رواية نيران الغجرية الفصل التاسع9والعاشر10 بقلم فاطمة أحمد


 رواية نيران الغجرية الفصل التاسع9والعاشر10 بقلم فاطمة أحمد

الفصل التاسع : الخطر.
____________________
" ماذا نفعل و المسافة بيننا كعمق المحيط ؟ 
أنت لا تستطيعين الطفو إلى ..
و أنا اِن غصت إليك سنغرق معا ! "

أغلقت الكتاب الذي كانت تطالع أوراقه دون تركيز ثم وضعته جانبا تتذكر المكالمة التي تلقتها من إبن عمها منذ ساعات ......
Flash back 
( ظلت ثوان جامدة مكانها تحاول إستيعاب أنها تسمع صوت الرجل الذي تبغضه و تخافه بشدة حتى وصلتها ضحكاته الساخرة :
- ايوة عثمان ايه لحقتي تنسي صوتي بالسرعة ديه ؟ الظاهر عمار البحيري عامل شغل عالي معاكي.

حاولت مريم السيطرة على إرتجاف يدها و همهمت :
- انت عايز ايه و بتكلمني بدل مرات عمي ليه ؟

ضحك عثمان بإستهزاء عليها :
- ههه مالك متعصبة كده ليه و بعدين انتي زمان كنتي بتتمني نظرة واحدة مني و بتطيري من الفرحة لما اكلمك اشمعنا اتغيرتي دلوقتي.

ضغطت على شفتها بغضب و صاحت :
- بطل قلة أدبك ديه و متتجاوزش حدودك معايا انت دلوقتي راجل متجوز وانا كمان اتجوزت و نسيتك بعد ما عرفت نواياك الحقيقية و استغلالك ليا .... انا هقفل و اوعى تفكر تتصل بيا تاني و الا هخلي جوزي يتصرف معاك فاهم.

كادت تغلق لكنه أسرع يتحدث :
- استني يا مريم متقفليش انا كنت بهزر معاكي بس ، اتصلت عشان اقولك ان أبويا اللي هو عمك تعبان جدا و طالب يشوفك و أمي اللي طلبت مني اتصل بيكي من تلفونها.

لم تصدق كلامه فأعطى الهاتف الى عمها ليحدثها و تبين من صوته أنه مريض و يطلب رؤيتها لأنه إشتاق لها فترددت بالموافقة و قالت أنها ستطلب الإذن من زوجها أولا .... )
Back

تنهدت بصبر نافذ وهي تدلك رأسها بيديها جاهلة لما يجب عليها فعله الآن ، منذ زواجها زارت منزل عمها مرتين أو ثلاث مرات وكان ذلك في السنة الأولى فقط و بعدها لم تعد تذهب لأن عثمان يستغل كل فرصة لمضايقتها ...
لكن الآن عمها الذي رباها مريض و يريد حضورها كيف تستطيع الرفض وهي تكن له مشاعر صادقة رغم قسوته عليها بعض الأحيان إلا أنه هو الوحيد الذي رعاها و سمح لها بالدراسة في المدينة قبل أن يعيدها الى القرية بعد إقناع عثمان له برفض عملها في القاهرة.

من جهة تريد الذهاب إليه راكضة و من جهة أخرى تخاف الإختلاء بإبن عمها و أيضا لا تعلم إن كان عمار سيوافق على إبتعادها عن المنزل كل هذه المسافة أم سيعترض ...

________________________

فتح علبة سجائره يخرج واحدة أخرى ليدخنها وهو يستند باليد الأخرى على طرف الشرفة يتذكر ما حدث مع اليوم في المول ، رؤيته لها صدفة في الشارع وترته و جعلت أفكاره تتشتت كيف نسي أن مريم ذاهبة للتسوق مع صديقتها و الأدهى أنه أخذ ندى و زوجة والده الى نفس المول ، ترى هل رأته عندما كان مع إبنة عمه تتعلق بذراعه و تمازحه ؟
بالتأكيد فعلت و إلا لم تكن رفيقتها لتنظر له بغضب و قرف ، لكن من حسن الحظ حقا أن ندى كانت لا تزال في الداخل و إلا رأت الخاتم الذي أعجبت به سابقا في يد مريم و لاحظت إرتباكها و خوفها حينها عقلها لن يهدأ حتى تربط الخيوط ببعضها.

طرق باب الغرفة و دخلت الخادمة تناديه لطاولة العاء مع باقي العائلة فنزل معها متلقيا النظرات الهادئة من والده و العابثة من زوجة عمه فريال و البريئة من ندى و الغير مبالية من عمه .... نظرات مختلفة المعنى لكن دائما كانت ترسل له إنذارات واضحة بوجوب الريبة و الإحتراس فهو تعلم أن لكل فعل منه رد فعل من العائلة و ربما هو لا يثق بأي فرد منهم لعلمه بما تضمره دواخلهم إتجاهه !!

**** في صباح اليوم التالي. 
استيقظ عمار و ارتدى ملابسه و إتجه الى شركة البحيري ، إجتمع مع رأفت و عادل و وليد مع أبيه السيد حسين يتناقشون حول الصفقة الجديدة حتى تحدث رأفت بجدية :
- يبقى انت يا عمار هتسافر دبي و تشوف الشغل هناك بيمشي ازاي ولو اتفقنا هنمضي على عقد الشراكة سفريتك مش هتطول هو شهر واحد وهترجع.

وافقه عادل مؤيدا :
- عمار شاطر في المناقشات ديه و الإقناع هيقدر يتفاهم مع العملا و يخليهم يوافقو على شروطنا.

نظر لهم بهدوء قبل ان يهتف :
- السفرية امتى ؟ 
- بكره بإذن الله.
- ماشي تمام هجهز نفسي.

إنتهى الإجتماع و غادر الحضور ليبقى وليد و عمار فقط ، تطلع الى رفيقه المنغمس في عمل ما ثم سأله :
- انت مالك باين عليك مدايق في حاجة حصلت امبارح في المول ولا توقيت السفرية مش عاجبك ياريتني كنت انا اللي هسافر بدالك.

تنهد عمار ووضع القلم بجانبه مغمغما :
- فاكر كلام سعاد هانم امبارح وهي بتحكيلك على واحدة ساعدتها لما رجلها اتأذت ؟ البنت ديه بتبقى مريم مراتي.

شهق وليد بذهول :
- نعم مريم مراتك ؟

حكى له بإختصار عما حدث و أكمل بغضب مكتوم :
- للحظة حسيت نفسي اتجمدت ومعرفتش اتصرف مكنتش متوقع اشوفها وانا مع عيلتي كويس أن ندى مكنتش معانا و الا كانت هتاخد بالها من الدبلة اللي ف إيد مريم اصلها نفس الدبلة اللي عجبتها.

