رواية نيران الغجرية الفصل السابع والثلاثون37والثامن والثلاثون38بقلم فاطمة أحمد


 رواية نيران الغجرية الفصل السابع والثلاثون37والثامن والثلاثون38بقلم فاطمة أحمد


الفصل السابع والثلاثون : إختطاف قانوني.

" اِرفق بنفسك 
كل إنسان كان سيئا بلحظة ما ! " # السلام_عليك_يا_صاحبي
بعد قضاء ساعات على ضفة نهر النيل ، يشرئب من منظره و أضواء المدينة التي زاد انعكاسها عليه سحرا ، تطلع لساعة يده ووجدها الواحدة بعد الفجر فزفر بضجر وهو يجد نفسه اضاع وقتا طويلا في التفكير.
منذ ما حدث صباحا وهو يجد نفسا عاجزا عن إيجاد التفسير المناسب لكل ما يحدث معه.

كره مريم الشديد له ، وجود سر بينها و بين والده يجعله ينفذ طلبها بدخولها إلى الشركة ، عمه الذي وافق على توظيفها أيضا ولكن يعلم جيدا أن هناك ما يخفيه ايضا ، فعمار يدرك بأن عادل يسعى لسحب منصبه منه.
كان يلاحظ إستياءه الدائم عندما يفوز بصفقة ما ، و بعد فضيحة الزفاف اعتقد بأن عمه سيهاجمه و يطالب بطرده من عمله غير أنه لم يفعل هذا لسبب لا يعرفه.
ومساعدوه العاجزون عن معرفة أي معلومة عن مكان إختفاء زوجته.

زيادة حالته الصحية سوءا و قيامه بالفحوصات العديدة التي ستخرج نتائجها بعد أيام قليلة وهو حقا لا يعلم ما سوف يجد بها ، أخيرا ندى التي أصبحت تتصرف بغرابة و تفعل أشياء غريبة وهو لا يستطيع الضغط عليها ليس جهلا منه أو تساهلا معها ، بل لأنه يعلم جيدا بأن كل ما حدث مع إبنة عمه كان بسببه.
بكاؤها و حزنها و كل تقلباتها بسببه هو لأنه خدعها لذلك ضميره الذي يؤنبه بشدة عليها يجعله عاجزا عن إتخاذ موقف قاس ضدها.

أما تلك المرأة الغجرية التي بكت أمامه صباحا فهي لم تغب عن باله لحظة واحدة اليوم ، لذلك قرر قمع تردده و الذهاب إليها في الحال ، فلم يجد نفسه إلا وهو يستقل سيارته متجها إليها !

بعد دقائق كان يفتح الباب ببطء و يدلف بخطوات هادئة ذهب إلى غرفة النوم ووجدها فارغة فبحث عنها في بقية الغرف ولم يجدها ، و توقع أين ستكون الآن.
لذلك عندما دخل عمار إلى المكتبة و وجدها نائمة على الأريكة ابتسم مفكرا بأن مريم لا تزال تقوم بنفس الأشياء عندما تحزن أو تغضب ، حبث تأخذ كتابا ما من الرفوف و تجلس بالساعات لتقرأه حتى يأتيها سلطان النوم فتغرق في الأحلام ...

دنى منها و أطل عليها من فوق ليلمح اسم الكتاب الذي بحوزتها ، ليسحبه بطرف أصابعه بحذر ثم بدأ يتلمسه و يقلب صفحاته ...

كتاب " العجوز و البحر " للكاتب إرنست همنغواي ..

 يمثل هذا الكتاب (العجوز والبحر) بوضوح الصراع الدائر بين الإنسان والحياة ومدى ثبات الإنسان أمام هذا الصراع السرمدي الذي لا ينقطع. تضربه الحياة بأحداثها فيثبت ويتسلح بما استطاع من قوة ليقاوم ويقاوم ويؤصل معنى المقاومة الذي لا بديل عنه .

قلب عمار صفحاته و ابتسامة تعلو شفتاه عند كل كلمة حطت عليها عيناه ، و ذكرياته تأخذه إلى سنوات مراهقته ، كان هذا أكثر كتاب مفضل لديه في فترة المدرسة الداخلية ، لا يزال يتذكر تلك الليالي الشتوية الباردة التي قضاها في المكتبة مع العم العجوز المسؤول عنها...
كان جميع الطلبة غادروا في العطلة الأسبوعية و بقي هو بمفدره بعدما عكف والده عن جلبه إلى القصر قائلا بأن عمار أصبح كبيرا ويجب عليه أن يعتاد على البعد عن عائلته و الإعتماد على نفسه.

فذهب تلك الليلة إلى العم العجوز و جلس مقابلا له يحدق في الكتب بتجهم ليقترح عليه الأخير بأن يختار كتابا ما يطالعه ، فهذه الليلة ستكون طويلة ولن تمر بسهولة بمجرد التحديق بملل هكذا ، و انتهى الأمر بإختيار عمار لكتاب جذبه عنوانه و أخذه الى غرفته لكي يقرأه بمفدره ..

بطل الرواية هو شيخ عجوز اسمه سانتياغو ولديه فترة طويلة من الحظ السيء في صيده في البحر، لم يتمكن الشيخ خلال أربعة وثمانون يوما من اصطياد سمكة واحدة، وكان هناك صبي صغير يحب الشيخ والشيخ يحبه كثيرا اسمه (مانولين) وسر تعلق الولد بالشيخ أنه هو أول من علمه الصيد.
وفي الرواية يرمز مانولين إلى الروح الإنسانية المتجددة بالإيمان بشيء ما...

بعد مرافقة مانولين للشيخ لأكثر من أربعين يوم منعه والداه من الاستمرار بالذهاب معه لأنه شيخ "سيء الحظ" كما يعتبره الجميع وقرر والداه ان يرسلاه برفقة صيادين آخرين، وفعلا استطاع الصيادون الصيد من أول يوم.

ذهب الشيخ العجوز الكوبي وحيدا إلى خليج كوبا /هافانا بقاربه الصغير، في وقت الظهيرة اصطاد مذهولا سمكة عملاقة، كانت مقاومة شرسة في عرض البحر ، لم يستطع نقلها في المركب وبقي وحيدا يقاومها وتقاومه لثلاث أيام و ليال فتتأرجح به وبقاربه وبجروحه الدامية  ذهابا وإيابا لعرض البحر.
في اليوم الثالث وبعد أن أُنهِك و شعر أن السمكة أيضا أُنهِكت استجمع قواه وقام بطعنها بسكين في قلبها وربطها إلى جانب المركب وبدأ رحلة العودة.

