رواية نيران الغجرية الفصل الخامس والثلاثون35والسادس والثلاثون36بقلم فاطمة أحمد


 رواية نيران الغجرية الفصل الخامس والثلاثون35والسادس والثلاثون36بقلم فاطمة أحمد

الفصل الخامس و الثلاثون : الحياة العملية.

" من أنت ؟ 
- قبل أن أقص شعري أو بعد !
- مالفرق ؟!
- قص الشعر بالنسبة للمرأة ليس مجرد مقص و شعر متناثر و هيأة جديدة ! إنها تستبدل دواخلها أيضا " ليتني امرأة عادية#هنوف_الجاسر

تمر علينا فترات يصعب علينا نسيانها ، ليس لقوة ذاكرتنا أو إستحالة تخطي تلك الذكريات ، بل لأنها حُفرت في قلوبنا و أصبحت جزءا منا.
تظل عالقة لا تمحى سواء بالهروب أو بالتجاهل.
فيُمسي الحل الوحيد هو طمسها و قمعها مع قمامة الماضي ، حتى لو كلف ذلك محو هويتنا التي كنا عليها.

و هذا ما فعلته هي ! 

وقفت خارجا أمام الشركة الضخمة تحدق في علوها الذي ظنت أنه لا ينتهِ ، و حادت بعينيها نحو البوابة الخارجية تراقب الداخلين و الخارجين منها ...
كان هذا اليوم الأول للمتدربين اللذين تم اختيارهم لعدة أقسام تابعة لمؤسسة البحيري ، حيث سيتم إستقبالهم من طرف فريق المسؤولين و شرح نظام سير العمل تاركين لهم بعدها الخضوع لفترة التربص و بعد إنتهاء المدة المحدودة سوف يتم إختيار أعضاء يستلمون وظائفهم بشكل رسمي.
أما من لم يحالفهم الحظ في التوظيف فيكفيهم أخذهم لشهادة التدرب في شركة البحيري.
و ستعمل مريم على أن تكون من النوع مكان ! 

أخذت نفسا عميقا و خطت بقدميها خطوات واثقة إلى الداخل ، و بعد دقائق كانت تقف بجوار باقي المتدربين يستمعون لكلام نائب مسؤول قسم الترجمة وهو يرحب بهم ...
لاحظت مريم نظرات البعض إليها و همسات البعض الآخر حول أن زوجة المدير التنفيذي التي فضحته جاءت اليوم كمتدربة و تقف معهم كأنها لم تفعل شيئا.

ولكنها لم تعرهم إهتماما بل ركزت على كل حرف يقوله مساعد السيد يوسف الذي لم تلمحه لحد الآن ، ثم وقع بصرها على مكتب النائب و التمعت عيناها وهي تطمح لأن تكون هي الجالسة عليه يوما ما ...

_______________
تنهد بسأم وهو يعيد رأسه إلى الخلف و يغمض عيناه لعله يحظى ببعض الراحة من الصخب ، لكن الآخر لم ينتبه لهذا وهو يكرر سرد نفس القصة للمرة العاشرة تقريبا :
- و ياريت قدرت مساعدتي و شكرتني لا ديه كانت عاملة زي الكتكوت المبلول منطقتش بكلمة طول الطريق لما كنت شايل معاها.
بس اول ما لقت نفسها وصلت لبيتها قامت تلمح و تغلط فيا ... استنى ديه طلعت مخطوبة كمان و جايبة الحاجات ديه عشان خطيبها. 

عند نطقه للجملة الأخيرة ببلاهة فشل عمار في كتم ضحكته فأطلق قهقهة صغيرة انكمش لها وجه وليد وهو يسأله منزعجا :
- انت بتتريق عليا ؟ 

- لا بس ضحكت لما اتخيلت شكلك عامل ازاي و انت واقف في الشارع لوحدك بتكلم نفسك بعد الصدمة ديه.
برر له عمار و ضحك مجددا ثم تنحنح و ارتخت تعبيراته عندما اعتدل في جلسته و هتف بمنطقية :
- انت عارف ان حتى لو هالة مش مخطوبة مفيش فرصة ليكم انتو الاتنين صح ، البنت ديه بتكرهني اوي و بتحرض مريم عليا دايما ف اكيد هي مش هتقبل ترتبط بصاحبه خاصة في الفترة ديه.

هز وليد رأسه على مضض ليستطرد الآخر مستنكرا :
- و بعدين انت ساعدتها عشان هي بنت واقفة لوحدها في حته مقطوعة ولا بس عشان كنت ناوي تشقطها يعني لو عارف من الاول انها مخطوبة كنت هتمشي و تسيبها ؟ 

- لا طبعا انا كده كده كنت هساعدها ... بس اكيد مكنتش هشيل معاها لوازم عريس الغفلة بتاعها في الاول و الاخر انا اعجبت بيها من اول نظرة مش كده.
هتف سريعا يبرئ نيته ثم صمت قليلا و اتسعت ابتسامته ليقول بمكر :
- ولا اقولك كويس مفيش فرصة لينا اخاف ارتبط بيها و يجي يوم تفضحني قدام الناس زي صاحبتها. 

تجهم عمار بغيظ و رمى عليه القلم الذي بيده شاتما إياه ثم عاد و شرد مجددا ، لاحظ وليد ذلك فقام و سحب الكرسي ليجلس مقابل رفيقه تماما.
طالعه قليلا ثم ربت على كتفه هاتفا بجدية :
- عمار ... انت عارف انك بتقدر تكلمني في اي حاجة تضايقك صح ... انا معاك في كل خطوة انت بتعملها. 

إبتسم له مجاملا و أومأ بموافقة ليعود لصمته ، فتنهد وليد بحسرة مفكرا بأن عمار كتوم لأقصى حد.
ففي حين انه لا يبوح بما يخالجه ولا يفصح عن همومه لأحد ، إلا أنه يجيد الاستماع لشكاوي غيره و مواساتهم عند كربهم.

لقد كان عمار يستمع لمشاكل وليد و يوسف منذ مراهقتهم و دائما ما يهون عليهم و يواسيهم عندما يحتاجون لذلك لكنه في نفس الوقت لا يُعرب عن أحزانه و ما يشغل باله ليس قلة ثقة نحو أصدقائه و لكن طبيعته الكتومة تحول دون ذلك ، و هذا ما يزيده بؤسا. 

قطع تفكيره صوت رنين هاتف المكتب فأجاب عمار :
- ايوة يا سلمى ... تمام خليهم يبعتولي المتدربة مريم عبد الرحمن لمكتبي بعد نص ساعة. 

أغلق الخط مغمغما :
- المتدربين وصلو. 