وليد :
- قلقك ده ملوش داعي لأن في سبعين دبلة بنفس المواصفات بنت عمك هتعرف منين أنها نفسها ولا انت فاكر ان ندى لسه فاكرة وش مريم لما شوفناها في المطعم أكيد نسيتها من زمان.

تهكم عمار بسخرية :
- لا ذاكرتها قوية جدا و مبتنساش بسهولة اضافة لأنها شافتني واقف مع مريم في المطعم يعني الموضوع مش محتاج ذكاء عشان تكشف الحقيقة. 
- شافتكو امتى ؟

تذكر عمار عندما بعث رسالة لمريم يوم كانت في المطعم حينها انتبه الى تركيز ندى عليهما و حتى عندما عاد إليها رآها تنظر الى زوجته بدقة و بالطبع أدركت من توترها و غضب وجود علاقة تربطها و زاد تأكيده عندما أخبره وليد بعد الحادثة بأيام أنه رأى ابنة عمه تتجه للرواق و عادت منه و الصدمة جلية على وجهها .... يكاد يجزم أن ندى رأته وهو يقبل مريم و حسبتها حبيبته لذلك كانت متفاجئة رغم إدعائها المرح.

أما وليد فكان يتذكر وجود الفتاة المدعوة هالة في المول البارحة و أدرك أنها كانت رفقة زوجة صديقه فتمتم بغرابة :
- مش عارف اقولك ايه انا مبقدرش اتخيل نفسي مكانك اقابل مراتي في الشارع و أعاملها زي الغربا عشان محدش يكتشف علاقتنا .... بس كله بسببك انا كام مرة قولتلك تعلن جوازك منها و تدخلها بيتكم بس انت رافض مع انها بنت كويسة و هادية و بتسمع كلامك يعني مش بتاعت مشاكل.

تأوه عمار بخنق و أعاد ضهره للخلف بصمت ينظر الى وليد الذي فتح أزرار قميصه وهو يردد :
- كأن الجو حر النهارده.

تركزت عينا الأخير على صدر رفيقه و سرعان ما فتح فمه هامسا بريبة :
- ايه اللي على صدرك ده يا وليد مين عمل فيك كده ؟

تلمس وليد الخدوش على بشرته و تذكر هالة التي تهجمت عليه البارحة بعدما ساعدها و تركته اظافرها آثارها عليها ، لم يلاحظ نظرات عمار المليئة بالإتهام و قال بدون إهتمام :
- واحدة شوفتها امبارح في الحمام بتاع المول. 
- واحدة ؟

ابتسم وليد بسماجة :
- ايوة بنت شرسة كده اا ...

قطع كلامه عندما وجد نفسه ينتفض بتفاجؤ عندما قذف عليه عمار إحدى متعلقات المكتب صائحا بذهول و غضب :
- انت اتجننت يالا و بتقولها قدامي عادي ازاي تخلي بنت تعمل فيك كده.

حدق فيه الآخر بعدم فهم و إستنكر أسلوبه :
- عمار انت بتعمل ايه والله انا كنت مركز في وشها و مخدتش بالي لما خرمشتني ليه العصبية ديه كلها !!

إزداد غيظه فرمقه بإشمئزاز مبرطما :
- مخدتش بالك هه وانا بقول ليه اتأخرت امبارح أتاريك كنت شايف مزاجك انت دخلت مستويات جديدة في الصياعة ولا ايه ؟

مع جملته الأخيرة فهم وليد ما يرمي إليه أخيرا فضرب جبينه بخفة ساخرا :
- انت دماغك راحت فين انا مبقصدش اللي في بالك بص انا امبارح شوفت شاب بيدايق بنت وهي خافت واتخبت في الحمام وانا لحقتها على اخر لحظة و أنقذتها بس فهمتني غلط و اتخانقنا شوية و في الاخر خرمشتني و مشيت ... ده اللي انا بقصده صفي النية شويا.

حدق فيه عمار ببلاهة لثوان قبل أن يرفع حاجبيه بإدراك بعدما توضحت له الأمور بينما إستطرد وليه وهو يتنهد مبتسما :
- بتعرف مين البنت ديه ؟ نفسها المحجبة اللي كانت في المطعم مع مراتك و اسمها هالة على ما أظن اعتقد كانو سوا امبارح.

بمجرد ذكر تلك الفتاة مط عمار شفته بضيق وهو يشعر برغبته في صفعها بسبب نظراتها المشمئزة منه .... ورغم هذا أراد أن يضايق رفيقه فغمغم ساخرا :
- يعني خليت بنت تعلم عليك يا راجل كنت امسك ايديها و ابعدها عنك بالراحة بدل ما الناس بتفهمك غلط.

- على اساس ان مراتك معلمتش عليك قبل كده.

ضحك عمار بإستهزاء منه على تفكيره فكيف لمريم فعل هذا وهي لا تتجرأ على رفع صوتها في حضوره أو قول كلمة من بعده و حتى النظر له دون أن يأذن لها.

أيقظه من شروده صوت وصول رسالة من زوجته فتحها وكان مضمونها أنها تطلب رؤيته عاجلا بخصوص أمر هام ، حدق فيها برفعة حاجب و رجح أن هذا الأمر الهام يتعلق بأهلها.
فهو بالأمس وصله اشعار مفاده أن مريم تلقت إتصالا من زوجة عمها ، حينها لم يستطع التصنت على المكالمة من بدايتها لأنه كان جالسا وسط أفراد عائلته.

و حينما سنحت له الفرصة وضع الهاتف على أذنه ليعرف أن مريم تحادث عمها وهو يسألها عن حالها فأغلق الخط دون معرفة ما هو الموضوع الذي يريدها فيه لأن ندى و جدته كانتا تناديانه فلم يقدر على التصنت أكثر ...

عاد عمار من شروده و أكمل عمله ثم بعد بضع ساعات كان يدخل الى شقته.

كانت مريم مستلقية على فراشها و عندما سمعت صوت غلق الباب إنتفضت تركض إلى عمار بلهفة ، إقتربت منه مرددة بإبتسامة :
- حمد لله على سلامتك وحشتني ... مبسوطة انك جيت.

همهم عمار بإيجاب :
- الميسيج بتاعك شغلي بالي وكمان انا مسافر بكره و جيت عشان أودعك.

فجأة إنطفأت الإبتسامة التي على وجهها و تجهمت بأسى :
- هتسافر بكره و جاي تقولي دلوقتي ؟

كان في كلامها نوع من الإستهجان و أدرك الأخير ذلك فأمسك كتفيها و أجابها :
- احنا من الأول كنا متفقين اني أنا اللي أسافر بس الميعاد لسه متحدد اليوم الصبح و أنا نفسي اتفاجأت.