غير أن طريق العودة لم يكن أقل صعوبة ، فلقد واجهته مصاعب كثيرة استطاع تخطيها بشق الأنفس ..
و بعد أن أوى الشيخ  إلى كوخه ليرتاح فكر بطريقة ذوي الروح المنتصرة وأنه استطاع أن يهزم السمكة العملاقة كما تصدى بكل قوة لسمك القرش لذلك لا بد وأن يعود للبحر...

هي قصة فيها مفارقة ملفتة فهي مليئة بالواقعية ووصف البحر والسمك ونفسية العجوز وفي ذات الوقت رمزية لاقصى حد ، ترمز لصراع الإنسان الأزلي مع الطبيعة ومع القوى المحيطة به فما أن ينتهي من صراع حتى يدخل في صراع آخر والغلبة للروح في النهاية. 

و لا بد أن الغجرية تهدف لأن تدخل في صراعات كثيرة ولن تهدأ حتى تخرج منها منتصرة مثلما فعل الشيخ سانتياغو في عرض البحر !!

تأوه عمار بتعب و سخر من نفسه لأنه شعر لوهلة بأنه يحسدها على وضعها هذا ، فبينما يقضي هو الليالي ساهرا عاجزا عن إغلاق عينيه من شدة ألم رأسه و التفكير ، تغرق هي في النوم و كأنها لم تفعل شيئا.
دلك صدغيه و جلس مقابلا لها وهو متأكد من أن مريم لن تستيقظ بسبب نومها الثقيل ، فسمح لنفسه بتأملها بعيدا عن الشباكات التي تحصل بينهما كلما التقيا.
ثم همس بصوت متحشرج :
- حاسس نفسي مش قادر استوعب اي حاجة بتحصل حواليا ... من جهة عيلتي و من جهة شغلي و انتي و تصرفاتك.
انتي مخلياني مش عارف افكر ، أحيانا بقول لنفسي لازم اعنفك و اجبرك تتكلمي بقعد اقول اول لما اشوفك هعمل ده و ده بس لما بتقفي قدامي ببقى عاجز أعملك حاجة.

في الوقت اللي لازم عليا اشتغل ضدك و اخليكي تندمي على كل حاجة عملتيها ... بلاقي نفسي محتار اؤذيكي عشان انتقم ولا اشفعلك عشان عارف انك مستحيل كنتي تعملي كل ده لولا سبب مقنع بس هو ايه انا مش فاهم
انا اول مرة ببقى تايه كده ومش عارف لازم اعمل ايه ... امشي ورا عقلي و اطلعك من حياتي بعد ما اخليكي تخسري كل حاجة ولا ...

أو يتبع ما يقوله قلبه و يسايرها في أفعالها لعلها تعود مثلما كانت في السابق بعد أن تفرغ شحناتها الكارهة.
تمتم عمار بداخله و بقي يطالعها حتى لاحظ أن الغطاء أزيح من فوقها فظهر قميص النوم الذي ترتديه ، و لم يستطع منع عيناه من الإنزلاق بخبث على اجزاء جسدها المكشوفة و تأملها بهيأتها الفاتنة حتى شعر بنفسه ينجرف وراء المحظور ...

 فحمحم و لم يكد يبعد حدقتيه عنها إلا وقد وجدها تفتح عيناها ، لتشهق بمجرد رؤيته و تنهض مقاومة الدوار الذي أصابها اثر حركتها السريعة ثم صاحت لاهثة :
- انت بتعمل ايه هنا ! 

كان يبدو عليها الهلع من حضوره المفاجئ فلم يشأ اللعب بأعصابها أكثر لذلك تنحنح منظفا حنجرته و قبل أن يجيبها سارعت بالقول :
- مش انا خلاص اترفدت من الشغل قبل ما ادخل فيه ايه جاي تشمت فيا ؟ 

قلب عيناه بملل من تراهاتها ليغمغم بصوته الثقيل :
- انتي مترفدتيش اسمك لسه موجود في قائمة ال List of trainees ( قائمة المتدربين ) في الشركة. 

- افندم ؟
همست بذهول وعدم استيعاب لتنظر له محاولة معرفة ما إن كان يكذب عليها بهدف التسلية ولكن ملامحه الجدية أوضحت أنه صادق.
لكن كيف هذا وهي قد تهجمت على قريبة أصحاب الشركة ، منذ جاءت الى الشقة وهي غاضبة تارة تتمنى لو لم تفقد أعصابها و تارة أخرى تقول لنفسها أنها كانت محقة فيما فعلته ، كان يجب عليها إيقاف تلك المدللة عند حدودها ، هي لن تسمح لأحد بإذلالها مجددا.

إلا أنها مازالت منصدمة من كلام عمار ، لذلك أضافت :
- انا اتهجمت على بنت عمك ع فكرة مش المفروض تستغلو اللي حصل و تطلعوني برا ؟ 

تأفف من ظنونها السيئة دائما ليجيبها بنزق :
- ندى غلطت و اعترفت باللي عملته وانا طلبت منها متقولش لحد عشان عارف انك مش الغلطانة و على الاقل هي ندمت و اعترفت مش زيك بتعملي الحاجة و تبجحي فيها.

زمت مريم شفتاها بغيظ و خنق منه و قبل أن تتكلم وجدته يتركها و يغادر الشقة ، فبقيت تطالع فراغه لثوان قبل أن تهمس بحيرة :
- هو ليه حماني النهارده ، معقول عشان عارف اني مش غلطانة ولا مخطط لحاجة تانية.

وضعت يدها على صدرها تحسس نبضات قلبها ثم تنهدت متمتمة :
- احيانا بحس نفسي مش فاهمة انا بعمل ايه ... يارب متخلنيش اضيع تاني و انسى اللي رجعت علشانه.

________________
كان في سيارته يقود و باله مشغول في أشياء عدة ، مرت أيام على الحادثة التي حصلت في الشركة و منذ تلك الليلة لم يكلمها ولكنه يحصل على أخبارها من يوسف وبعض المساعدين.
لقد أبلت مريم بلاء جيدا في تدريبها و برهنت على قدرتها في الإستيعاب و التعلم بسرعة ، حتى أنها لفتت أنظار أساتذة الترجمة إليها بعد التقارير التي استطاعت تحليلها بشكل رائع مقارنة مع بقية المتدربين في أولى أيامهم ، هذا ما قاله صديقه ليلة البارحة.

ابتسم عمار بخفوت لأن هذه الأخبار كانت مفاجئة له ، حسنا هو يعلم بأن مريم تجيد اللغات ولكنه لم يتوقع أن تكون مجتهدة هكذا يبدو أنها ستظهر الكثير من مهاراتها في الأيام القادمة.
قطع تفكيره رنين الهاتف فأوصله بجهاز البلوتوث المركب داخل سيارته و أجاب :
- ايوة يا وليد.
- انت فين يا عمار أعضاء المجلس هنا و عايزين يتكلمو في المشروع.

