رواية نيران الغجرية الفصل الخامس والخمسون55 والسادس والخمسون56 بقلم فاطمة أحمد
الفصل الخامس والخمسون : المواجهة.
" من الجميل أن تخضع للقوانين و المنطق في حياتك ... ولكن لا مانع من تجاوزها أحيانا و العيش كما تريد أنت ! "
- ندى ... تقبلي تتجوزيني.
لم تكد تفق من أثر قبلته حتى احتلت الصدمة مكانا بقلبها وهي تستمع لما يقوله ، هل عرض عليها يوسف الزواج حقا أم هي من تتخيل ؟ حسنا يبدو من ملامحه أنه جدي للغاية ولا يمزح ولكن مالذي دهاه !
ترجمت ندى أفكارها على لسانها وهي تتمتم بتيه :
- انت ... انت قلت ايه.
- اللي سمعتيه صحيح انا عايز اتجوزك طبعا ان كان ده مناسب ليكي.
رمقته بذهول و استلت من حضنه متراجعة الى الخلف وهي تقول :
- يوسف انت مستوعب اللي بتقوله منين طلعت القصة ديه دلوقتي.
ظل الآخر على ثباته بينما يجيبها :
- انتي قولتيلي من شويا ازاي هنقدر ننسى ذكريات الماضي و كنتي زعلانة لانك مش فاهمة نفسك و مشاعرك و انا حاسس زيك ف ليه منساعدش بعض و نتعالج سوا.
- ايوة بس ده جواز مش لعبة مينفعش ن...
اقترب منها و أمسك بيدها مرددا يحاول اقناعها :
- عارف انها مسؤولية كبيرة بس احنا عشنا كل حياتنا واحنا بنخطط وبنحط كل الاحتمالات ليه منتهورش المرة ديه و نعمل حاجة احنا عايزينها ... من غير مانتردد ولا نفكر في كلام الناس .. نعمل حاجة احنا اللي عايزينها.
صمتت ندى وهي تستمع اليه وقد تملكتها الحيرة مما يقوله يا الهي لم تتوقع أبدا أن تعيش شيئا كهذا لذلك بللت شفتيها و طالعته مستجمعة قواها قائلة :
- بص يا يوسف انت شاب كويس و چنتل وفيك كل المواصفات اللي اي بنت تتمناها ... بس مينفعش ناخد القرار ده و نتجوز لمجرد اننا عايزين ننسى اللي بنحبهم وانا عارفة كويس انك لسه متعلق بمريم علشان كده مليش استعداد اعيش نفس التجربة و اتجوز بعدها العلاقة تتدمر لنفس السبب.
مستحيل تقدر تنسى حد ساكن جواك عن طريق واحد تاني.
تنهد يوسف و هز رأسه متفهما لكنه لم يتراجع فأمسك يديها و ضغط عليهما مرددا :
- انا فاهم التجربة اللي مريتي بيها بس الاختلاف هنا اننا مش مخبيين حاجة هن بعض بالعكس احنا صريحين من البداية بخصوص مشاعرنا صحيح مبنقدرش ننسى شخص بحد تاني بس مفيش مانع لو حاولنا و بوعدك انك مش هتشوفي حاجة وحشة مني هتبقى في فترة خطوبة ولو محستيش نفسك مرتاحة صدقيني مش هجبرك تكملي.
عضت على شفتها بإضطراب فرفع يوسف وجهها اليه و همس بينما ينظر لخضراوتيها بلطف :
-انا حاسس بإنجذاب ناحيتك يا ندى الايام اللي قضيناها مع بعض فرقت معايا كتير انا شوفت فيكي الطيبة والرقة و الامان و الصدق و حاسس ان ممكن انتي كمان تنجذبي ليا و الموضوع بيننا يتطور ... ادي لنفسك وليا فرصة.
تنفست بعمق و ردت عليه :
- انا مش عارفة اقول ايه ... سيبلي فرصة افكر ممكن.
- براحتك انتي مش مجبرة ع اي حاجة.
هتف بها على الفور لكي لا يجعلها تشعر بأنه يضغط عليها ثم ابتسم و داعب وجنتها ... و بدون ارادة منه وجد بصره ينتقل لموضع شفتيها و تذكر تقبيله لها منذ دقائق و لاحظت ندى ذلك فخجلت و أشاحت بوجهها عنه ...
__________________
- زي ماقولت مفيش حاجة تثبت ان سليم اتوفى في حادث مدبر كل التحقيقات بتقول كده.
هتف وائل الذي كان يجلس على مكتبه و يقدم بعض الأوراق لعمار فركز فيها الآخر بنزق متمتما :
- قد ايه الشخص ده ذكي لدرجة انه بيعمل حساب لكل حاجة ومش بيسيب أثر وراه و الأحلى اننا كل مرة بنلف ونرجع نقف في نفس المكان.
- مادام قدر يعمل كل ده و مسابش أثر يعني ان بقاله كتير بيخطط ازاي يخلص من سليم عشان ميكشفوش بالتالي الشخص ده احتمال كبير يكون اكتشف اننا بندور عليه و عايزنا نلعب ع المكشوف.
لعن عمار تحت أنفاسه ثم غمغم بنقمة :
- الواطي ازاي بيقدر يكشف كل تحركاتنا معقول هو حاط جواسيس وسطينا انا مش فاهم ... و كمان خايف على مريم تقعد لوحدها في الشقة وهي تحت مراقبة واحد قاتل هي كمان خايفة ومش عايزة تتكلم عشان متضغطش عليا بس انا حاسس بيها و زودت الحراسة تحت العمارة و حطيت bodyguard في الشقة اللي جنبها بيراقب اللي بيدخل و يطلع من غير محد ياخد باله بس مع ذلك قلقان عليها.
وائل :
- معتقدش ان عندهم مشكلة مع مراتك هما مشكلتهم الاساسية معاك حتى لما سمموها كانو عايزين يأذوك انت شخصيا بس مع ذلك كويس انك خدت احتياطاتك ولو عايز بقدر انا كمان احط حراسة ليها برا بس مينفعش تنقلها لمكان تاني لانه كده هيعرف انك حاطط فبالك احتمالية تتأذى و هيتسغل النقطة ديه ضدك انت فاهمني.
زفر عمار بحدة و شعر بالصداع يداهمه فدلك صدغيه قليلا ثم ركز مع الآخر قائلا :
- طيب سليم اكيد كان عنده ورق و سجلات تخص تعامله مع الحيوان ده معقول ملقيتوش حاجة.
- انسان بالخبث ده اكيد مكنش هيقتل سليم قبل ما ياخد كل الدلائل اللي ضده ممكن يكون طلب يسلمه كل حاجة وبعدها يسافر ... ده في حال لو قتله فعلا.
ضغط على أسنانه بعصبية و حدجه متحدثا بإنفعال مكتوم :
- وائل انا متأكد ان سليم مات مقتول واحد شاطر في السواقة زيه مستحيل يعمل حادث وهو ماشي بسرعة متوسطة ولو الحادث كان طبيعي فعلا و مات استحالة ميسيبش حاجة وراه.
لاحظ غضبه من نظراته المصوبة نحوه فحاول تهدئته مرددا بجدية :
- الدلائل حاليا كلها بتثبت اننا غلطانين بس التحقيقات لسه مخلصتش ممكن نوصل لحاجة تأكدلنا اننا ماشيين صح.
- ماشي انت قولتلي لقيتو ايه في عربيته بتاعته.
- اغراض عادية تلفون و باسبور وهدوم فشنطة السفر و فلوس و ادوية ضغط بما انه مريض وكمان قطرات العيون.
تنبه عمار و رفع وجهه اليه بسرعة متسائلا :
- انت قلت ايه قطرات عيون ؟
- ايوة ليه في حاجة.
تأهب في جلسته و شرح له :
- سليم نظره بيضعف بليل عشان كده بيحط القطرات ديه في حال لو ركب العربية هو ممكن يكون نسي يحطها علشان كده مركزش في السواقة و عمل الحادث !
حك وائل طرف ذقنه مجيبا :
- واحدة منهم كانت مستعملة يعني نظره مكنش هيتشوش مادام استخدمها الا في حالة ... لو القطرات فيها حاجة.
أماء عمار بتأكيد فأخذ الآخر هاتفه و طلب رقم إحدى المحققين و طلب منهم أن يرسلوا عينة من الأدوية الى مركز التحليل ثم أغلق الخط و أردف :
- كانو هيبعتو حاجاته لأخ سليم الاصغر كويس اننا لحقناهم و النتيجة هتطلع في اسرع وقت الصراحة انا شكيت في الاول قلت ممكن يكون واخد حاجة أثرت عليه بس مركزتش اوي لان الاحتمال ده ضعيف.
تحدث عمار بهدوء :
- المهم التحقيقات تكون سرية مش بعيد الريس بتاع سليم يوصل للفريق بتاعك.
- اطمن احنا واخدين كل احتياطاتنا.
