامي قد الدنيا وماسك بلد بحالها
استدار ينظر إليها بتهكم يُكرر حديثها باستهزاء:
-آه محامي وماسك بلد
احتدت نبرتها أكثر وتحولت ملامح وجهها اللينة التي كانت تحاول إقناعه من لحظات واتجهت نبرتها إلى الأمر والقوة وذلك لأنها لن تسمح بذهاب ابنة ولدها الراحل ولا تريد ظلم والدتها:
-جبل.. أنا قولت كلمتي ودي رغبتي أنت كبرت ورافض كل بنات البلد جاتلك أرملة أخوك على الأقل تلم لحمة جالك لحد عندك
ابتسم ناظرًا إليها بلا مبالاة وبرود:
-الظاهر مسمعتيش اللي قولته
أقتربت منه وقالت بنفس النبرة القوية منتظرة أن تراه يوافق ولكنها مع ذلك تعلم أنه لن يوافق بتلك السهولة.. ولن تتركه أيضًا يأخذ الطفلة من والدتها قصرًا.. إنه ولدها وهي تعرفه جيدًا وتعرف حلوله الغريبة:
-لو مش عايز تتجوز وتعمل عيله وتحب مراتك.. اتجوزها ولم لحم أخوك وأعمل ما بدالك بعدين.. عايز تتجوز تاني اتجوز عايز تحط عقلك في راسك وتخليك مع زينة يبقى خير وبركة
أجاب على حديثها بمنتهى البساطة وكأنها تتحدث مع ذاتها:
-مش هتجوز يا أم جبل.. وزينة هتقعد
حركت رأسها وشفتيها وهي تجيبه قائلة بعقلانية لأنها من خلال معرفتها البسيطة بـ "زينة" علمت أنها لن تخضع بتلك السهولة:
-مش هي اللي هتقعد بالذوق
رفع وجهه إليها بقسوة وتفوه بنبرة عنيفة قاسية لأنه لم يكن مُعتاد على ان يُرفض أمره:
-يبقى عافية وغصب
قالت بسخرية تنظر إليه:
-ونخسرها هي وبتنا
صرخ بوجهها بصوت عالي لأنها تحدثت أكثر من اللازم، وقامت بفتح جروح قديمة جعلها تلتئم بصعوبة، صحيح لم تعد تؤلمه ولكنها تبقى جروح:
-في داهية
صرخت هي الأخرى بوجهه وتغيرت ملامحها أكثر وأكثر عليه ورفعت سبابة يدها اليمنى أمام وجهه بحدة:
-لأ مش في داهية يا جبل.. بت ابني مش هتطلع من الجزيرة وبالسياسه كله بالسياسه يا جبل
أبتعد بوجهه عنها وقال:
-ماشي يما.. ماشي
خرجت من الغرفة بعد أن استمعت إلى آخر كلماته وتوجهت إلى الخارج وهي عازمة أمرها ومقررة داخلها أن مهما يحدث لن ترحل ابنة ولدها من هنا، لن تذهب إلى خارج بوابة القصر خطوة واحدة وإن أقامت الحرب على الجميع وأول من بهم ولدها..
وقف بالداخل مُمسكًا عمود الفراش يضغط عليه بيده، يفكر فيما قالته والدته، كثير من الاتجاهات تتعارض مع زواجه وبالخصوص واحدة مثلها، هناك أشياء كثيرة تخفى عن البعض على الجزيرة وهي واحدة منهم.. يجيب أن ترحل من الأساس وجودها هنا يسبب خطر إليه وإلى الجميع ولكن والدته ترى ذلك من ناحية أخرى
ابنة شقيقه وكأنه هو أمام والدته لذا لا تريدها أن ترحل.. يستطيع أن يجعل والدتها تذهب رغمًا عنها ويُبقي الفتاة ولكنه لا يضمن ما الذي من الممكن أن تفعله وهي خارج الجزيرة لاسترداد ابنتها..
ترك الأمر جانبًا عندما عاد عقله إلى تلك النقطة التي عبثت بها والدته.. أهو لا يريد الزواج لأجلها أم لأجل أنه لا يريد من الأساس!
نهر نفسه وهو يتحرك مُبتعدًا عن الفراش فقد تلقى العلاج الكامل لحالته بعد رحيلها، ومكانها الذي كان في قلبه أصبح ممتلئ بشيء آخر بعيد كل البعد عنها وعن ماضيه معها..