تنحنح و رد عليه بجدية :
- انا مش هقدر اجي دلوقتي عندي شغل مهم بس المشروع عندك و انت فاهمه هتقدر تتصرف من غيري.

وصل تأفف صديقه لمسامعه ليعلق بعدها :
- رأفت بيه وكلك بالمشروع ده هيقول ايه لما يعرف انك مش موجود ... طيب ماشي تمام هتصرف بس ايه الشغل اللي عندك ده في حاجة.

توقف بسيارته و نظر إلى المشفى الضخم الذي جاء اليه ثم تنهد مجيبا :
-  متقلقش دول شوية حاجات صغيرة هخلصها و اجي بسرعة.

أنهى المكالمة سريعا و ترجل ليدخل إلى المستشفى و توجه إلى غرفة الطبيب حسين الذي اتصل به صباحا و أخبره بأن نتائج التحاليل الطبية قد صدرت.
ألقى عمار عليه التحية و جلس مقابلا له ليلاحظ تجهم الطبيب ، توقع بأن النتائج سيئة فهز رأسه و حثه على الحديث :
- انا سامعك يا دكتور طلع معايا ايه. 

نظر اليه الآخر ثم أدار شاشة الآيباد الفخم نحوه و عرض عليه بعض البيانات رجح بأنها تعبر عن فحوصاته ، فرفع عمار حاجباه و تحدث ببرود :
- مش عايز ابوظ التوتر اللي بيحصل في اللحظة ديه بس مع الاسف انا مليش في الطب مش فاهم حضرتك بتوريني ايه.

انكمش وجه الطبيب من سخريته فتنهد و تكلم أخيرا :
- انت عارف اننا عملنالك أشعة التصوير بالرنين المغناطيسي عشان نعرف سبب نوبات الصداع و فحص شامل بهدف متفوتناش حاجة.

همهم بإنتباه حاثا إياه على المتابعة فأردف الآخر :
- الحمد لله نتايج ال Medical tests نظيفة و مفيش مشكلة عضوية انت بتعاني منها ... بغض النظر عن الأدوية اللي انت بتاخدها بس بنقدر نحلها بطريقة واحدة بس.

- ايه هي ؟
تساءل عمار فصمت الطبيب يفكر في كيفية قول ما يريده ، ليحسم أمره في الأخير و يتكلم :
- عمار انت عارف ان علاقتي بعيلتك مش علاقة عملية و بس ، أبوك بيبقى صاحبي و انت زي ابني وانا مش هعوز إلا مصلحتك علشان كده لازم تسمعني كويس و متتكلمش قبل ما اخلص كلامي.
صحيح النتايج نظيفة و ده بيعني ان مفيش مشاكل صحية خطيرة ممكن تواجهنا في المستقبل بس مع الاسف الوضع ده بيعني حاجة واحدة ، كونك بتعاني من صداع دائم و احيانا غثيان و دوار و ...

استمر في التكلم عن الأعراض التي يشعر بها عمار ، نوبات من الصداع الشديد مع الإحساس بالنبض في الرأس مصحوبًا بالغثيان والقيء والحساسية المفرطة للضوء والصوت مع عدم القدرة على مواصلة الواجبات والأنشطة اليومية، وعادةً ما يكون في جانب واحد، كما يمكن أن تسبب نوبات الصداع النصفي ألمًا كبيرًا لساعات أو أيام.
و بمجرد انتهائه قال :
- المشكلة عندك نفسية يا عمار ، مفيش ادوية هتخليك تتحسن لأن الحالة ديه محتاجة علاج نفسي يعني انت لازم تتابع مع Psychiatrist كويس علشان يقدر يساعدك.

بهت عمار و رفع حاجباه بدهشة تلقائية قبل أن يطالعه كأنه مختل و يهتف :
-  Psychiatrist  ( طبيب نفسي ) ؟ دكتور حضرتك عارف بتقول ايه ؟ 

أخبره الطبيب بأن ما يعاني منه ناتج عن هواجس يعاني منها و بسبب الإسراف في الأدوية بدأ الأمر يؤثر عليه سلبا ، بينما الآخر يستمع اليه بتشنج وهو يهز ساقاه بعصبية.
حسنا هو شخص متعلم و مثقف يعلم بأن العلاج النفسي ليس عيبا أو يعتبر جنونا ، و يدرك أيضا بأن خيالاته و نوباته بسبب مشاكل داخلية.
لكن هل سيذهب إلى شخص غريب و يحكي له عن أسرار بحجة العلاج ؟ هل سيخبرهم بأنه رأى والدته تخون والده ومنذ ذلك اليوم وهو في هذه الحال ؟ 

يستحيل أن يحدث هذا ، لم يعرض نفسه لتلك المواقف أبدا.
لذلك انتفض واقفا و تمتم بكبت :
- اتمنى مقابلتنا ديه تفضل بيننا و محدش يعرفها ، عن اذنك.

اتجه الى الباب و قبل أن يغادر أوقفه صوت الطبيب الحازم :
- كل لما بترفض بتأذي نفسك اكتر ، العلاج مفيد ليك انت اول حد و مفيد لغيرك ، و افضل فاكر انك لو معملتش الخطوة ديه حالتك هتسوء يا عمار. 

أوقف أنفاسه بداخله و رحل سريعا ، و في طريقه إلى الشركة جاءه اتصال من سليم فرد عليه قائلا بحدة :
- لو هتقول زي كل مرة انك مقدرتش توصل لحاجة مفيش داعي.

رد عليه الطرف الآخر بهدوء :
- لا يا فندم انا قدرت اجمع معلومات قليلة بس مهمة جدا لحضرتك.

أوقف السيارة على جانب الطريق و أرهف السمع جيدا :
- وصلت ل ايه ؟ 

- احنا لقينا اسم مريم هانم مسجل في قائمة المسافرين من الاسكندرية للقاهرة في تاريخ اللي قبل يوم فرح حضرتك بأسبوع يا فندم يعني هي كانت موجودة في الاسكندرية قبل ما تجي لهنا.

رمش بعينيه بتفاجؤ ثم علق بتعجب مستنكرا :
- الاسكندرية ؟ مريم هتعمل ايه هناك اصلا هي ملهاش حد غير بيت عمها انت متأكد !

رد عليه بإيجاب :
- ايوة حضرتك انا كمان كنت مستغرب زيك بس ليا واحد معرفة في محطة القطار قدرت اشوف تسجيلات الكاميرا و جبتها منهم ، بس مش عارفين اذا هي كانت طول السنة ديه متخبية في الاسكندرية مع واحد من معارفها ولا عملت تمويه عشان تخدعنا.

