الفصل السابع : قرار الصلح.
- الحقنا يا صفوان بيه النار ولعت في البساتين والزرايع اتحرقت مفضلش منها حاجة !
وكأنه سمع صافرة موته ! جحظت عيناه وشحب وجهه في بضع ثوانٍ كانت كفيلة لجعله يلفت الإنتباه وقبل أن يسأله العمدة عما حدث تحرك صفوان إلى الخلف صارخا :
- انت بتقول ايه بساتين مين ديه اللي اتحرقت ؟
إستمع للآخر الذي أجابه بخوف بأنه لا يعلم السبب حيث أن العمال كانوا في منازلهم حين سمعوا هرج الأهالي ليكتشفوا بأنه حدث إندلاع مهول للنيران في البساتين.
سقط الهاتف من يد صفوان وترنح في مكانه فإلتقطته ذراع آدم الذي غمغم متسائلا :
- في ايه يا صفوان ايه اللي حصل ؟
كرر العمدة نفس السؤال عليه فتمتم بتقطع :
- النار مسكت في البساتين بتاعتي ... بيتي اتخرب.
أجفل آدم وأظهر تعبيرات مصدومة فطفق يردد منذهلا :
- لا حول ولا قوة إلا بالله ازاي ده حصل ومين اللي قالك.
لم يجب عليه فتنهد مربتا عليه :
- انا عارف انك مصدوم دلوقتي بس هنعرف نحلها يلا تعالى نروح نشوف الوضع هناك.
- عايز تشوف نتايج اللي انت عملته وتشمت فيا ؟
همس صفوان بجمود ثم رفع عيناه المحمرتان وطالعه مكملا :
- انت اللي عملت كل ده صح.
قطب الآخر حاجباه بإستنكار :
- ايه اللي بتقوله ده.
هنا فقد آخر زمام صبره فإنتفض واقفا وقبض عليه من ياقته صائحا بجنون :
- انت اللي حرقت البساتين عشان تؤذيني وجاي دلوقتي تعمل نفسك مش فاهم فاكر اني مش هكشفك !
طحن ضروسه بغضب سافر وأبعده بغلاظة هاتفا :
- انت اكيد اتجننت انا هعمل كده ليه أصلا ازاي تفكر فيا كده.
كاد يهاجمه مجددا ولكن العمدة الذي كان صامتا منذ سمع بالحادثةأطرق عصاه على الأرض هادرا بصوت جهوري :
- بس أنت وهو كفاية لعب عيال اظاهر انكو مش مقدرين حجم المصيبة اللي حصلت ! ويا صفوان بدل ما تهاجمه من غير سبب ولا دليل روح شوف الخساير وفكر ازاي الحادثة ديه حصلت والغفر بتوعك كانو فين ولو في مسؤول عن اللي حصل انا هحاسبه بنفسي.
تجمدت عينا صفوان بنظرات صقيعية هوجاء ألقاها على آدم وواتته رغبة وحشية في قتله، كان قادرا على ملاحظة إبتسامته الجانبية التي طمسها خلف قناعه الهادئ البريء ومقتنعا تقريبا بأنه المسؤول عن الحريق لكنه لا يستطيع فعل شيء الآن لذلك آثر أن يتركه ويغادر حتى يتقفى مدى الأضرار التي لحقت به.
نادى العمدة لحارسه وأمره بأن يرسل مجموعة من الرجال للبساتين المحترقة ثم نظر لآدم الذي وقف بعبوس وقال :
- صفوان اعصابه تعبانة دلوقتي واللي عمله ناتج عن صدمته.
هز رأسه موافقا وأجابه برصانة :
- انا عارف حضرتك ومتفهم موقفه بس لازم نعرف ازاي الحريق حصل لأنه لو بفعل فاعل فده بيعني انهم بيهددونا كلنا بإعتبار اننا شركاء في عدة صفقات واللي بيضر واحد مننا بيضرنا كلنا.
رمقه العمدة بغموض مفكرا في مدى إحتمالية أن تكون لآدم يد فيما حصل بيدَ أن الوقت الحالي غير مناسب للتحقيق لهذا تنحى عن الشك مبدئيا وطلب منه الذهاب إلى مكان البساتين المتضررة وتقفي حجم الخسائر فوافقه الأخير سريعا مغادرا بصلابة.
وبمجرد خروج آدم من المنزل وركوبه لسيارته إختفى عبوسه وضيقه، ومالت شفتاه في إبتسامة خبيثة ظهرت بوضوح على معالمه وهو يهمهم بنبرة متوعدة :
- ديه البداية بس.
___________________
إنتشر خبر الحريق في القرية وهلع الأهالي والعمال الذين فقدوا مصدر رزقهم أما الحراس فتشتتوا بخوف من دفع ثمن الإهمال والجميع بدأ يتساءل عن كيف حصل هذا الحادث وإذا ماكان هناك مسؤول عنه أم أنه حادث عرضي ناتج عن إهمال الحراسة.
أما صفوان فكاد ينهار وهو يرى شقاء السنين يُهدر ببساطة لا يصدق بأن بساتينه التي كرس حياته من أجلها أُحرقت وأصبحت رمادا، إتكأ على سيارته بذهول تخلله الضعف يحاول إستيعاب مايراه حتى وصلت نيجار وركضت ناحيته مرددة بهلع :
- صفوان اللي حصل ده بجد ازاي ومين عمل كده ؟
رفع وجهه إليها وغمغم بغل شديد :
- اللي عمل فيا كده معروف.
إتسعت عيناها بإدراك ووضعت يدها على فمها تمنع شهقتها من الخروج ليتابع :
- إبن سلطان خرب بيتي حرقلي شقايا وتعبي عشان ينتقم مني ... بس أنا هقتله.
نطق جملته الأخيرة وهو يستل مسدسه ويلتف حتى يذهب لكن نيجار إنتفضت توقفه مهدئة إياه :
- استنى مينفعش تتحرك من غير ماتفكر اهدا شويا.
- اهدا ازاي انتي كمان مش شايفة حصل ايه ؟
أومأت بإيجاب مؤكدة له بأنها تتفهم موقفه لكنها هتفت بروية :
- محدش هيصدقك لما تروح تهاجم آدم من غير دليل هتبقى انت الخسران الوحيد وتتحاسب عشان كده لازم لازم نلاقي دليل ضده الاول وساعتها لو حبيت تقتله محدش هيلومك لأنك بكده هتبقى انتقمت لنفسك وللعمال اللي عندك.