هز وليد رأسه ولم يستطع منع نفسه من التعليق بإنزعاج :
- مش عايز ابقى حشري قدامك يا عمار بس ياريت تاخد نصيحتي بعين الاعتبار ... مراتك ديه انا مش عارف ايه اللي بينها و بين والدك عشان يقبل يشغلها عنده بس عارف كويس هي دخلت الشركة ليه.
فلو سمحت حاول تبعد مشاكلك الشخصية عن الشغل عشان ميتأثرش بالسلب من غير حاجة الاوضاع مش كويسة مش عايزينها تسوء اكتر ... يلا عن اذنك رايح اشوف شغلي.

غادر الأخير الغرفة أما عمار فنهض ووقف أمام النافذة الزجاجية الكبيرة المطلة على شرفة هذا المكتب الضخم ، وضع يده في جيبه و طالع الفراغ مفكرا ...

ليلة أمس كشفت مريم بشكل لا يصدق حقيقة تجسسه عليها في السابق ، لا يزال غير مستوعب حدوث ذلك حقا فلقد قضى الليل بطوله عاجزا عن النوم يشعر بالغضب و الحنق من الأمر برمته لأنه بعد الآن لن يستطيع تركيب أي جهاز لمراقبتها و بالتالي لن يكتشف سبب ما تفعله و ما الذي ستفعله مستقبلا.
سحقا لماذا كل شيء يسير عكس مراده هل هذه صدفة أم ... مخطط من طرف أحدهم ! 

طرق الباب فجأة فسمح عمار بالدخول و التفت ينظر إلى مساعده سليم الذي أتى بأمر منه.
طالعه لثوان بقتامة قبل أن يغمغم :
- تعالى يا سليم قرب هنا. 

دنى منه بخطوات ثابتة و تمتم :
- تحت أمرك يا فندم عايز حاجة مني. 

- اقعد.
هتف بصرامة فتوجس سليم لكنه إمتثل لأمره على أي حال ، جلس على الكرسي و راقب عمار وهو يشعل سيجارته ثم يبدأ بتدخينها مرددا :
- انت عارف انك واحد من رجالي اللي بثق فيهم صح.

أظهر وجها جامدا وهو يرد عليه :
- ايوة و ده شي بيشرفني حضرتك.

همهم الآخر و تعمق في النظر إليه ليهمس :
- كنت اكتر واحد عارف اسراري و الخطوات اللي بعملها و صراحة لولاك مكنتش هقدر اعمل حاجات كتير.

سكت لثوان يراقب ملامح رجله بثبات قبل أن يكمل :
- اومال ايه اللي حصلك دلوقتي ... انت ملاحظ انك متراجع كتير في اخر فترة ؟ مقدرتش تعرف مريم كانت فين ولا اللي بيتها وبين رأفت بيه ومين اللي بيساعدها ... حتى لما كلفتك تتعاون مع واحد علشان تركبو كاميرات مراقبة جديدة في الشقة اتعطلتو و ضيعتو وقت لحد لما مبقاش ينفع تتحط ابدا لان مريم كشفتني.

أسرع سليم يبرر تقصيره :
- يا فندم صدقني حضرتك انا بحاول اا...

- هشش.
أوقفه عمار مانعا إياه عن مواصلة الحديث ثم انحنى عليه و همس بثقل :
- اسبوع واحد بس يا سليم ... لو مجبتليش اي معلومة تفيدني في غضون اسبوع انا هفهم انك مبقتش تشتغل معايا يمكن بقيت ضدي و بتجرب تعطلني عشان سبب معين.
و بالتالي انت هتترفد من شغلك و شوف هتشتغل فين و مع مين بعد كده. 

إصفر وجه سليم و أدرك جيدا أن عمار بدأ يشك في ولائه بسبب تقصيره المتعمد في العمل هذه الفترة ، و من الواضح أنه لن يكسب ثقته مجددا حتى يجلب له المعلومات عن زوجته.
و لكن كيف سيفعل هذا في حين أنه يخطط ضده ، يجب عليه إخبار سيده عادل بما يحدث لكي يجد له الحل سريعا.

فهز رأسه بإيجاب و أردف بإحترام :
-  سامحني على اي تقصير يا عمار بيه انا هعمل كل االلي اقدر عليه علشان اجيلك اللي عايزه.

همهم عمار برضا ثم أولاه ظهره قائلا :
- تقدر تمشي دلوقتي.

إستقام سليم و غادر بينما بقي الآخر يطالع فراغه وهو يفكر في أن سليم قد تراجع في تأدية مهامه بشكل مثير للريبة حتى بدأ يشك في أنه يتعمد الإطالة في أمر البحث عن مكان إختباء مريم طوال السنة الماضية.

و اذا كان حقا يطيل في مهمته فهل هذا بسبب شخص أقوى من عمار شخصيا ، ربما أصبح سليم تابعا لوالده رأفت و ينفذ أوامره بدلا منه.
أو هدده بشيء ما و نبهه بضرورة ابتعاد عمار عن الحقيقة التي تجعل مريم تكرهه هكذا ، أو حتى أن سليم لا علاقة له بالخيانة بل أن رأفت تدخل بنفوذه و منع أي طريق يستطيع العبور منه و الوصول إلى أسرار مريم !

تأفف بصوت عالٍ و حاوط رأسه الذي يكاد ينفجر من الصداع بالفعل ، بعد مغادرة العيادة يوم أمس قام بإقتناء الأدوية التي وصفها له الطبيب حسين و نصحه بشربها و الخلود للنوم سريعا مبتعدا عن كل ما يزعجه.
غير أن الوضع كان معاكسا تماما فبعد ما عاشه مع مريم لم يزره النوم حتى ساعات الفجر الأولى ، و لكنه لا يمكنه إنكار أن هذا الشجار عاد بمنفعة له ...

وهو معرفته بأن تلك الغجرية لا تزال تتأثر بقربه ... لقد تعمد التقرب منها لأجل معرفة إن كان لا يزال يملك تأثيرا عليها و نال مراده عندما رآها تعود لحالتها القديمة بين ذراعه.
و بهذا يكون عمار أحرز هدفا قويا في مرماها سيجعلها لا تقوى على رفع وجهها في خاصته مجددا و تحديه ، لأنه في كل مرة سيذكرها بإستسلامها بين ذراعيه اذا صرحت بكرهها له ! 

إبتسم بمكر تلاشى عندما رن هاتف مكتبه و أخبرته مساعدته بأن المتدربة مريم عبد الرحمن قد أتت ، فسمح لها بالدخول ثم التفت الى الشرفة ثانية وهو يفكر بضيق في أن مريم بالتأكيد لفتت أنظار الرجال اليها بسبب هيأتها الغجرية المتمثلة في شعرها الطويل المموج بجنون و ثوبها المنفتح من جهة الصدر و الكتفين ثم خلاخيلها و اكسسواراتها المثيرة للضجة ، اللعنة ستمر على أبصار الجميع بعدما كان لا يراها رجل غيره ! 

