رواية نيران الغجرية الفصل السابع والاربعون47 والثامن والاربعون48بقلم فاطمة أحمد
الفصل السابع و الأربعون : قنبلة على شاطئ البحر.
" هناك حقائق مزيفة ... بقدر ما هنالك تهيلات حقيقية "
بعد مدة توقفت السيارة أمام إحدى المنازل المطلة على بحر الإسكندرية فترجل الإثنان منها و وقفا يطالعانه بمشاعر مختلفة ...
هي التي كانت تتأمل المنزل الذي أواها لسنة ونصف و حمل معها أوجاعها و ضعفها و قلة حيلتها لتشعر أخيرا أنها تملك عائلة تسندها وتقف بجانبها بدلا من عم ضعيف أمام زوجته و ابنه الذي كان يتحرش بها في قعر بيته.
و هو الذي ما لبث يوزع أنظاره على البيت المتواضع و يتعرف على المكان الذي كان يجهل وجوده في السابق فبحث عن زوجته في كل شبر الا هنا ، و من الغريب أن عمار يقف الآن بجانب مريم أمام المكان الذي كانت تخفيه عنه طوال هذه المدة بحجة أنه سيؤذيهم ...
بالله عليها كيف تفكر بأنه سيلحق الضرر بأحد اعتنى بها ؟ حسنا في البداية كان عمار غاضبا و متوعدا للشخص الذي اختبأت عنده و لكن هذا لأنه لم يعرف هويته.
ظن أن مريم ربما خانته و لجأت لرجل هي على علاقة معه حتى أنه فكر في نفس الشيء بخصوص ابن خالتها محمد إلا أنه عندما علم بأنه مرتبط بأخرى و يتزوج قريبا هدأت غيرته و خمدت نيران شكوكه.
تنهد مستفيقا بعدما فتح باب المنزل و أطلت منه امرأة تبدو في نهاية الأربعينات لتبهج ملامحها و ترفع ذراعيها وهي تضم مريم بعنفوان :
- بنت اختي الغالية وحشتيني اوي.
بادلتها الأخرى العناق مبتسمة :
- و حضرتك وحشتيني يا طنط ازيك عاملة ايه.
في هذه اللحظة خرجت الفتاة المراهقة " ثريا " التي سبق وأن التقى بها عمار و رآها وهي تعانق مريم صارخة بفرحة :
- روما حبيبتي وحشتيني.
ضحكت و قبلتها بسعادة و فجأة انتبهن لوجود عمار الذي كان يطالعهن ببرود و قال معرفا عن نفسه :
- اهلا و سهلا ... انا عمار البحيري.
دهشت الخالة " نورهان " و رمقت مريم بتساؤل و دهشة لتتنهد الأخيرة و تهمس :
- هشرحلك بس خليه يروح دلوقتي.
نظرت اليها باِستنكار و عادت اليه مبتسمة :
- اتشرفنا انا نورهان خالة مريم.
تدخلت الفتاة في الحوار هاتفة :
- و انا ثريا التقينا من قبل لما انقذتني لسه فاكرني ؟
اخفض عمار بصره اليها و ابتسم لها :
- معقول حد ينسى الحلاوة ديه كلها طبعا انا لسه فاكرك يا ثريا.
احمرت وجنتاها بخجل طفولي فقالت نورهان بلطافة مرحبة :
- اتفضل ادخل محمد ابني هيجي بعد شويا.
ذهلت مريم و كانت ستعارض لولا حذرتها خالتها فزفرت ممتعضة و دلفت للمنزل و خلفها عمار الذي لم يكن مرتاحا كثيرا لأنه يتواجد في وسط غريب عنه غير أنه شعر بالفضول ايضا للتعرف على هذه الأسرة.
جلس على الأريكة المتواضعة وبعد نصف ساعة حضر محمد ووقف مندهشا عند رؤية ضيفهم و لكن عمار انتصب واقفا و مد يده له مغمغما بلهجة خشنة :
- احنا سبق و اتعرفنا على بعض من فترة طويلة ... يا استاذ محمد صادق علي.
تمالك دهشته و تنحنح مصافحا اياه ليتابع الآخر :
- انا مكنتش اعرف ان مريم عندها خالة و اتفاجأت جدا لما اكتشفت الموضوع ده بس هي مكنتش عايزة اسمع عنكو او اشوفكم لانها فاكرة اني ممكن اؤذيكم ... يعني مش عارف مين اللي صورلها الفكرة ديه عني بس مش مهم اساسا انا بقيت متعود عليها وهي بتتهمني بكل حاجة وحشة.
بهتت مريم و تفاجأت من تصريحه فاِلتفت عمار ناحيتها ينظر اليها لثوان صامتا قبل أن يستدرك مرددا :
- اتشرفت بمعرفتكم و الف مبروك يا استاذ محمد.
- الله يبارك فيك.
أجابه بذهول يشاهده وهو يتجه الى الباب كي يغادر و لكن نورهان التي نادته مانعة اياه من الخروج أثارت صدمة البقية بينما تقف هي امام عمار و تقول باِبتسامة :
- مهما كانت المشاكل اللي بينك وبين مريم بس انت بتفضل جوز بنت اختي و اكيد تعبت من طول الطريق علشان كده انا بطلب منك تقضي الليلة ديه معانا هنا ايه رايك.
فتحت مريم عيناها باِتساع و حملقت بخالتها كالخرقاء لكن لم تجد الفرصة للرفض لأن عمار الذي لم يكن يحبذ المبيت في منزل لا يعرفه أصبح اجتماعيا فجأة وهو يومئ برأسه موافقا على اقتراحها !
_______________
على الساعة 11 مساء.
ألقت بنفسها على السرير المشترك مع ابنة خالتها و رددت بذهول :
- هو اللي حصل من شويا ده حقيقي ولا انا بتخيل ازاي خالتي بتقول لعمار ينام معناها معقول هي مش عارفة عمل ايه معايا ... انا مش فاهمة ايه سبب اللي بتعمله ده !
سمعت طرق الباب و دلفت نورهان فقامت مريم سريعا و تقدمت منها متسائلة :
- ازاي حضرتك تعملي كده يا طنط ده انا كنت بحاول على قد ما اقدر اني ابعد عمار عنكم عشان ميأذيكمش تقومي انتي ...