توقف يستمع لحديثها بأنفاس متسارعة ووجه متعود وللأسف كانت إبنة عمه محقة لهذا حاول تهدئة نفسه والتفكير بما يجب عليه فعله.
غير أنه أدرك بأن فرصة الهدوء ليست متاحة له حينما لمح آدم ومساعده فاروق يدخلان لمنطقته ثم يقتربان منه ، وقف الأخير أمامه وتنهد ببرود :
- العوض بسلامتك ياصفوان الحمد لله ان مش كل البساتين اتحرقت لسه في أماكن متضررتش ... فاروق روح مع الرجالة بتوعنا وساعدوهم مش هيلحقو يطفو الحرايق كويس لوحدهم انت عارف الحرايق كترت اليومين دول ربنا يستر.
إبتسم فاروق بإستمتاع متمتما :
- أمرك يا بيه من عينيا.
غادر المكان وظل الثلاثة مع بعضهم فغمغم صفوان من بين أسنانه :
- أنا عارف ان نفسك تشوفني مقهور بس مش هنولك الشرف ده لأن مش إبن الشرقاوي اللي بيتذل قدام حد خاصة انت ... وهثبت أنك انت اللي سببت الحريق وانتقم منك يا ابن سلطان.
ظل على بروده ولم يطرأ عليه تعبير يدل على تأثره ثم إبتسم وهو يهمهم :
- ده آخرك يا بتهدد يا بتعمل حاجات غبية تقل منك، بس لو حصلت معجزة وقدرت تنفذ كلامك مرة واحدة يبقى ياريت تنتقم مني بنفسك مش تتخبى ورا الحريم وتستناهم يعملو اللي انت معملتوش.
إرتبكت نيجار التي ضربها تلميحه في الصميم فزفرت وأشاحت وجهها عنه بضيق متصاعد، أما آدم الذي لم يلقي عليها نظرة واحدة منذ مجيئه تابع حديثه العابث :
- عموما لو احتجت لأي مساعدة ف أنا موجود انت عارف آدم عيلة الصاوي مبتسيبش حد محتاج.
أنهى جملته وربت على كتفه بمؤازرة مصطنعة مغادرا بينما ظلت نيجار تلاحق أثره بعينيها وهي تفكر في ماهية خطوته القادمة، بعدما فهمت بأن إنتقامه منهما سيكون كالطعام الذي يؤكل باردا حيث أنه سيستمر بضرب عائلتها من نواحي غير متوقعة لكنها لن تكون نيجار الشرقاوي إن لم تتصدى له.
*** مر أسبوع على حادثة الحريق وأبدى آدم تعاونا كبيرا أمام العمدة مظهرا للناس بأنه سيتجاهل كل المشاكل بينه وبين صفوان ويساعده في تخطي المحنة التي يمر بها.
كما أنه لم يستطع أحد إثبات أن آدم هو المسؤول عن الحرائق حيث لم يتواجد دليل في الوسط فأرجح البعض إلى أن الحريق حدث نتيجة الأسباب الطبيعية المؤدية لإندلاع النيران ولم يستطيعوا السيطرة عليه بسبب إهمال المسؤولين عن البساتين والبعض الآخر فكر بأنه مفتعل من طرف مجهول بعيد عن القرية.
____________________
- قولتيلي مرضيتش تاكل ولا تاخد العلاج ؟
نطق بخشونة وهو يتحدث على الهاتف مستمعا للطرف الآخر ثم زفر بخنق مرددا :
- بس ليه كده ديه كانت كويسة النهارده الصبح ايه اللي حصلها فجأة اوعى يكون حد عملها حاجة ضايقتها !
أجابته الأخرى على الفور :
- لا يا مراد بيه انا باخد بالي منها ومحدش غيري بيدخل اوضتها بس الهانم بقالها فترة مش ع بعضها وبتتعصب بسرعة ... وحضرتك عارف حالتها مش هتقدر تقولنا ايه اللي مضايقها كده.
أسدل مراد جفناه بألم مبتلعا الغصة التي احتكمت حلقه على حين غرة حين تذكر حالتها المرضية لكنه حاول إستعادة رشده فلفظ الهواء على مهل وقال بنبرة شبه هادئة :
- ماشي انا هحاول اجي بدري النهارده واقعد معاها بس انتي خدي بالك منها و اوعى تنقصي عليها حاجة.
- أمرك يا بيه.
أغلق الخط ورمى الهاتف على سطح مكتبه بإهمال مدمدما بكلمات حاقدة متوعدة حتى تفاجأ بطرق الباب ودخول مساعده قائلا بجدية :
- يافندم في واحد طالب يقابل حضرتك رغم انه مش محدد موعد معاك بس مصمم يشوفك.
قضب حاجباه بنزق متوقعا أن يكون صفوان وتساءل :
- مين ده ؟
وقبل أن يجيبه الآخر تفاجأ مراد بظهور آخر شخص توقعه من العدم بهيئته المهيبة وهو يقف عند الباب بملامح صلبة راشقا إياه نظرات قاتمة تدل على أنه لا ينوي به خيرا ليغمغم بجمود :
- أنا ... آدم سلطان الصاوي.
إعتدل في جلسته رامقا إياه بذهول وللحظات إعتقد أنه يتخيل وجوده لكن عندما وجده يشير لمساعده "فاروق" بالبقاء خارجا ودخل هو بثقة تنحنح وجرب تمالك نفسه وإدعاء الثبات، جلس آدم بأريحية على الأريكة المقابلة ووضع قدما فوق الأخرى هاتفا :
- خير باين عليك متفاجأ أوعى اكون جيت في وقت مش مناسب او يمكن معرفتنيش.
طالعه مراد لهنيهة قبل أن يبتسم ويجيبه وهو يسند يداه على سطح المكتب ويجمعهما :
- لا أكيد عرفتك حضرتك غني عن التعريف بس أنا استغربت شويا لأني متوقعتش واحد زيك يجي لمكتب سمسار متواضع زيي.
تقلصت شفتاه في إبتسامة مماثلة وقال :
- حضرتي غني عن التعريف بس حضرتك مش معروف أبدا حتى اني عملت مجهود كبير عشان أقدر اوصلك.