___________________
الحقيقة تهرب من البئر ...
تقول أسطورة القرن التاسع عشر ان الحقيقة والكذب التقيا يوما ، فقال الكذب للحقيقة :
- انه حقا ليوم جميل.
نظرت الحقيقة حولها في ريبة ، ثم رفعت عيناها الى السماء ، لترى أن اليوم بالفعل كان جميلا ، فقضت وقتا طويلا بصحبة الكذب في ذلك اليوم ...
ثم نظر اليها الكذب و قال :
- الماء في البئر رائع ، هل نستحم سويا ؟
نظرت الحقيقة اليه في ريبة للمرة الثانية ، ثم لمست المياه لتجدها رائعة حقا فخلع الإثنان ثوبيهما و نزلا للإستحمام في البئر.
و فجأة ، خرج الكذب من البئر مرتديا ثوب الحقيقة و ركض بعيدا.
و خرجت الأخرى غاضبة من البئر و ذهبت وراءه في كل الأماكن بحثا عن ثوبها فنظر البشر الى عُري الحقيقة و أشاحوا بوجوههم في غضب و استهجان ، أما الحقيقة المسكينة فعادت الى البئر و اختفت للأبد من فرط خجلها.
ومنذ ذلك الحين يسافر الكذب حول العالم مرتديا ثوب الحقيقة ، فيُلبي أغراض المجتمع و يشبع رغباتهم و يريح ضمائرهم بتزيينه للغو و الخدع ، فيمتن له الناس و يرفضون أن يروا الحقيقة عارية !!
أغلقت الكتاب عند نهاية قراءتها لهذه الفقرة وهي تشعر بأن تلك الكلمات تعبر عن قصتهم بالتفصيل فهي قد خُدعت بالكذب المغطى بلباس الحقيقة و غفلت عن الاستفسار و التأكد لتطالها أشواك الخطأ و تهاجم البريء تاركة المجرم يتمتع بحريته لمدة طويلة.
و الآن بعدما اكتشفوا خدعة "الكذب" انطلقوا يبحثون عن الحقيقة التي غطست في بئر الغدر ورفضت الخروج !
تنهدت مريم بتعب فنهضت ووضعت الكتاب على الرف و اتجهت الى الشرفة تجلس بها ريثما تشعر بالنعاس و تنام مباشرة لكي لا تظل مستلقية على سريرها لساعات وهي تفكر في ذلك القاتل المجهول ، أساسا منذ وفاة المدعو سليم في حادث سيارة و هي لا تشعر بنفسها أنها بخير مجرد تفكيرها بأنها مراقبة من طرف الشخص الذي قتل طفلها و مساعده و لعب عليهم كفيل بأن يحرمها الراحة و الإطمئنان.
حتى انها كانت ستقول لعمار ولكن كبرياءها لم يسمح لها بإظهار خوفها لكي لا يسخر منها أو يدعوها بالجبانة.
و ماذا سيفعل لها لو أخبرته لقد وضع الحراسة عليها مؤكدا أنها بأمان عندما طلبها صباحا لغرفته في المكتب مخبرا إياها بآخر المستجدات و أنهم قاموا البارحة بأخذ إحدى العينات الى مخبر التحليل وهم بإنتظار النتيجة الآن ، ليته يعلم بأن كل هذا ليس كافيا لإطمئنانها ولكن يبدو أن العيش بمفردها مقدر عليها سواء كانت علاقتها به جيدة أم لا في الحالتين ستقضي حياتها وهي وحيدة بين الجدران.
استفاقت مريم من شرودها على صوت احتكاك إطار عجلات سيارة في الأرض فأطلت من الشرفة و تفاجأت حين وجدته عمار شهقت بدهشة و استقامت سريعا و قلبها يكاد يقفز فرحا لأنه جاء اليها ثم بدأت بالركض هنا و هناك ترتب بعض البعثرة التي أحدثتها هاتفة بعجلة :
- هو مقالش ليه انه جاي يا ربي ده مريض نظافة هيقول عليا ايه دلوقتي.
لقد كانت تحدث الفوضى في السابق استفزازا له كي ينزعج و يكف عن المجيء اليها و لكن الآن ... الآن ... اللعنة كفي عن التفكير الفارغ.
اتجهت الى المرآة تعدل شعرها ورشت بعضا من العطر عليها ثم جلست في الصالة و أمسكت بهاتفها مدعية الإنشغال حتى فتح الباب و سمعت صوت خطواته ليظهر أمامها بعد ثوان قائلا :
- مساء الخير.
وقفت مريم و تقدمت اليه مجيبة :
- مساء النور ... غريبة ازاي خطرت ع بالك فجأة انت بقالك كتير مجيتش.
ابتسم عمار بهدوء :
- عايزاني امشي يعني.
حمحمت الأخرى وهي تضع خصلة من شعرها خلف أذنها :
- لا انا مستغربة بس ... تحب تشرب حاجة.
- لا مش عايز قوليلي انتي كنتي بتعملي ايه.
- كنت قاعدة في اوضة المكتبة بقرا.
نظر اليها عمار متذكرا الأيام التي كانت مريم تقرأ فيها كتبا يختارها هو بنفسه فيجلس و يتأملها حتى تنتهي ، و عندما ذهبت ذاكرته الى المحظور تنحنح مستعيدا نفسه ليتشدق :
- صحيح انا بقالي كتير مشوفتش المكتبة انتي ضفتي عليها كتب تانية ولا لسه زي ماهي.
- لأ كنت مشغولة و مجبتش حاجة.
رفع عمار حاجبه بتهكم :
- مشغولة بخططك و ازاي تقدري تفضحيني ولا ايه.
تأففت مريم وهي تقلب عينيها بتملل فاِبتسم بتسلية ليقول :
- طيب خلاص متقفشيش .... و أكمل بهمس :
- انا جت اطمن عليكي و بالمرة اشوف البودي جارد اللي حطيته متخفيش كل حاجة تمام و انتي في أمان.
كلامه كان كالماء على نيرانها فتنهدت براحة نسبية و قالت بهمس مماثل :
- شكرا ... بس مكنش في داعي يعني انا بقدر ادبر نفسي.
تقلصت زاوية فمه بإستهجان من نكرانها لكنه كف النظر عن ذلك بل عاد ليتكلم بنبرته الإعتيادية :
- عموما البيت بيتي وبقدر اجي في الوقت اللي بحبه.
شعرت بأنه يقصد كلامه حقا فعقدت يديها أمام صدرها و هتفت :
- بس مش هتاخد راحتك فيه زي لما بتاخدها في قصركم ومع الناس اللي بتحبك و بتحبها ... خاصة الأمورة بتاعتك.
فهم عمار أنها تلمح على ندى و تذكر كيف فاجأتهم منذ قليل وهي تقول لهم ببرود بأنها موافقة على زواجها بيوسف بعدما جاء عمه عادل و قال لها بأن الأخير طلب يدها منه و عندما جلس مع إبنة عمهو سألها عن الموضوع أخبرته بأنه عرض عليها الزواج يوم أمس و ظلت تفكر في الأمر حتى اتصلت به صباحا و أجابته بالموافقة.
ابتسم و همهم بهدوء :
- ذكرتيني بندى كنت قاعد معاها من شويا.
ضغطت على يدها و تأهبت حواسها تنذرها بإنفجار قريب بعدما شعرت بشياطينها تدور من حولها فاِلتوت شفتاها في ابتسامة مزيفة متمتمة :
- اه بجد يا سلام.
جلس على الأريكة وهو يتابع :
- في حد اتقدملها وهي وافقت.
استقامت مريم في وقفتها و اختفت ملامح الغضب من وجهها و حلت مكانها الدهشة فقال عمار :
- اتخيلي مين العريس ؟ يوسف.
- انت بتتكلم جد !
قالتها بغير تصديق و ذهبت تجلس بجواره مكملة :
- مستر يوسف و ندى ازاي و امتى يعني صحيح انا شفتهم مع بعض اكتر من مرة في الشركة او برا بس متوقعتش يكونو حبو بعض.
أخرج الآخر علبة سجائره و رد عليها بمنطقية :
- لا الموضوع موصلش للحب بس انا قعدت معاها و فهمت منها انها مرتاحة ليه و عموما يوسف صاحبي و عارفه هو راجل كويس و محترم و هتبقى مبسوطة معاه انا مطمن عليها.
مطت شفتها بإستنكار منه و حدثت نفسها " هل يعتبر نفسه الواصي عليها أم ماذا " ، و لكن لم يمنعها ذلك من الشعور ببعض الراحة هي لا تنكر بأنها كانت تعيش تأنيب الضمير بعدما تهورت و أفسدت زفافها بتلك الصورة البشعة من ناحية غضبت منها لأنها مقربة من عمار على الدوام ومن ناحية أخرى لم تستطع منع نفسها من أن تجد من يحبها و ينسيها ما عاشته ... أساسا هي أخطأت في حق العائلة بأكملها ستكون سعيدة لو تخطوا ما حدث بسببها.