قاطعتها ببرود أعصاب تحسد عليه :
- لو عايز يأذينا كان عمل كده من ساعة لما عرف بوجودنا بس هو معملش حاجة بالعكس اتعامل معانا ب احترام و قطع المسافة ديه عشان يوصلك وكان هيمشي لولا طلبت منه يقعد.
- ايوة انا مش فاهمة انتي ليه طلبتي منه يبات معانا معقول حضرتك نسيتي هو عمل ايه فيا ؟
رددت متحججة فقالت الأخرى :
- وانتي نفسك اللي قولتيلي انك مبقتيش متأكدة ان كان عمار هو اللي قتل ابنك ... ولو عايزة رأيي فحتى انا شايفاه بريء.
رمقتها بغرابة و تساؤل أجابت عليه نورهان بينما تمسك ذراعيها هاتفة بجدية :
- جوزك ده ابن عيلة قوية عندها نفوذ كان قادر يضرك بس انتي بنفسك قولتيلي انه معملكيش حاجة حتى والده اللي قابلك و طلب منك تبعدي عن ابنه وقالك انه كان بيخونك طول الفترة ديه هو مقدرش يقرب ناحيتك لان عمار منعه.
سهلك الطريق اللي تقدري توصلي منه للشركة و دعمك لما دخلك لاجتماع مهم و ساعدك لما تعبتي في المكتب ... كل ده انتي حكيتهولي بنفسك ازاي مش قادرة تشوفي حبه ليكي معقول منتبهتيش لنظراته و ازاي كان بيبصلك على سفرة العشا يا مريم ؟
شحب وجهها و ارتدت الى الخلف مهمهمة بتقطع :
- يحبني ايه هو ... عمار عمره ما حبني ده انا لما قولتله اني بحبه اتريق عليا وقال ...
بلعت لسانها متذكرة اهاناته لها فاِقتربت منها نورهان و همست بطيبة :
- العيون مبتكدبش يا مريم ... انتي عارفة نظراته ليكي وانتي قاعدة قدامه شبه مين ؟ شبه نظرة ابوكي الله يرحمه لما كان بيبص لمامتك.
رفعت وجهها اليها متابعة :
- انا مش بقولك انسي اللي حصل بينكم ولا بضغط عليكي عشان تقتنعي بحاجة مش عايزاها بس متكدبيش قلبك و تشوفي اللي انتي عايزاه وبس ، واجهي عمار وقوليله انتي سمعتي عنه ايه واعترفيله بالسبب اللي خلاكي تهربي و لو اتضح انه الفاعل ساعتها اعملي اللي يشفي غليلك.
بس اتأكدي الاول عارفة ليه ؟ لان لو طلعتي ظالمة جوزك طول المدة ديه يبقى كنتي سايبة المجرم الحقيقي حر ومن غير عقاب.
في هذه اللحظة تدخلت ثريا و أردفت بتردد :
- انتي عارفة بقصتي مع جوزك وانه ساعدني لما كنت لوحدي ... ممكن انتي معتبراني لسه صغيرة ومتاخديش كلامي بجدية بس لو عايزة رأيي ف انا بقولك ان الراجل اللي يخاف على شرف بنت غريبة ويخاطر بنفسه عشان يحميها مستحيل يضر بنت تانية او يقتل ابنه.
طالعتها مريم بتفاجؤ وهي تفكر أن الجميع يدافع عنه حتى ابنة خالتها المراهقة و في هذه الأثناء خطرت ذكراه وهو يخبرها بكل قوة أنه لن يسامحها اذا أدرك انها كانت تظلمه باِتهاماتها ...
___________________
انقضت الليلة سريعا و شرقت شمس الغد ليحضر عمار نفسه من أجل الرحيل فسمع مريم تتحدث مع محمد عن التحضيرات في قاعة الزفاف و قالت له :
- انت روح للشقة بتاعتكم عشان تكمل الناقص فيها وانا هطلب اوبر و اروح اجيب بدلة الفرح و اهتم بالباقي.
- مش هتقدري تدبري كل حاجة في وقت قليل يا مريم خاصة ان أمي و ثريا هينشغلو معايا يعني مش هيكونو معاكي ويساعدوكي.
حك ذقنه و حمحم وهو يتدخل بنبرة هادئة :
- انا هنا بقدر اساعدكم في اللي ناقص.
نظرت اليه نورهان بحيرة ولم تدري بماذا تجيب بينما فكرت مريم ووجدت أنه من الصعب حقا ملاحقة كل شيء في هذا اليوم فلم تجد منفعة من العناد هذه المرة لذلك قالت بخفوت :
- شكرا ... يلا نمشي.
خرجت معه و ركبت في سيارته و انطلقا الى المحل الذي ستجلب منه بدلة محمد ، بعد مدة كان عمار يضع الكيس في صندوق السيارة من الخلف ثم ركب مرددا :
- هنروح على فين دلوقتي.
نظرت اليه بغرابة ثم تنهدت مخبرة اياه عن الأماكن التي سيذهبان اليها و بالفعل كان عمار يبدي صبرا كبيرا و أخذها حيثما تريد حتى قارب اليوم على الانتهاء فتوقف عند مطعم مطل على البحر مغمغما :
- اليوم كان متعب اكيد جعتي تعالي ناكل حاجة.
- مش عايزة.
تأفف و تشدق بصبر :
- مريم انتي عارفة بيحصلك ايه لما تقعدي فترة طويلة من غير اكل و اخر مرة عاندتي وقعتي من طولك في الشركة مش عايزين الموضوع يتكرر يلا تعالي.
زفرت مريم بنزق و فتحت الباب لتسير الى البحر بسرعة فترجل عمار و ذهب خلفها يلحق خطواتها ، أمسك ذراعها ليوقفها و أدارها نحوه صائحا :
- انتي مالك مش طايقة نفسك ولا طايقاني ليه انا عملتلك ايه تاني !
افلتت منه و صرخت في وجهه بعصبية :
- اسأل نفسك و شوف انت بتعمل ايه.