تشتت انتباهه حينما سمع طرق الباب ثم فُتح و دلف الزائر ، انتظر عمار سماع صوت رنين الخلخال لكنه لم يفعل فإعتقد بأن شخصا آخر قد جاء إلا أن صوتها المألوف فاجأه :
- انت طلبتني. 

استدار عمار اليها ليكلمها لكن فجأة تجمدت ملامح وجهه و شعر بالكون يدور بغير إتزان وهو ينظر إلى تلك المرأة ... الغريبة !
جحظ عيناه الزيتونيتان و فتح فمه بذهول ممررا بصره عليها بدون إستيعاب ، و للحظة فكر بأن المرأة التي تقف أمامه ليست مريم الغجرية ، بل فتاة أخرى لا يعرف عنها شيئا. 

كانت بهيأة لم يرها عليها في السابق أبدا ، إختفى فستانها المبهرج و حل مكانه سترة سوداء و بنطال جلد من نفس اللون
الحذاء المسطح الذي كان يظهر خلخالها لم يعد له وجود مع ذلك الحذاء ذو الكعب العالي ، ثم ... يا الهي.
نصب عليها أنظاره كالمهووس الذي لا يكاد يميز بين الحقيقة و الخيال ، زيتونيتاه تبحثان عن ذلك الشعر المجعد بعنفوان محبب غير أنه كان يبصر شيئا آخر.

برى خصلاتها تصل إلى منتصف ظهرها بعدما كان يتجاوزه بكثير ، إختفت تموجاته و أصبح مسبلا كالحرير ، حتى كحل عينيها الثقيل و أحمر الشفاه الفاقع لم يعودا موجودان ،مالذي فعلته هذه المرأة بنفسها !
ظل عمار يتأملها بدون تصديق حتى هز رأسه و بلل حنجرته اللي أحس بجفافها ليهمهم في الأخير :
- انتي ... عملتي ايه.

مسحت كل ما كان يحبه و يجذبه إليها ، إكتفت مريم بقول هذه الجملة بداخلها و ظهر ردها على شكل إبتسامة توحي بالكثير ، نعم لقد غيرت كل ما يميزها ، لم تعد هناك غجرية يغازلها بوقاحة و يذكرها بحب الماضي ، لم يعد لديها فرق عن باقي الموظفات في هذه الشركة.
هي لم تفعل ذلك لأنها تخجل من حقيقتها ، بل لأن كل تفصيلة منها قد مرت من تحت عينيه و يديه جاعلة منه متفاخرا كونه أول من حصل عليها ، و فعلته ليلة أمس أثبتت كم أنه حقير متجسس.
لذلك سوف تعمل مريم على قطع كل رباطها به ، ثم التخلص منه و طرده من حياتها نهائيا ! 

لهذا قالت بنبرة متزنة :
- انا عملت ايه ؟ حضرتك اللي طلبتني يا استاذ عمار.

رفع حاجباه وقد فهم ما تحاول فعله فإقترب منها بهدوء ثم وقف أمامها ، و غمغم بنبرة متثاقلة :
- بتقولي هعمل نفسي مش فاهمة و ابدأ معاك الحرب الباردة يعني ...
 طيب تمام يا مدام مريم النهارده أول يوم ليكي في التدريب و هنشوف شغلك طول الفترة المحددة علشان نعملك موظفة رسمية في الشركة ولا تكتفي بشهادة تدريب و تطلعي و متبصيش لمؤسسات البحيري تاني.

ردت عليه مريم بثبات :
- انا جاية هنا مش عشان اخد شهادة و امشي ... رسمت طموحات كتيرة من قبل ما ادخل الشركة و دلوقتي بما اني عديت الباب ده يبقى مستحيل ارضى قبل ما اخليها حقيقة. 

لم تتوقع أن تظهر إبتسامة عمار على وجهه وهي تلقي كلماتها ، ظنت أنها قد تستفزه فيستهزئ بها و لكنها للحظة خيل لها أنها رأت إعجابا في عينيه ناحيتها ، إلا أنها درأت خاطرتها مستمعة لكلماته الرتيبة وهو مازال يتأمل هيأتها الجديدة بقوة :
- يبقى لازم تورينا شطارتك عشان نعرف لو كنتي طموحة بجد ولا مجرد كلام فاضي ملوش لازمة .... good luck to you.

هزت رأسها بدون جواب و غادرت المكتب ، بينما تداعى ثبات عمار الزائف فضرب بقبضته على الجدار ساحبا أنفاسه الثائرة بصعوبة.
اللعنة لقد جنت مريم لدرجة أن تنزع كل ما كان يميزها و هذا فقط لأنه أبدى إعجابا بتفاصيلها - السابقة -
كيف وصل بها العته الى هذا الحد بل كيف تستطيع التخلص من شعرها الذي كانت تتغنى به في وجوده ، ما بال الغجرية هكذا !
________________
بمجرد خروجها من الغرفة ، أراحت ظهرها على الباب و أغمضت عيناها تخرج أنفاسها التي احتبستها طوال وجودها بجواره.
لا تصدق أنها استطاعت التحكم بأعصابها و عدم الصراخ عليه و التصريح بكرهها له بل مثلت البرود و لعبت دور الامبالاة وهي تراه يحدق في مدى تغيرها.

إستقامت مريم في وقفتها مستعيدة رباط جأشها فلا وقت لديها للإنهيار الآن ، و لكنها عندما رفعت يدها لتداعب خصلاتها المجعدة و تعيدها إلى الخلف كحركة تلقائية منها بسبب تعودها على فعل ذلك حينما تتوتر.
توقفت فجأة و تذكرت أنها لم يعد لديها ذلك الشعر الغجري و عليها التأقلم مع وضعها الجديد ، فأخذت نفسا عميقا و تحركت تضع خطواتها على الأرض بثقة إلى أن صادفت السيد رأفت في طريقها.

فنظر إليها هو ولم يذهل بشكلها الجديد لأنه رآها من كاميرات المراقبة منذ أول دخولها للشركة صباحا ، تقدم منها لتبدأ مريم الحديث :
- أهلا و سهلا يا رأفت بيه. 

 - اهلا مريم ... عاملة ايه في اول يوم فتدريبك اقتنعتي ان ملكيش مكان هنا من اول نظرة ولا لسه عاوزة تجربي بنفسك. 
تساءل بإستهزاء قاصدا التقليل منها و إزعاجها لكن مريم لم تعطه ما يريده فلقد ابتسمت له و أجابته ببرود متقن :
- سمعت كلام شبه كلام حضرتك من عمار و انا هرجع اقول نفس الرد ... انا جاية علشان اخد وظيفة في الشركة ديه ومش هرتاح غير لما ابقى من أشطر الموظفين في شركتكم ... و ده وعد مني.

بهت رأفت و لم يجد حروفا تليق بجوابها فهزت رأسها و أضافت :
- لو مفيش حاجة تانية توقفوني عشانها ف انا بستأذن عشان اروح اشوف شغلي. 