طالع عمار الفراغ مفكرا بأن حالة مريم كانت سيئة للغاية بعد هروبها من المشفى و يستحيل أن تستطيع مغادرة المدينة وهي بذلك الوضع إلا إذا كان هناك من يساعدها ، أساسا هو كان مستغربا من عجز رجاله عن إيجادها ذلك اليوم في كل مكان بحثوا عنه ما يعني أن هناك احتمال كبير بخصوص مساعدة شخص لها في الهروب ... معه !
من سيكون هذا الذي خاطر و ساعدها سوى أحد مقرب لها !

التمعت عيناه بالغضب و انكمشت ملامح وجهه بضيق من فكرة أن يكون من البداية مخطئا بشأن معرفته بحياة مريم الشخصية ، هو لم يجد معلومات سوى عن عمها و أسرته و الصديقة الوحيدة لها هي هالة لم تتكلم معه عن فرد آخر يخصها إذا من يكون منقذها المجهول ؟! 

ضرب بقبضته على المقود بعنف ثم غمغم بحدة من بين أسنانه :
- سليم انت كمل اللي بتعمله و اعرف لو مريم جت لوحدها ولا كان معاها حد تاني انا عايز كل التفاصيل.
صمت قليلا ليردف مستدركا :
- صحيح انت ازاي قدرت تعرف كل ده في اسبوع مع ان بقالك كتير بتدور ومش عارف توصل لحاجة.

نظر سليم الى سيده عادل الذي جلس مقابلا له ثم أجابه مدعيا الولاء :
- انا عايز اكلم حضرتك في الموضوع ده كمان ، في الاول لما كنا بندور على اسم مريم هانم في قائمة المسافرين مكناش بنقدر نوصل لحاجة عشان محدش راضي يتعاون معانا بس لما ضغطت على المسؤول هناك و اديته مقابل مالي كبير وافق يساعدنا ... و عرفت ان رجالة رأفت بيه هما السبب ورا اننا منلاقيش حاجة بسهولة.

تطايرت الشياطين من حوله ولم يعد يسمع شيئا سوى صوت البراكين الوهمية التي بداخله فتحرق حممها ما تبقى له من عقل ليكاد أن يصاب بالجنون.
مثلما توقع تماما ، والده خلف ما يعتريه من صعوبات في سبيل معرفة أي شيء عن زوجته ، اذا هو بالتأكيد يعلم أين كانت تختبئ و من ساعدها في الأمر و أخفى هذا عنه ، و لكن هل عرف السيد رأفت مؤخرا فقط ... أم أنه كان يحيط علما بكل شيء من البداية ؟! 

نفث أنفاسه بثقل ثم أنهى المكالمة و انطلق كالسهم يجوب الطرقات بلا وجهة محددة و عقله لا يستوعب كمّ المؤامرات التي تحاك ضده ، و الغموض الملتف عليه.
زوجته و عمه و والده ، كل واحد منهم يريد الوصول لشيء معين من خلال إستغلاله ، و مازادهم جرأة أنه يتخذ موقف الصمت ولا يرد عليهم.
منذ متى أصبحوا يقللون منه لهذه الدرجة ، و منذ متى لا يقدر عمار على تجميع الخيوط المنفلتة من بين يديه ليعرف مسار اللعبة ، غدى مثل الأحمق الذي يستهزئون به ، زوجته تكرهه و والده يمنعه عنها و لكنه لن يدعهم يصلون لمبتغاهم.

طالت الساعات وهو يجوب الشوارع بلا هدى حتى كادت الشمس تغرب ، فإتجه الى الشركة و انتظر ميعاد خروجها ..

و في غضون دقائق قليلة ، كانت مريم تغادر قسمها بعد انتهاء دوام المتدربين ، نظرت في ساعة يدها و وجدتها قاربت السادسة مساء ، و لأنهم في فصل الخريف و اليوم ينتهي بسرعة ، سارت على استعجال وهي تمني نفسها بإيجاد سيارة أجرة الآن.
حتى قاطعها صوت مديرها يوسف الذي جاء من خلفها :
- مريم.

توقفت و التفت له مبتسمة بإحترام :
- اتفضل مستر يوسف.

ضحك بحرج و علق عليها :
- احنا خلصنا شغل النهارده تقدري تقولي يوسف بس.

لم تتكلم و اكتفت بهز رأسها ليظهر وليد فجأة و ينضم اليهما قائلا :
- انت بتعمل ايه هنا يا يوسف احنا اتفقنا نخرج مع جماعتنا بعد ما نخلص شغل.

اومأ له موافقا ثم أردف :
- عمار لسه مش بيرد عليك المفروض يجي معانا ؟ 

نظر وليد الى مريم التي تشنجت يدها عند ذكر اسمه و زفر بضيق :
- بعتلي ميسيج و قالي منستاهوش عشان مش هيجي ... صحيح في حاجة لازم نخلصها قبل ما نطلع تعالى نشوفها سوا.

ظهر العبوس على وجهه ولكن درأه بسرعة وهو يطالع مريم مبتسما لها قبل ان يذهب مع رفيقه تاركا إياها تشد على حقيبة يدها و عقلها يذهب بدون رغبة منها نحو التفكير في شخص معين.
زجرت نفسها على ما يخطر ببالها و هي تضع بطاقة مرورها على الجهاز كي تخرج الى بوابة الشركة التابعة لها ، و هنا ظهر بطل خيالاتها الذي كان يقف عند البوابة الخارجية و يركز بعينيه عليها.

تفاجأت الأخيرة و ارتبكت قليلا قبل أن تستجمع نفسها و تتجاوزه بدون مبالاة ، غير أنها عندما تقدمت خطوة واحدة وجدته يقبض على يدها و يهمس بغلظة :
- تعالي معايا.

شهقت من فعلته فرفعت رأسها تلقائيا تلتفت حولها لتجد نظرات البعض مسلطة عليهما بفضول و السيد رأفت يراقبهما من زجاج الطابق الثاني بوجوم ، فزمت شفتيها و تمتمت بهدوء :
- سيب ايدي الناس بتبصلنا.

رسم ابتسامة ساخرة على وجهه و رد عليها :
- مش مهم بالنسبالي حتى انتي معندكيش مشكلة مع الفضايح انتي بتحبيها.
ضغط عليها بقوة آلمتها و استطرد بحدة هذه المرة :
- عايزك في موضوع مهم امشي معايا.

لم تجد الفرصة لترفض حتى رأته يسحبها خلفه غير مبال بمحاولاتها الهادئة للتملص كي لا تثير الإنتباه أكثر حتى وصل الى سيارته و ادخلها اليها لينطلق بها بدون أن ينطق بحرف اضافي.
تأففت مريم و صرخت عليه بغضب :
- انت مش هتسيبني في حالي بقى فهمني بتعمل ايه و عايز توصل ل ايه !