أماء برأسه بينما يريح جسده على ظهر الكرسي الجالس عليه :
- أيوة أنا فتحت مكتبي في المنطقة ديه من فترة قصيرة ويدوب بدأت اتعرف بين العملاء اللي هنا، اؤمر حضرتك عايز انهي خدمة مني ؟
- عايز خدمة الحقيقة.
- مفهمتش.
إختفى البرود من تقاسيم وجهه وإنكمشت ملامحه بوحشية هاسًّا :
- ايه العلاقة مابينك وبين صفوان الشرقاوي عشان تتعاون معاه، وليه.
توضح لمراد من البداية بأن آدم قد زاره بعدما بحث عنه وحصل على أكثر قدر من المعلومات عنه نتيجة ذكر إسمه في خطة قتله الفاشلة فلعن صفوان وإبنة عمه بداخله بشزر ومع ذلك بقي محافظا على هدوئه وهو يقول :
- آدم بيه أنا لسه مش فاهم عليك، يعني أنا مجرد سمسار وظيفته يلاقي زباين عشان صفقات البيع والشراء يبقى ايه اللي ممكن يكون بيني وبين صفوان الشرقاوي غير الشغل.
- وشغلك بيتضمن ايه انك تتعاون معاه وتتهجمو عليا في بيت الهضبة وتحاولو تقتلوني بعدين تسرقو سبايك الدهب ؟ ده برضو جزء من السمسرة بتاعتك يلا رد عليا ولا انت مش راجل كفاية عشان تعترف باللي عملته.
إبتلع لسانه عاجزا هذه المرة على إيجابه بعدما واجهه آدم بأفعاله، فظل ينظر له بصمت ساد في الغرفة حتى همهم الآخر وإنتصب واقفا ثم إقترب وإنحنى عليه مستندا بيديه على السطح ، ملامحه الوحشية أكدت لمراد بأنه ينوي القضاء عليه الآن فتابع التحديق فيه بينما إنخفضت يده حتى تلتقط سلاحه المخبأ في الدرج.
إلا أن آدم كان أسرع حينما سحب مسدسه من خلف حزامه وضرب بأسفله وجه مراد فإنفجرت الدماء من أنفه لكن لم تتح له فرصة التأوه لأن آدم دفعه على الحائط وأطبق بيده على مجرى تنفسه ثم صوَّب فوهة السلاح على رأسه باصقا كلماته عليه بنبرة وحشية :
- لما اجي واسألك عن حاجة بترد عليا فورا وشغل ال**** ده متعملوش عليا.
أطلق مراد أنينا خفيضا وهو يحاول سحب يده من على عنقه لكنها كانت متصلبة حوله بعنف فكاد يلكم خاصرته المجروحة حتى يستطيع الإفلات منه بَيد أن آدم إبتعد بنفسه وتراجع للخلف مهددا بشراسة :
- أنا هسيبك المرة ديه لأني مش متعود أقتل حد قبل ما اخلص شغلي معاه وانت شغلي معاك لسه مخلصش بس وكيلك الله لو إسمك ده اتذكر مرة تانية ورجعت طلعت قدامي مش هستنى و هاجي أسلخ لحمك عن عظمك.
إسودت تقاسيم مراد وإهتزت حدقتاه بوضوح وهو يرشقه بحقد فلقد كان قادرا على التصدي له أو أمر رجاله بقتله بمجرد أن يغادر المكتب ولكن ليس الآن، ليس قبل أن ينتزع منه قوته ونفوذه ووقتها آدم بنفسه سيتوسل ليحصل على الموت !
لهذا إكتفى برشقه بإستهانة متمتما :
- أكيد ده مش آخر لقاء بيننا انا هبقى مستنيك تجي.
إرتعشت قبضة يده المتعطشة للنيل منه في الحال فضغط عليها وخرج صافقا الباب خلفه ليقابله فاروق بحرز فأشار له الآخر باللحاق به وبمجرد ركوبهما السيارة سأله مستفسرا :
- آدم بيه مش احنا كنا متفقين نستناك تخلص كلام معاه ونقتلهم واحد واحد ده حتى الرجالة كانو مستنيين منك إشارة عشان نبدأ انا مش فاهم حضرتك اتراجعت ليه.
ضيق حاجباه وزفر وهو يجيبه :
- لأني كنت فاكره متعاون مع صفوان عشان يكسب فلوس من وراه بس اللي شوفته غير.
رمقه فاروق بحيرة وعدم فهم ثم عاد ليركز على القيادة بينما يردد آدم بشرود :
- الراجل ده غريب اوي انا مشوفتش نظرة خوف واحدة فعينيه مع اني هددته وضربته وكنت هقتله بس فضل واقف بقوة قصادي ومتأثرش قالي هنرجع نلتقي.
رفع حاجباه وعلق عليه :
- مريض ده ولا ايه طيب محكالكش عن علاقته بصفوان.
تأفف نافيا بخنق :
- لا هو عمل نفسه مش فاهم وقعد يحاول يلعب بأعصابي ودلوقتي انا هتجنن من التفكير ليه واحد زي ده بيتفق مع عدوي يقتلني واحنا مبنعرفش بعض اصلا.
- ممكن يكون واحد من منافسينك زي صفوان وغيره فعايز يبعدك عن الساحة النوع ده مبيهموش ان كان بيعرفك وتعامل معاك شخصيا قبل كده ولا لأ.
بدى على آدم عدم الإقتناع متذكرا تعبيرات مراد ولوهلة شعر بأن تصرفاته تشبه شخصا ما ولكنه لم يستطع تذكر من هو فتنهد وإلتفت لرفيقه آمرا إياه بجدية :
- لو كان زيه زي التانيين كنا ع الاقل لقينا معلومات كفاية عنه بس احنا حتى عنوانه قدرنا نوصل ليه بالعافية علشان كده انا عايزكم تدورو اكتر هو مين ومنين وكان بيشتغل فين قبل مايجي للمنطقة ديه وبيتعامل مع مين.
هز رأسه بطاعة وركز على الطريق حتى هتف بإستدراك :
- اه صحيح نسيت اسألك صفوان عامل ايه في موضوع الحريق ده حتى انتو هتجتمعو عند العمدة بكره ممكن يرجع يتهمك.
إبتسم آدم بتهكم عند تذكره ورد عليه مستهزئا :
- مش هيقدر يعمل حاجة هو لسه بيتخبط عشان يثبت اني المسؤول عن اللي حصل بس مش هيقدر يوصل لحاجة هو مش عارف اني منفذتش العملية ديه بنفسي ولا رجالتي عملوها اللي ولع النار جماعة من قرية تانية وتابعين لستي مش ليا أنا.