أفسح لها للمرور و راقبها وهي تسير بخيلاء متجهة لقسمها ، ثم شرد في الفراغ بعدما زارته خاطرة عن زوجته المتوفاة فيروز قبل سنوات طويلة جدا.
حين صادفها لأول مرة في مكتب والده المتواضع ، و شاهدها بإنبهار وهي تمشي مسدلة شعرها رافعة أنفها للسماء بغرور لاقَ بها كثيرا و غير عابئة بنظرات الرجال التي تتبعها بإعجاب و حالمية لتلك الأعين الزيتونية الامعة.
و اليوم بعد مرور 35 سنة على أول لقاء بينهما ... رأى لمعة عينا فيروز تعود و تظهر على حدقتي مريم ، فأدرك حينها أنه يجب عليه إبعادها عن عمار و طردها من قلبه ، بأنه إن لم يفعل.
سيلقى إبنه نفس مصير والده !
_________________
دخل يوسف إلى الشركة و اتجه سريعا نحو قسمه الذي استضاف متدربين جدد اليوم ، دلف اليهم و ابتسم ببشاشة لرؤيتهم ثم قال :
- First, I apologize for the delay ، كنت عايز ابقى اول واحد يستقبلكم بس مع الاسف حصلتلي ظروف منعتني من اني اجي بدري.

تابع الترحيب بهم و التكلم عن حماسه لفترة التدريب هذه و أنه متأكد من نجاحهم.
و عند إنتهائه انخرط الجميع في عمله بينما مرر يوسف عيناه على مجموعته يبحث عن شخص معين توقع رؤيته و خاب ، فتنهد بإحباط و فكر بأنه حصل شيء جعلها لا تأت إلى الشركة.
غير أنه قد التمعت عيناه و شقت الإبتسامة وجهه بتلقائية عندما سمع صوتها يصدر من خلفه :
- مستر يوسف. 

التفت إليها و كان مثل الجميع له نصيب من الدهشة لرؤيتها ، طالعها من أعلى لأسفل دون أن يظهر ذلك لكي لا تتضايق ، و تفاجأ حقا من التغير الذي طرأ عليها و لكن هذا كان أفضل.
انها تبدو أجمل بكثير في هذه الهيأة بدل شعرها المموج و ملابسها التي كانت تظهر إختلافها عن البقية ، على الأقل تبدو مريم الآن كفتاة تنتمي للمدن المتحظرة و بالتأكيد هيأتها الحالية أفضل مليون مرة من القديمة.

تنحنح يوسف و تقدم منها مبتسما :
- مدام مريم ... I am really glad to have you with us ... فرحت لما لقيتك هنا.

ابتسمت له بمجاملة فتابع مضيفا :
- ايه رايك في Translation Department ( قسم الترجمة ) ، اتعرفتي على سيستم التدريب ولا لسه.

تنهدت مريم و نفت بإستياء :
- لأ ملحقتش اعرف حاجة عنه لان عمار ... عمار بيه طلبني لمكتبه اول ما دخلت. 

هز رأسه متفهما ليقترح عليها بلطف :
- تمام ديه فرصة ليا عشان اعرفك على القسم لاني كمان لسه واصل و لقيت المتدربين بدأو في الشغل ... تعالي معايا.

أشار لها بالتقدم فذهبت معه و كانت منبهرة بضخامة القسم الذي يعتبر دعامة أساسية لكل مؤسسة تسمح لها بالتواصل مع مختلف المؤسسات الأجنبية.
يعمل لدى الشركة فريق عمل كبير من المترجمين والمراجعين  المتخصصين والمحررين الأجانب المقيمين بمصر وخارجها، ويتعاون مع القسم بعض أساتذة الجامعات المتخصصين في مجال الترجمة؛ لحل الإشكالات التي تواجه المترجمين، وإتاحة خدمة الاستشارات الفنية في مجال الترجمة المتخصصة.

تابع يوسف الشرح بالتفصيل حتى انتهى فشكرته و ذهبت تتخذ مكانها على كرسيها ، بينما ظل الآخر يطالعها من بعيد بإبتسامة إلى أن إستفاق من سكرته و همس :
- انت بتعمل ايه يا يوسف ... اصحى مينفعش تعمل كده ديه ... ديه مرات صاحبك !



الفصل السادس والثلاثون : لطف مزيف.
_________________
تمر الحياة بتقلبات عديدة.
بعضها تجعل الإنسان يتكيف مع تغيراتها و يتقبلها ...
و بعضها لا يتقبلها فيسعى إلى تدويرها لصالحه بالقوة ...
و بين هذا و ذاك تضيع الروح مشتتة بين العقل و القلب ، الكبرياء و الإنكسار ، الثقة و الخيانة ...
فتصبح هذه الروح قاسية ، مؤذية يمتد أذاها لنفسها حتى ، ولا سبيل لمعرفة أين الصحيح من الخطأ !! 

أنهت جلسة تزيينها و نظرت إلى المرآة فشقت ابتسامة الزهو وجهها مطالعة إياه بغرور لا يليق إلا بها ، هي إبنة عائلة البحيري التي يتغنى الناس بحسنها و دلالها فكيف لا تغتر بجمالها الذي فتن الجميع ... عداه هو.
انطفأت ابتسامتها فجأة عند هذه الخاطرة و غلفت عيناها غشاوة من الحزن و لكنها افاقت نفسها سريعا و ركزت على هدفها ، لن تجعل مزاجها يفسد هذا اليوم هي ذاهبة لمواجهة غريمتها لذلك لا يجب أن تبدو عليها أي لمحة من الضعف. 

نهضت تضع قلادتها الألماس التي ستبدو رائعة على هذا الفستان ثم نثرت العطر على مواقع النبض لديها داعبت شعرها الحريري قبل أن يأتيها صوت والدتها التي دخلت لغرفتها و سألتها :
- انتي رايحة لمكان يا حبيبتي.

ردت عليها بنبرة عادية وهي تلتقط حقيبتها :
- ايوة انا رايحة للشركة. 

اضمحلت ابتسامة فريال التي ظهرت على محياها عند إعتقادها بأن ندى ستخرج مع رفاقها ، و جعدت حاجبيها هاتفة :
- اشمعنا النهارده يعني. 

- جه ع بالي اشوف شركتنا يا مامي ايه ممنوع !

ازدادت حيرتها من حالتها ولكنها نفت على أي حال ، ألقت ندى نظرة أخيرة على نفسها و نزلت إلى الأسفل فقابلت شقيقتها منال التي قالت بإمتعاض :
- برضو مصممة تعملي اللي في بالك ... انتي فاكرة لو جهزتي نفسك كده و روحتي قابلتي مريم و سمعتيها كام كلمة هتخليها تطلع من الشركة يعني. 