- وانا لازم ازور بيت عمي يا عمار. 
- مفيش مشكلة هخليكي تزوريه لما ارجع.

بس الموضوع مبيتأجلش.
قالتها بإندفاع قبل أن تتراجع و أكملت وهي تشاهد جمود وجهه :
- انا عرفت ان عمي تعبان كتير و طلب يشوفني فأسرع وقت وانا لازم اروحله.

زفر عمار بضيق و دلك صدغيه مغمغما بنبرة كانت أقرب للسخط :
- بس هتروحي ازاي و مع مين وانا مسافر بكره ؟! سفريتي مبتتأجلش بردو.

دمعت عيناها عندما إستشعرت رفضه و تأففت لتهدر بإحتجاج :
- وانا عمي اللي رباني مريض و طالب ابقى جمبه مش كفاية بقالي اكتر من سنة مشوفتش حد من أهلي يا عمار في ابه انت عايز تمنعني عنهم كمان !

شد على فكه بتزمت من صوتها العالي و هجومها لكنه تمالك نفسه عندما استطردت :
- بعدين مش لازم تجي معايا خلي الشوفير يوديني و يرجعني و انت سافر براحتك.

"نعم يا حيلتها " ، كاد ينطق بهذه الجملة الفضة و الفاقدة للإحترام مستنكرا كلامها و صوتها الذي بدأ يغضبه و لكنه حاول تهدئة نفسه خاصة أنها محقة في حديثها ... 
مريم لم تزر عائلتها منذ وقت طويل جدا و ليس من حقه أن يمنعها عنهم و في الحقيقة كان يجب عليه ان يتوقع مثل هذا الطلب منها عندما رأى أنها تلقت مكالمة من زوجة عمها.

تأفف عمار و أولاها ضهره يدلك عنقه كعادته عندما ينفعل ثم التفت لها مغمغما :
- تمام جهزي اللي تحتاجيه هتروحي بكره.

أشرق وجه مريم بسعادة رغم خيفتها من التواجد مع إبن عمها في مكان واحد لذلك قالت :
- متشكرة اوي بس انا هروح مع مين اقصد يعني انت هتبعت مين معايا ؟

- ميهمكيش جهزي نفسك و انا هجي بكره الصبح اشوفك. 
- مش هتقضي الليلة ديه هنا ؟ 
- لأ عندي شغل.

غادر الشقة سريعا و اتجه الى قصر البحيري دخل غرفته وطلب رقم وليد ...

عاجل بالكلام بمجرد فتح الخط :
- وليد مش انت كنت عايز تسافر دبي بدالي.

- ايوة ده حتى انا كنت مجهز الشنطة بتاعتي. 
قالها الآخر ضاحكا ليفاجئه عمار يهتف بحزم :
- يبقى انت اللي هتسافر يا وليد .... انت درست الصفقة بالتفصيل اكتر مني و هتعرف تشتغل معاهم مش هنقلق عليك.

بعد دقائق من الإقناع وافق وليد و أخبر عمار والده و عمه عن الأمر و رغم غضب رأفت رضخ في الأخير لأسباب مجهولة ...

______________________
في اليوم التالي. 
غادر عمار مع مريم التي كانت سعيدة للغاية لأنه تخلى عن سفره مقابل مرافقتها إضافة لأنها لن تخاف من عثمان في وجود زوجها بجانبها و هاهو قد جلب لها أكياس مليئة بالهدايا لتقدمها إلى عائلتها ثم إنطلقا معا.

إستندت على زجاج نافذة السيارة و فجأة لاحظت وجود سيارة بدت لها أنها تلحق بهما فإعتدلت في جلستها و تذكرت حدوث هذا الموقف البارحة ، نظرت الى عمار تخطط 
لإخباره و اندهشت عندما وجدته يرسم على وجهه إبتسامة جانبية لم تتبين محتواها ثم أصبح يقود بسرعة زائدة و في بضع دقائق كانت السيارة السوداء اختفت.

وضعت مريم يدها على قلبها تتنفس بقوة ثم سألته :
- هي العربية اللي كانت ماشية ورانا من شويا كانت قاصدانا وانت هربت منها صح ؟

همهم عمار ببرود :
- متركزيش.

رفعت حاجبيها بذهول منه لكنها إلتزمت الصمت أما الآخر فحدث نفسه :
- كل مرة بتقولي انك بطلت تلحقني يا رأفت بيه وبعدها الاقيك بعت رجالتك ورايا .... العربية ديه عربيتك انا متأكد بس مكنتش موجودة الأيام اللي فاتت كانت بتلحقني عربية مختلفة .... يا ترى قصدك ايه من الحركة ديه.

تراءت إبتسامة خبيثة على وجهه و تابع :
- اكيد رجالتك دلوقتي هيقولولك اني راكب مع بنت و هتفتكرها حبيبتي متشوق أشوف ردة فعلك لما تعرف.

و أظلمت عيناه مبتسما بسادية مريضة وهو يتخيل موقف عائلة البحيري لو اكتشفت أن الإبن الأكبر متزوج في السر بغجرية فاتنة تاركا بنات الطبقة الراقية ، سيجن جنونهم حتما و هذا بشكل ما او بآخر يسعده !! 
انتشله صوتها الرقيق المرتبك من شروده :
- عمار بخصوص اللي حصل في المول اول امبارح انا والله ما كنت اعرف ان الست بتبقى مرات أبوك حتى اتصدمت لما شوفتك قدامها انا كان بس قصدي اساعدها .....

قاطعها بغلظة :
- عارف يا مريم اساسا انا مكنش ينفع اوديهم المول ده لأنه نفسه اللي انتي بتحبي تروحيله بس معرفش ازاي نسيت انك هتخرجي مع صاحبتك في نفس اليوم ..... المهم عدت على خير مش عايز اتكلم في الموضوع ده تاني.

بعد بضع ساعات توقفت سيارة عمار في تلك القرية الريفية الجميلة ، ترجل منها و أمسك بيد مريم التي تلتف حول توزع نظرها على البيوت البسيطة و الأشجار و تشم ذلك الهواء الذي رغم إنعدام رائحته إلا أنه يتميز بنقاء يجعل قلبها شَرِحا .... اولئك الجيران الذين توقفوا الآن ليرحبوا بها و يعاتبوها في نفس الوقت على إنقطاعها عنهم جعلها تدرك كم إشتاقت لبيئتها و الى ماضيها مع والديها قبل أن يتوفاهما الله ، و تتمنى لو كانا على قيد الحياة لتزورهما مع زوجها و أطفالها مثلا !!