ضحك فاروق بخفة معقبا :
- طالما حكمت هانم جوا الموضوع يبقى نقدر نقول على بيت الشرقاوي يارحمان يارحيم.
ردد كلماته بإجرام مسترجعا صورة ذلك الوغد وإبنة عمه ليتضخم قلبه بالغل ناحيتهما :
- ستي بتحاول تبرد ناري عشان مروحش أولع فيهم واحد واحد هي صحيح وافقتني في الاول لما روحت خطفت صفوان وجبت بنت عمه عشان اقتلهم هما الاتنين بس بعدما هديت اقترحت عليا ننتقم منهم بالبطيء وأنا اقتنعت ... مش هخليهم يموتو بالسهولة ديه.
___________________
عقد الإجتماع في مجلس العمدة وحضر فيه كبار البلدة لمناقشة شؤونها من ناحية السوق والتجارة والأحوال المعيشية للأهالي خاصة العمال المتضررين من الحريق وإرتؤوا النهاية تخصيص صندوق ولم التبرعات فيه ثم توزيعها عليهم ريثما يجدون عملا آخر.
وفجأة نطق آدم :
- عارف أن العمال اللي كانو بيشتغلو في بساتين صفوان متضررين شغلهم والتبرعات مننا هتساعدهم بس ده حلو مؤقت ويا عالم اذا هيقدرو يلاقو مصدر رزق تاني ولا لأ.
تكلم أحد الشيوخ بجدية :
- مفيش ف ايدينا حل تاني ده احنا لازم نحمد ربنا لأن متحرقتش كل البساتين وإلا حتى صفوان مكنش هيقدر يقف على رجليه.
إمتقع وجه الأخير بغيظ من الحالة التي وصل إليها بينما إستطرد آدم :
- الحمد لله بس مع ذلك لازم نلاقي حل تاني وأنا قعدت اليومين دول بفكر في المشكلة ديه ولقيتها ... من بعد اذن حضراتكم أنا مستعد اشغل كل العمال المتضررين عندي.
إندهش الجميع وبدأوا بالنظر لوجوه بعضهم بتفاجؤ ليكمل هو :
- انا الحمد لله رزقي متوسع وأساسا كنت مخطط أجيب عمال جدد لأن اللي عندي مش ملحقين مع اني يدوب محتاج لعشرة ع الاكتر بس مفيش مانع أضمهم كلهم بما أننا مضطرين.
- بس انت كده هتخسر لما تدفع زيادة لناس ملهاش لازمة عندك.
- معلش يا شيخ عثمان نكسب فيهم ثواب وإن شاء الله مخسرش انا اقترحت الفكرة ديه ع العمدة النهارده الصبح وهو قالي لازم صفوان يوافق الأول عشان مبقاش عملت عيب في حقه.
توجهت الأنظار إلى صفوان الذي كان مايزال متسمرا وكأن على رأسه الطير يحدق في آدم بصدمة مدركا بأنه يريد سرقة موظفيه بعدما أحرق رزقه ليبقى هو المتضرر الوحيد.
إحمرت عيناه بشدة وتصلبت عضلات وجهه فكاد يصرخ لاعنا إياه ثم ينهض ويتهجم عليه لكنه كان عاجزا وسط هؤلاء الحضور خاصة العمدة الذي وبخه أشد توبيخ لأنه لم يستطع معرفة هوية الجاني.
فإزدرد ريقه مبللا حلقه الشوكي وسحب الكلمات سحبا حتى يلفظها بإختناق :
- أنا ... مش عارف بس ...
ضغط على يده الموضوعة على ساقه مطالعا آدم الذي كان يرمقه ببرود مدعيا إنتظار الإجابة منه، وللحظات تمنى لو ينهض ويقلب هذه الطاولات على الجميع إلا أنه لم يجد سوى أن يقول بثبات مزيف :
- اللي تشوفوه.
تنهد الآخر وأراح جسده للخلف بينما هتف العمدة بإقرار :
- بما أن الطرفين متفقين يبقى على بركة الله هنبدأ من بكره بالإجراءات وأول ما يقف صفوان ع رجليه من تاني هنتعاون عشان نرجعله كل حاجة زي لما كانت في الأول مش كده.
تصاعد الهتاف الموافق لكلامه وظنوا بأن الإجتماع سينتهي الآن ويسمح لهم بالمغادرة لكنه أوقفهم بإشارة من يده هادرا :
- في حاجة تانية لازم تكونو حاضرين فيها ... زي ما انتو شايفين ابن سلطان وابن الشرقاوي وقفو جمب بعض في المحنة ديه وكل واحد منهم بين معدنه عشان كده فكرت أن جه وقت المشاكل مابينهم تنتهي ويبدأ عهد جديد مابين العيلتين لمصلحتهم ومصلحة البلد.
طالعا بعضهما بإستغراب وعدم فهم وقال آدم :
- حضرتك قلت اننا واقفين جمب بعض أساسا.
- ده بسبب المشكلة ديه ومحدش ضامن مترجعوش زي الأول عشان كده لازم ميثاق أبدي ينهي الخلاف ... آدم أنت عندك أخت صح ؟
إعتدل في جلسته بتحفز وقد بدأت أفكاره تأخذه لمنحى بعيد تمنى أن يكون خاطئا لكنه رد بحذر :
- أيوة ... اخت صغيرة ولسه بتدرس.
أومأ بتفهم ثم وجه حديثه لصفوان :
- وانت عندك أخت أصغر منك بكام سنة بس بظن انها في سن مناسب للجواز.
تنفس بحدة مجيبا :
- اه سلمى ... بس أنا مش فاهم حضرتك بتسأل عن حريم العيلة ليه.
ظل العمدة على ملامحه الثابتة ووجه ناظريه نحو الحضور مرددا بصوت عالٍ :
- الميثاق المناسب لصلح العيلتين هو الجواز، وبما أن بنت المرحوم سلطان لسه صغيرة ف أنا وبصفتي المسؤول عن أمن البلد وسلامته قررت اربطهم ببعض علشان كده ... آدم ولد سلطان هيتجوز المستورة سلمى أخت صفوان !!
الفصل الثامن : خيارٌ آخر.