ضحكت ندى بخفوت و أجابتها :
- My beautiful sister ، انا مش رايحة اتخانق مع البربرية ديه ولا اعمل معاها مشاكل كل اللي عايزاه اني اوريها قد ايه هي أقل مني تقف قدامي و تعمل مقارنة بيننا ، عايزة اشوف الست اللي اتجرأت على عيلتنا.

و مواجهة المرأة التي سحرت عمار لسنين طويلة و أغلقت عيناه عن باقي النساء ، كتمت ندى هذه الجملة بداخلها ثم أرسلت قبلة لمنال في الهواء وودعتها قائلة :
-  See you soon. 

ركبت السيارة الفارهة مع السائق و بعد مدة وصلت لوجهتها ، ترجلت و طالعت المبنى الشاهق ثم سارت بخيلاء و دخلت وهي تستمع لترحيبات كل من يقابلها ، بالطبع لم تخفى عن النظرات التي تلقتها من طرفهم و قد تنوعت بين الإنبهار و الدهشة من حضورهة و الترقب و السخرية ...
لكنها تجاهلتها عمدا لتريهم أن ندى البحيري لم تسقط بعد تلك الفضيحة ، مازالت شامخة تعلو بشأنها عن البقية و ستبقى هكذا. 

قابلها في طريقها أحد المساعدين وقد رحب بها بحرارة :
- اهلا يا هانم الشركة نورت بوجود حضرتك.

إبتسمت له و هتفت :
- بابي في مكتبه ؟ 

- لا عادل بيه و رأفت في ميتنج من ساعة ونص و عمار بيه معاهم ، حضرتك تقدري تستنيه في مكتبه تحبي اطلبلك ... 

قاطعته بدون مبالاة :
- لأ انا هعمل جولة سريعة ع المكان هنا ولو عوزت حاجة هقولك.

اومأ بإحترام و انسحب بينما تابعت ندى تخطو بكعبها العالي خطواتها الرشيقة و في كل دقيقة تسمع شهقة تفاجؤ عندما يرونها ، حتى وصلت أخيرا إلى القسم الذي تبتغيه و المغطى بحواجز زجاجية تجعل من في الخارج يرى كل ما يحصل بالداخل.
توقفت ندى تمرر عيناها بخفة حتى وقعت على شخص بعينه ، و تأججت النيران بداخلها وهي ترى غريمتها تجلس بوقاحة في مكان هو ملك لعائلتها.

كم شعرت بالكره لها في هذه اللحظة ، هي لم تمقت أحدا بهذا القدر من قبل ولكن ما فعلته الغجرية الهمجية جعلها تعيش مشاعر لم تتخيل أنها تجتاحها يوما.
و كم تتمنى لو تمتلك الحق في شتمها و لعنها أمام الجميع ثم طردها من شركتهم و حياتهم ، غير أنها لا تستطيع.
فعمها و عمار و حتى والدها موافقون على توظيفها لديهم ! 

أخذت نفسا عميقا تسترد ملامحها الرقيقة ثم توجهت لغرفة عمار و دخلت دون صعوبة بما أن عمار قد أعطاها في الماضي الحق في إنتظاره بمكتبه إذا لم يكن موجودا ، لذلك ولجت بثقة و جلست على كرسيه بعدما أمرت مساعدته بطلب المتدربة مريم عبد الرحمن.

كان عمار قد ترك وشاحه معلقا فسحبته و دست أنفها به تستنشق اثر عطر عمار الرجولي الممتزج مع رائحة سجائره وهي تغمض عينيها.
لطالما صاحب هذا الوشاح الرمادي عنق عمار في كل موسم خريف بارد ، و برغم أنه يملك الكثير من الأوشحة إلا أن هذا الوشاح بالذات متعلق به بصورة عجيبة ، و لكنها لا تلومه فلونه و ملمسه و الدفئ الذي ينبعث منه يجعل الإنسان لا يتخلى عنه.
تنهدت ندى متلمسة إياه ولا تزال مسحورة برائحته ، كانت هي من رشحت له هذا العطر الفاخر منذ سنتين و أهدته إياه كهدية فلاقى إعجابه و منذ ذلك اليوم وهو يستخدمه ، كم كانت علاقتهما جميلة و مميزة لولا دخول تلك المرأة بينهما ، ليته لم يعرفها أبدا ، لكانت حياتهما جميلة جدا الآن. 

طرق الباب و ظهرت من خلفه صاحبة أفكارها ، المرأة الغجرية التي طالعتها بدهشة من وجودها لأنها اعتقدت بأن عمار من طلبها و كانت آتية من أجل نهره عن جلبها لمكتبه كلما سنحت له الفرصة.
و لكنها لم تتوقع وجود إبنة عمه التي سبق و أن أفسدت حفل زفافها و تسببت في محاولتها الإنتحار ، ازدردت ريقها بضيق و اقتربت منها بضع خطوات متمتمة :
- كنت فاكرة عمار اللي ...

قاطعتها ندى وهي تضع ساقها فوق الأخرى :
- اسمه عمار بيه ... هو هنا مديرك. 

ألجمتها ببرودها فلعنت مريم نفسها لأنها جاءت للمكتب من الأساس وقد أدركت أن ندى حضرت من أجل إستفزازها و إستحقارها.
لذلك لم تود أن تعطيها هذه الفرصة على طبق من ذهب لذلك هتفت بهدوء :
- بما أن عمار بيه مش موجود يبقى حضوري ملوش لازمة. 

تحركت لتغادر و لكن ندى استقامت و أوقفتها بقوة ثم بدأت تقترب منها حتى أصبحت مقابلة إياها ، لترفع مريم حاجبها و تستفسر بإستنكار :
- ايه ناوية تعملي مشاكل في اول يوم ليا في الشغل ... اوعى يكون عمار اللي باعتك.

إستهزأت بها ندى و ردت عليها متهكمة :
- عمار باله مش مشغول بيكي اصلا علشان يبعت اي حد ليكي ... و كمان المشاكل و الفضايح دول من اختصاصك انتي انما واحدة زيي جاية من عيلة كبيرة و راقية مستحيل تنزل للمستوى ده ... عكسك انتي معندكيش أهل تخافي عليهم من الفضايح.
 
للحظة إنكسر لمعان مريم في عينيها من ألم حقيقة يتمها و لكنها تحاملت على نفسها ولم تظهر أي رد فعل ، بينما إدعت الأخرى التكلم بهمس و كأنها على وشك قول شيء خطير :
- By the way ، انتي عندك عم واحد و باعك لعمار مش كده ... علشان السبب ده فضلتي مرمية في شقة معزولةلمدة سنتين ونص.

- متتجاوزيش حدودك ! 
هتفت بها مريم بتحذير وقد انقشعت كل ملامح الصلابة المزيفة حينما ضمت قبضة يدها تمنع نفسها عن صفع الوقحة المدللة بصعوبة ، و بداخلها كانت تدرك مدى صدق ندى غير أن الموت الآن كان أهون لها من إظهار تأثرها.