توهجت ملامح عمار بحدة فحذرها من بين أسنانه :
- خدي بالك من كلامك و متعليش صوتك عليا.
أدارت وجهها للناحية الأخرى مكتفة يديها باِنفعال قبل أن تغمض عيناها مبللة شفتيها ثم تنظر له مجددا :
- انت ليه قاعد معايا هنا و ليه عماله تساعدنا كده انت عايز ايه يا عمار فهمني انا مش قادرة استوعب سبب اللي بتعمله.
- مستغربة ليه كنتي فاكرة اني هولع في بيت خالتك مثلا بس اتفاجأتي لما معملت مشاكل ؟
صمتت ولم تجبه فضم وجهها بيديه و قربها اليه هامسا بعنفوان :
- خايفة على عيلتك مني ... ولا خايفة على نفسك لانك بدأتي تفكري بطريقة تانية ناحيتي لما شوفتي ان حتى خالتك وولادها مش مقتنعين بكرهك ليا و الدليل انهم استضافوني عندهم.
هلعت مريم من قربه و مدت يديها المرتجفتين كي تبعده عنها ولكنه لم يتزحزح شبرا واحدا بينما يطالعها بزيتونيتاه الامعتان ، و اه من تلك العينان اللتان يملكهما عمار و تجعل الناظر اليهما يذوب تحت تأثيرهما ...
زادت ضربات قلبها و تسارع نسق أنفاسها وقد تخضبت وجنتاها باِحمرار متوهج انجذب اليه عمار وهو ينقل يديه الى مؤخرة عنقه و يتأملها وهي ترتدي فستانها الأبيض بخصلات شعرها التي تشعثت و بدأت تظهر تموجاته تحت تأثير ضربات الرياح الباردة ...
تنهد بحرارة و وضع جبينه على خاصتها سامحا لأنفاسه الثائرة بأن تلفح بشرتها ، و شعر الإثنان بالزمن يتوقف من حولهما فاِختفى كل شيء ولم يبقى على الأرض سواهما فقط ..
و حينها ، أخفض عمار رأسه اليها ، وضم شفتيها في قبلة بطيئة حملت شغفا آلم قلبه من قوته و اختلت نبضاته لأجله ، و هنا فقط أدرك ان الغجرية الغاضبة تحتل مكانا عظيما بداخله ...
مكانا لم تصل اليه أنثى من قبلها ، ليعترف لنفسه بأنه أحب هذه المرأة حقا !
مرت دقائق عليهما وهما يقبلان بعضهما تحت قطرات المطر الخفيفة حتى استفاقت مريم و انتفضت مبتعدة عنه بترنح ، طالعها عمار بوجه محمر من الانفعال و أنفاس متسارعة بينما لم يسعفها صوتها المبحوح وهي تتشدق بتقطع :
- انت ... انت عملت ايه.
همس بصوته الرجولي الرخيم متأملا بقوة شفتاها المحمرتان :
- نفس اللي كنتي عايزاه يا مريم.
هزت رأسها بنفي و تمتمت :
- مستحيل ... مينفعش ده غلط ...
دنى منها عمار خطوة لكنها ارتدت للخلف بذعر :
- انا عايزة امشي ... روحني ارجوك ...
___________________
وصلا الى المنزل بعد حلول المساء و اخبرهم عمار بأنه حل كل الأمور العالقة و حان وقت رحيله إلا أن محمد هذه المرة من طلب منه أن يبقى لحضور زفافه الذي سيقام بعد يومان.
لكن عمار الذي كان ينوي العودة الى القاهرة الليلة من أجل أعماله رفض بلباقة قائلا :
- شكرا بس مع الاسف انا مش هقدر في حاجات كتير ورايا لازم اعملها.
أجابه محمد بهدوء مصمم :
- لو سمحت يا استاذ عمار حضرتك عملتلنا معروف كبير لما انقذت اختي و مش هقدر اردهولك و ساعدتنا اوي النهارده على الاقل اقبل عزيمتي و متقلقش بخصوص مريم صحيح المشاكل اللي بينكم كبيرة بس ياريت تعتبر الموضوع ده ملوش دعوة بالمسألة مابينكم.
تكلمت نورهان هذه المرة باِبتسامة :
- انا هبقى سعيدة جدا لو حضرت فرح ابني.
صمت مفكرا في الأمر ووجد ان هذه فرصة له فربما يسحب بعض الكلمات من هذا الشاب او الفتاة الصغيرة و يعرف عما عاشته مريم طوال الفترة التي غابت بها ، لذلك اتخذ قراره سريعا و تشدق بنبرة جادة :
- بما انكم مصرين ف انا بيشرفني اقبل عزيمتكم بس مش هقدر اقعد هنا لبعد يومين انا هرجع للقاهرة الليلة ديه و ابقى اجي بعد بكره منها بكون ضبطت اموري ومنها اقدر اجبلكم هدية تليق بيكم.
نظر بطرف عينه لمريم التي بدى عليها الشرود و الحيرة على غير العادة ثم ودعهم و رحل بينما ظلت هي تحدق في أثره حتى سمعت ثريا تناديها فاِستفاقت و توجهت نحو خالتها متهدجة بعيون مترقرقة :
- طنط نورهان ... معقول اطلع ظالمة عمار.
مسحت على وجهها بحنان متسائلة :
- ليه بتقولي كده.
انتحرت الدموع من مقلتيها الحزينتان و ردت عليها بتحشرج :
- انا حاسة بالخوف ... خايفة تطلع كل حاجة كذبة وفنفس الوقت عايزة اصدق ان عمار بريء ..
بس لو كان بريء يبقى مين اللي قتل ابني يا طنط و ليه خلاني اعيش الكابوس ده و اخسر فرصة اني ابقى أم تاني ... و عمار بجد كان بيخوني دايما ولا والده كدب عليا ... انا مش عارفة اعمل ايه.
ضمتها نورهان اليها و احتضنتها بقوة لتسمح مريم لنفسها بالانفجار في البكاء الذي كتمته كثيرا فاِنسحب محمد من المكان مفسحا لها المجال دون ان يسبب لها حرجا ما.