تجاهلها لتصاب بالجنون و تصيح بشراسة :
- عمار انت مش سامعني واخدني و رايح على فين فهمني.  

رشقها عمار بنظرة غاضبة يشع الشرار منها و التفت أمامه مجددا فجزت على أسنانها و فاجأته عندما رفعت نفسها نحوه و مدت يدها إلى المقود تحركه بعشوائية تصرخ بجنون :
- ماشي انت اسكت و انا هعمل اللي عايزاه.

انتفض بصدمة منها و حاول ابعادها ليرى الطريق أمامه و يسيطر على سيارته التي أصبحت تتحرك يمينا و شمالا لكنه لم يستطع فزمجر بعصبية :
- ابعدي يا غبية هتقتلينا ! 

- لو هتموت معايا معنديش مشكلة اهي موته واحدة و نبقى خلصنا كلنا. 
رددت بعناد فتأفف و وجد نفسه مضطرا لإستعمال العنف معها فقبض على ذراعها بقوة آلمتها وجعلتها  تشعر بإنكسار عظامها ثم دفعها للمقعد بحدة حتى اصطدمت بالباب لتطلق تأوها عاليا.
أطلق عمار سبابا لاذعا عند إدراكه أنه آلمها و هتف برعونة :
- انتي بتجبريني اعمل حاجات انا مش عايزها اهدي و كني بقى زهقتيني. 

- لا مش ههدا طول مانا معاك في مكان واحد مش هدوق الراحة و الهدوء.
تشدقت مريم وهي ترفع يدها لتفتح الباب الأمامي و تقفز منه لكن عمار كان أسرع منها بإغلاقه اتوماتيكيا ، تابع طريقه غير مبالٍ بصرخاتها و لعناتها حتى توقف في المكان المنشود و ذهلت الأخرى لوجودها في منطقة نائية لم ترها من قبل و لم تلمح فيها إلا رجلا يقف على باب شقة صغيرة و الذي بمجرد رؤيته لعمار هرع للسيارة.

حادت بعينيها نحوه و سألته بلهاث مرهق :
- ايه المكان ده انت جايبني هنا ليه.

تجاهلها بإستفزاز و ترجل للخارج و فتح لها الباب منتظرا نزولها هي أيضا لكنها لم تعبأ به فتنهد بملل و سحبها مغمغما :
- حتى العيل الصغير بيتكسف يعمل اللي انتي بتعمليه دلوقتي.

- ابعد عني سيب ايدي بقولك !
تململت بين قبضته تحاول الفكاك منه دون جدوى ليأخذ المفتاح من الرجل الواقف أمامه بإحترام و أمره :
- اوعى حد يعرف المكان ده لو اتصل بيك رأفت بيك و سألك عني قوله انا معرفش هو فين انت فاهم.
- بأمر حضرتك يا فندم.

هز عمار رأسه و سحب مريم خلفه وهي تصرخ :
- انت اتجننت فاكر نفسك بتعمل ايه والله لأبهدلك يا سفاح هتشوف. 

أدخلها للشقة عنوة رغم مقاومتها الضارية فالتفت اليه و عيناها تنضحان بالجنون لتقول :
- و الله لأفضحك استنى عليا بس.

أغلق عمار الباب بالمفتاح و نظر اليها متحدثا بجدية :
- اعملي ما بدالك اكدبي و قولي خطفتك و ضربتك ولا هددتك ولا جبرتك على حاجات انتي مش عايزاها مش بيهمني اعلى ما فخيلك اركبيه.
بس اقسم بربي يا مريم مش هتعتبي خطوة واحدة برا الشقة ديه الا لما تحكي اللي في قلبك ... و تقوليلي انتي ليه بتكرهيني كده !

__________________
ستوووب انتهى البارت
والله تعبت فيه و مريحتش دقيقة واحدة من يوم الخميس اللي فات وانا بكتبه اتمنى يلاقي التفاعل اللي يستاهله
ايه رايكم فيه
عمار هيقبل يتعالج نفسيا ؟
يا ترى مريم مع مين كانت في الاسكندرية و عمار هيكشف لعبة أبوه ؟
ايه اللي بيخططوله عادل و سليم ؟
ايه اللي هيحصل بين عمار و مريم دلوقتي وهي هتعترفله بكل حاجة ؟
رايكم وتوقعاتكم

الفصل الثامن والثلاثون : المواجهة.
________________
- اعملي ما بدالك اكدبي و قولي خطفتك و ضربتك ولا هددتك ولا جبرتك على حاجات انتي مش عايزاها مش بيهمني اعلى ما فخيلك اركبيه.
بس اقسم بربي يا مريم مش هتعتبي خطوة واحدة برا الشقة ديه الا لما تحكي اللي في قلبك ... و تقوليلي انتي ليه بتكرهيني كده !

مرت دقائق على إلقائه لهذه الجملة وقوله بأنها مجبرة بالإعتراف و إلا لن تغادر الشقة.
و يبدو أنه كان جادا في تهديده ، فهاهو قد ألقى مفتاح باب الشقة من النافذة و دلف للصالة الصغيرة تاركا إياها تحدق في الفراغ بذهول و عقلها لا يستوعب أنه جلبها لمكان بعيد و حبسها ، اللعنة عليه مالذي دهاه.

ضمت مريم قبضتها بخنق و نهبت الأرض بخطواتها السريعة وهي تتجه نحوه صارخة به :
- انت فاكر ايه باللي بتعمله ده مستوعب انك خطفتني وانا بقدر اشتكي عليك و المرة ديه هتبقى حقيقة ! 

رد عليها بعدم اكتراث :
- وانا قولت اعلى ما فخيلك اركبيه ... مش هتطلعي من هنا غير لما تحكيلي ع اللي حصل خلاكي تكرهيني و تحبي تنتقمي مني.

هل هذا حقيقي ! هل حقا لا يعلم عمار مالذي ارتكبه بحقها من إهانة و خيانة و قتل لطفلها لماذا يتصرف بهذا الشكل وكأنه لا يعلم شيئا.
بينما هو قد فعل بها ما لم يفعله العدو بعدوه ، مالذي يسعى إليه الآن !

- انت ليه عامل نفسك مش عارف ولا فاهم حاجة ؟
تمتمت بعدم تصديق فرفع عمار رأسه إليها ، و همس بأكثر نبرة صدقا :
- انا مش عارف ومش فاهم ... صدقيني انا كل يوم بعصر دماغي عشان افتكر اي حاجة بس مفيش ...
مفيش غير اني يوم ما عرفت انك حامل غلطت معاكي في الكلام و بعترف اني غلطان بس ندمت بعدها و قررت اعلن جوازنا و ...