بينما سكتت الأخرى و اكتفت بتأملها مليا لعلها تبصر سر ما جذب عمار إليها من لقاء واحد فقط.
حسنا المدعوة مريم جميلة ، و لكن ندى تفوقها جمالا بكثير ، انها تمتلك جميع المواصفات الازمة من شعر أشقر حريري و عينان ملونتان و نسب و جاه و دلال ، في حين أن الغجرية تعكسها في كل شيء من ناحية الشكل و الطول و درجة التعلم و البيئة التي ترعرت فيها و باقي التفاصيل الأخرى.

اذا لما أحبها عمار و لما يحب ابنة عمه التي تربت معه ، مالذي يجذبه في هذه المرأة البربرية و يجعله صبورا عليها لحد الآن !
بالتأكيد لم تكن ندى ستبوح بما يخالجها بل آثرت اخفاء حيرتها و الاستمرار بإستفزازها حيث هتفت :
- هو انتي شايفة نفسك على ايه مجرد واحدة مكنش حد هيعرف انها عايشة لو مستغلتش اسم عيلتنا و حبت تظهر على حسابنا.

- الصراحة مش عايزة ابقى كأني بتخانق علشان راجل بس انا هي نفس الست اللي جري وراها اول ما شافها و فضل سنين يخاطر بسمعته علشان يفضل معايا و يكذب على عيلته بسببي ... حتى انتي عمار فضل معيشك في كذبه و ليلة فرحك انتي وياه كان عايز يقضيها معايا انا لولا اني وقفته و بعتهولك و لسه لحد دلوقتي بيجي لشقتي و بيحاول يقرب مني ... لو مش مصدقاني اسأليه.

نجحت في إغضاب الأخيرة التي تلقت صدمة أخرى تمثلت في حقيقة أن عمار ظل راغبا بمريم حتى قبل ساعات قليلة من زفافه ، بقي متمسكا بها ولم يفكر لحظة في خطيبته التي جلست تنتظره في غرفتها !
ضغطت بأصابعها على طرف ثوبها متوسلة الهدوء و عدم إنزال دموعها المختبئة خلف غشاوة عينيها ، ثم بلعت تلك الغصة بحلقها و تمتمت بإزدراء :
- انتي فاكرة عمار متمسك بيكي عشان بيحبك ؟ فوقي بقى هو مستني يعرف كل أسرارك بعدها يرميكي زي لما كان بيعمل زمان ... لما كان يسيبك في شقته و يجي يقضي وقته معايا.

ارتفع نسق أنفاس مريم و تطايرت الشياطين أمام وجهها من كثرة الإنفعال بينما كانت ندى تردد بإستحقار أكبر :
- مهما عملتي و اشتغلتي و غيرتي شكلك هتفضلي نفس الست اللي استخسرت يتعملها فرح و رضيت ببواقي زوج بيديها ساعتين من وقته كل شهر بعدين يسيبها و يمشي.
و انا هفضل بنت عمه اللي حتى لما كان بيكدب عليها بس مرضيش يقلل من مستواها و وراها للناس و عملها خطوبة و فرح ضخم لولا العشيقة اللي جت و بوظته. 

بكلماتها الأخيرة قضت على أي فرصة تكبح جنون مريم التي خرجت عن عقالها ، فإقتربت منها ولم تشعر بنفسها إلا وهي تقبض على فكها بعنف صائحة بشراسة :
- قولتلك متتجاوزيش حدودك انتي مين علشان تحكمي عليا و تحددي الصفة بتاعتي لو عايزة عمار بتاعك ده خديه مش عايزاه بس اوعى تغلطي في حقي !

رافق صراخها فتح الباب ليظهر عمار و يوسف من خلفه فيصعقا من رؤية مريم فاقدة لأعصابها و تتهجم على ندى في غرفة المكتب التي لا تخصهما أساسا.
فغر عمار فاه بصدمة قبل أن يستجمع نفسه و يقترب منهما ليفصل زوجته المجنونة عن ابنة عمه ، سحبها من ذراعها هاتفا بخشونة :
- في ايه اللي بيحصل هنا انتو بتعملو ايه. 

أفلتتها مريم بإزدراء بينما أمسك يوسف ندى التي بالغت في إظهار ألمها وهي تدمع عينيها :
- اللي بيحصل أن الست البربرية ديه اتهجمت عليا في نص شركتنا هي ديه اللي انتو جايبينها تقعد وسطينا ! 

التف الأخير إلى الفتاة التي تتململ بين يديه تحاول الفكاك منه و رمق يوسف بنظرة فهمها الآخر فأومأ له بالموافق ، ليسحب عمار مريم معه و يأخذها لشرفة المكتب بحيث لا يظهر أحدهما إلى من بالداخل ثم جذبها ناحيته بعنف صارخا بهمجية :
- انتي اتجننتي خلاص خلصتي شغلك معايا و جه دور ندى تحاولي تضربيها انتي فاكرة نفسك مين فهميني ايه الجرأة اللي عندك ديه معقول تتهجمي على بنت الشخص اللي لولا موافقته عمرك ما كنتي هتعتبي باب الشركة ! 

- مش انا اللي بدأت بنت عمك هي ...
انتفضت تدافع عن نفسها غير أن الآخر أوقفها مقاطعا إياها بصرامة :
- بطلي كدب و نفاق كلنا شوفنا مين اللي غلط مع التاني بس بقولك ايه اسمعيني كويس يا مريم انا ممكن استحمل كل اللي بتعمليه معايا عشان عارف انك فاهمة حاجات كتيرة غلط عني بس إلا ندى فاهمة اوعى خيالك يصورلك انك بتقدري تأذيها.

بهت وجهها و تسمرت مكانها تطالعه بدهشة تحولت إلى إستوعاب وهي تتمتم مستدركة :
- طبعا ما هي حبيبة قلبك ايه الفايدة من اني ادافع ع نفسي ... معاك حق انا بكدب. 

بالطبع هو الملاك الحارس لتلك المدللة ، مالفائدة من تبريراتها لرجل خانها مع قريبته و قتل جنينها ، أساسا لقد إنتهت حياتها المهنية في نفس يوم بدايتها ، ندى إستفزتها متعمدة و هي إنقادت خلف مشاعرها و تهجمت عليها.
بمجرد أن يصل الكلام للسيد رأفت و السيد عادل لن يسمحا لها بالبقاء دقيقة إضافية في الشركة ، لذلك ستذهب لجمع أغراضها قبل أن يطردوها أمام الجميع يكفيها ماسمعته من إهانات. 