ظلت تنتحب في حضن خالتها حتى خفتت شهقاتها ولم تظل سوى انتفاضات خفيفة تصدر منها فوضعت نورهان يدها على رأسها هامسة :
- في مثل كنا بنقوله عندنا في القبيلة ... " في حقايق مزورة و تخيلات حقيقية "
احيانا حتى العيون و الودان بتبقى غلطانة يا بنتي بس بتخلينا نفتكر انها صحيحة ، مش بقولك متثقيش في اللي شوفتيه وسمعتيه بس لما تحتاري بين الحقيقة و الخيال خلي قلبك و مشاعرك يحكمو و هيلاقو الجواب الصح.
رفعت رأسها و ملست على وجنتها مكملة :
- مفيش فايدة من انك تعاني لوحدك و تسيبي قلبك شايل حمل كبير مش قادر عليه بعد الفرح مايخلص كلمي عمار وواجهيه بالحقيقة و ساعتها لو اتضح انه المجرم انا بنفسي هشجعك في اللي حابة تعمليه و دلوقتي ...
جففت دموع ابنة شقيقتها وقالت بقوة :
- امسحي دموعك ديه و متسمحيش لحد يوجعلك قلبك كده ومتنسيش انك بنت ثريا الغجرية اللي عاشت حياتها بكرامة و كبرياء خلت الكل يحسدها عليهم لا عاش ولا كان اللي يخليكي تعيطي كده يا بنتي.
تبسمت مريم بأسى و قالت :
- معاكي حق في اللي قولتيه انا هواجه عمار بس في الوقت المناسب و دلوقتي ...
اعتدلت في وقفتها متابعة بصوت عال :
- دلوقتي هنقوم نجهز لاحتفال الليلة ديه و نفضل سهرانين للصبح.
صفقت الفتاة ثريا بحماس بينما ضحكت الخالة و تأملتهما داعية لهما بالراحة و الهناء ...
__________________
يوم الزفاف.
أقيمت الحفلة في قاعة كبيرة و حضر الأصدقاء و الأقارب من جهة الأب و بعض الغجريات اللواتي أسسن حياتهن في المدينة ، كان الجميع سعيدا وخاصة العريس الذي بدى في قمة فرحته بجانب عروسه الجميلة.
أما مريم التي تأنقت بفستانها الأحمر المتوهج المفتوح من جهة الظهر مع حذاء أسود ذو كعب عال و تصفيفة شعر مرفوعة للأعلى فكان يبدو عليها العبوس وهي تنقل عينيها على الحضور باحثة عن شخص من المفترض أن يحضر ولكنه لم يأت.
مطت شفتها بضيق و سخط لم يدوما طويلا عندما سمعت همسة بجانب أذنها :
- انتي بتدوري عليا.
انتفضت بفزع و استدارت سريعا لتننفس بحدة عندما رأته :
- خضتني يا عمار.
ابتسم لها و غمزها ضاحكا :
- زمان لما كنا مع بعض كنتي بتتخضي بردو لما اجي من وراكي و اكلمك فجأة.
رمقته مريم بنظرات مستفهمة :
- كأنك بقيت متغير كتير في اخر فترة.
- ازاي يعني.
أبعدت عيناها عنه وهي تقول :
- هادي اكتر و بتضحك من غير تقييد ... و لطيف زيادة ع اللزوم.
تفاجأ عمار من صراحتها فأحاط خصرها و جذبها اليه غير مبال بمعارضتها ثم اردف :
- و كده كويس ولا حالتي السابقة احسن.
تنحنحت تمنع نفسها من الانسياق خلف شعور لمسته على جسدها فرددت بعدم اهتمام زائف :
-- ميهمنيش.
همهم و وزع نظراته عليها بتقييم ثم انكمش وجهه باِنزعاج :
- ايه الفستان اللي انتي لبساه ده.
- انت مالك انا بلبس اللي بحبه.
ضغط بأصابعه على خاصرتها و ردد بتوعد :
- هبقى اقولك انا مالي لما الفرح يخلص و نروح ... اصلك نسيتي انتي متجوزة مين.
سحبها معه وهو يتجه الى محمد كي يهنئه و يقدم له هدية عبارة عن تذاكر سفر لإحدى البلدان السياحية فاندهش الأخير و كاد يرفضها إلا أن عمار اقترب منه هامسا :
- اعتبرها شكر مني لانكم خدتو بالكم من مريم طول السنة ونص اللي عدت صحيح هي واحدة من عيلتكم و طبيعي تهتمو بيها بس مراتي فنفس الوقت ولقيت ان ديه الطريقة المناسبة عشان اشكركم.
بعد لحظات رن هاتفه وكان المتصل هو رفيقه وائل الذي يساعده في جمع المعلومات فخرج من القاعة و أجابه بجدية :
- وائل ازيك.
- بخير الحمد لله وانت.
-- انا كويس ... عرفت حاجة جديدة.
**** مرت دقائق طويلة غاب فيها فنقلت عينيها نحو الباب الذي خرج منه مسرعا منذ قليل و انتابها الفضول لماهية الاتصال الذي جاءه و كادت تذهب اليه لولا أن عمار ظهر فجأة بتقاسيم جامدة بصورة مريبة و تقدم منها بخطوات واسعة ثم غمغم بصوت قاتم :
- تعالي معايا.
قضبت حاجباها بريبة و تساءلت :
- اجي معاك فين ... انا مش رايحة لمكان.
حينها اختفت كل ملامح الرخاء الذي كان يبدو عليه منذ دقائق فقط و أمسك يدها مشددا عليها بعنف محذرا بصلابة :
- لو مسمعتيش كلامي هقوم اقلب الفرح باللي فيه يا مريم متختبريش صبري.
فزعت الأخيرة و شحب وجهها ولكن تهديده كان جديا حقا فاِزدردت لعابها و سارت معه لحيث يريد ، غادر عمار قاعة الحفل و جعلها تركب سيارته بعدما نزع سترة بدلته ووضعها عليها لتغطي بها ظهرها العاري ثم انطلق بها كالسهم لتخاف مريم و تسأله :
- انت واخدني على فين يا عمار رد عليا.