رن هاتفها فجأة بوصول رسالة من مجموعة الواتساب التي تخص المتدربين و كان أحدهم يطلب بعض الأوراق الازمة فإنشغلت في إرسالها عبر الايميل ولم تنتبه لعمار الذي لم يكن يعلم ماهية تلك الرسائل إلا أنه وبدون ارادة منه راودته نفس أحاسيس الماضي ... الشك و انعدام الثقة و توقع الخيانة فسحب نفسا عميقا و نفثه على مهل محاولا تشويش أفكاره و لكنه لم يستطع.
اللعنة ألم يتخلص من هذا الهاجس بعد أليس من المفترض أن يكون قد شفي حسنا لقد تغيب عن جلسات الأسبوع الماضي و ربما ساءت حالته في هذه الفترة لأنه لم ينهِ علاجه.
ترى من الذي تحدث مريم الآن و لماذا هي مركزة جدا فيما تفعله هل هي تحدث صديقتها أم أحد آخر ، رجلا مثلا و من الممكن أن يكون الشاب الذي رآها واقفة معه صباح اليوم.
يا الهي عمار إهدأ و حاول السيطرة على نفسك لا تسمح لمخاوفك بأن تعيدك لنقطة الصفر.
أغمض عيناه متنفسا ببطء مثلما علمته ريماس و ظل يجرب التركيز في أشياء أخرى حتى نطقت مريم بينما لاتزال تتصفح الهاتف :
- هي الملفات اللي اتبعتت امبارح ضروري نترجمها كلها في اليومين دول ؟
حدجها بإقتضاب مغمغما :
- ايوة ليه.
- احنا مش هنقدر نلحق عليها كلها وانا لسه مخلصة ملف واحد النهارده و تعبت فيه كتير اهو في واحد من ال trainees طلب مننا نسخة من الملفات اللي عملناها و بيسأل اذا في تاني كمان.
ظلت مريم تتكلم بإنزعاج غير منتبهة لعمار الذي ألقى نظرة على هاتفها ليتأكد مما تقوله ثم تجهمت ملامحه بضيق واضح لأنه ظلمها بشكه هذه المرة أيضا ، و لكنه لم يرد ان يظهر ذلك فتنحنح و قال :
- انك تشتغلي في شركة كبيرة زي شركة البحيري فده مش سهل ولازملك جهد و تعب علشان تحصلي ع الوظيفة بس.
- طيب و اذا حبيت ابقى زيك مديرة تنفيذية.
ضحك الآخر و سألها مستفهما :
- ليه عايزة تاخدي مني المنصب ده انتي كمان ؟
- تؤ بس نفترض حابة اخد منصب كبير زي المستر يوسف مثلا هو فنفس مجالي.
نفث دخان السيجارة ثم اقترب منها يرد عليها بهدوء :
- ملازمش تقولي تعبت او كده كتير حاولي تنجزي مهام قد مابتقدري و تكوني في المركز الاول دايما و متسيبيش اي فرصة تضيع من ايدك و متستلميش من اول فشل و أهم حاجة تكوني واثقة بنفسك و قدراتك ... و ع الاغلب انتي بتقدري لانك موهوبة و شاطرة اوي يا مريم.
كانت تبدو عليه الجدية التامة وهو يمدحها و يثني عليها لمعة الفخر التي بعينيه لطالما تمنت رؤيتها في عيون والديها و لكن لم تحظى بتلك الفرصة ، ابتسمت مريم باِمتنان و سألته باِضطراب :
- هو انت ... انت هتروح دلوقتي صح.
- عايزاني امشي ؟
- لا خالص ااقصد يعني براحتك.
- طب مادام براحتي انا هقضي الليلة هنا.
انشرحت أساريرها و زفرت براحة وهي تتمالك نفسها لكي لا تقفز عليه و تحضنه شاكرة إياه لأنها ستنام هذه الليلة بإطمئنان لم تعشه منذ أيام ثم ذهبت لتضع هاتفها في الشاحن و عندما عادت لم تجده ، للحظة اعتقدت أنه غير رأيه و غادر و عبست لكن عند سماع صوت يصدر من المكتبة ارتاحت و دخلت اليه.
رأته يقف أمام الرفوف يحاول إختيار كتاب ما و حين لاحظ وجودها سألها :
- تحبي تقرأي ايه.
- انا لسه مخلصة كتاب من شويا ف اختار انت على ذوقك المرة ديه بشرط انت اللي تقرا.
همهم عمار برضا وهو يجد ما يبتغيه فجلس مستندا على الوسائد الهوائية و اتخذت مريم مكانا لنفسها بجانبه و إستندت على الأريكة وهي تتأمله ، تستمع لصوته الرخيم وهو يقرأ عليها من أحد كتب الأساطير الإغريقية التي يحبها ..
تتذكر في الماضي عندما كان يجلس معها داخل غرفة المكتبة التي أنشأها لها و يختار كتابا ليجعلها تقرأ منه فيظل يتأملها بينما هي غارقة في سحر الحروف المكتوبة ثم ينتهي بها الأمر وهي في حضنه تحت تأثير لمساته و همساته.
و هاهي الآن تستمع اليه هذه المرة ، كم بدى مختلفا عن السابق فبغض النظر عن وسامته التي تزداد كل يوم و لكن أصبح به شيء مختلف ...
لم تعد زيتونيتاه تحملان نفس القسوة التي عانت منها في السابق ، لم تعد تشعر بنظراته التي كانت تلقي عليها إتهامات لا مبرر لها ، و لكن لمعته المميزة اختفت ، اللمعة الخاصة ب "الغجرية" ، و كأنه ليس جالسا مع نفس المرأة التي تزوجها ...
أم هي من تغيرت ؟ تحولت من البريئة المسالمة إلى أخرى حقودة تدعس على كل حاجز يصادفها في طريقها اذا هل كلامه الذي القاه عليها منذ أشهر صحيح ، عندما دفعها على الحائط و أخبرها بأنها اصبحت سيئة لدرجة لا توصف و أنه كان منخدعا بها طوال تلك المدة !
ظلت مريم تراقبه مرة تعبس و مرة تبتسم حتى بدأت تشعر بثقل في عينيها و سحابة النوم تأخذها ... فغفت وهي جالسة بجواره ...
و مرت دقائق أخرى لينتبه فيها عمار لنومها فأغلق الكتاب ووضعه جانبا ثم ارتكز على جانبه يسند رأسه على يده متأملا إياها ، لقد مر وقت طويل على آخر مرة رآها بها وهي نائمة ، و كم بدت جميلة برموشها السوداء الطويلة و شفتيها الناعمتين.
تلمس بيده الشامة أسفل شفتيها من جهة اليمين ، و الأخرى القابعة بجانب أنفها و يا الهي كم اشتاق للمس بشرتها هذه.
و الى رؤية شعرها الذي يتبعثر و يعود لطبيعته المجعدة حينما يختفي مفعول التصفيف ، كم يحب مطالعة تفاصيلها الساحرة بلا كلل ولا ملل من قال أن عمار البحيري سيعشق امرأة فعلت به مالم يتجرأ أحد عليه.
لقد ظن في البداية أنه يسايرها ليعلم ما تخفيه فقط و أنه بعد انكشاف أسرارها سينتقم منها و يؤذيها مثلما أذى من قبلها ، اعتقد أنه سيحطم مريم و يجعلها تعاني و تبكي بدل الدموع دما حتى أنه كان سيفعل ذلك حقا غير أنه قد فشل فشلا ذريعا.
بل وجد نفسه يتحول من القاسي الجاحد الى آخر صبور يحتضنها عند انهيارها و عاطفي يراقصها في الحفلات و يقبلها و يجذبها اليه فقط ليرى عينيها عن قرب و سند يأتي اليها لكي لا تخاف من الوحدة.
وفي نفس الوقت هناك عدة حواجز تمنعهما عن بعضهما ، هو لا يقدر على مسامحتها ، لا تنجح محاولاته في نسيان حقيقة أنها اتهمته ببشاعة و أذت عائلته و ألقت عليه كلمات لا تمت للإحترام بصلة ، لقد ذلته مريم و حرمته من حقه في الحزن على طفله لأنه في تلك الأثناء كان يبحث عنها.
و لكنه يحبها و اللعنة على هذا الحب ، يعشقها و تسعد خفقات قلبه عند رؤية ابتسامتها الجميلة يود استفزازها كي يرى الى أي مدى ستصل سلاطة لسانها هو مُتيم و مغرم بها لحد الجنون و سيظل كذلك ولو جفت البحار !
انحنى عليها عمار يحدق فيها بهوس ثم طبع قبلة على شفتيها وشعرت هي به لكن نعاسها كان أقوى من يقظتها فهمهمت بإسمه و غرقت في نومها الثقيل ...