لم تشعر مريم بغشاوة الدموع التي ترقرقت في عينيها و حتى أنها لم تلاحظ ضغطها على شفتيها لتكبت شهقاتها ، إلا أن عمار إنتبه لما يحدث معها فأمسكها من معصمها بعدما كادت ترحل ، و همس بذهول متسائلا :
- انتي بتعيطي ؟ 

حررت يدها منه بنفور :
- مش هعيط علشان ناس زيكم.

- ناس زينا ؟
سأل مجددا ثم تدارك الأمر و تشنج صوته وهو يقول :
- ايه اللي حصل بينك و بين ندى اساسا انتي ايه اللي جابك لأوضتي اتكلمتو ف ايه خلاكي تتجنني كده.

هل فكر بسؤالها الآن ؟ هذا إن لم يكن متواطئا مع ندى وقد اتفق معها على ما حدث بهدف طردها من الشركة ، لن تستغرب الأمر اذا كان صحيحا. 
و لذلك لم ترد إضاعة وقت إضافي معه فهمست :
- سيب ايدي انا عايزة امشي.

نفث عمار الهواء بقوة و ألم رأسه يعاوده من جديد ، مهما حاول الهدوء من أجل حالته الصحية يجد مريم تفتعل مشكلة أخرى تجعله يبدأ من الصفر لذلك لم يجد مانعا من الضغط عليها أكثر ففي كلتا الحالتين سيقضي اليوم بطوله مع هذا الصداع المقيت ولن يشفى منه.
لذلك رفض تركها بل قربها منه حتى لفحت أنفاسه بشرة وجهها ليهمس :
- انتي عارفة اني مش هسيبك قبل ما تجاوبيني فمتتعبيش نفسك اكتر و احكيلي ع اللي حصل.

انقشعت ذرات تحملها و التمعت عيناها بالغضب الممزوج بألم أخفته ببراعة وهي تردف بقوة :
- بنت عمك خلت المساعدة بتاعتك تطلبني لمكتبك و اول ما شافتني قالتلي كل الكلام اللي قالته ناس كتير عليا و انت منهم.
 زي اني رخيصة بعت نفسي عشان الفلوس وكنت برضى بساعتين من وقتك زي العشيقة ولما تخلص مني تروح تقضي يومك مع حبيبتك في العلن.

صعق من كلامها فطفق يناظرها مصدوما ، متخبطا بجنون لاطمته أمواج الغضب الهادر عند إدراك ما تسبب في جنونها هكذا ... و دموعها ! 
كيف يتجرأ أحد على قول هذا لزوجته بل كيف تتخلى ابنة عمه عن أصالتها و تهين مريم هكذا ، و لكن لماذا يغضب إن كان ما يتداوله الناس على أفواههم صحيحا وهو السبب في ذلك ، يجب أن تكون مشاعر الغضب موجهة إليه و ليس لشخص آخر ! 

تسارع نبضه بنسق خطير و استنفرت عروقه من شدة العصبية ، قبل أن يفلتها و يهمس بصوت تبينته بصعوبة :
- امشي انتي دلوقتي و متكلميش حد ع اللي حصل ساسا الدوام بتاعك خلص مفيش داعي تفضلي اكتر في الشركة.

لوت مريم شفتها بتهكم و كرهت نفسها لأنها استسلمت لدموعها التي أظهرت مدى تأثرها بحديث غيرها ، في الأساس هي قد سمعت الكثير من هذه الأقاويل تلقتها من طرف ابن عمها المتحرش و السيد رأفت و المتفاعلين مع مواقع التواصل الاجتماعي و حتى من عمار نفسه.
كان يجب عليها كسب مناعة قوية ضد إهاناتهم إلا انها لا تعلم لماذا بكت حقا ، هل بسبب القول عنها عشيقة فقط ، أم لأن ندى قارنت بينهما و اوضحت لها كم أن علاقتها قوية مع عمار ! 

ألقت نظرة أخيرة عليه و غادرت المكتب كليا ، بينما بقي عمار واقفا مكانه يتصارع مع شياطينه كي لا يجن ، ثم اتجه الى غرفته فوجد ندى جالسة على المقعد و يوسف يقدم لها كوبا من الماء و عندما رآه انتفض بلهفة و اقترب منه هامسا :
- ايه اللي حصل انا شوفت مريم طالعة دلوقتي و باين عليها مضايقة اوي.

لم ينتبه عمار الى نبرة صديقه المهتمة أكثر من الازم بل ركز على الأخرى ثم غمغم :
- ممكن تسيبنا لوحدنا شويا ... و متعرفش حد باللي حصل.

تعجب من حالته و أدرك بأن شيئا ما حدث بين الفتاتين جعل الأوضاع تتعقد هكذا ، لقد كان مع رفاقه و العملاء يتبادلون أحاديث جانبية بعدما انتهى الإجتماع ، قبل أن ينسحب وليد فيبقى هو و عمار رفقة بقية الأوضاع فيصل لهما خبر بأن الآنسة ندى البحيري جاءت الى الشركة و دخلت غرفته فنالت الدهشة منهما حين معرفتهما بأن مريم برفقتها الآن !

استأذن عمار و توجه لمكتبه فتبعه يوسف سريعا و انصدما عند رؤيتهما تتشاجران و هو لا يعلم لحد الآن ماذا حدث بينهما.
غير أنه لم يكن له سبب للبقاء هنا على أي حال فتنهد و اومأ بإيجاب قبل أن ينسحب من الوسط و يذهب للبحث عن مريم التي تشغل باله.

بينما من الناحية الأخرى كان هو يتطلع بنظرات حادة اتجاهها ولم يخفى عنه ارتجافة يدها عندما رأته في تلك الحال ، لا يصدق أن الشجار حدث بين أكثر فتاة لبقة ناعمة و فتاة كان يناديها بالمسكينة فيما مضى.
و لكن لما يجب عليه الإندهاش هكذا فالجميع نزع أقنعته و بدلها بأخرى.

تقدم منها و سحب كرسيا ليجلس أمامها عازما على توبيخها ، غير أنه عندما فتح فمه للكلام أوقفته ندى هاتفة بصوت منخفض :
- I have to tell you something important.

عقد عمار حاجباه عندما سمعها تقول بأنها يجب عليها إخباره بشيء مهم فحمحمت الأخرى و ضغطت على الكوب الزجاجي بين يديها متمتمة بحرج :
- مريم مش غلطانة ... انا السب ف اللي حصل.
- ازاي يعني ؟ ولا اقولك احكيلي كل حاجة من الاول

- لما جيت للشركة عشان اشوف بابي لقيتها في وشي و كانت بتبصلي ببرود ولا كأنها عملت حاجة ... و انا اتعصبت و طلبت منها تجي للأوضة بتاعتك لاني فكرت اننا ممكن نقدر نتفاهم لو اتكلمنا فمكان بعيد عن الناس و هادي 
 مكنتش هقدر اخدها لأوضة بابي طبعا علشان كده انا اخترت نتكلم هنا و ... اتكلمنا شويا قولتلها انا كان ايه ذنبي لما فضحتيني قدام الناس.