لم ينبس ببنت شفة او حتى ينظر اليها بل تابع طريقه حتى توقف في مكان على شاطئ البحر ، ترجل من السيارة و أخرجها هي أيضا و فوجئت مريم عندما سحبها بقوة من ذراعها مغمغما :
- قولتلك من كام يوم اني مش هسألك تاني عن سبب هروبك و اني هعرف الحقيقة بنفسي صح.
بهتت مريم و اصفر وجهها فحاولت الفكاك منه لكن عمار شدد قبضته عليها متابعا بصوت قاتم :
- انا عرفت انك رجعتي دخلتي المستشفى لما روحتي للاسكندرية و خضعتي لعملية تنظيف للرحم.
شهقت للهواء بعدما اختنقت أنفاسها ف ازدردت لعابها و عقلها يعيد فتح جروحها المدماة وهو يسترجع ذكريات ذلك اليوم الشنيع ... عندما فقدت وعيها بين يدي خالتها وهي تنزف بقوة لينقلوها الى للمستشفى و تخضع لعملية جراحية فورية لتنظيف رحمها الذي تعفن بتأثير ذلك السم القاتل ...
فوهنت ساقاها اللتان أصبحتا كخيط رفيع من الهلام ولم تستجب لعمار الذي جن بعدما علم من رفيقه وائل أن زوجته ظلت في المشفى قرابة الأسبوعين و كادت تخسر حياتها في تلك العملية.
لذلك هزها بعنف وهو يرى جمودها ثم صاح حتى كادت أحباله الصوتية تتمزق :
- ردي عليا و متفضليش ساكتة ... انتي مريتي ب ايه و ليه فضلتي وقت طويل في المشفى بسبب انك سقطتي فهميني !
تلألأت عيناها بالدموع و أصدرت أنينا موجوعا قاومت باِستماتة لكي لا يتحرر و يتحول الى بكاء عنيف بينما ترتجف و تهز رأسها بنفي رافضة النطق ببنت شفة.
فضم عمار وجهها بقوة بين كفي يديه و أجبرها على النظر لعينيه وقد انكمشت ملامحه في رهبة مقسما بداخله على أنه لمن يتراجع هذه المرة قبل أن يضع النقاط على أحرف أسئلته الانهائية.
و استعرت أوداجه بنيران الجحيم عندما أفلتت مريم منه و ابتعدت عنه صائحة بجنون :
- يهمك في ايه لما تعرف ... يهمك في ايه وانا اصلا مش عارفة اذا كنت انت اللي ... انت اللي ...
- انا ايه فهميني !! انا ايه !!
زمجر عمار وقد اشتعلت عيناه بلمعة الجنون و تابع هادرا بحدة :
- ايه اللي عملته خلاكي تكرهيني انا كل يوم بسأل نفسي ومش لاقي اجابة و دلوقتي عرفت انك عملتي عملية خطيرة مش عارف ايه نتايجها عليكي ... الموضوع متعلق ببوم اجهاضك صح ؟
ايه اللي حصلك في اليوم ده انطقي يا مريم !
هزت رأسها رافضة البوح و شدت شعرها بعصبية و جرح لم ينضب وقد تكالبت عليها جميع الذكريات السيئة ، فاِلتفتت تاركة اياه لكنه أمسكها وهو يصيح بغضب مماثل :
- ليه حالتك ساءت وانتي اتعرضتي لحادثة اجهاض طبيعية !
حينها فقدت اخر عصب لديها عندما ألقى عليها ذلك السؤال المباشر فاِنفكت عقدة لسانها و نظرت اليه صارخة بقوة انقطعت بها أحبالها الصوتية وهي تهدر بجنون :
- ديه مش حادثة طبيعية مش حادثة طبيعية انا اتسممت و ابني اتقتل انت سامع يا عمار الجنين اللي كان في بطني مات بسبب الشوكولا اللي انت بعتهالي !!
الفصل الثامن والاربعون : حقائق مؤلمة.
_________________
" عشت كثيرا حتى أدركت ...
أن الاستمرار في العَتَب تَعَب " منتصف وجه بلا ملامح
هزت رأسها رافضة البوح و شدت شعرها بعصبية و جرح لم ينضب وقد تكالبت عليها جميع الذكريات السيئة ، فاِلتفتت تاركة اياه لكنه أمسكها وهو يصيح بغضب مماثل :
- ليه حالتك ساءت وانتي اتعرضتي لحادثة اجهاض طبيعية !
حينها فقدت اخر عصب لديها عندما ألقى عليها ذلك السؤال المباشر فاِنفكت عقدة لسانها و نظرت اليه صارخة بقوة انقطعت بها أحبالها الصوتية وهي تهدر بجنون :
- ديه مش حادثة طبيعية مش حادثة طبيعية انا اتسممت و ابني اتقتل انت سامع يا عمار الجنين اللي كان في بطني مات بسبب الشوكولا اللي انت بعتهالي !!
زلزلت كلماتها الأرض من تحتهما و هولت أمواج البحر المتلاطمة فبدى الإثنان وهما واقفان وسط الرياح القوية التي تبعث الخوف في نفوس البشر كأوراق الخريف التي ذهبت و خضرتها ف اصفرت و تطايرت من غصونها ...
كان هو واقفا كالمسمار لا يتحرك من مكانه ، فقط يحدق بها و يحاول استجماع حروفها التي يبدو وكأنه لم يسمعها جيدا فخيلت له بشكل خاطئ.
و لكن شكلها و الدموع المتحجرة في عينيها و شهقاتها المتقطعة لم تكن تدل على ذلك ، فرمش عدة مرات ثم همس :
- ايه ؟ شوكولا و سم و اتقتل ؟ يعني مش لاقية حجة غير ديه ولا مفيش طريقة تانية تتهربي بيها من سؤالي ! ولا استني ديه لعبة جديدة منك صح.
هدر مستنكرا الجنون الذي تتفوه به بينما تطالعه هي بعيون تنزف بدل الدموع دما و تتذكر ذلك اليوم الشنيع فقالت بتحشرج :
- مش لعبة مني ... هي ديه الحقيقة يا عمار.