ابتسم عليها و نهض من مكانه ليحملها بين ذراعه و أخذها لسريرها ثم دثرها لكي لا تبرد و خرج الى الشرفة يدخن وعند انتهائه دخل مجددا و وقف يفكر قليلا حتى ابتسم و نزع سترته و قميصه لينام عاري الصدر كعادته ولكن هذه المرة وهي بجانبه.
ترى كم مر على آخر ليلة تشاركا فيها نفس السرير ؟ ربما في ليلة مرضها عندما انقضى الوقت وهو يعتني بها و الشعور بالذنب يجلده لأنه أهملها حتى وقعت مغشيا عليها ولو لم يأت للشقة بالصدفة فالله وحده يعلم ما الذي كان سيحدث لها.
مد يده ثانية وبدأ يداعب شعرها ووجهها و عنقها حتى اقترب بجسده و التصق بها ظن أنها لن تحس به ولكن مريم فاجأته عندما دخلت في حضنه و لفت يدها الباردة على بشرته الساخنة فلسعته و زادت مشاعره ثورانا في نفس اللحظة.
يا الهي هل كان يجب عليها أن تفعل ذلك الآن أم كذب عليها أحدهم و أخبرها بأن عمار أصبح صنما لا يشعر ! ابتسم بيأس و طبع قبلة على شعرها هذه المرة و دفنه أنفه في خصلاتها يشمها بلوعة حتى تملكه سلطان النوم ...
_________________
صباح اليوم التالي.
استيقظت على نور الشمس ولكن ليس وهي تنام على وسادتها كالعادة و تتدثر بالغطاء خوفا من البرد بل على شيء مألوف ... و رائحة مألوفة !
فتحت عيناها بإتساع فجأة و رفعت رأسها لتصدم بعمار الذي كانت تلتصق به وكأنه على وشك الهروب فإنتفضت جالسة غير مستوعبة لما يحدث هل هي تتخيل أم أن هذه حقيقة مالذي يفعله هنا و كيف نامت معانقة اياه.
لقد حلمت بأنها تحتضنه وهو يقبلها ثم يمرر يده على وجنتها مهلا لحظة ألم يكن ذلك حلما هل أمضيا الليلة معا ؟ نعم يبدو ذلك فهو أخبرها بأنه سيبيت هنا و الغبية غفت وهي تتأمله لتستيقظ وتجد نفسها في هذه الوضعية ترى مالذي سيقوله لها عندما يفيق يا الهي لن تسلم من سخريته.
ضربت مريم على جبينها بيأس ووجدت نفسها تعود و تنظر اليه ، رباه كيف يكون المرء وسيما وهو نائم هكذا بشعره الكثيف المشعث و رموشه الجميلة و ... شفتاه.
ولكن توجد علامات سوداء باهتة أسفل عينيه يبدو أنه أيضا لم ينم جيدا منذ وقت طويل حسنا لن تفرط به و توقظه فليرتاح قليلا.
ابتسمت على أفكارها و تحركت لتذهب إلا أنها شهقت عندما تم سحبها من خصرها على حين غرة فاِلتصق ظهرها بصدره و همس لها :
- قفشتك المرة ديه كنتي بتعملي ايه.
- انت ... انت كنت صاحي.
تلعثمت في الكلمات فراوغها عمار بمتعة :
- انتي نسيتي اني بصحى من اقل حركة ولا ايه يعني مش زيك بس متغيريش الموضوع انتي كنتي بتعملي ايه.
- معملتش حاجة.
- كدابة كنتي بتراقبيني و بالعلامة حطيتي ايدك عليا اضافة ل انك كنتي حضناني طول الليل.
احمرت وجنتاها من الخجل و لعنت نفسها لأنها انقادت الى رغبتها غير أنها استجمعت شتات مشاعرها و استدارت اليه هاتفة :
- و انت كمان بوستني اكتر من مرة و استغليت ان نومي تقيل ومش هقدر اصدك صح ولا لأ.
رفع حاجبه بإعجاب بجرأتها و قرص أرنبة أنفها هامسا بصوت متحشرج من آثار النوم :
- مش محتاج استغل نومك انتي عارفة اني بقدر اعمل اي حاجة و في أي وقت.
تأففت بحنق و استلت منه لتنهض و تقول :
- انا هعمل فطار و نروح بعدها للشغل.
كاد يتكلم و لكن قاطعه رنين هاتفه ففتح الخط بترقب :
- ألو يا وائل.
- صباح الخير يا عمار معلش اتصلت بيك بدري بس قلت لازم تعرف نتيجة التحليل طلعت.
اعتدل في جلسته و احتدت ملامحه فتوترت مريم من تغيره و ارتبكت بينمت يستمع الآخر للكلام :
- زي ما اتوقعنا قطرات العيون المستعملة كان فيها مادة دخيلة بتحرق العين و بتضعف النظر لو حد حط منها قطرة واحدة بس كفيلة أنها تخليه يعاني من التهاب حاد و بالتالي لو كان بيسوق هتحصله حاجة أكيد.
أغمض عيناه بإنفعال و أطلق سبابا جعل مريم تتيقن أن المكالمة ليست مطمئنة فوضعت يدها على موضع قلبها الذي ضاق و جلست بجانبه لعلها تلتقط كلمات تفهم منها ما يحدث.
تابع وائل بجدية :
- و ده بيأكدلنا ان حادث سليم مدبر و الريس بتاعه اتخلص منه لما عرف اننا بنراقبه و بندور من وراه يعني القاتل دلوقتي بيلعب معانا ع المكشوف اعتقد مفيش داعي نفضل نشتغل في السر من هنا ورايح.
أغلق عمار الخط و بقي مركزا على الفراغ وقد تجهم وجهه و احمرت عيناه بعصبية لتنقلب أساريره رأسا على عقب في بضع دقائق فقط ، ازدردت لعابها و تمتمت بتوتر :
- في ايه ... سليم مات مقتول صح.
لم يجب عليها بل نفض يدها التي أمسكته و غادر الفراش متجها الى الصالة فلحقت مريم به و تفاجأت عندما وجدته يقف أمام المكان الذي زرع فيه جهاز التنصت ليردد بصراحة :
- اعتقد مفيش داعي نخبي اكتر من كده اللعب بقى ع المكشوف و انا عارف كل اللي عملته و اللي خليت سليم يعمله قبل ما تقتله بس مادام وصلت بيك الحقارة للدرجة ديه يبقى لازم اقولك حاجة ... انا لسه موصلتلكش ومعرفتش انت مين وليه بتعمل كده بس وربي هلاقيك اقسم بالله هعرف اوصلك و ساعتها ... موتك هيبقى ع ايدي !!
________________
ستووب انتهى البارت
رايكم فيه يا ترى ندى ويوسف هتنجح علاقتهم ؟
رايكم بمشاهد عمار و مريم هل هو هيقدر يسامحها وتقدر هي تتجاوز اللي حصل ؟
الاسرار انكشفت و عمار اتواجه مع المجرم يا ترى ايه اللي هيحصل بعد كده
رايكم وتوقعاتكم للأحداث القادمة.
الفصل السادس والخمسون
( - رأفت بيه تعب يافندم و نقلوه للمشفى و بيقولو ان حالته خطيرة.
همس بتوتر منفعل ليجيبه الآخر :
- ما انا عارف و لسه جاي من عنده و حالته بقت مستقرة بس انت مالك اعصابك مشدودة ولا كأنه كان واحد من عيلتك.
تنهد بضيق و أجابه :
- يا عادل بيه انا مكنتش متوقع الامور توصل لكده حضرتك لما قولتلي نتهم رأفت بيه كنت فاكر اننا هنبعد الشبهة عننا بس انما تعبه و دخوله للمستشفى مكنتش حاطه في بالي.
قضب عادل حاجباه و اقترب منه مرددا بسخرية حادة :
- هو صعب عليك انت نسيت عملت ايه في ابنه و مراته زمان ولا لما طلعت اشاعات بتقول ان عمار مبقاش قد المنصب بتاعه و خليت المجلس يقلب عليه.
- ايوة يا فندم بس ديه حاجة تانية خالص كنا هنتسبب في موت انسان بريء.
- و الجنين اللي سممته و قتلته مكنش بريء يا سليم ؟
غمغم متهكما فأغمض سليم عيناه بخزي و ابتلع لسانه ليربت عليه الآخر و يوصل بثبات :
- اسمعني كويس الطريق اللي دخلنا فيه كان معروف من الاول انت كنت و لسه حارسي المخلص و دخلتك وسط رجالة عمار لانك الوحيد اللي بثق فيه وانت مخيبتش ظني فيك ... اكيد هنضطر احيانا نعمل حاجات مكناش عايزينها بس المهم نفضل عارفين ايه هو هدفنا و مين الشخص اللي بننتمي ليه.