أحيانا نلقي بأنفسنا في هاوية الخطيئة فداءً لشخص ما، ثم وحين ننتظر منه تقديرا وحماية نتفاجأ بأنه قدَّمنا قُربانا لنفس الهاوية مرة أخرى !
( قبل سبعة أشهر.
على قمة التلة المطلة كان راكبا فوق حصانه يطالع من علوه الوادي الصغير في الأسفل والذي يمتد بعده طريق منعطف طويل وطفيف الإرتفاع تبعثرت على إمتداده الأبنية الريفية الأنيسة والواقعة في الجهة الشرقية من البلدة...
كانت الشمس قد غربت منذ بعض الوقت ولكن الطبيعة إحتفظت بمعالمها واضحة في كنف سماء الغروب اللطيف فصار بإمكانه تأملها وحطت عيناه على البحيرة التي تكاد لا تُرى بسبب الأشجار المظللة لها ولمعت فوقها عند السماء نجمة لامعة كالزجاج، كأنها مصباح هداية وبشارة.
سمع فجأة صوت حوافر تقتحم خلوته وهي تدق بصلابة وسرعة في الأرض ليفهم أنها ناتجة عن ركض الحصان فإلتفَّ بإحتراز كي يرى صاحبه وهنا ...
وعلى ضوء الشفق المتغلغل في الأحراج لمح صاحبه الذي كان إمرأة تشد لجام فرسها راكضة بدون قيود في هذه المساحة الواسعة وبأقصى سرعة ممكنة على التلة، لم يكن يرى وجهها لأنها توليه ظهرها ولكن كان بوسعه مشاهدة شعرها متوسط الطول إلى الخلف بحرية لاقت بها.
تسمر مكانه متأملا إياها و وُدَّ حقا معرفة من تكون تلك الفتاة إلا أنه استفاق ونفض عنه هذه الأفكار مقررا العودة للمنزل وحين أعطى الإشارة لحصانه حتى ينطلق سمع صهيلا عاليا من الفرس تليه صرخة أنثوية نتج بعدها إختلال وزن الفتاة ففقدت تمسكها وسقطت على الأرض ، لم يفكر هو مرتين فإنطلق ناحيتها وقفز ببراعة مغمغما :
- سلامتك حصلك حاجة ؟
تأوهت تلك الواقعة وإستدارت تنظر إليه ليجدها تغطي وجهها بوشاح لم يظهر سوى جبينها وعينيها البنيتين فتنحنح مضيفا وهو يمد يده لها :
- جيبي إيدك.
ترددت في البداية وظهر هذا على تقطبية حاجبيها لكنها حسمت أمرها وتمسكت به لتقف أمامه هامسة :
- شكرا.
تجاوزته محاولة ركوب فرسها فتكلت بالفشل نتيجة لإصابة قدمها لتتأفف مبرطمة بضيق ويتنحنح هو بهدوء جلي :
- لو مش قادرة تركبي اتصلي بحد من عيلتك يجي ياخدك.
إستدار وكاد يمتطي ظهر حصانه حتى يعود وينجز شؤونه العالقة لكنه تراجع في آخر لحظة مفكرا بأنه ليس من الائق ترك شخص مصاب بمفرده في مكان خالٍ كهذا خاصة أنها امرأة لذلك ضغط على نفسه وعاد عارضا عليها المساعدة :
- تحبي اساعدك ؟
رغم خوفها من وجودها مع رجل غريب في أعلى التلة وقد بدأ الظلام يعم المكان إلا أنها لم تصل لحل آخر فأومأت ببطء وتقدم الآخر منها رافعا إياها بخفة ومحاولا قدر الإمكان ألا يطيل لمسها حتى لا تنزعج أو تنذعر، إعتدلت في جلستها وهتفت من خلف الوشاح بحرج وتردد :
- الدنيا ظلمة وانا خايفة اغلط في الطريق وأتوه ممكن تدلني ع الجهة اللي لازم اعدي منها عشان اوصل للبيوت اللي تحت ديه.
أشارت على المنازل التي تُلحظ من الأعلى فتنهد وأجابها بنعم ثم سارا معا في صمت مدقع قطعه بصوته الخشن :
- ايه اللي خلاكي تجي لوحدك في الوقت ده يا ... آنسة.
تلكأ متجاهلا سؤالها عن إسمها فردت عليه الأخرى موضحة :
- اسمي نيجار ... انا غايبة عن البلد يجي سنتين كنت بخلص دراستي في المدينة ولما رجعت حسيت قد ايه المكان ده وحشني بقالي زمان مجيتلوش مع مهرة علشان كده طلعت بالسر وغطيت وشي لأن عيلتي مبتسمحليش اجي لهنا ولو حد شافني وعرفني هتبقى مشكلة.
سكتت بعدما شعرت أنها تكلمت أكثر من الازم وعادت لجمودها أما هو فكادت تنبلج منه إبتسامة كتمها بشق الأنفس ورمقها بطرف عينه وقد تملكه فضول غريب لرؤية وجهها المغطى مع أنه كان سيقدر على لمحه من خلف هذا الوشاح الشفاف لولا ظلمة السماء على أي حال.
مرت دقائق أخرى قطعتها نيجار هذه المرة تسأله مستفسرة :
- واضح انك بتعرف البلد كويس مادامك حافظ المكان ده وقادر تتعرف ع الطريق في الظلمة.
همهم مجيبا بإيجاز :
- اه اكيد أنا ابن القرية ديه ومتعود اجي لهنا كتير.
شردت فيه نيجار وتعجبت من كونه لا ينظر إليها أو حتى يضايقها حسنا لقد كانت تتوقع السوء منه لذلك وقبل أن تطلب المساعدة منه تحسست ساقها التي تربط بها الخنجر مطمئنة على وجوده في حال ماإذا كان هذا الغريب ينوي لها شرا ، أفاقت من أفكارها عند تنبهيه بأنهما هبطا من التلة وأصبح الطريق متاحا أمامها كي تعبر لمنزلها وحين هبَّ للمغادرة نادته مبتسمة :
- متشكرة اوي ليك.
اشرأبت عنقه ناحيتها مطالعا إياها بشرود سرعان ما أفاق منه وهو يحمحم بجدية :
- العفو يا آنسة ده واجبي.
إتسعت إبتسامتها أكثر وساورها الإعجاب إتجاهه فهتفت محاولة إستنباط معلومات فضولية عنه :
- بالمناسبة انا لسه معرفتش إسمك.