حينها صرخ فيها بهستيرية و قسوة :
- مريم انتي عايزة تجننيني ! سم ايه اللي بتتكلمي عنه ده انتي واعية اللي بتقوليه الجنين مات بسبب مشاكل صحية و حالتك النفسية اللي كنتي عليها من بعد خناقنا مع بعض الدكتور قال كده !
اشتعلت عيناها بنيران الجحيم و هجمت عليه تضرب صدره بقوة مزمجرة :
- لا الدكتور قالك ع اللي حصلي وانت كنت هادي ومعملتش حاجة و جيت كدبت عليا الممرضة قالتلي ع كل حاجة.
شدها عمار من ذراعيها و غرز أصابعه في لحمها متمتما من بين أسنانه :
- دكتور ايه وممرضة ايه انتي بتستهبلي امتى حصل الكلام ده !
كان على وشك الإصابة بالجنون ، بل أنه أصيب به فعلا فأمسى لا يستوعب شيئا يقال فقط ذاكرته تستعيد شريط صور غير منظمة من يوم إجهاضها ...
حينما جلس أمام باب الغرفة في المشفى وهو في حالة مزرية جعلت وليد يصطحبه الى الخارج كي يخفف عنه و عندما عاد لمح الطبيب واقفا مع سليم فأخبره ان زوجته قد أجهضت لكن حالتها مستقرة الآن ..
هذا هو كل ما حدث يومها ، فبعد معرفته بأنه فقد طفله لم يعد واعيا لما حوله و اتخذ لنفسه مكانا في طرف الرواق غير مهتم بالممرضة التي وقفت مع سليم تخبره بأشياء لم يعبأ بسماعها حتى اقتربت منه هو و تمتمت :
- الف سلامة على مرات حضرتك الله يعوضكم.
- امين شكرا.
كل هذه الذكريات كان عمار يعيدها في عقله الآن و ترجمها بالكلمات على لسانه وهو يعيد لها سرد ما عاشاه في ذلك اليوم و انهى حديثه وهو يقول بغضب :
- هو ده كل اللي حصل يا مريم بطلي تلعبي عليا و تستخدمي ابنك اللي مات عشان تقهريني اكتر !
- تفتكر لو كلامي كدب و اجهاضي طبيعي كانت ساءت حالتي و رجعت دخلت المشفى عشان اعمل عملية تنظيف للرحم ! هو مين اللي بيكدب على مين مش فاهمة.
رددت بحدة فزفر عمار و امسك راسه بيديه وهو على وشك الانفجار و ظل يلف حول نفسه بعصبية نضحت من عينيه قبل أن يغمضهما متنفسا بعمق ثم يتنفس ببطء و يعود الى مريم قابضا على كتفيها.
ازدرد ريقه مبللا حنجرته المتحشرجة و قال :
- تمام هنفترض انك مش بتحاولي تكدبي عليا ... احكيلي ايه اللي حصلك بالضبط تمام.
ضغطت مريم على صدرها مكان قلبها بعدما شعرت بغصة آلمتها و حاولت سد نزيف جرحه المدموم مؤقتا كي تستطيع التحدث ، ثم طفقت تتمتم بتهدج و دموعها تنزل كالوديان :
- في اليوم اياه انا كنت قاعدة في الشقة لما وصلتني هديتك بوكس من الشوكولاطة اكلت منها شويا بعدين بدأت احس بوجع رهيب في بطني ، فكرت اتصل بيك بس فنفس الوقت اتفاجأت لما وصلني فيديو ليك انت و بنت عمك وانتو بتبوسو بعض.
هز عمار رأسه بدون أن يجرب نكران ما تقوله لأن هذا ما حدث بالفعل و حثها على المتابعة لتتنهد و تردف :
- الوجع زاد عليا جدا و حاولت اتواصل معاك لأول مرة بس انت مردتش عليا و بعدها محسيتش على نفسي غير وانا في المشفى وانت قاعد جمبي وبتقول اني سقطت ... بسبب ارتفاع ضغطي جامد و سوء حالتي النفسية.
- ايوة انا فاكر كل كلمة اتقالت فعلا بعدها انا طلعت من الاوضة عشان اخلص الاجراءات مش فاهم حصل ايه بعدين !
تدحرجت عيناها في المكان باِضطراب و تردد بعدما رأت تقاسيم وجهه المنصدمة حقا و حاجباه اللذان يعقدهما بنفس الطريقة عندما يكون متفاجئا بشيء ما.
فبللت شفتيها و تابعت بهمس :
- في ممرضة دخلت عندي و اتمنتلي السلامة وبعدين ...
Flash back
( - مع إني مستغربة ليه مرضيش يعمل محضر و يحقق في حادثة التسمم بتاعت حضرتك.
عقدت مريم حاجبيها وهي تتكلم أخيرا :
- محضر ... يتعمل محضر ليه ؟
نظرت لها الممرضة بغرابة :
- يعني انتي مسامحة في حقك ومش هتدوري على اللي كان السبب فموت إبنك قبل ما يتولد.
جزت الأخرى على أسنانها وقد بدأت تحدق بها و كأنها شخص ذو رأسين حتى إستطاعت لملمة شتات نفسها و سؤالها :
- مش فاهمة .... إنتي بتقصدي ايه و أنا حصل معايا إيه بالضبط ؟
- يا مدام حضرتك اتعرضتي لإجهاض مقصود احنا عملنا تحاليل و لقينا مواد مسممة كبيرة في دمك و ممكن المادة اللي خدتيها كانت من آخر حاجة حضرتك واكلاها لأن مفعولها سريع.
سكتت تطالع ملامح مريم المنصدمة و التي كانت تتردد عدة جمل في ذهنها "لقينا مواد مسممة كبيرة في دمك ... اخر حاجة حضرتك واكلاها... جوزك رفض يعمل محضر"
ثم تابعت بإستنكار :
- بس لما الدكتور قال للسيد عمار على اللي حصل و سأله لو عايز يعمل محضر جوز حضرتك رفض و قال مش عايز حد يعرف و انا مفهمتش ليه الصراحة بس يمكن علشان متتجرحيش أكتر. )
Back
سردت له بالتفصيل الممل فتراجع عمار الى الخلف مطالعا إياها بصدمة وكأنه يرى عفريتا أمامه ، و ازداد نسق أنفاسه تزامنا مع آلام رأسه فصاح مرددا بأن هذا غير صحيح ، و تن طفله لم يتم تسميمه لترد عليه الآخر بصراخ مماثل مدافعة عن موقفها ...