رفع رأسه اليه بتردد لكن عادل لمس فيه بعض الإقتناع فتابع :
- بعرف ان اخويا رأفت و عمار ساعدوك كتير وممكن تكون حاسس بالذنب ناحيتهم للسبب ده بس متنساش انا عملتلك ايه من لما لقيتك في الشارع وانت قاعد على ركبك بتمسح جزمة واحد عشان قرشين تدرس اخوك الصغير و تعالج أمك المريضة بيهم.
ساعتها انا ساعدتك و ضميتك ليا لاني شوفت فيك راجل حقيقي يعتمد عليه اهتميت بأخوك و والدتك الله يرحمها و مبخلتش عليك انت فاكر ولا لأ.
استطاع عادل النجاح في الضغط النفسي الذي مارسه عليه من خلال تذكيره بأفضاله و التمنن بمساعدته لعائلته في السابق ليقتنع سليم و يذكر نفسه بأنه لولا السيد عادل لما كان سيستطيع توفير حياة كريمة لشقيقه حتى والدته لم يكن ليجد لها ثمن الكفن الذي تغطت به عند وفاتها.
ومن ناحية أخرى بدأ الشعور بالذنب يتسلل اليه بعدما استوعب انه يشارك في تدمير عائلة بأكملها و التفريق بين رجل و زوجته و أب ووالده ، وكل هذا لأن الأخ يطمع في ثروة أخيه و ينتقم منه في أشياء هو لا يعلم ماهيتها ، و لكن مثلما قال السيد عادل إن ولاء سليم الوحيد موجه للرجل الذي انتشله من القمامة وهو لا يسعه الاعتراض عن أي من أوامره.
هتف عادل بتحذير :
- انا سمعت عمار وهو بيخانق ابوه وبيتهمه انه هو اللي اتسبب فخسارته لإبنه و ع الاغلب بعد تعب رأفت عمار هيبدأ يشك في الموضوع ده ويبدأ يفهم انه كان لعبة احتمال كبير كمان يواجهك مباشرة و يجبرك تتكلم علشان كده انت لازم تتخبى الفترة ديه.
- هروح فين ؟
أخبره بأنه يمتلك شقة في محافظة الاسكندرية و سيذهب ليختبئ بها وبعدها سيتم ترحيله الى خارج البلاد لكي يبتعد نهائيا عن العائلة ولا يكشف أمره ، و رغم اعتراض سليم الأولي لأنه لا يستطيع ترك أخيه إلا ان عادل أقنعه بأنه سيتحمل كافة مسؤولياته من بعد الآن و فعلا هرب الأخير للإسكندرية و بدأ يجهز في أوراق السفر وهو يكاد لا يتخلص من عذاب الضمير بعدما كان سيتسبب في موت ذلك الرجل الطيب.
و بعد مرور أسبوع اتصل سليم بعادل و قال له :
- يا فندم انا مش قادر اسكت اكتر من كده بقالي كتير مش قادر انام من ضميري و الكوابيس اللي بتجيلي و عايز اواجه عمار بيه و اعترفله بكل حاجة.
حينها كادت تتوقف نبضات عادل وهو يهدر بعصبية :
- انت اتجننت ايه اللي بتقوله ده !
- متقلقش انا مش هعترف عليك هكدب و اقول اني تبع واحد من المنافسين و عملت كده عشان اشغلك عن الشركة و اقسم بربي مش هجيب سيرتك حتى لو هموت.
ضرب الآخر يده على الطاولة مزمجرا بحدة ثم أغمض عيناه محاولا تهدئة نفسه ليتمتم :
- سليم انت دلوقتي مش عارف نفسك بتعمل ايه من الخوف اهدا شويا و ركز عمار مش هيرحمك لا انت ولا اخوك و هيأذيك ... انا فاهمك كويس و عارف حاسس ب إيه و عارف كمان انك هتندم ع اللي بتقوله لما تصحى ع نفسك ... انا حجزت تيكيت من مطار القاهرة و سفريتك هتبقى بكره بليل تعالى ليا عشان افهم ايه مشكلتك ولو مقتنعتش ساعتها اعمل ما بدالك ماشي.
اقتنع سليم بصعوبة ثم أخبره بأنه يحتاج لأدويته و قطرات العيون التي يستخدمها من أجل القيادة الليلية لينبهه عادل بعدم الخروج من المنزل و سيرسل له هو كافة ما يحتاجه.
كان الأخير يدرك جيدا بأن الرجل الوفي لم يعد كذلك و قد أدرك هذا جيدا لذلك ليس لديه حل آخر للنجاة سوى ... التخلص منه !
و لأنه على علم بحالة سليم الصحية استطاع ايجاد فكرة ممتازة لقتله وهي وضع مادة تشوش الرؤية داخل عبوات قطرات الأعين و أرسلها له مع أحد رجاله ... لم يكن متأكدا من اذا كان مساعده سيتعرض لحادث أم لا و لأول مرة قرر الاعتماد على حظه و بالفعل نجحت خطته و انقلبت سيارة سليم في حادث مروع أدى لفقدانه لحياته.
و في النهاية وقف على قبره متأسفا لأنه اضطر على قتل الرجل الذي كان يعتبره كولد له و لكن الخطأ ليس منه هو لم يجعل سليم يخونه و يحيد عن طريقه لذلك فإنه يستحق عقاب الموت ! )
كل هذه الأحداث مرت على ذاكرته بشكل سريع كمقطع فيديو تعاد مشاهدته سطحيا بينما يجلس على الكرسي مقابل الحاسوب و يستمع لكلام عمار :
"- اعتقد مفيش داعي نخبي اكتر من كده اللعب بقى ع المكشوف و انا عارف كل اللي عملته و اللي خليت سليم يعمله قبل ما تقتله بس مادام وصلت بيك الحقارة للدرجة ديه يبقى لازم اقولك حاجة ... انا لسه موصلتلكش ومعرفتش انت مين وليه بتعمل كده بس وربي هلاقيك اقسم بالله هعرف اوصلك و ساعتها ... موتك هيبقى ع ايدي !!"
احمرت عيناه مبتسما كالمختل وهو يستمع لتهديد هذا الشاب الذي استيقظ من غفوته أخيرا ، لقد كان عادل يشك في موضوع معرفته بكل شيء و ككل مرة اتضح أن شكوكه صحيحة تلك الغبية اعترفت لعمار بأمر التسمم فبدأ رحلة البحث عن الفاعل من خلال تمثيله بأنه لا يعرف شيئا ثم مراقبة سليم الذي أوصل لها قطع الشوكولاطة بنفسه ذلك اليوم و في اثناء فعله لذلك وثع بفخه و اتهم الشخص الخطأ و عندما أفاق كان الأوان قد فات لأن كل الدلائل اختفت حتى الطبيب لن يفيده بشيء من الأساس لأنه لا يعرف هوية المسؤول الحقيقي عن كل هذا.
تنهد عادل بسخرية وهو يرى أنه قد تم قطع الإتصال مما يعني بأن عمار نزع جهاز التنصت الذي كان يزرعه في شقته ، هل يظن ذلك الأحمق بأن هذا سيفرق لديه ألا يعلم بأن لا شيء يوقفه بطريقه لتحقيق أهدافه !
ابتسم باِستمتاع قائلا :
- يعني فاكر انك هتقدر تقف ضدي بس مع الاسف لا انت ولا ابوك هتعرفو توصلولي لأن الفارق بيننا ان انا بعرفك و عايش معاك و فاهم كل خطوة هتعملها لانك ابن الست اللي حافظها اكتر من نفسي وانت نسخة طبق الاصل عنها في تصرفاتها و ردود افعالها بس انت مبتعرفنيش و معندكش فكرة عن هويتي اساسا..
و زي ما قولتلك اللعب بقى ع المكشوف دلوقتي و هنتسلى كتير.
_________________
جلست على الأريكة مسندة رأسها على كف يدها وهي تراقب عمار الذي جن جنونه و حطم جهاز التنصت بعدما واجه ذلك المجرم و هدده بطريقة مباشرة ، لا تصدق أن هناك شخصا بهذا الخبث و الدهاء ان مريم لا تستوعب لحد الآن كيف يكون الشخص المجهول متقدما عنهم بخطوات إضافية دائما.
هل يعقل أن يكون قريبا من العائلة و الشركة بهذا القدر الذي يجعله يتوقع الحدث قبل حصوله ؟ و لكن من هو ولماذا يفعل كل هذا !
زفرت مريم بإرهاق فاِنتبه عمار اليها و انتابه شعور بالشفقة عليها فذهب ليجلس بجانبها و قال محاولا إخراج صوته هادئا قدر الإمكان :
- انا عارف انتي بتفكري ف ايه دلوقتي بس خلاص مبقيناش مضطرين نعمل نفسنا مش فاهمين اللي بيحصل ع الاقل انتي مبقتيش مضطرة تنامي فمكان انتي مراقبة فيه.
زمت شفتها و هتفت بخفوت :
- بس هفضل عايشة لوحدي فنفس الشقة اللي دخلولها من قبل و اتسممت فيها كمان.