تأوهت بحسرة فإنتبه عليها عمار الذي كان يركز في المناظر أمامه ثم عند ملاحظته للكثير من الرجال في الشارع إستدار يتأكد من هيأة زوجته .... كان ترتدي بلوفر أبيض شتوي يصل الى أسفل ركبتيها بقليل و حذاء بني طويل يغطي الجزء العاري من ساقيها مع معطف بنفس اللون.

كانت قد لملمت شعرها المموج بأمر منه و ربطته على شكل ذيل حصان ....هز عمار رأسه برضا من ملابس مريم المحتشمة ليتوقفا بعد قليل أمام المنزل المتواضع ، شهقت مريم بلوعة و التمعت عيناها بدموع الشوق هامسة :
- مش مصدقة اني رجعت شوفت بيت أهلي أخيرا ... وحشوني اوي.

قالتها وهي تطالعه بإبتسامة فبادلها مغمغما :
- يلا ندخل.

همهمت بحماس و فرحة لم يشتد عودها بعد عندما رفعت رأسها بتلقائية فتراءى لها وجه عثمان الذي كان يطل من النافذة و ابتسامته تتسع بظفر ، فضغطت على يد عمار تستمد القوة منه وهي تستعد لوطأ منزل إبن عمها المتحرش ... و حبيبها السابق !


الفصل العاشر : تهجم.
____________________

" لا تخطي بقدمك فوق ألغام الكراهية ... متى إنفجرت ستكونين أول ضحاياها ! " # كونسيلر

طُرق الباب و بعد ثوان فتح و ظهرت زوجة عمها " سمية " التي انتفضت تعانقها و تقبلها مرددة على مسامعها كلمات الشوق و المحبة ، و لوهلة تعجب عمار و استنكر ردة فعلها أليست هذه المرأة نفسها من أقنعت زوجها بمنع مريم من العمل في القاهرة و جلبها الى هنا لتزويجها من كهل مقتدر ماليا ، وهي نفسها من رأى الجشع على ملامح وجهها عندما عرض عليهم قبل سنتين مبلغا طائلا من الأموال مقابل عقد قرانه بالسر على إبنتهم ؟ اذا كيف تحمل الآن هذه المشاعر الدافئة كيف يستطيع الإنسان أن يظهر لغيره محبته بعدما أذاه ؟؟

أفاق من شروده على كلام مريم الباكية وهي تقبل يديها :
- وحشتيني يا خالة سمية وحشني عمي و البيت و الجو هنا كل حاجة وحشتني اوي الفترة اللي بعدت فيها كانت صعبة عليا جدا يا طنط.

قبلتها سمية دامعة ثم التفتت الى عمار الذي كان يقف بجمود و الوقار يبدو عليه ، تنحنحت و تمتمت بإحترام :
- ازيك يابني عامل ايه ؟

رد عليها بوجه لا يظهر منه شيء :
- بخير الحمد لله.

- انتو واقفين كده ليه اتفضلو البيت نور بوجودكم.

دلفا و أعطت مريم أكياس الهدايا لسمية ثم إتجهت مباشرة إلى غرفة عمها "أحمد" وجدته متسطحا و عندما رآها إستقام جالسا و هتف بوهن :
- مريم .... تعالي يا بنت الغالي.

هرعت تعانقه وبعد وصلة من إظهار مشاعر الإشتياق جلست على الأريكة مقابل السرير و عمار بجانبها يحدثه في عدة أمور برسمية حتى طرق باب الغرفة و دلف إبن عمها عثمان ، إرتجفت مريم و بلعت ريقها بتوجس لحضوره و رؤية إبتسامته السمجة فضغطت على طرف ثوبها محاولة تمالك مفسها و عدم إظهار خوفها للعيان.

أما عثمان فعندما رآها لاحت إبتسامة ماكرة على وجهه و قال :
- اخيرا بعد المدة الطويلة ديه شوفناكي ازيك يا بنت عمي ؟

مد يده ليصافحها ففوجئ بعمار ينتصب واقفا و يصافحه مكانها :
- أهلا و سهلا.

توتر الجو و إنتشرت الشحنات السلبية في الوسط لتحمحم سمية و تضحك بإرتباك :
- مريم بنتي خدي جوزك على أوضتك وانا شويا و هنادي عليكم عشان الغدا. 
- حاضر.

ذهبت مع زوجها الى غرفتها بينما أخذت سمية إبنها الى المطبخ و همست محذرة :
- بقولك ايه البنت جاية تطمن على عمها و تمشي انا مش عاوزة اشوفك بتعمل مشاكل ولا تحاول تقرب عليها مفهوم جوزها مش سهل وممكن يقتلك لو فهم سر الإبتسامة اللي على وشك.

قلب عينيه بتملل :
- عملت ايه يا أمي انا لسه داخل اساسا.

- اخرس فاكرني مش فاهمة انت ليه اصريت تتصل عليها بنفسك و دلوقتي جاي من غير مراتك .... كن و أقعد و خلي اليوم يعدي على خير.

**** مرت الساعات بسرعة حاولت فيها مريم ملازمة عمار و عدم التحرك من جانبه مخافة تقرب عثمان منها ... ستحدث كارثة إن حاول التحرش بها مجددا و رآه زوجها حتما سيقتله فهو منذ أول يوم رآه فيه لم يعجب به و كان واضحا جدا من نظراته ، تنهدت وهي تخرج الى البهو مع زوجة عمها و قالت :
- طنط سمية احنا جينا هنا ليه خلينا نقعد مع عمي و عمار.

طالعتها الأخرى مجيبة بتريث :
- فكرت اننا نقعد نتكلم براحتنا بعيد عن الرجالة و متخفيش عثمان راح على شقته ومش هيرجع.

أجفلت مريم للحظات و رمشت عدة مرات قبل ان تتلعثم :
- ااا ... هخاف مم من عثمان ليه انا ...

قاطعتها سمية وهي تمسك يدها متحدثة بخزي :
- انا عارفة السبب اللي خلاكي تقبلي تتجوزي بالسر و تبعدي عن هنا إبني كان بيدايقك و يتحرش بيكي و انتي كنتي علطول خايفة منه و نفسك متشوفيهوش أبدا ... انا كنت فاهمة اللي بيحصل بس مقدرتش افضح القصة لأن عمك و الناس كلها كانت هتلومك انتي لأنك بنت ، عثمان راجل و محدش هيقوله حاجة مش بعيد يتهموكي بأنك انتي اللي بتحاولي تغريه و سمعتك كانت هتتوسخ خصوصا اني قولتله يتجوزك لو هو معجب بيكي بس مرضيش .... عشان كده ضحيت بيكي و أقنعت عمك يوافق يجوزك كل ده علشان احميكي و احمي إبني الوحيد.