مرت الدقائق وهما يتجادلان حتى عم الصمت بينهما بعدما شعرا بتمزق أحبالهما الصوتية ...
و ظل صوت أنفاسهما يسود المكان ممزوجا مع صوت الأمواج حتى همس عمار بتقطع بينما ينظر الى البحر :
- انتي بتقولي انك كنتي عارفة ان ابني اتقتل ... وانا كنت فاكر انها حادثة طبيعية.
لم تجب عليه فاِستطرد مكملا :
- يعني طول الفترة ديه كنتي فاكرة اني السفاح اللي سممك و قتل ابنه و علشان كده كرهتيني و حبيتي تنتقمي مني.
أغمضت مريم عيناها و الألم مرتسم على وجهها ثم تنهدت مرددة بخفوت :
- قالتلي انك رفضت تعمل محضر وانا مباشرة اتهمتك لان مفيش حد غيرك كان بيعرف بعلاقتنا و اني حامل ... مكنش في حد غيرك ممكن يعمل كده خاصة انك رفضت..
- اخرسي.
قاطعها بصوت قاتم فنظرت له مريم باِستنكار ليغمغم بنبرة جافية بدون أن يدير عيناه ناحيتها :
- انتي شكيتي فيا انا وضيعتي سنين من حياتنا مفكرتيش للحظة تجي تسأليني و خليتي عيلتك وصحابك يفتكروني حيوان قتل ابنه من غير مايرفلي جفن يبقى تخرسي.
انا هعرف مين المسؤول عن اللي حصل و هبدأ من سليم لان بقالي فترة بشك فيه بعدما عرفت انهم بيراقبوني.
- عمار عايزة اعترفلك بحاجة تانية.
تمتمت مريم باِرتباك وهي تلعب بأصابع يدها وقالت :
- من فترة طويلة كلمني واحد من رقم مجهول وقال انه عايز يساعدني في الانتقام لانه عاش نفس اللي انا عشته و انت ظلمته و أذيته كتير ... مرضيش يقولي اسمه ايه او حصله ايه بالضبط بس كدليل لصدقه معايا قدملي خدمة ... و هو اللي قالي انك كنت بتراقبني.
مع كل حرف يصدر منها كانت خلاياه تتخدر أكثر كما لو أنها سحبت الحياة من عينيه ! اختنق بأنفاسه فجأة عندما أطبق على صدره سلك وهمي شائك غزلته وهي تتابع :
- و اتصل بيا تاني بس انا رفضت اتعامل معاه لو مبينش هو مين بيكون ومن ساعتها اختفى و رقمه مبقاش متاح.
رفع عمار يده ليرخي قميصه وقد تزعزع داخله و عصف به الإدراك القاتل !
وتتوضح له حقيقة أنه طوال هذه المدة كان يتخذ موضع الأحمق الذي تدور حوله الخطط والمؤامرات وهو لا يعلم شيئا عنها ، لم تكفه معرفة أن طفله قد قتل وزوجته اتهمته بالجريمة البشعة ...
بل أدرك أيضا بأن أعداءه قريبين منه لدرجة أن يعلموا بأصغر الخطوات التي يقوم بها و كل ركن من منزله أيضا !
يا الهي ما الذي يحدث معه أين كان هو من كل هذا كيف تم خداعه و حياكة المؤامرات ضده من الجميع و حتى من زوجته ! وضع عمار يده على جبهته باِرتجاف وهو يشعر بأنه سيتعرض لنوبة أخرى فبدأ بتطبيق نصائح طبيبته و التنفس بوتيرة منتظمة و التفكير في اشياء إيجابية حتى يهدئ من روعه ولا يفقد نفسه فيفعل شيئا سيئا بهذه المرأة التي تقف أمامه الآن !
لذلك ظل صامتا لدقائق استشعرت فيها مريم بالتوجس و الخوف ، ولكن ألمها و ندمها كانا أقوى من أي مشاعر أخرى فدنت منه قليلا و لكنه عاد الى الوراء فجأة مغمغما :
- يلا عشان اروحك لبيت خالتك وانا هقضي الليلة ديه في اي اوتيل هنا ... احنا راجعين للقاهرة بكره.
افسح لها المجال فطأطأت مريم رأسها و ضغطت بيديها على سترته التي وضعها حول كتفها عندما خرجا من القاعة ، ثم مشت نحو سيارته وهو من خلفها وبعد مدة قصيرة كانت تدخل لمنزل خالتها الفارغ وهي تسمعه يردد بهدوء :
- هجيلك بكره الصبح عشان اخدك.
عضت مريم على شفتها مردفة :
- ممكن افضل هنا يوم كمان بكره يوم الجمعة ومفيش شغل ف...
قاطعها عمار بدون اهتمام وهو يستدير مغادرا :
- براحتك.
اصابها الذهول من لامبالاته بها على غير العادة و بقيت واقفة مكانها للحظات مفكرة بأن عمار لم يبدي الرد الذي توقعته منه فهي اعتقدت انه سيصرخ و يكسر و يعنفها بالكلام على الاقل إلا أنه فاجأها بهدوئه.
اضافة لأنه لم يجادلها على رغبتها في البقاء ببيت خالتها ترى هل اصبح ينفر منها الآن بسبب ما عرفه ؟
انتفضت مريم بذعر ثم تمالكت نفسها و قالت :
- و ايه يعني انا مالي بيه يكرهني ولا يحبني مليش دعوة المهم دلوقتي نعرف مين المجرم الحقيقي.
أقنعت نفسها بعناد و نزعت سترته لكي تذهب وتعيدها اليه و عندما خرجت وجدته واقفا أمام السيارة و يضع الهاتف على أذنه فتقدمت منه و تسمرت مكانها حين سمعته يقول :
- الو ريماس انتي صاحية ... اسف لاني ازعجتك في الساعة ديه بس انا محتاج اكلمك.