- مفيش داعي تقلقي الحراسة هنا مشددة حطيت كمان bodyguard فالشقة اللي قصادك مباشرة محدش بيقدر يقرب عليكي ومع ذلك لو خايفة انا هجبلك شقة تانية اا...
قاطعته الأخرى مضيقة عينيها :
- عمار انت مش فاهمني انا بتكلم عن اني لحد دلوقتي مش عارفة مين اللي بسببه خسرت ابني و سنين من حياتي ضيعتها في كرهك ع الفاضي معقول الشخص ده بيكرهك لدرجة يأذي اي واحد قريب ليك طيب اشمعنا انا ليه مأذاش حد من عيلتك ابوك مثلا ولا مراته ولا ... بنت عمك بما انها غالية عليك هي كمان.
نطقت بالجملة الأخيرة ممتعضة ولكن عمار كان و كأنه تنبه لشيء لم يفكر به من قبل ، صحيح هذا العدو لماذا لم يسبب أذى لفرد من عائلة البحيري بصفة مباشرة و ذهب مباشرة لزوجته حسنا من الممكن أن يكون قد استغل ضعف مريم من أجل قهره بأكثر طريقة سهلة و لكن لِمَ لم يمس عائلته بسوء بعد غيابها و كأنه ... كان يريد ابتعادها عنه هي بالذات !
شرد في أفكاره ولم يلحظ شحوب وجهه وهو يفكر في احتمال ... ان يكون المجرم فردا من العائلة نفسها
: بداية حل العقدة.
__________________
" ما تحتاجه لكي تعيش خاليا من الهموم هو التقليل من السلبيات وليس إضافة المزيد من الإيحابيات " # نظرية_الفستق
جلس على الكرسي مقابلا الآخر وهو يهدر بجدية حادة :
- زي ماقولتلك يا وائل انا مكنتش حاط الفكرة ديه فبالي اصلا بس لما مريم كلمتني ركزت اكتر و ادركت ان المجرم فعلا محاولش يأذيني عن طريق واحد من عيلتي و اتوجه لمريم مباشرة و ده خلاني احط احتمال ان ممكن يكون هو ... واحد من عيلة البحيري او قرايبينا مثلا ولاد عم أبويا او اخوالي ... او واحد عايش معايا تحت نفس السقف !
طحن ضروسه بشدة و إنفعال ليهمهم وائل :
- يعني انت بتقول ان المجرم مكنش عايز يضر قرايبينه اللي هما قرايبك فنفس الوقت صحيح ... بس هو حاول يلزق التهمة فوالدك.
- ايوة ممكن يكون اضطر يعمل كده ولما لقى ان الوضع طلع عن السيطرة قتل سليم.
وائل :
- نفترض كلامك صحيح طيب هو ليه راح لمريم اصلا كان هدفه ايه من انك تبعد عن مراتك يعني لو حب يضرك انت بالذات كان لقى اي وسيلة تانية غير انه يفرق بينك وبين زوجتك صح.
شعر عمار بأن الآخر يود الوصول لشيء ما فإعتدل في جلسته مغمغما :
- ازاي يعني انت بتقصد ايه.
حدق فيه بهدوء يملي عليه استنتاجه :
- يعني هو كان مستقصد علاقتك مع المدام مريم ومن مصلحته انكم تنفصلو عايز يفرقكم ومش ناوي ع حاجة تانية.
اندهش و اتسعت عيناه بإدراك جلي ليبدأ في ربط الخيوط ببعضها البعض ، وللصدمة فإنه وجد الأمر منطقيا عندما كان يسترجع كافة الأحداث التي وقعت !
ولكن من سيستفيد عندما ينفصل هو عن زوجته ؟ اذا فكر بشخص من طرف مريم فلن يجد أحدا لأنها لم تعرف أحدا قبله إلا ابن عمها الذي اصبح لا يقدر على العناية بنفسه حتى.
و اذا فكر بأحد من جهته فلا يستطيع إيجاد سبب مبرر لأي فرد من عائلته له المصلحة في انفصالهما.
الوحيد الذي ربما لديه مصلحة هو والده رأفت و اتضح بأنه بريء اذا من تبقى ؟
ضرب جبينه بإستياء و انهاك من تفكيره المستمر بنفس الموضوع و تابع استماعه الى وائل الذي شعر بالشفقة عليه :
- انت دلوقتي كشفت كل حاجة وواجهته يعني اعمل حسابك ان ممكن يتمادى ف اللي بيعمله بس احنا مش هنسكت و هندور عليه يا عمار و نتأكد اذا كان واحد من عيلتك ولا لأ.
رفع حاجباه و أنزلهما محدثا نفسه بسخرية :
- وحتى لو كان من عيلتي مش هتفاجأ اصل انا اتخذلت منهم من لما كنت طفل جت عليا وانا كبير يعني.
_________________
بعد مرور أسبوعين لم يحدث بهما شيء سوى البحث عن المجرم و سعي عادل ليخفي أثر أفعاله.
و اقامة حفلة خطوبة لندى و يوسف الذي صمم على أن تكون على ذوقها الخاص و هاهما يقفان مع بعض في نهاية تلك الليلة يطلان من شرفة القاعة المحجوزة وسط الهواء الليلي البارد ، تنهدت مطالعة خاتم الذهب الباهض الذي يزين بُنصر يدها اليسرى و تذكرت عندما ذهبت معهما والدتها لإختيار شبكتها من عند أكبر محل مجوهرات في المدينة و عارضت كل ما أعجب ندى مبررة بأنها ابنة رجل أعمال ولا يجب عليها ارتداء ماهو أقل من الألماس لكي لا تصبح محل سخرية بين قريناتها من المجتمع المخملي، و أنها لا تملك الخبرة الكافية لتختار حسب ذوقها إلا أن يوسف عارضها بأدبه المعتاد :
"- فريال هانم محدش بيختلف ع ذوق حضرتك بس ده هيبقى يوم ندى اللي كل بنت بتتمناه و حابب انها تختار بنفسها كل قطعة بتعجبها ... و عمتا ندى بتليق عليها اي حاجة مهما كانت فمعتقدش هيفرق معاها دهب من الماس.
وقتها عبست فريال و امتعضت لتهز رأسها بإستنكار و تغادر ، أما ندى فنظرت الى يوسف بدهشة و تأثر لأنه أول شخص يحترم رأيها و ذوقها في هذه الحياة فهي تتذكر عند خطوبتها من عمار لم تكن لديها فرصة لتختار ما تريده.
والدتها و أختها تكفلتا بمجوهراتها و أثوابها و أحذيتها و ديكور الحفلة بحجة أنهم يعرفون أكثر منها ، و عندما كانت هي تسأل عمار عن رأيه في شي ما يبتسم لها بإقتضاب و يخبرها بكل دبلوماسية بأنه يثق بها و برأيها فلا داعي لإستشارته.
أفاقت من شرودها على لمسة يوسف لوجنتها فرمشت مستعيدة شتاتها و نظرت اليه ليبتسم بينما يتأملها متكلما بنبرة صوته الرخيمة :
- تعرفي أن الأزرق بيجنن عليكي طالعة حلوة اوي ... Like princess.
مرر بصره عليها من الأعلى الى الأسفل بلا خجل وهي ترتدي فستانا أزرقا سماويا من الحرير بأكمام طويلة شفافة و منتشفة ، و حزام حريري بنفس اللون يحدد الخصر الذي هو بداية لتنورة طويلة متموجة و مبطنة يعلوها قماش شفاف نثرت عليه نقشات فراشات صغيرة حاله كحال الأكمام الشفافة.
ثم تنقلت عيناه لزينتها بداية من شعرها الحريري الذي رفعته للأعلى مثبتة إياه بمشبك على شكل فراشة وقد تركت خصلة مسدولة على وجهها.
ثم تلك الظلال الوردية التي زينت عينيها مع الكحل الأسود فأبرزا حدقتيها الخضراوتين ، ووجنتيها الورديتين ليأتِ أجمل ما في إطلالتها أحمر شفاهها الزهري المعذب للأعصاب ... لم يكذب عندما شبهها بالأميرات فأي جمال خُلقت به هذه الفتاة !
تململت ندى ببعض الحرج من تحديقه المطول فيها و اِهتز ثباتها قليلا فحاولت استدراكه وهي تهتف بصوت خفيض :
- ميرسي و انت كمان ... you look so handsome.
قبل يوسف يدها برقة ثم استطرد قائلا وهو يخرج شيئا من جيب سترته :
- و ديه هديتك بمناسبة الخطوبة.
- معقول انتو جبتو هدايا كتيرة اساسا.
هتفت بدهشة ليجيبها :
- اللي جبناهم حاجة و ديه حاجة تانية خاصة بيكي انتي.
تابعت حركاته بفضول و تفاجأت وهي ترى بين يديه شيئا غريبا ... مهلا هل هذا محار من البحر ؟ ماهذا الذي يخرجه منه.