و الحال أن سمية تكذب ، فرغم أن عمها متشدد معها لكنه لم يكن ليسمح بإهدار شرف إبنة أخيه كان سيطرد إبنها الوحيد و يضعه في الشارع أو يجبره على الزواج من مريم و بما أن الاحتمال الثاني غير وارد لأن عثمان يسعى للزواج من إمرأة غنية آثرت هي التضحية بمن ربتها لأجل ولدها .... ولم تخطئ فهي تحب مريم فعلا لكن ليس لدرجة تزويجها بعثمان الذي كان يتحرش بها في الأساس !!

نكست مريم رأسها بأسى و لمحات من الماضي تحوم بذاكرتها فتابعت الأخرى :
- أحمد ندمان على اللي عمله فيكي بقاله اسبوع مبينامش بيقولي جاله أبوكي في المنام و عاتبه لأنه أهملك و مصانش الأمانة ومن ساعتها مش على لسانه غير سيرتك بيقولي انا ظلمتها و طمعت في الفلوس و بعتها خونت أمانة أخويا و مهتمتش ببنته و ربنا مش راضي عليا.

رفعت مريم حاجبيها بذهول :
- بجد ؟ وهو ده سبب مرضه ؟

هزت الأخيرة رأسها ببؤس :
- ايوة و أصر أنه يشوفك و يطمن عليكي .... مريم بصي يمكن انتي دلوقتي تقولي عليا أنانية بس أرجوكي نفذي طلبي لو عمك سألك على حياتك ماشية ازاي مع عمار قوليله انك مبسوطة و جوزك راجل كويس ومش بيزعلك...
 الدكتور قال ان الزعل مش كويس ليه ارجوكي متخليهوش يتعب اكتر قوليله انك مرتاحة مع عمار حتى لو كنتي بتكدبي و متقوليش لحد ان عثمان كان بيحاول يتقرب منك وبعدين واضح انك مبسوطة مع جوزك ده مش منقص عليكي حاجة جايبلنا هدايا غالية و ملبسك أحسن لبس و الدبلة اللي في ايدك لو احنا اشتغلنا 10 سنين قدام مش هنجيب ثمنها.

تفاجأت من كلامها و حدقت بها في صدمة لم تكن هذه أول مرة تقف زوجة عمها بصف إبنها لكنها أول مرة تراها بهذه الأنانية حتى انها لم تعطها حق التعبير عن مكنونات قلبها و البوح بما يؤلمها ، هل لأنها أم لها الحق بالدفاع عن ولدها الذي داس على شرف إبنة عمه وكان يدخل غرفتها ليلا و يكتم فمها مانعا إياها من الصراخ و طلب النجدة ؟

أغلقت مريم جفنيها فإنتحرت الدموع و سقطت على وجنتيها تعبر عن مدى اليتم و الخذلان اللذان تشعر بهما في هذه اللحظة كسياط من نار ، أن يعيش المرء فاقدا للسند و الإحساس بالحماية مؤلم جدا ، و هذا بالضبط ما عاشته هي منذ فقدانها لوالديها ، فلا عم يحميها و ابن عم يحرص على حماية شرفها .... ولا زوج يحبها و يمنحها حق الإعتراف بهويتها ... لماذا هي تعيش إذا ؟

هل فقط من أجل تنفيذ الأوامر و إشباع رغبات زوج يأتيها كلما طالب بها جسده ؟! وهل إرتداؤها للمجوهرات و لملابس باهضة الثمن يعني أنها سعيدة ؟

تأوهت مريم بتعب من صراع دواخلها فهمست منهية هذا الحديث المستنزف لطاقتها :
- حاضر يا طنط سمية .... هعمل اللي انتي عايزاه.

وبالفعل بعد مدة عندما حل الليل دخل عمار لغرفتها لكي ينام و إنفرد بها عمها سائلا إياها بجدية تخللها الضعف و التعب :
- انا عارف اني غلطت زمان لما طمعت في الفلوس اللي هتحسن حالتنا المادية و جوزتك لواحد طلب يعيش معاكي في السر و حبسك بين اربع حيطان .... قسيت عليكي يا مريم و ابتزيتك عاطفيا و خليتك توافقي على حياة انتي مش عاوزاها سامحيني بالله عليكي انا حاسس نفسي بموت من تأنيب الضمير سامحيني و...

قاطعته مريم وهي تقبل يده :
- استغفر الله يا عمي حضرتك بتقول ايه انت على عيني و راسي و مهما عملت انا مش هقدر أرد جميلك و حق تربيتك ليا .... يمكن في الاول وافقت على عمار بالغصب بس لما عشت معاه و فهمته حبيته و حبيت الحياة معاه اوي يعني خوفك ده ملوش لزوم.

- بجد يا بنتي انتي مبسوطة مع جوزك ؟ 
سألها احمد بشك و ترقب فكتمت شهقات بكائها بصعوبة و ردت :
- ايوة مبسوطة اوي عمار حنين عليا و موفرلي كل حاجة بيجبلي اللي بعوزه و بيهتم بيا بيخرجني لما اطلب منه عمره ما زعلني بكلمة ولا خلاني اعيط انا معاه بحس نفسي ملكة من كتر ما بيدلعني حتى تصدق .... هو اقترح عليا نعلن جوازنا بس رفضت و قولتله خليه يمهد لأهله الموضوع وانا مش ههرب يعني.

أنهت كلامها بضحكة سخيفة و تابعت :
- أحسن قرار خدته فحياتي اني اتجوزه عمري ما هلاقي راجل زيه يا عمي.

- و مادام بيهتم بيكي اوي كده ليه مطلبتيش منه يخليكي تشتغلي ... انتي كان حلمك تشتغلي بعد تخرجك من الجامعة و انا منعتك.

تألم قلبها لذلك الحلم مستحيل التحقق لكنها ردت بعدم إكتراث مصطنع :
- انا كنت عاوزة اشتغل عشان اعيش في المدينة و احسن من حالتي المادية بس دلوقتي عمار معيشني ملكة ومش منقص عليا حاجة هشتغل ليه ؟
مش محتاجة اتعب نفسي وانا كل حاجة متوفرة عندي.

صمت أحمد ينظر لها بتدقيق و في قرارة نفسه يتمنى لو كانت صادقة في كلامها ، منذ أن توفي أخاه وهو يعتني بمريم كان أحيانا يقسوا عليها لكنه لم يبغضها أو يتمنى لها السوء حتى كان قد شجعها على الدراسة لتحقق حلمها بعمل جيد لكن حديث ابنه عثمان عن انها من الممكن أن تتعرض لسوء أو يخدعها أحد الشبان و يمس شرفها جعله يتشتت و يأمرها بالعودة فورا.