- كفاية بطل كدب كفاية.
صاحت مريم بإنفعال و أولته ظهرها وهي تتنفس بوتيرة سريعة و قلبها يقرع الطبول حتى أحست به سيخرج من صدرها ، تبا له كم هو كاذب و لعوب.

انه يحاول التلاعب بها و تمثيل دور البريء كي تنصاع له و تواجهه بالحقيقة التي يعرفها هو سلفا ، وبعدما تخبره سوف يمثل الصدمة و ينفي ما تقوله.
سيستطيع إقناعها ببراءته وهي مثل الغبية سوف تنصاع له مجددا ليستطيع بذلك السيطرة عليها مثلما كان في السابق ، كلا لن يحدث هذا أبدا.

ازدردت ريقها لتبلل حنجرتها الجافة وقد بدأت أطرافها ترتجف عندما تذكرت المقطع الذي وصلها ثم إجهاضها وهي محبوسة داخل الأربع جدران.
إنها الآن تمر بنفس الوضع و هذه المرة هي موجودة في شقة أخرى لا تدري عنها شيئا ، و كونها مفروشة و مجهزة فمن المحتمل أن كان يجلب فيها باقي النساء اللواتي كن بحياته.
تأوهت مريم بألم و همست :
- انا عايزة امشي من هنا حالا.

حرك عمار رأسه بنفي مغمغما بقوة :
- اتكلمي وبعدها امشي براحتك.
- مش عايزة اتكلم ولا اقول اي حاجة.

- يبقى هتفضلي محبوسة هنا.
رد عليها بجمود أشعل نيران جنونها أكثر فإستدارت اليه و هدرت بقهر امتزج بغضبها :
- انت عايز ايه فهمني ناوي توصل ل ايه من كل اللي بتعمله ده افهم بقى انا مش عايزة اقعد معاك في مكان واحد حاسة نفسي مش عارفة اتنفس وانا قدامك خليني امشي.

ضيق عمار حاجباه عندما شعر بغصة مؤلمة تحتكم صدره لوهلة لكنه تجاهلها و نظر اليها كأنه يقول " لن أسمح بتحريرك إلا عندما تنفذين شرطي " ، ثم سحب قدماه ناحية المطبخ تاركا إياها تحطم كل ما يصل ليدها من أغراض و تنتقل إلى النوافذ المغلقة لتمسك قضبانها و تصرخ طالبة النجدة حتى بح صوتها فيئست عند إدراكها لفشلها و ارتخت قدماها لتخرع جالسة تضم رأسها الذي بدأ يؤلمها ... محاولة السيطرة على الارتجاف الذي اصابها عند رؤيتها لكل شيء مغلق تماما مثل ذلك اليوم ! 

بعد دقائق طويلة خرج عمار من المطبخ و حدق في الحالة المزرية التي اصبحت عليها هذه الشقة بعد تدميرها من طرف تلك التي تجثم على الأرضية الباردة فتنهد و قال :
- لو خلصتي الدراما بتاعتك اتفضلي قومي عشان تاكلي و متقعديش ع الارض كده تاني هتاخدي دور برد.

لم تجب مريم عليه ليجز على أسنانه و يسحبها لكي تقف بالقوة هادرا :
- لما اقولك قومي يبقى تسمعي الكلام انتي مش شايفة نفسك بقيتي عاملة ازاي هتأذي نفسك بعنادك ده.

افلتت يدها منه هامسة بصوت متحشرج :
- مش عايزة اكل و ياريت متعملش نفسك قلقان عليا انا عارفة فين مصلحتي. 

رشقته بنظرات قوية و استطردت :
- بعدين انا ايه اللي يثبتلي انك محطيتش حاجة في الاكل انا مبوثقش فيك.

نجحت في استفزازه فتقدم منها خطوة على حين غفلة لتتراجع مريم بتلقائية ، رمقها بغضب من فكرة انها تظن به سوءا لدرجة ان تضع إحتمالا بأنه سيؤذيها.
ولكنه أغمض عيناه و تنفس بعمق يطرد طاقته السلبية قبل أن يعود لصوابه و يهز كتفاه بدون مبالاة متشدقا :
- براحتك انا هروح اكل لو انتي مش عايزة مش هجبرك.

انسحب عمار من أمامها و عاد لمكانه على السفرة تاركا إياها تلف حول نفسها بعصبية ثم طالعته بطرف عينها وهو يتناول طعامه لتشعر بنفسها تضطرم جوعا خاصة عندما وصلت لأنفها تلك الرائحة الشهية.
عضت على شفتها متوسلة التحمل و همست بعناد :
- مش هموت يعني لو فضلت من غير اكل الليلة ديه ... قولت مش هاكل يعني مش هاكل !

** بعد دقائق.
مضغت آخر لقمة بفمها و بلعتها بهدوء ظاهري و لكن من داخلها كانت تتلذذ و تتعجب من شدة الطعام الشهي الذي أعده حتى أن لسانها كان ينزلق و يمدحه غير أنها تنحنحت و هتفت :
- اهو اي حاجة احطها ف بوقي احسن من اني افضل جعانة حتى لو كانت حاجة بسيطة.

طالعها عمار بعبث وهو يرفع حاجبه متذكرا كيف جاءت و جلست بنفسها على الطاولة لتبدأ بالأكل و هي تكافح كي لا تظهر إعجابها بالطعام و لكن على أي حال هذا لا يهمه.
يكفيه أنهما جلسا على طاولة واحدة مجددا بدون شجار و شد و جذب حتى لو لم تدم هذه الهدنة سوى للحظات قليلة.
نظرت له الأخرى و أحست بالإرتباك من نظراته فإستقامت واقفة و قالت :
- مش انا عملت اللي انت عايزه ها هتسيبني امشي امتى.

ابتسم لها مجيبا :
- شوفتي بنفسك اني رميت المفتاح يعني حتى لو حبيت مش هنقدر نخرج. 

انفعلت مريم و ضربت على المائدة بقوة صارخة :
- بطل كدب انا عارفة ان عندك مفتاح احتياطي لانك دايما بتشيل نسخة تانية من المفاتيح بتوعك !

فجأة رأت عيناه الزيتونيتان تتحولان للون الداكن وقد احمر وجهه و ضم قبضته حتى توقعت أنه سينهض و يصفعها ، لكنه بدلا من ذلك بقي يحدجها بقسوة ليهمس بتحذير جعلها ترتجف رغما عنها :
- الحركة اللي عملتيها ديه اوعى تكرريها ... اوعى تخبطي الترابيزة تاني انتي فاهمة ! 