فتح يوسف المحار و انتشل منه عقدا بتصميم جميل بداخله لؤلؤ و حين وجدها تطالعه بإستغراب شرح لها مبتسما كعادته :
- ديه اسمها قلادة الأمنيات ... الفكرة بتاعتها انك تطلعي اللؤلؤة ديه من جوا السلسلة و تتمني أمنية بعدين ترجعيها لمكانها و تلبسيها.
التمعت عينا ندى بإنبهار وهي تأخذ العقد منه متأثرة بفكرته ثم رمقته بعاطفة هوجاء متمتمة :
- ديه حاجة لطيفة اوي ... I liked it.
فتحت المحار الصغير و أخرجت منه حبة اللؤلؤ مغمضة عينيها وهي تهمس بكلام لم يصل لأسماعه ، ثم أعادتها لمكانها و أعطته القلادة فوقف يوسف خلفها و ألبسها إياها أشار لتنظر لنفسها في زجاج باب الشرفة بينما يهمس عند أذنها :
- ممكن فكرة السلسلة ديه خيالية بس انا بتمنى من كل قلبي انك تحققي اللي طلبتيه ... لأنك بتستاهلي.
تثاقل جفناها بتأثير همسه و أنفاسه الحارة التي عانقت بشرتها ثم استدارت اليه ليقبض على وجنتيها و ينحني عليها مقبلا إياها بشغف استعر به و ابتعد عنها بعد لحظات مسندا جبينه على خاصتها وقد تخضب وجهها بالدماء من خجلها ...
مرت ثوان عليهما و خرجا بعدها الى القاعة التي فرغت من الضيوف ولم يبقى بها سوى أفراد العائلة و والدا يوسف ، نظروا اليهم و مط وليد شفته مستهجنا :
- اهلا بعريس الغفلة.
حمحمت ندى و ذهبت لقريباتها تلتقط معهن صورا اضافية كي ترسلها الى أختها المقيمة في الخارج أما يوسف فجلس على نفس الطاولة مع عمار ووليد هاتفا :
- اليوم ده كان طويل بس جميل اوي.
ألقى نظرة على خطيبته متابعا :
- I'm really happy.
أماء عمار بإبتسامة وهو يدخن بينما قلب الآخر عينيه معلقا :
- حقك يا چو مش ديه خطوبتك وبعد فترة قصيرة هتكتب كتابك لازم تفرح خاصة انكم انتو الاتنين بتبرطمو بالانجلش ع طول هتعرفو تتفاهمو مش زيي.
ضحك متسائلا بتعجب :
- طيب انت كمان هتعمل الخطوبة الاسبوع الجاي زعلان ليه.
تنهد بخنق و رد عليه :
- كان المفروض تتعمل من يومين احنا كنا متفقين وكل حاجة بس الهانم قالت انها مش جاهزة لسه ومفيش داعي نستعجل مش فاهم ايه اللي غيرها كده و كله كوم و غضبها وخناقها معايا من غير مبرر كوم تاني.
التفت الى عمار الجالس بهدوء و سأله مضيقا عيناه :
- بقولك ايه اوعى تكون مراتك بتحرض خطيبتي عليا علشان كده هي مش طايقاني الفترة ديه.
رفع حاجبه بتلاعب :
- الله اعلم مش هي كانت بتحرض مريم عليا زمان شكل الأدوار اتعكست دلوقتي.
شحب وجه وليد بشكل مفاجئ جعل عمار يعتدل مغمغما بحذر :
- في ايه يالا هيغمى عليك ولا ايه اجمد شويا.
ازدرد لعابه هامسا :
- بصو انا مليش في قصص نكد الستات ده بقالي سنتين بجري ورا البنت ومش حمل اجري تاني كلم مريم وقولها تبطل اللي بتعمله ده.
اندهش يوسف من حالته و طاله عمار الذي تأفف بضجر هاتفا :
- انا بهزر معاك مريم ملهاش في النميمة.
- يابني ديه فضحتك وخلت اللي مايسوا يتفرج نميمة ايه اللي ملهاش فيها احنا هنستعبط.
أجابه بتهكم فضرب الآخر ساقه مغمغما بحدة :
- اقسم بالله هعملك خريطة في وشك لو متعدلتش معايا.
تأوه بألم و ابتعد عنه مبرطما :
- انت بتقدر عليا انا بس بلا نيلة.
بينما أخرج عمار سيجارة أخرى مفكرا بأن تلك الأفعى لا تحتاج لمن يحرضها فلسانها سليط و تفكيرها المسموم يكفيها و يفيض ، أما يوسف فحدق بهما في صمت ثم حانت منه التفاتة لندى التي كانت تضحك مع بعض الفتيات برقة ليفكر بأنه محظوظ لأنه ارتبط بفتاة لطيفة مثلها ولا يبدو بأنها ستسبب له أية مشكلة قط !
__________________
في اليوم التالي داخل شركة البحيري.
دخل عادل الى غرفة مكتبه بعصبية و جلس على الكرسي وهو يتحدث على الهاتف :
- ازاي مش لاقيينه انت بتهزر معايا.
- يا فندم احنا عملنا زي ماحضرتك أمرتنا و دورنا في حاجات سليم بس ملقيناش اللي عايزه مكنش عنده غير السجلات اللي خدتهم منه لما روحت اديله الادوية بتاعته و بعتهم لحضرتك.
جز على أسنانه بإنفعال مستمعا الى مساعده الذي تابع :
- ممكن فعلا سليم مكنش عنده غير الورق اللي انا خدته منه وبالتالي مفيش حاجة بتهددك.
تأفف و هتف بتهور لحظي :
- لا ده اشتغل معايا كتير وعارفه بيفكر ازاي هو ذكي وبيعمل نسخة من كل حاجة و ...
ابتلع حروفه فجأة و اتسعت عيناه مدركا ما تفوه به فسارع يستطرد مغيرا مسار الحديث :
- يعني بما انه كان ايدي اليمين في الشغل ف اكيد عنده ورق يخص صفقة البناء ولو سربه للمنافسين بتوعنا هتبقى مصيبة اتصرف ولاقيه ولو لزم الأمر دور عند كل حد قريب منه ... انت فاهم !
استوعب الآخر ما يقوله سيده فطمأنه و أغلق الخط أما عادل كاد يطلق مسبة لأنه أوشك أن يكشف نفسه ، هو يعلم جيدا بأن عمار سبق وأن ركب أجهزة تنصت داخل مكاتب الشركة لقد شك في ذلك سابقا و بعد مواجهة عمار تأكد من ذلك فشكر ذكاءه الذي يجعله يتوقع كل ما سيفعله ابن أخيه و منذ ذلك اليوم اصبح حذرا في كلامه و تصرفاته...
إلا أن أمانه اهتز عندما أدرك بأن سليم لم يُسلم جميع الملفات التي تكشفه عندما أرسل اليه مساعده تلك المرة مخبرا اياه بوجوب تقديم كل ما يخصه قبل سفره.
و انهارت اعصابه وهو يضع احتمال اعداده نسخا من كل ملف كعادته فأمر بقية رجاله بالفحص و التدقيق و عندما لم ينجزوا ما أمرهم به كاد يفضح نفسه لولا تداركه في آخر لحظة.
و لسوء الحظ هو لا يستطيع نزع الجهاز الآن يجب عليه التمثيل بأنه لا يعلم شيئا عنه والا فإن عمار سيتساءل عن كيف اكتشف عمه وجوده.
جعد جبينه بحدة متحدثا بداخله :
- سليم متعود ياخد كل احتياطاته واكيد مخبي حاجات ضدي وانا لازم الاقيهم قبل عمار ما يوصلهم.
** في الغرفة الأخرى.
استرخى على المقعد مستمعا بملل للتسجيلات الصوتية التي تخص بعض أفراد الشركة اللذين يشك هو بهم وكم أرهقه سماع بعض المكالمات التافهة والتي لا فائدة له منها.
مثل مكالمة تخص أحد المدراء مع زوجته وهو يكذب عليها بخصوص أنه سيتأخر اليوم في اجتماع وهو في الحقيقة قد اتصل بعشيقته واتفق معها أن يقضي الليلة معها.
و أحاديث أخرى يكون عمار البحيري هو بطلها لا يصدق أن الرجل الذي يظل يمدحه و يثني عليه هو في الحقيقة يتكلم عنه و يذمه و يخبره رفاقه كم هو مدير قاس و مستبد و غيرها من التفاصيل التي أزعجته.
هل يكون المرء منافقا لهذه الدرجة ؟ كيف يستطيعون التصرف بهذا النفاق و تزييف مشاعرهم ؟ تبا سيرسل هذه التسجيلات الى وائل لكي يتصرف بها فهو لم يعجبه تجسسه على الآخرين هكذا ، مط شفته بخنق و كاد يغلق التسجيل إلا أن صوت عمه عادل الذي دخل الى مكتبه أوقفه خاصة أنه أظهر كم هو غاضب و متوتر.