و في الأخير طمع بأموال ذلك الرجل الغامض و أقنعها بضرورة الزواج منه كرد جميل على تربيته لها و الآن هو لا يستطيع النوم بسبب عذاب ضميره لذلك يريد تصديق حقيقة عيشها بسعادة بكنف زوجها.

زفر براحة و قال وهو يبتسم :
- بقالي ايام طويلة تعبان و مدوقتش طعم النوم بس كلامك ده ريحني جدا يا بنت الغالي ربنا يريح قلبك و يسعدك.

أجبرت نفسها على مبادلته الإبتسامة ثم إستأذنت و غادرت ، دلفت لغرفتها المتواضعة و وجدت عمار مستلقيا على الفراش يغطي عينيه بذراعه و الإرهاق باد عليه.
تأملته مرتديا بنطال منزلي و تيشرت ثقيل باللون البني فإمتنت بداخلها لأنها أصرت على جلب غيار له عندما علمت انه سيأتي معها و إلا كان سيتضايق حتما من النوم بملابسه الرسمية.

إرتدت مريم بيجاما حريرية باللون الكريمي و اتجهت إلى الشرفة الصغيرة التابعة لغرفتها ، إستندت على مقابضها المهترئة تستقبل لفحات الهواء الباردة ثم تنهدت بحسرة وهي تفكر ...

بعد مرور عامين و نصف على تزويجها بالقوة ها قد تذكر عمها ذنبه الذي اقترفه بحقها و جاء يسألها إن كانت سعيدة ، و كأن هذا لا يكفي بل جاءت زوجته تبتزها عاطفيا و تطلب منها الكذب عليه من أجل ألا يتعب و تخبرها بكل إنعدام رحمة أنها كانت تعلم بتحرش إبنها عثمان بها ولكنها لم تستطع فعل شيء !

الآن هي تجلس مع زوجها في منطقة واحدة مع عديم الرجولة ذاك و تخاف أن يضايقها فينتبه عمار و يلومها ... مثلما لامها الجميع سابقا أي ظلم هذا الذي تعيشه هي !!

إنتفضت مريم بخفة عند شعورها به وهو يضع شالا ثقيلا على كتفيها فناظرته بإبتسامة لم تصل إلى عينيها ليبادلها عمار البسمة هامسا :
- بقالك كتير واقفة كده انتي بتفكري في ايه.

سرت قشعريرة لطيفة في جسدها إثر نبرته الرجولية المغرية لترد بلطافة :
- لقيت نفسي مش جايلي نوم و قولت اقعد هنا افتكر ذكرياتي من الماضي.

هز رأسه بتفهم و عانقها من الخلف مميلا رأسه على كتفها فإستدركت مريم بضحكة :
- أقولك على سر ؟ زمان وانا مراهقة كنت بحب اطلع عشان اروح احضر مهرجان كان بيتعمل في المنطقة اللي جنبينا مرة كل سنة بس عمو احمد مكنش بيسمحلي لان الوقت بيبقى متأخر ... و انا بقى كنت بعمل نفسي داخلة انام و اقفل الباب عليا و انط من البلكونة عشان اهرب و اروح احضر المهرجان.

توسعت عيناه بدهشة لحظية و حثها على الإكمال متسائلا :
- و المهرجان ده كان بيتضمن ايه عشان تحبيه كده اوعى تقوليلي انك من النوع اللي بيحضر مهرجانات اغاني الشوارع.

تقلصت ملامح مريم وهي تفلت ضحكة صغيرة على ظنه فسارعت في الشرح مخبرة إياه بأن المهرجان كان يحمل جانبيا فنيا و ثقافيا حيث تضمنت فعالياته حضور ورش تعليم لتصنيع الفخار و الخزف على الطبيعة ، كما تضمن عروضا لمسرح العرائس و أفلام وثائقية حول فن الخزف و غيرها من مختلف الفعاليات الجميلة التي تعرض و التي تقدمها مجموعة من الحرفيين و الفنانين.

و بما أنها كانت مولعة بصنع تحف الفخار من الطين ، فلقد حرصت على عرض تحفها البسيطة منها و المزخرفة كما كانت تعرض الإكسسوارات و خيوط الشعر الملونة التي تصنعها و العطور التي تركبها بنفسها.

تنهدت مريم وهي تتابع بحنين :
- كنت كل مرة بكسب المركز الأول كواحدة من اللي قدمو عروض ناجحة و كنت بحوش الفلوس اللي بكسبها من المهرجان عشان اجيب بيها روايات و كتب تانية بعرف منها قواعد اللغة اللي عاوزة اتعلمها.

أرهف عمار السمع لكل كلمة تقولها ، و سَرَّه معرفة هذا الجانب منها ، فهي رغم أنها كانت مراهقة بقدرات محدودة و صعبة في ظروفها إلا أنها لم تستلم و وظفت قدراتها لكي تكسب المصاريف الازمة لصقل موهبتها و إثراء معرفتها ...
و للصراحة أذهلته حقيقة أن مريم كانت تمتلك الجرأة و الشجاعة ما يكفي لأن تعارض حواجز عمها و تتسلل من المنزل دون خوف ، و الآن هو يفكر كيف كانت ستكون لو لم يتزوجها و يلزم عليها الحصار ، بالطبع لأصبحت شخصية مهمة بقدراتها و عنفوانها !!

- عمك مكنش بيديكي فلوس كفاية عشان تجيبي اللي انتي عايزاه.
سألها مستفهما فإبتسمت مريم و هي ترد :
- لا كان بيديلي فلوس بس مكنتش بتكفيني ديه مصاريف المواصلات لوحدها كانت بتخلص اللي معايا و الصراحة كنت اتكسف اطلب منه تاني علشان كده بقيت احوش شويا من المصروف اللي بيدهوني و اجمع مبلغ كده استخدمه في الحالات الطارئة.

- وكنتي بتجمعي كام بقى ؟

- اخاف اقولك تقوم تتريق عليا و تفتكرني معفنة.

شعر عمار أنه يجرب مشاعر جديدة عليه فجاراها مشجعا إياها :
- لا قولي مش هتريق.

إلتفت له و همست بجدية و غرور كمن يقدم على التفاخر بإنجازاته :
- اربعين جنيه كل شهرين كانت بتطلع روحي عشان اقدر احوش المبلغ ده من مصروفي.

نبرتها المتفاخرة حركت بداخله إهتزازات ود لو يخرجها على شكل ضحكات ولكنه لم يرد إحراجها فبادلها الهمس مدعيا الإنبهار و يجاهد لكي لا يضحك :
- اربعين جنيه ايه الثروة ديه كلها لا بس انتي عندك خطط إقتصادية ممتازة هتساهم في تحسين اقتصاد البلد بجد.

عضت مريم على شفتها و ضيقت حاجبيها مقلدة إحدى الشخصيات البوليسية :
- انت كده بتتريق عليا صح.