- آدم ... آدم سلطان.
أجابها بنفس البسمة وغادر غير منتبه لملامحها التي انقشع منها الإرتياح وحلت مكانه الصدمة عند معرفة بأن الرجل الذي ساعدها وقطعت معه طريقا طويلا هو نفسه آدم سلطان عدو عائلتها ! )
**عودة إلى الحاضر.
مثلما أن الحياة مرهونة بتحديات فإن موازين العقل مرهونة بمدى تعلم صاحبها من تجاربه السابقة، فالذي تلدغه الأفعى مرتين لا نستطيع مناداته بالمغدور في المرة الثانية !
- آدم ولد سلطان هيتجوز المستورة سلمى أخت صفوان والعلاقة ديه هتربط العيلتين ببعض للأبد.
وكأنه تلقى طامته الكبرى بهذا الذي قيل ! تملكت الصدمة منه وأحس لوهلة بأنه يتخيل أو قد حدثت مشكلة في أذنه فسمع بالخطأ ولكن التعبير المرسوم على وجه صفوان وفغره المفتوح جعله يتأكد بأن العمدة أمر حقا بإقامة رابطة كهذه بينهما.
الزواج من أخت عدوه اللدود الذي ينتظر هذا الأخير الوقت المناسب حتى يرسل جثته لمنزل الشرقاوي ؟ مؤكد أن هذا ماهو إلا محض من الجنون.
حاول آدم تجاوز صدمته مؤقتا فرطب شفتاه وهمس :
- حضرتك بتقول ايه جواز مين.
لم يجبه الآخر وأولى إنتباهه للمباركات والتهليلات من أعضاء المجلس الذين كانت سعادة كل واحد منهم بهذا الزواج أكبر من فرحته بزفافه هو ربما ، فلطالما سببت هذه مالعداوة الممتدة من سنين طويلة مشاكل وإختلالات عدة في البلدة وأثرت على مشاغلهم وسير أعمالهم لذلك مصالحتهم الآن هي أفضل ما يمكن حدوثه.
بعد مدة فرغت القاعة وظل الإثنان جالسان بصمت كأن على رؤوسهم الطير حتى بادر صفوان بفتح الحوار وهو يقول بتزمت :
- ايه اللي حصل من شويا ده.
أجابه العمدة بثبات وهو يعود ليجلس :
- حصل الازم ياولد الشرقاوي ديه افضل حاجة ممكن تحصل عشان الصلح وزي لما اشتغلتو سوا قبل كده هتعملو نفس الشي دلوقتي.
- الشغل حاجة ... والجواز حاجة تانية.
غمغم آدم من بين أسنانه وعيناه أصبحتا كاللهيب من شدة إنفعاله ثم حدق به وتابع محاولا التكلم بإحترام قدر الإمكان :
- قرار زي ده مينفعش يتاخد بالبساطة ديه ياريت لو اتناقشت معانا في الموضوع قبل ما تعلنه قدام الناس وتحطنا في الموقف ده.
قبض العمدة على عصاه وإحتدت نبرته بضيق :
- انا تكلمت عشان مصلحتكم ومصلحة غيركم وشايف أن الموضوع عادي في كتير ناس بتتجوز عشان الصلح وبيتهم بيعمر عادي وعيلتك أبسط مثال يا آدم انت نسيت ان ستك والمرحوم جدك اتجوزو عشان يوقفو التار اللي بين عيلتهم ! الا لو انت معارض لأنك حاطط عينك على واحدة تانية.
إرتجفت يده بإنفعال مفاجئ وإنكمشت معالم وجهه بحقد كاد يظهر بوضوح لولا أنه أشاح بعينيه عن مرمى بصر العمدة ، ثم تنهد هاتفا بحزم :
- مش مسألة بعرف واحدة تانية بس الجواز ده حياة كاملة ومسؤولية كبيرة مينفعش نتعامل معاه كأنه شيء بسيط وبنقدر نتخذ قرارات بخصوصه في أي وقت.
وافقه صفوان الذي كان هو الآخر يحمل رفضا قاطعا بخصوص الزواج وهذا ليس بسبب عداوته فقط بل لأن زواج أخته من الرجل الذي أوقعه في شباك غادرة يُعد بمثابة إلقائها في الجحيم لأن آدم بالتأكيد لن يتوانى عن الإنتقام منه بواسطتها.
فقال هو أيضا :
- وانا معاه في كلامه انا شايف ان القرار ده اتاخد بإستعجال من الأحسن اننا ....
قطع صوته حين إنتفض العمدة واقفا وهو يهدر بصرامة :
- كفاية انا قولت اللي عندي الصلح هيتم والعلاقة ديه هي الوحيدة اللي بتقدر تضمنه احنا بقالنا سنين شاغلين بالنا بخناقكم والبلد والأهالي مش مضطرين يستحملوكم اكتر من كده.
صمت يسترد أنفاسه المسلوبة ثم إلتف لآدم مكملا :
- يا اما انت تتجوز أخت صفوان او هو يتجوز أختك وده آخر كلام عندي.
___________________
قذف الفازة الفخارية على الأرض بعصبية صارخا :
- هو فاكرني ايه عشان يفرض عليا اتجوز مين يعني عشان بحترمه وبعتبره زي أبويا هيعمل معايا كده ! انا اتجوز واحدة من العيلة ديه ليه من قلة الحريم يعني.
طالعته حكمت بصمت وهي تجلس على الأريكة في غرفته بعدما دخلتها متسائلة عن سبب صعوده كمن يرى الشياطين حوله فأخبرها عن قرار العمدة الذي إتخذه فجأة أمام كبار البلدة ، بينما تنهد آدم بخنق مردفا :
- كفاية كده انا سكت احتراما ليه ومحبتش اكسر كلامه قدام أمة محمد بس ده ميعنيش انه يسوق فيها خلاص مش هستحمل اكتر من كده.
- استنى.
نطقت حكمت فجأة عندما همَّ بالخروج فتوقف مكانه دون أن ينظر إليها في حين نهضت هي ووقفت أمامه مرددة بتعقل :
- اهدا شويا واقعد علشان نفكر كويس ملازمش تستسلم لغضبك وتتهور.
- اهدا ازاي حضرتك مستوعبة أن العمدة فرض عليا اتجوز أخت عديم الشرف ده ويا اما اقبل يا اما هو يتجوز اختي ايه الهبل ده.