انتصب واقفا بدوره و ترك المطبخ المطبخ متجها نحو الشرفة ثم أخرج علبة سجائره و بدأ يدخن واحدة تلوَ الأخرى وهو يكاد ينفجر من العصبية و الانفعال ، اللعنة لماذا لا تقول شيئا و تريحه هل ما حدث خطير الى هذه الدرجة حتى تصمت ، لكن مادام هو من ارتكب جريمة في حقها اذا لماذا لا تواجهه و تضع النقاط على الحروف لكي تجعله يفهم ... لعله يستطيع إصلاح الوضع و إعادة المياه لمجاريها !

بينما من الناحية الثانية كانت مريم تراقبه و تتعجب بداخلها من إصراره على البوح ، لماذا يبدو و كأنه فعلا لا يدرك ما فعله كيف يستطيع تمثيل البراءة بهذا الإبداع.
أم أنه حقا ... كلا.
هزت رأسها تمنع نفسها من التأثر بالعواطف و تمتمت :
- انا لازم اطلع من هنا ... مش قادرة وانا موجودة في مكان مقفول كده.

إن مريم تعاني من رهاب الأماكن المغلقة منذ يوم إجهاضها ، لأنها في ذلك اليوم وقعت على الأرض تنازع ألم خروج الروح وهي تصرخ لكن صوتها لم يصل الى الخارج بسبب أن الابواب كانت مغلقة فخسرت طفلها ولم تستطع إنقاذه ...
ترقرقت الدموع في عينيها و شعرت بالهوان ولكنها تمسكت و بدأت تبحث عن طريقة للهروب إلا أنها لم تجد شيئا فزفرت بحنق و فجأة وقعت عيناها على مطرقة خشبية صغيرة لفتت انتباهها عند دخولها ولم تعرها اهتماما.

لكن الآن عندما لمحتها مجددا بدأت تفكر بجدية فيما ستفعله ، ووجدت نفسها تحملها و تتجه صوب عمار الذي لم بدى وكأنه شارد في أمر ما لدرجة أنه لم يستمع لصوت أنفاسها المرتفعة.
غير أنه عندما شم رائحة عطرها الممتزجة برائحة السجائر استفاق من غفلته و لم يكد يلتفت اليها حتى عاجلته بضربة أسفل رأسه !

أطلق عمار صيحة ألم و انحنى يغمض عيناه مفلتا السباب من فمه فشهقت مريم بصدمة و خوف ولكنها هتفت بمراوغة :
- قولتلك سيبني امشي وانت مرضيتش.

استغلت انشغاله مع ألمه و مدت يدها تسحب المفاتيح من سترته ثم ركضت ناحية الباب إلا أن عمار استطاع التحامل على نفسه و اللحاق بها.
و عندما فتحته رأت يده تمتد لتغلقه مجددا فصرخت بإنهيار :
- ارجوك كفاية انا مش عايزة افضل قاعدة هنا مش عايزة الباب يتقفل.

دفعها بقوة على الحائط و صاح بعصبية :
- للدرجة ديه اتغيرتي و بقيتي تأذي غيرك من غير تردد انتي مش شايفة نفسك بقيتي ازاي ايه سبب الجنان ده.

انكمشت مريم على نفسها و أغلقت أذنيها تهز رأسها بهستيرية فقبض هو على ذراعيها و أردف :
- انتي مين فهميني عايزة تقتليني هو ده اللي ناوية عليه صح و بتقولي أنك اتظلمتي مني ده انا اللي كنت مخدوع في براءتك و فاكرك ... انتي ... مريم ...

خفت صراخه و تحولت نبرته الغاضبة لأخرى قلقة عندما رأى وجهها شاحبا كالموتى و جسدها يرتجف بصورة ليست طبيعية و أنفاسها متقطعة.
و لأنه أدرى بهذه الأمور نظرا لأنه عاشها كثيرا أدرك أن مريم تمر بنوبة هلع خاصة عندما لمحت خيط الدماء الرقيق الذي ينزل من رأسه و يهبط لمقدمة عنقه.
و في ثواني أصبح صوته أكثر حنية و لطفا في الوجود عندما ضم وجهها و همهم :
- مريم اهدي مفيش حاجة خلاص متخفيش. 

و لكنها لم تكن تستمع إليه ... جل فكرها كان يعايش حادثة تلك اليوم عندما صرخت و استنجدت و غرقت في دمائها لكن لم يأت أحد ... لم يساعدها أحد ... هاهو ذلك اليوم يعيد نفسه وهي لن تنجو ... ستبقى محبوسة هنا ...

غطت وجهها بخوف فأبعد عمار يداها و همهم محاولا تهدئتها :
- كل حاجة هتبقى كويسة مفيش داعي تخافي انا هنا معاكي.

ثم التصق بها و همس في أذنها بحرارة :
- انا جمبك مهما رفضتيني هفضل دايما معاكي يا حبيبتي ... 

- افتح الباب.
بالكاد استطاع عمار فهم مقصدها من حروفها المتقطعة فهز رأسه بإيجاب و نفذ ما تقوله فورا و قال :
- انا فتحته خلاص بصي.

رفعت الأخرى عيناها و تنهدت براحة بائسة عندما لفحتها نسمات الهواء الباردة ، ثم اعتراها الإحساس بالعار لأنها كشفت له رهابها و استطاع معرفة نقطة ضعفها.
لذلك تطايرت الشياطين من حولها و انقضت عليه فجأة تهاجمه و تضرب صدره مزمجرة :
- عامل نفسك خايف عليا وانت السبب في اللي بيحصل ... فاكر هتقدر تخدعني تاني و بتقول عليا مؤذية مفيش حد غيرك هنا بيأذي انت اسوء انسان انا شوفته في حياتي !

اندهش من هجومها و كاد يمنعها لكنه توقف عندما تحشرج صوتها و غرقت في البكاء وهي تهمهم :
- انت دمرتني ... سرقت مني كل حاجة حلوة في حياتي خليتني مسواش في نظر نفسي خنتني و خدت مني ابني و خليتني اعيش  مقهورة و قرفانة مني.

هز رأسه ينفي اتهاماتها ثم ضمها من كتفيها لكنها أبعدته عنها بسرعة صائحة :
- ابعد عني اوعى تلمسني انا بكرهك بكـــرهـــك اوعى ايدك عني.

- مريم كفاية.
غمغم يعيدها لصوابها إلا أنها ظلت تدفعه عنها حتى فقدت توازنها فخرت ترمي نفسها على الأرض تبكي بهستيرية ارتعدت لها مفاصله و أحس بقلبه يقتلع من مكانه بقسوة شنيعة ، ومن دون أن يشعر وجد نفسه يضم وجهها بيديه رغم امتناعها و حدجها بنظرات ملتمعة وهو يهمس بكل عنفوان :
- اسمعيني كويس انا مش عارف انتي فاكرة ايه عني بس اقسم بالله عمري ما أذيتك بقصد و والله العظيم لما استوعبت انك حامل كنت هعلن جوازنا و اوديكي للقصر بتاعنا.