إتخذ عمار نفس حركتها مجيبا إياها بذات النبرة :
- عرفتي ازاي.

إنطلقت ضحكاتها بعلو فسارعت تعطي فمها هامسة بإعتذار عندما أشار لها بخفض صوتها ، ثم راقب إبتسامتها الجميلة و همس بنبرة صادقة رغم خشونتها :
- انتي طموحة اوي يا مريم و ذكية رغم ان اللي عندك قليل بس قدرتي تتفوقي على نفسك و تدخلي لأحسن الكليات في القاهرة .... قليلين اللي زيك في الزمن ده.

بكلمات بسيطة الحروف كبيرة المعنى إستطاع عمار أن يرضي أنوثتها المتعطشة للمديح منه ، بالنسبة لمريم فإن لا شيء يضاهي سعادتها عندما تحضى بالتقدير من أحدهم على إنجازاتها فمابالك لو كان الذي يثني عليها هو زوجها بخيل الكلمات الجميلة.

أمسكت يداه و عيناها تلمعان بسحر فإنخفض عمار إليها و قبل ثغرها بتريث قبل أن يبتعد عنها محمحما بصوت متحشرج غلفته الرغبة :
- يلا ننام عشان نقدر نصحى بكره بدري.

هزت مريم رأسها بتلجلج و دخلت معه لتستلقي على السرير بجواره هاتفة :
- انا شعلت البخور من شوية اتمنى متكونش مضايق من ريحته.

همهم بإنكار وهو يشعل هاتفه ليتفقد أي جديد به :
- لا خالص بالعكس انا بحبه ... قصدي يعني اتعودت عليه من لما كنتي بتشعليه في شقتنا مفيش مشكلة.

اومأت بصمت و حدقت بالسقف لثوان قبل ان تسأله على إستحياء :
- اتمنى كمان متضايقش عشان طلبت منك نبات الليلة ديه هنا ... انا عارفة ان الأوضة صغيرة ومش واخد راحتك بس فعلا أهلي كانو واحشيني جدا و مقدرتش مقعدش.

ترك عمار هاتفه بعدما أرسل من خلاله رسالة إلى وليد بخصوص الصفقة ثم إلتفتت إليها مرددا بصلابة :
- بصي أنا فضلت سنين طويلة عايش في المدرسة الداخلية و كنت بنام مع ولدين غيري فأوضة واحدة يعني حجم المكان اللي قاعد فيه مش مهم بالنسبالي إضافة ل اني مبسوط هنا تعرفي ليه ؟

عقدت مريم حاجبيها و أشارت بجهل فإبتسم الآخر بشيء من العبث :
- لأني بحب اشوف المكان اللي عاشت فيه البنت اللي ليها استايل مختلف في اللبس و الميك اب و الإكسسوارات وعندها موهبة تركيب العطور ، القرية ديه صغيرة و غريبة بس حلوة و ملفتة للنظر ومش غريب أن واحدة زيك جاية منها ، تعرفي حتى السرير اللي موصول بشرايط ملونة ده عجبني اوي.

فغرت مريم فاهها بدهشة و لمعت عينيها بشكل واضح عند سماع غزله بها للمرة الثانية اليوم ربما من أهم ما يميز شخصية عمار أنه متقلب و غامض لا يُعرف متى سيغضب و يوبخ و متى سيبتسم و يتغزل لذلك أخفضت حدقتيها عنه و تعلقت الحروف على لسانها فعجزت عن الرد عليه.

قاطع وصلة صمتهما صوت رنين الهاتف فتأفف عمار و نهض مغمغما :
- دقايق و راجع.

غادر الى بهو المنزل و فتح الخط ببرود :
- نعم رأفت بيه.

- فاكر نفسك ذكي و بتقدر تلعب عليا بتصرفاتك و تدايقني لما تخلي صاحبك يسافر بدالك وانت تختفي ؟

لوى شفته بسخرية أخفاها من نبرته ببراعة :
- حضرتك تقصد ايه ب اني العب عليك لا طبعا وليد كان محضر للصفقة اكتر مني علشان كده طلبت منه يسافر بدل مني انت عارف الشغل مهم و مينفعش مبقاش جاهز ليه بالشكل المطلوب.

سمع صوت زفرته الغاضبة ثم إجابته :
- انت لسه صغير يا عمار ومش عارف مصلحتك فاكر انك بتأذيني بس بالعكس انت بتأذي نفسك و تصرفاتك ديه هتوديك في داهية خد بالك يا ابني و متغلطش الغلطة ديه ارجع لعقلك و بطل تعند و تتمرد لأنك هتندم .... زي مانا ندمت.

سمع صافرة إنهاء المكالمة فأخفض عمار الهاتف وقد بدأ يشعر بدمائه تغلي بداخله ، سوف يندم على أفعاله ، حقا ؟!

تهكم بإستهزاء و أخرج علبة سجائره يدخن سيجارة وراء الأخرى رغم علمه أنه ليس بمنزله الآن ومن الممكن أن ينزعج المدعو أحمد و زوجته لكنه لن يستطيع التخلص من إنفعالاته دون تدخين ....و دون دوائه ... اللعنة لقد ترك علبة الدواء في سيارته الأولى التي ركنها في الجراج صباحا و غيرها بهذه التي حاء بها !!

تأفف عمار بخنق و حاول تهدئة نفسه مرارا و تكرارا حتى إنتظمت أنفاسه و عاد بعد ساعتين الى مريم ليجدها نائمة فإستغل الوضع و بدأ يتأمل في المكان و ذاكرته تعود به الى ما قبل سنتين عندما عقد قرانه و دخل إلى هذه الغرفة تاركا زوجته مع السيدة سمية التي كانت تهمس لها بشيء ما و الأخيرة متجهمة الوجه مطرقة الرأس ....

لا يزال يتذكر جيدا اللحظة التي دخل فيها لهذه الغرفة الفوضوية بطريقة محببة و حاد بعينيه نحو السرير المزدوج الذي تعلوه ستائر بيضاء و صفراء تدلت من أعلى السقف و أحاطت به من الجانبين ، ثم وقف أمام طاولة الزينة البسيطة منساقا وراء فضوله المتعلق بصاحبة الشعر المموج.

مرر أصابعه على قلادات العقيق المعلقة بالمرآة ذات الإطار المزخرف ليلتقط بعدها إحدى الخلاخيل التي إستقرت في إحدى صناديق حليها المفتوحة الى جانب بقية إكسسواراتها الثقيلة و أخيرا وزع زيتونيته على زجاجات العطور المميزة كعطور أميرات الزمن القديم التي تكون مزخرفة بتصاميم عريقة ، إلتقط زجاجة منها وفتحها فلم يستطع إخفاء إنبهاره عند شمه لتلك الرائحة السحرية المختلطة بالنسيم المنبعث من نافذة الغرفة فهمس بتسلية :
- بنت الغجر.