اغرورقت عيناها بالدمع و رفعت وجهها المحمر ناحيته متابعة بصوت متحشرج :
- عاتبتها و قولتلها لو كنتي عايزة عمار كنتي قادرة تواجهيني بالحقيقة عشان افسخ خطوبتي منه ... بس مريم كانت بتبصلي ولا كأنها عاملة حاجة عشان كده فقدت اعصابي و .. I told her bad things.

هز رأسه و تساءل قائلا بحدة :
- و انتي ندمانة عشان خايفة بريستجك يبوظ قدام الموظفين في الشركة ولا عشان غلطتي فيا انا بما اني الراجل اللي اشترا ست بايعة نفسها و رماها في شقته ولا عشان استغليتي الصلاحيات اللي ادتهالك و دخلتي اوضتي تخانقي مراتي. 

نفت ندى وهي تمسح دموعها :
- ندمت لاني مكنش ينفع اقول الكلام ده لأي واحدة ست مهما عملت ... صحيح مريم دمرتلي حياتي بس مش لازم اردهالها بنفس الأسلوب ... و كمان في وقت غضبي غلطت فيك من غير قصد انا اسفة مستعدة اعتذر منها هي كمان.

هذه المرة نجحت في إثارة دهشته حتى بات يطالعها كأنها مختلة عقلية ، هل تخبره بأنها ستعتذر من المرأة التي أفسدت زفافها و جعلتها سيرة على ألسنة الجميع ؟ و هذا فقط لأنها استسلمت لغضبها - المبرر -
هل الفتاة الواقفة أمامه لطيفة الى هذه الدرجة ، يا الهي ما أنقى قلبها.

ابتسم عمار و ضم وجهها بين يديه مبتسما :
- مفيش داعي تعتذري من حد المهم عرفتي غلطك و اتمنى انك متعمليش كده تاني ... بنوتة رقيقة زيك مينفعش تعمل التصرفات ديه.
و كمان بالنسبة للي حصل هنا في الاوضة انا ...

قاطعته بتفهم :
- مش هقول حاجة لاني عارفة لو اتكلمت بابي و اونكل رأفت هيلوموك و انا مش عايزاك تضايق ... علشانك بس.

أنهت حديثها بغمزة مرحة و ضحكت له فبادلها إياها ثم عانقها بهدوء ، و بمجرد أن اختفى وجهها عن مرمى نظره مسحت ابتسامتها المزيفة و تنهدت بإنتصار لأنها استطاعت تهدئته.
لقد كانت تخطط لإستفزاز مريم لجعلها تفعل تصرفا أخرقا و تُطرد من الشركة ، و لكن عندما رأت لهفة عمار على البربرية تبعها بنظرات غاضبة نحوها علمت أنه علم بالحوار الذي دار بينهما.

لذلك قامت بالمبادرة و لعبت دور اللطيفة التي ندمت على خطئها فكسبت عاطفته مجددا بسهولة ، و فازت في مواجهتها الأولى مع غريمتها !
__________________
- يعني ايه هو بدأ يشك فيك ! 
هتف عادل بخشونة يسأل سليم الذي أخبره بما دار بينها و بين سيد عمله ، فحمحم الأخير و أجابه بحرص :
- مش شك بالضبط بس عمار بيه لاحظ اني في اخر فترة مبقتش اشتغل زي الأول وقالي لو مجبتش معلومة في غضون اسبوع هيرفدني.

لعن عادل وهو يضرب كفا بكف مفكرا بأنه كان عليه توقع أن يبدأ عمار بالشك في مساعده ، و لكن ماذا يفعل ان كان هو نفسه لا يعلم أين كانت تلك الفتاة طوال هذه الفترة.
منذ هروبها من المستشفى لم يجرب البحث عن مكانها كان يكفيه أن تكون بعيدة عنهم.
ثم علم بأن رأفت وجدها و ملأ رأسها بالأفكار السيئة ضد إبنه إلا أنه لم يسأله أين ذهبت مريم و لم يجرب البحث من الأساس ...
هذا لأنه يعلم أن رأفت قد اخذ كل احتياطاته ومن الصعب العثور على شيء أخفاه بنفسه.

زفر بغضب فقال سليم :
- طيب احنا هنعمل ايه دلوقتي ... حضرتك أمرتني مدورش على حاجة و في الاخر عمار بيه يزهق و يبطل يحاول يعرف مراته كانت فين بس دلوقتي هو بدأ يشك فيا ... بعد اذن حضرتك انا شايف هيبقى أحسن لو نفذت أوامره و جبتله معلومة حتى لو صغيرة بس على الاقل يرجع يثق فيا تاني.

- المشكلة ان عمار لو عرف مراته كانت مختفية فين و مين اللي ساعدها هيقدر يوصل لسبب كرهها ليه كمان و يعرف ان الاجهاض كان سببه تسمم. 
من غير حاجة انا ببقى خايف القصة تتكشف في كل مرة لما الاتنين دول يشوفو بعض ، انا مكنتش حاسب حساب البنت ترجع و دلوقتي مش عارف ابعدها عن هنا بسبب اخويا.
انا لسه مستغرب من مريم لانها لسه مواجهتش عمار و مع ذلك مش قادر افكر هنعمل ايه لو مريم حكتله على كل حاجة.
تمتم عادل بعصبية سوداء وهو يفكر بأن عمار لو علم بتسمم مريم سيشرع بالبحث عن الجاني و سوف يبدأ من مساعده سليم لأنه هو من أخذ الهدية المسممة لها و بالتالي وصوله لعمه لن يكون صعبا كثيرا. 

- يا فندم انا اقترحت عليك نخلص عليها و حضرتك رفضت لانهم هيشكو فينا ... ولو من ناحية البنت تتكلم ف انا معتقدش هتقول حاجة دلوقتي لاني لما كلمتها في التلفون و قولتلها جوزك أذى ناس كتير و كان بيراقبك هي صدقتني و دلوقتي هتخاف تواجه عمار بيه عشان يمكن يخدعها تاني أو يأذيها زي لما عمل مع ابنه اللي لسه مشافش الدنيا. 

استمع عادل اليه و بالتفكير في كلامه هدأ من روعه قليلا وهو يرى أنه محق ، مريم تأكدت من أن المتصل المجهول صادق في حديثه و بهذا زاد مقتها لعمار لذلك ليس من المعقول أن تواجهه الآن خشية من تزييفه للقصة أو أن يؤذيها.
و لكنه لن يعتمد على الإحتمالات يجب عليه التحرك قبل فقدان سيطرته على زمام الأمور و فشل خططه ، مريم ستجعل عمار يتهاون في عمله لدرجة تمكنه من طرده من منصبه و بعدها سيكون عادل الشخص الأمثل لتولي كرسي المدير التنفيذي ! 

تعليقات