تأفف آدم وقد كاد يجن من مجرد طرح هذه الفكرة لكن حكمت التي لطالما إتبعت عقلها وفكرت عشرات المرات قبل أن تخطو خطوة واحدة كانت تعلم جيدا بأن هناك سبب كبير خلف هذا القرار لذلك قالت بجدية :
- بص ياحفيدي حكاية الجواز مجتش كده والسلام انا بظن ان العمدة عارف باللي عملناه في بساتين الشرقاوي وعارف كمان انك مكنتش هتعمل كده إلا لو هو أذاك كتير وللسبب ده صرف نظر ع محاسبتك وفكر بأن الحل الوحيد لنهاية مشاكلكم هي ان نسل العيلتين يجتمع.
أغمض عيناه بإرهاق ثم جلس على السرير مرددا وهو يمسح على وجهه :
- وانا بردو فكرت بالشكل ده ومكنتش متأكد بس طالما مش انا الوحيد اللي فكرت كده يبقى توقعي طلع صحيح ومع ذلك مش هقبل بالنتيجة ديه مستحيل اتجوز.
- تمام يبقى نجوز ليلى لصفوان وخلاص.
- انتي بتقولي ايه.
صاح بعنهجية متوحشة وأكمل :
- انا اجوز اختي لل*** ده على جثتي !
إنفعلت حكمت ودنت منه ممسكة بكتفيه تبصق كلماتها بقوة :
- اومال عايز ترفض طلب العمدة وتكسر كلمته قدام الناس وتخسر مكانتك عنده ؟ نسيت انك دراعه اليمين وأكبر مرشح للزعامة ومن بعدها العمودية نسيت انك ولد سلطان ولازم تبقى زيه نسيت أن جدك كان العمدة يا آدم ومن حقهم عليك انك تاخد مكانهم !
انت عارف لو روحت قولت للعمدة وللناس انك مش هتتجوز ايه اللي هيحصل؟ هيشوفوك راجل ناقص ومش قد الكلمة اللي بتطلع منه ومنافسينك هيستغلو الوضع عشان يحرضو العمدة عليك.
- العمودية بتتاخد بالإستحقاق يا حكمت هانم مش بتنفيذ أوامر غيري ولو كان لازم عليا اعيش بدون شخصية عشان ابقى زعيم ولا عمدة فبلاش منها أحسن.
حدقت فيه قليلا ثم تنهدت وأزاحت يداها عنه متمتمة :
- ماشي طالما انت عايز كده يلا روح للعمدة وقوله انا حرقت بساتين صفوان بس مش ندمان ولا عايز اتصالح معاه وقوله انا مش مهتم بإحراجك وكسر كلمتك قدام الأهالي ومش هعمل اللي انت عايزه.
يلا روحله واخرب حياتك بسبب عيلة الشرقاوي ماهو مش كفاية انهم بعتو بنتهم عشان تضحك عليك هيزودو العيار ويخلوك تخسر العمودية بردو.
إشتعلت النيران في رأس آدم وهو يستمع لجدته تذكره بالخداع الذي تعرض له فطحن ضروسه بجنون مستشعرا بالحقد والكره اللذان يقطعانه، أولاها ظهره وتحرك بعيدا عنها خوفا من فقدان سيطرته أمامها ليضرب الجدار مفرغا به جزءا بسيطا من إنفعاله بينما تتساقط على أذنه كلمات حكمت :
- فكر باللي قولتهولك كويس انت عندك خيارين دلوقتي يا اما هتسمحلهم يأذوك تاني يا اما توافق ع الجواز وتحافظ ع مكانك واهي تبقى معاك ورقة رابحة ضدهم.
__________________
دخل صفوان للسرايا وجمع نساء المنزل مخبرا إياهن عن قرار العمدة بتزويج آدم وسلمى وكانت ردودهن لا تختلف كثيرا عن ردة فعله هو حيث إستقامت جميلة صائحة يإستنكار :
- اجوز بنتي لواحد من عيلة الصاوي اجوزها لحفيد حكمت هما اتجننو ولا ايه.
إنكمشت سلمى في مكانها بينما تتابع والدتها متسائلة بتوجس :
- و انت قولتله ايه اوعى تكون وافقت ؟
تأفف صفوان مجيبا بنفور :
- تجادلت معاه انا وآدم بس شكله مصمم على كلامه، وبعدين هو قالها قدام كبار البلد ومينفعش يتراجع.
- يعني ايه انت موافق ع الكلام ده ؟
- انا مقولتش اني موافق لو سمحتي كفاية كده وسيبيني اعرف افكر.
هدر بصبر نافذ وهو ينهض ليصعد إلى عرفته غير منتبه لتلك التي أصابتها الصدمة في مقتل فإبتلعت لسانها عاجزة عن النطق !
رمشت نيجار عدة مرات قبل أن تنتفض صاعدة خلفه ولم تعرف أن زوجة عمها تحركت لتذهب إلى إبنها مقسمة بأن لا تجعل الأمر يمر مرور الكرام ككل مرة.
طرقت الباب ودلفت مرددة بذهول :
- ايه اللي قولته ده يا صفوان ازاي العمدة عايز آدم وسلمى يتجوزو مالهم ومال الصلح احنا كنا فاكرينه هيطرد آدم بعد ما بدأ يشك ف حادثة الحرايق منين طلع جوازهم !
ضغط على شفته يمنع كلماته الاعنة من الخروج وقال :
- انا مش فاهم حاجة بس غالبا هو عارف ان آدم عمل كده عشان ينتقم مني في حاجة عملتها ولو فضل يلف حوالين المسألة ديه هيعرف اننا سرقنا سبايك الدهب من ابن سلطان وحاولنا نقتله ... وياريته مات ده بسبع ارواح انتي ضربتيه بخنجر مسموم وفضل فترة كويسة جوا النار ومع ذلك فضل عايش.
تضايقت نيجار من ذكره لها كجزء من السرقة ومحاولة القتل فكادت تعترض إلا أن شهقة جميلة التي جاءت وسمعت آخر جملة جعلاهما يلتفان لها بذعر بينما تهمهم هي بجنون كمن أصيبت بالمس :
- خنجر مسموم ايه ونار ايه مش فاهمة انتو عملتو ايه ؟
فزعت نيجار ونظرت لصفوان الذي حاول الإنكار قائلا :
- الموضوع مش زي ماانتي فاكرة احنا بنتكلم ع حاجة تانية ... يلا انا عندي شغل ولازم اخرج دلوقتي.