كل شيء فيها كان مميزا و ساحرا ، لم تكن مريم بذات الجمال الخارق و ربما يراها الآخرون عادية بسمارها و سواد عينيها و شعرها المجعد لكنها بشكل ما أخذت لُبَّه فإتخذها زوجة بشروط و حتى لم يدع صديقاه المقربان يرونها أبدا !!

عاد عمار من ذكرياتها عندما تقلبت الأخرى في الفراش و أصدرت صوتا فتنهد الأخير و إستلقى بجانبها متسائلا للمرة الثانية على الأغلب " ماذا لو كان زواجهما طبيعيا ! "

*** في اليوم التالي.

جاء عثمان و زوجته ليودعوا عمار و مريم قبل مغادرتهما فقامت الأخيرة متجهة الى المطبخ تعد الشاي و تحمد لله على عدم حدوث اية مشاكل ، لكن راحتها لم تدم طويلا فسرعان ما وجدت إبن عمها يقتحم المكان بهدوء و على وجهه إبتسامة ماكرة إرتجف قلبها لها.

حاولت مريم الإستكانة و قاومت تلعثمها الواضح :
- ااا انت جاي ليه طنط سمية في الحمام.

ضحك و غمزها بوقاحة :
- ما انا عارف و جاي ليكي انتي.

أنهى جملته وهو يقبض على ذراعها فشهقت و كادت تصرخ لكنه كتم فمها و حذرها بهمس :
- هشش مسمعش صوتك و إلا هخرجك من هنا بفضيحة كفاية انك قعدتي جوزك جمب حبيبك السابق و المسكين مش عارف .... ف أوعى تطلعي صوت أحسنلك.

أفلتها و تراجع خطوة للخلف يطالع وجهها الخائف و جسدها المرتجف وهي تتمتم :
- بقولك ايه انا مش هسكت تاني على تصرفاتك لو مطلعتش دلوقتي هصوت و اخلي عمار يجي يقتلك انت لسه متعرفش مين هو وبيقدر يعمل فيك ايه.

ضحك مجيبا بعبث يريها ابتسامته القذرة :
- معقول تخليه يؤذي ابن عمك ... و حبيبك.

بدأ الغضب يتسلل لمريم بدلا من الخوف فوجدت نفسها تدفعه بغلظة و تصيح بكتوم :
- عمرك ما كنت حبيبي ولا هتكون انت ندل و قليل الرجولة مش عيب عليك تبقى متجوز و تجي تتبلى على بنات الناس و تتحرش بيهم.

رفع عثمان حاجبه وقد راقه خوفها منه ، هذه الغبية أضعف مما توقع بكثير و يستحيل أن تمتلك الشجاعة لتصرخ فإقترب و حاصرها بذراعيه بينه و بين الحائط و هتف :
- اللي بيشوفك دلوقتي ميصدقش انك كنتي بتموتي فيا و بتحلمي أعبرك جاية دلوقتي و جايبة معاكي جوزك و فاكرة انه هيقدر يحميكي مني ههه تبقي غلطانة الراجل اللي يرميكي في شقة معزولة و يجيلك كل شهر مرة و يقعد الصبح يكلم بنت عمه على الموبايل و يضحك و يهزر معاها مستحيل يحميكي انتي واحدة غبية و ملكيش لازمة آخرك تبقي جسد للمتعة و مسير رجل الأعمال الوسيم ده يرميكي لما يزهق منك.

شهقت وقد ساورتها رغبة في البكاء من قسوة إهاناته و ذله لها حتى هو يتعامل بأريحية معها لأنه يعلم أنها لن تدافع عن نفسها بئسا لها كم هي ضعيفة و ذليلة اللعنة على من مثلها ، أدرك الآخر أنها تعجز عن مقاومة تحرشه بها بسبب إرتعابها من الفضيحة و كذلك إنهيارها من سبابه و ذله فإستغل الوضع و أخفض وجهه يتلمسها و يهمس :
- بما ان عمار البحيري مش معبرك و شايفك زبالة إيه رأيك تسيبيلي نفسك زي زمان و نتسلى مع بعض شويا يلا متخفيش انا مش هقول لحد ع اللي هيحصل بيننا.

إنتفضت بهلع و في لحظة تجمعت كل ذكرياتها السيئة مع هذا الوغد لتجد نفسها ترفع يدها و تنزلها على وجهه في صفعة مدوية إنصدم لها عثمان و نظر على إثرها لمريم وهي تجذبه من ياقة قميصه :
- يا حيوان يا *** وربي لأقتلك لو اتجرأت وقولتلي الكلام ده تاني أو رجعت و قربت عليا فاهم اقسم بالله لأقتلك !!

تراجع يحدجها بذهول و عدم استيعاب ثم وضع يده على وجنته يتحسسها بإبتسامة مريضة و اعتقدت مريم أنه يخطط لضربها فحاولت الهروب لكنه شدد على معصمها بعصبية :
- متعصبة مني لأني قولت الحقيقة ما هو فعلا احنا الاتنين كنا بنحب بعض وانتي جايبة جوزك لبيت حبيبك و منيماه على ودانه.

- إخرس !
قالتها بإندفاع لكنه أكمل :
- ازاي قدرتي تغفليه و تلعبي عليه لدرجة يبقى موفرلك اللي عمرك ما اتجرأتي تحلمي بيه لعبتي عليه دور الشريفة صح يا حرام جوزك مش عارف انك منتي ميتة عليا و اتجوزتيه طمعا في الفلوس صح.

أغمضت مريم عينيها تكتم صراخا لو أطلقته لحضر جميع أهل القرية على صوتها لكنها اثرت الإنسحاب ولم تنطق سوى ب :
- ايوة حبيتك زمان بس كانت اكبر غلطة لأنك بلا فايدة .. ثم همست بنبرة مهينة :
- متفكرش انك راجل لأن اخرك تعتمد على أبوك عشان يصرف عليك و على مراتك ... يا مريض.

ألقت عليه نظرة من الأسفل لأعلى ثم تحركت و تجاوزت الباب و عند إلتفاتها لتذهب الى غرفة المعيشة شهقت ووضعت يدها على قلبها عندما إصطدمت بجسد طويل و عيون زيتونية تقطر شررا بملامح مليئة بالشك و الإتهام و الإجرام .... عمار يقف أمامها الآن و من الواضح أنه سمع حديثها مع إبن عمها لكنه فهم الموضوع خطأ .... و إلا لما كان يحدق فيها بهذه الطريقة !!

تعليقات