❈-❈-❈
"في الصباح"
كان الجميع يجلس في الصالون بعد تناول الفطور على السفرة سويًا..
أقتربت الفتاة الصغيرة "وعد" من جدتها التي شعرت بحنيتها وحبها لها وجلست على قدميها وهي تفتح بيدها ورقة مطوية لترفعها أمام نظرها قائلة لها بحب:
-تيته دي أنا وأنتي رسمتها علشان أخدها معايا وأنا مسافرة
نظرت إليها "وجيدة" كانت رسمة طفولية للغاية بها فتاة صغيرة وسيدة لم تستطع بأن تجعلها رائعة إلا بحبها الذي رسمت به..
ابتسمت "وجيدة" بسعادة وهي تحتضنها قائلة بحب وفرحة:
-الله حلوة أوي.. بس أنا مش هسيبك تسافري على طول كده أنا مشبعتش منك
بينما هو كان ينظر إلى تلك التي تجلس أمامه مباشرة ولأول مرة بحياته ينظر إليها بهذه الطريقة، يبدو أن حديث والدته أمس جعل الرجل الذي بداخله يستفيق وينظر إليها بنظرات الرجال الجائعة...
لأول مرة ينظر إلى جمالها الطبيعي المعتاد في كل الوجوه ولكنها جميلة غيرهم، بعيونها السوداء الحالكة التي تماثل خصلاتها.. وبشفاهها ونظراتها وبذلك الجسد المغري والحركات الأنثوية..
آن داخله بألم، لقد نسي كل هذه الأشياء لما جعلته والدته يستفيق من جديد ويتبع اهوائه وغرائزه وهي من؟ زوجة شقيقه!.. ولكنها للحق تستحق
كم أنه وقح وعديم الشرف ينظر إلى زوجة أخيه هذه النظرات القذرة ويقيمها من الأسفل إلى الأعلى، ويقيم مفاتنها الذي حرم منها ومن أي امرأة لسنوات..
ولكن تقريبًا حديث والدته صحيح! لما لا يتزوج خصوصّا إن كانت واحدة أتت إلى حده كما قالت هي بالأمس!..
كانت على الطرف الآخر تبتعد بعينيها إلى ابنتها وجدتها تتابع حديثهم من اللحظة إلى الأخرى وبينهما تتابعه هو وترى شروده بها ونظراته المُثبتة عليها.. مرة على عينيها مباشرة ومرة على خصلاتها ومرة أخرى على جسدها..
أهو مختل؟ أم ماذا.. استغربت نظراته كثيرًا فقد تقابلت معه في الأيام الماضية بكثرة ولكنه لم يكن هكذا أبدًا، بل كان غير مبالي بها وعديم الاهتمام والحديث معها.. ما به الآن؟
هل ينوي على فعل شيء معها؟ هل يفكر في منع الميراث عنها وعن ابنتها؟ ولكن "وجيدة" أكدت أن ذلك لن يحدث وستأخذ كل ما لها عندهم.. شعرت بالإحراج كثيرًا من نظراته التي ربما تتحول إلى الرغبة الواضحة بعينيه، هي تعرف هذه النظرة جيدًا الآن ربما تحركه شهواته تجاهها؟
نهرت تفكيرها ونفسها سريعًا على هذه الأفكار الغبية والكريهة التي أتت على عقلها تجاة شقيق زوجها والتي لم يعاملها بهذه الطريقة التي فكرت بها أبدًا منذ معرفتها به إلى اليوم.. يبدو أنها هي التي بحاجه وجود رجل جوارها ففكرت بهذه الطريقة..
في لحظة والجميع كل منهم في رأسه شيء قطع حبل أفكارهم بمجرد أن دلف "عاصم" إلى الغرفة مقتحمها عليهم يهتف بصوت عالي قلق للغاية:
-جبل.. حملة طالعة من المدرية على الجزيرة
وقف جبل سريعًا على قدميه بعيون مُتسعة إلى آخرها ينظر إليه بقسوة والآخر يبادله النظرات بفزع لأجل ما سيحدث في الجزيرة بعد قليل..
بينما هي طالعتهم باستغراب شديد، ونظراتها تتجه من واحد تلو الآخر من أهل القصر والذي بدى على وجوههم معرفة ما الذي يجري على عكسها هي وشقيقتها..