- انت بتكدب عليا.
همهمت بتشنج لكنه شد وجهها ناحيته و أردف بنبرة قوية :
- بصي في عينيا و قوليلي لو شايفة اني بكدب ... حطي رايك عني ع جنب و كوني صادقة معايا مرة واحدة و قولي انتي شايفة ايه من لهفتي علشان اعرف اللي انتي مخبياه.

إنها ترى الصدق و الأمانة ... هذه اللمعة التي في عينيه يستحيل ان تكون كاذبة غشاوة الدموع تلك لا يمكن ان تتشكل لو كان كاذبا ، و صوته المتحشرج من غير المعقول أن يكون تمثيلا منه.
لكنها رأت مقطع قبلاته مع ابنة عمه ... و أخبرتها الممرضة أنها تسممت عن قصد ، وهي لم تأكل شيئا ذلك اليوم إلى قطع الشوكولاطة التي أرسلها إليها ... ماذا تفعل ومن تصدق كيف السبيل للحقيقة يا الهي.

ظلت تحدق به و تركز في ملامحه حتى كفت عن بكائها و هدأت شهقاتها ، ولم تدري كيف وضعت رأسها على كتفه و أغمضت عيناها مستسلمة لإغراء النوم ، و خفُت الضجيج ...

________________
مضت ساعات الليل الطويلة ، و انبثقت من رحمه خيوط الشمس التي بزغت تنثر ضوءها في السماء بعد ليلة قضاها وهو جالس على المقعد في الشرفة يدخن سجائره بغير حسبان حتى أنهى العلبة بكاملها.
فطفق يعيد مشهد الأمس للمرة الألف في عقله ، و يلوم نفسه لأنه كان سببا في إنهيارها.

كيف لم يلاحظ أن رهابها كان بسبب خوفها من ذكريات ذلك اليوم ، عندما دخل عليها ووجدها في مكان مغلق غارقة في دمائها اختض قلبه بين ضلوعه و ظل المشهد معلقا في ذاكرته الآن اذا كيف ستكون حالتها وهي من عايشتها لحظة بلحظة.
هذا ما يبرر تركها لجميع أبواب الغرف و النوافذ مفتوحة ، تأفف بألم عندما تحسس الجرح أسفل رأسه ومن حسن الحظ أنه كان لديه علبة الاسعافات الأولية و أدوية الصداع في درج السيارة ...

لا يزال حتى الآن متفاجئا من جرأتها وكيف ضربته بدون ان تتردد لحظة واحدة ، و لسبب ما أعجبه كونها حاولت بكل جهدها أن تتحرر منه ربما لأنها اذا وقعت في ورطة ما مستقبلا ستكون قادرة على انقاذ نفسها.
ابتسم عمار و همهم بيأس :
- يعني اخرتي اتضرب و افرح كمان ... هشوف ايه تاني اكتر من اللي شوفته.

دلك صدغيه بإرهاق و نهض ليذهب الى الغرفة التي تنام فيها ، دلف و جلس على جانب السرير يطالعها وهي نائمة و تتمسك بالغطاء كأن أحدا ما سيأخذه منها ، تماما مثلما كانت تفعل في السابق لطالما كانت تسحب أكبر قسم من الغطاء و تترك له القليل ليدبر أمره به.
مالت شفتاه في ابتسامة خافتة و داعب شعرها الذي تشعث و عاد لطبيعته كثيفا و مموجا ، كم اصبحت جميلة عندما عادت لشكلها الاصلي.

تململت مريم و رمشت فأبعد عمار يده و انتظرها لتستيقظ ، و بمجرد أن فتحت عيناها و رأته انتفضت جالسة تهمس بصوت مبحوح :
- انت بتعمل ايه هنا ... ايه اللي حصل.
- انتي مش فاكرة ؟ 

نظرت له لثوان تتذكر انهيارها الليلة الماضية وكيف ضربته في غمرة جنونها و جعلته ينزف ، فحادت بعينيها تلقائيا نحو رأسه و أدرك هو ما تفكر به فغمغم :
- انا كويس الحمد لله الضربة مكنتش قوية ... و بما انك بقيتي احسن دلوقتي جهزي نفسك هرجعك لشقتك. 

انتصب واقفا ليخرج و حينما كاد يتجاوز عتبة الباب أوقفه همسها الخافت :
- انت بجد مش عارف عملت ايه.

شعر من نبرتها بأنها مستعدة لتواجهه فاستدار اليها فورا و رد عليها بحذر :
- ايوة مش عارف ومش فاهم ليه بتتهميني بالخيانة.

تنهدت مريم و تأملت قسماته التي لا تدل سوى على الصدق فإزدادت حيرتها و تذكرت يوم سألتها هالة إن كانت متأكدة من اتهاماتها لعمار و ماذا ستفعل لو اتضح أنها مخطئة.
المشكلة الآن هي أنها أصبحت غير متأكدة من أفكارها إتجاهه بعدما كانت متأكدة من أنه خائن و قاتل ، و لكن صبره على أفعالها و مواساته لها ليلة البارحة و تلك الدموع التي أبت النزول من عينيه جعلتها تغرق في بحر الحيرة فلم تعد تعرف ماذا تصدق.

لذلك تنحنحت تنظف حنجرتها ثم أخذت نفسا عميقا و قالت :
- انت قولت انك مخنتنيش ومعملتش حاجة تأذيني بقصد.

اومأ بالإيجاب سريعا و جلس مقابلا لها يهتف بكل ثقة :
- معملتش ... و مخنتكيش انا خطبت ندى بعد ما يأست من اني الاقيكي. 

- يعني انت مقربتش منها خالص واحنا متجوزين ؟

ترك يدها التي أمسكها و ازدرد ريقه متذكرا قبلة ندى له في ذلك اليوم عندما كان تحت تأثير الدواء ، و انقشعت ثقته و تصميمه فلوت مريم شفتها بتهكم مكملة :
- بتقدر تنكر انك بوستها في نفس اليوم اللي انا خسرت فيه البيبي.

فتح فمه بدهشة و اعترت الصدمة دواخله من حديثها فرشقها بدون استيعاب كونها تعلم ما حدث لتكمل الأخرى و تلقي ما بجعبتها أخيرا :
- انا شوفت و عرفت كل حاجة يا عمار لان في اليوم اللي حسيت فيه بوجع رهيب في بطني وكنت هتصل بيك عشان تلحقني وصلني فيديو ميسيج ليك انت و بنت عمك ... كنتو قاعدين ع سرير واحد و بتبوسو بعض وانت حاضنها ...
يعني انا شوفت خيانتك بعينيا !
تعليقات