قضب عمار حاجباه و ركز مع كلماته فوجده يقول لأحد ما على الهاتف بأن يبحث عن شيء ما لأن الشخص الذي كان يعمل معه ذكي و يأخذ نسخا للاحتياط.
ثم صمت قليلا و استطرد متكلما عن صفقة بناء فتبين بأن الحديث يخص إحدى العقود و لكن لماذا هو مرتبك الى هذه الدرجة ؟
طرق الباب فجأة و دلفت مساعدته سلمى مرددة :
- الورق اللي حضرتك طلبته يا فندم.
- هو وصل متأخر كده ليه انا طلبته بقالي كتير ؟
- الشغل عليه اتأجل اكتر من مرة يا عمار بيه بسبب اللي حصل مع رأفت بيه وكمان المشاكل مع المستثمرين.
- طيب متنسيش تبعتي منه نسخة لأعضاء المجلس و لعادل بيه كمان.
- انا عملت كده يا فندم و منسيتش عادل بيه لانه اول واحد سأل عنه يوم تعب والد حضرتك.
انتبه لكلماتها فرفع رأسه اليها مستفسرا :
- هو كان معانا طول اليوم في المشفى امتى لحق يسأل عليه.
ردت عليه سلمى بتلقائية :
- لا ماهو كان بيدور عليه قبل كده و جه عشان يدخل لمكتب رأفت بيه و يسأله بس ... احم اتراجع لما عرف انك معاه.
تشنجت أعصاب عمار و احتدت عيناه متمتما :
- مين اللي جم ساعة اللي حصل ووقفو قريب من الباب عمي و كمان مين.
استغربت سؤاله و طفقت تسترجع ذاكرتها لذلك اليوم حتى قالت :
- انا كنت معدية من هناك بالصدفة و مشوفتش كل حاجة بس في كتير اتلمو ع صوت الزعيق موظفين و رؤساء أقسام كمان و السكرتيرة ملحقتش تبعدهم لان حضرتك كنت بتطلب الاسعاف ... هو في حاجة ؟
خبُتت ثورته و عاد يجلس على كرسيه مرددا بضيق :
- لأ مفيش ... صحيح ماري هتوصل من باريس امتى.
- الاسبوع ده يا فندم و جهزنالها استقبال بيليق بيها و اه كانت بتسأل عليك انت مخصوص و بتتمنى انك انت اللي توقع ع الصفقة.
همهم بإيجاب :
- ديه عميلة مهمة ولازم نهتم بيها طبعا ... شكرا اتفضلي ع شغلك.
اتصل بقسم الترجمة و طلب منهم أن يرسلو المتدربين الأساسيين وبعد لحظات دلفت مريم برفقة شاب و فتاة أخرى و ألقوا التحية ليهتف بجدية بينما ينظر للأوراق :
- اتفضلو اقعدو.
رمقته مريم بطرف عينها و جلست محاولة التصرف بطبيعتها أمام البقية ثم بدأوا في التكلم حول العمل و عرض الملفات التي قاموا بترجمتها و أثناء ذلك رن هاتفه بوصول رسالة فرمت الأخيرة بصرها بسطحية و تفاجأت بقراءة اسم "Rymas" قبل ان ينتشل عمار الهاتف من جانبها و يبتسم عند قراءته للرسالة ثم وضعه جانبا و تابع حديثه غير منتبه لتلك التي شعرت بإندلاع اللهيب من حولها و انقبض فكها و يدها بإنفعال فحاولت كظم غيظها لكي لا تلفت الإنتباه.
ريماس مجددا ... اللعنة من هذه المرأة التي يتصل بها و يراسلها على الدوام و كم هي قريبة منه لدرجة أن يبتسم عند قراءة رسالتها !
تنفست بحدة زادت عندما تجاهلها عمار تماما و كأنه ليس نفس الرجل الذي نام بجوارها منذ اسبوعين فقط و قضى الليل يعانقها و يقبلها مداعبا شعرها ، و أحست برغبتها في النهوض و كسر هذه التحفة الزجاجية على رأسه لربما يخجل من نفسه إلا أنها لم تستطع فعل شيء غير الصمت.
مر الوقت ببطء و انتهى أخيرا ليشكرهم عمار على تفانيهم و يلتفت الى الفتاة سائلا اياها :
- انسة سهى اول تدريب ليكي كان هنا في الشركة صح.
- ايوة يا فندم.
همهم برضا مثنيا عليها :
- شغلك عجبني خاصة اهتمامك بأدق التفاصيل و انا متأكد انك هتحققي نجاحات كبيرة لو فضلتي فنفس المستوى و انت يا استاذ محمود هستنى نتيجة التدريب بتاعتك بفارغ الصبر ... تقدرو تتفضلو.
غادر الشاب و الفتاة أما مريم فعند وصولها الى الباب أغلقته و عادت اليه هادرة بعصبية :
- هو انا شغلي مش عاجبك ولا ايه !
اندهش من حالتها و رفع حاجبه مستنكرا :
- Calm down في ايه لكل ده انتي نسيتي نفسك ولا ايه.
انتفخت أوداجها أكثر عندما طلب منها أن تهدأ فقالت بحدة :
- انت ليه كل يوم بحال و بتتصرف معايا ع حسب مودك ليه بتعمل كده.
حذرها عمار بثبات :
- مترفعيش صوتك يا مريم و انتبهي لكلامك انا هنا مدير و انتي متدربة عندي مش اتنين داخلين فعلاقة زواج مع وقف التنفيذ و بيتخانقو ... قولتلك اهدي و اتكلمي من غير ماترفعي صوتك او اطلعي برا و هنبقى نكمل كلامنا في البيت.
عقدت يديها أمامها و هزت ساقها بغضب واضح وهي تتحدث :
- ماشي هتكلم بكل هدوء ... ممكن افهم مين اللي بعتلك ميسيج خلاك تبتسم و ليه فضلت متجاهلني طول الميتنج و مدحت في الاتنين دول وانا لأ.
فغر فاه و رمش عدة مرات محدقا بها في دهشة ليفكر للحظة بأنها تمزح ولكن الجدية المرسومة على تقاسيمها جعلته يتنحنح مردفا :
- اولا الرسالة عادية وانا ابتسمت مضحكتش اضافة ل اني مش مضطر ابررلك اكتر من كده.
و ثانيا المتدربين التانيين شغلهم عجبني فعلا واحنا مبنلعبش هنا لعبة مين الأفضل عشان اخاف ع مشاعرك صحيح انتي شاطرة بس في اخر فترة بقيتي تكسلي وده مش عاجبني.
وضحت له مريم بإستياء :
- طبيعي يحصل معايا كده وسط كل المشاكل والقصص اللي ...
قاطعها بدون مبالاة :
- ده مش مبرر انتي لازم تفصلي بين الحياة الشخصية و شغلك لاني سبق وقولتلك فترة التدريب قربت تخلص ولو لقيت مستواكي اتراجع هحذف ملفك من عندنا بنفسي و شوفي اي شركة تانية غيرنا توظفك.
توقع أن تكابر و تناقشه او تستسلم و تعده بأن تهتم بعملها و لكنها صدمته عندما تكلمت في موضوع مغاير تماما :
- مين ريماس ديه اللي بتفضل تتكلم معاها ع التلفون.
- انتي بتسألي بصفتك مين ؟
- هو لازم يبقى في صفة معينة عشان اسأل !
- اه اتخيلي.
هتف بتهكم ساخر فعضت مريم على شفتها و قامت :
- تمام بعد اذنك عندي شغل.
قلب عمار عيناه مستهزئا بنفسه لأنه فكر للحظات بأنها ستقول له " أنا زوجتك " ، ولكن يبدو أن كبرياءها اللعين لن يسمح لها بهذا.
كاد يسمح لها بالإنصراف لولا رنين هاتفه و كان الاتصال من وائل فنظر اليها و فتح الاسبكير متمتما :
- ايوة يا وائل.
جلست مريم على الكرسي بتوجس بينما يقول الآخر :
- عمار فاكر الدكتور اللي اختفى من ساعة حادث سليم ؟ احنا لقيناه و جبته عندي.
انقبض فكه بحمية لحظية تداركها بأن قال :
- طيب مش انت قلت ان الدكتور كان بيعرف سليم بس و اكيد مش هيعرف مين الريس الكبير هنستفاد ازاي دلوقتي.
ركزت مريم مع كل حرف يقال و اختلجتها عدة أحاسيس مختلفة من الغضب و الحزن و الخوف و الألم و الترقب غير أن عمار الذي شعر بها مد يده يمسك بخاصتها مطمئنا إياها بهزة من رأسه فإبتسمت له باِمتنان و واصلت الاستماع لوائل الذي ردد بجدية :
- احنا لقينا معاه رسالة ... و سليم هو اللي كتبها و خلاها عنده فحال لو حصلتله حاجة !