تحرك مغادرا إلا أن والدته أوقفته وهي تقبض على ذراعه صارخة :
- لا انا سمعت صح ولازم ترد عليا ! لو انا سايباك تعمل اللي عايزه ف ده عشان فاكرة اني مخلفة راجل وبيقدر يتصرف مش لأني غبية وبيتضحك عليا انطق وقول عملتو ايه انت وهي.
لعن صفوان بداخله هذا المأزق الذي وقع به وطفق يفكر بكذبة سريعة ينقذ بها نفسه إلا أن كذبته وُئِدت حينما نطقت نيجار بجمود :
- هقولك أنا يا مرات عمي.
- نيجار اسكتي.
- لا مش هسكت انا تعبت من القصة ديه بس جه وقت تنكشف.
هدرت بقوة وتنهدت ملتقطة أنفاسها ثم شرعت تحكي عن الخطة التي رسمها صفوان حول إستمالة آدم إليها وسحب الكلمات منه لعله يقر بمكان سبائك الذهب في غفلة منه، ثم تطور الموضوع وأصبحت مضطرة لجعله يحبها وفجأة وجدت نفسها في بيته وهي تطعنه بخنجر مسموم وتتركه وسط النيران ليعود هو بعد أيام ويتضح أنه لم يمت !
إستمعت جميلة لإعترافها حرفا حرفا محاولة تجميع الكلمات في رأسها لعلها تفهم ، بيد أنها كانت كمن مسَّها الخبل حين أدركت أن الفتاة التي تولت رعايتها قد دخلت في لعبة قذرة من صنع إبنها وإتفق كلاهما على أن يجنيا على عائلة بأكملها فلم تدري بنفسها إلا وهي ترفع يدها وتلقي صفعة على وجه نيجار التي ارتدت للخلف بذهول مطالعة إياها بينما صرخت عليها الأخرى بغضب :
- ازاي بتعملي كده وبتوافقي على اللعبة القذرة ديه انتي رايحة تضحكي على ابن سلطان وتغدري بيه عايزة تودينا في داهية.
إمتلأت عيناها بغشاوة الدموع فكتمتها قدر الإمكان حتى لا تسقط على وجهها وتظهر ضعفها بينما تحرك صفوان ناحية أمه وقال بضيق :
- كفاية يا أمي هي عملت اللي يليق ببنت الشرقاوي وساعدتني عشان استرجع حق عيلتنا ده بدل ماتشكريها لأنها عرضت حياتها للخطر عشاني.
- اشكرها ؟ انتو مستوعبين عملتو ايه والوضع اللي حطيتونا فيه ده خطفك وضربك وكان هيقتلكو وحرق رزقنا وخربلنا بيتنا ولسه بتقول حق عيلتنا حق ايه ده يا جاهل.
ودلوقتي بتقول العمدة قال هيجوزه لبنتي انت متخيل ممكن يعمل ايه في سلمى لما تتكتب ع اسمه وتدخل بيته ده ممكن يقتلها ومحدش هيقوله ايه ماهو جوزها وبيقدر يعمل فيها اللي عايزه.
بمجرد تفكيرها بهذا الشأن ضربت على صدرها بتضرع لله راسمة في عقلها أبشع التصورات فإبنتها سلمى عاقلة وضعيفة لن تتحمل العيش مع رجل قاسٍ ومجروح في كرامته مثل آدم و إمرأة قوية ومتسلطة كحكمت مؤكد سيجعلانها تتذوق المرار.
لذلك فكرت سريعا ثم رفعت نظرها لنيجار مخاطبة إياها بلين :
- روحي انتي لأوضتك ونامي انا عندي كام كلمة عايزة اقولهم لإبن عمك.
تلكأت في وقفتها وسألتها بترقب :
- انا عايزة افضل هنا و اسمع حضرتك عايزة تقوليله ايه.
- بالله عليكي انا اعصابي بايظة ومش حمل مناهدة يلا يابنتي روحي وهنبقى نتكلم بعدين.
وزعت بصرها بينهما هما الإثنان وأخيرا تخلت عن عنادها وغادرت، وبمجرد خروجها سقطت الدموع المحتجزة داخل عينيها متذكرة الصفعة التي تلقتها منذ قليل وإتهامات زوجة عمها لها شعرت ببوادر الإنهيار تصيبها فسارعت لكبح ذاتها ومسحت الخيوط الشفافة بقوة هامسة :
- انتي قوية ... ومينفعش تعيطي.
***
بعدما تأكدت جميلة من أن لا أحد يتسمع عليهما ذهبت لصفوان وضربت على صدره بحدة مغمغمة :
- ديه اخرة اللي بيتحرك ع مزاجه فاكر نفسك ذكي ومحدش قدك.
إشتعلت عيناه بغضب فطفق يردد بسخط :
- على الأقل بحاول وبعمل اللي عليا من غير خوف ممكن افهم ايه اللي مخليكي مرعوبة من حكمت وحفيدها للدرجة ديه ايه محدش قادر عليهم.
أجابته جميلة التي كانت قاب قوسين أو أدنى من التعرض لأزمة قلبية بسبب صلابة رأس ولدها :
- انت لو بتعرف اللي انا بعرفه مكنتش هتقول كده فاكر انك بقيت الأقوى لأنك لعبت عليهم مرة ونجحت لا انت غلطان وحكمت لوحدها قادرة تقضي علينا ديه بتمشي رجالة بشنبات ع صوابعها مش هتجي لعندك وتخسر.
- خلاص بقى اللي حصل حصل مفيش فايدة تتكلمي في موضوع انتهى.
- لا هو منتهاش انتو ولعتو النار فينا احنا بس مش هسيب بنتي تتحرق بيها اللي عملت كده هي اللي لازم تستحمل النتايج معنديش بنت اضحي بيها عشان خاطر عينيك انت ونيجار.
لفظت جملتها بصلابة وثبات ليعقد الآخر حاجباه بحيرة :
- قصدك ايه انا مش فاهم عليكي.
رطبت جميلة شفتيها بتردد سرعان ما طمسته مفكرة بأن هذا هو الصحيح ثم قالت :
- لو العمدة فضل مصمم ع قراره ومقدرتوش تقنعوه ف الجواز هيتم عشان الصلح ... بس نيجار هي اللي هتتجوز آدم !