التفت على حين غرة ووجدها تقف خلفه حاملة ما يخصه فالتقطه من يدها و ركب سيارته مكملا حديثه دون أن يكلف نفسه بإلقاء نظرة عليها حتى ...
_______________
مرر بطاقة المفتاح على قفل باب جناحه في الفندق ثم فتحه و ولج للداخل ، ألقى جسده على السرير مغمغما بنبرته القاتمة بكبت :
- انا مضايق ... حاسس بغضب كبير و اعصابي سايبة و خايف ارجع زي الاول و اعمل حاجات مقدرتش اتحمل نتايجها.
توجست ريماس ونهضت من سريرها مرددة بحذر :
- طيب حاول تهدى شويا و صفي دماغك ... قولي انت فين دلوقتي.
- انا قاعد لوحدي في اوضتي ف الاوتيل.
- تمام وانا معاك اهو و مستعدة اسمع لكل اللي بتقوله.
همهم صامتا لوهلة قبل أن يهمس :
- كنت دايما بسأل نفسي مريم كارهاني كده ليه وانا عملتلها ايه ... طلعت فاكرة اني قتلت ابننا يا ريماس ... معقول انا اعمل كده ليه تفكر فيا كده و مين ده اللي حرمني من ابني.
مين ده اللي عايز ياخد مني كل حاجة و ازاي قدرو يوصلولي.
هتف بحيرة أحرقت داخله وهو قاب قوسين أو أدنى من الجنون ليسمعها تهتف برصانة :
- معاك حق تنصدم و تشك في اللي حواليك مش هنكر بس مهما كان المجرم ده افضل فاكر انه ذكي لدرجة يوقع بينك وبين مراتك ويدخل السم لبيتك ويراقب خطواتك وكل ده من غير ما تحس انت بحاجة علشان كده لازم تبقى منتبه وانت بتدور عليه ... متتسرعش و متنساش ان مريم كمان ليها حق تتوجع ومتقدرش تفكر بشكل صح بعد اللي حصلها.
عقد حاجباه بغضب مرددا :
- وده بيخليها تشك فيا و تتهمني ؟ انا عملتلها ايه عشان تقول عني اني قتلت بيبي لسه مشافش نور الدنيا حتى تمام يمكن أذيتها بالكلام وشافتني وانا مقرب من غيرها بس مش لدرجة تتهمني بحاجة بشعة زي ديه !
- عندك حق بس احيانا الانسان بيقع في الغلط لما يكون في حالة غضب او وجع كبير و مبيقدرش يشوف الحقيقة بسهولة هي غلطت لما هربت و مواجهتكش لكن مفيش فايدة تلومها او تلوم نفسك ع الماضي ... اهم حاجة دلوقتي تركز و تحاول توصل للمجرم من غير ماتبين حاجة انا عارفة ان الموضوع هيبقى صعب عليك بس لازم تعمل كده عشان ابنك و مرات....
قاطعها بجفاء لأول مرة وهو يتحدث عنها :
- انا مش هعمل حاجة عشان مريم لان سبق وعرفت نظرتها ليا فمش ههتم بيها ومش هسامحها على ظلمها ليا طول المدة ديه.
تنهدت ولم تجرب ان تضغط عليه فسايرته و تابعت محادثتها معه لدقائق أخرى حتى استدرك بخفوت :
- دكتورة ... بعد 3 ايام هيكون يوم الذكرى ال 25 لوفاتها.
أدركت سريعا أنه يقصد والدته فبللت شفتها السفلية و سألته بحرص :
- انت عايز تزور القبر بتاعها ؟
زفر عمار بخنق وغلغل أصابعه في خصلات شعره وهو يجيبها :
- مش عارف ... انا كل سنة بحاول مروحلهاش بس مقدرش امنع نفسي وده بيخليني احس بالذنب يعني مش كفاية اني شاركتها في خيانتها لما سكت لا كمان هروح ازورها انتي فاهمة قصدي.
- ايوة فاهماك انت زيك زي اي طفل فقد والدته و لسه بيحبها و بيشتاقلها بس ده ميعنيش انك شريك معاها يا عمار طبيعي تحس بالود ناحية والدتك في الاول و الاخر انت ابنها و حبك ليها حقيقة مينفعش تنكرها لانها طبيعية جدا.
- بس انا بتوجع كتير لما اشوف قبرها و كل الذكريات الوحشة بترجعلي ببقى حاسس اني بختنق و بقضي الليل وانا بحلم بيها ... صحيح بحب والدتي بس فنفس الوقت هي كانت مسببة رعب كبير ليا و كسرت فيا حاجات كتيرة و لسه بعاني بسببها عشان كده مش متأكد لو ينفع ازورها ولا لأ .... قوليلي انا لازم اعمل ايه.
ردت عليه ريماس بصراحة :
- مقدرش احكم عليك ف اللي لازم تعمله لان المسألة ديه متعلقة بيك انت لوحدك و مينفعش حد غيرك يدخل فيها لانك انت اللي حبيت و عانيت و انخذلت فمفيش حد يقدر نفسه مكانك و ياخد قرار بدالك فهمتني.
فكر كويس ولو لقيت نفسك مستعد تروح للمقبرة و تفضفض متترددش بس لو مش قادر متضغطش على نفسك.
أغمض عيناه براحة طفيفة من حديثها و ابتسم قائلا :
- تعرفي ايه اكتر حاجة بتخليتي ارتاح لما اكلمك ... هي انك الوحيدة اللي مبتضغطش عليا و مبتحكمش عليا من غير ما تفهم و دايما بتخففي عني ... بجد افضل حاجة حصلتلي فحياتي هي اني قابلتك متشكر اوي.
بادلته ريماس نفس الابتسامة و ردت عليه بعاطفة :
- انا موجودة دايما يا عمار كفاية انك تطلبني.
________________
بعد يومين كان الإثنان قد عادا الى القاهرة و تواصل عمار مع وائل على الفور و تقابلا في إحدى المقاهي الكبيرة يخبره بما عرفه ليتفاجأ الأخير و يدرك أن الأمر أخطر مما ظن بكثير فقال بجدية :
- اول حاجة لازم نعملها هي اننا نروح للمشفى اللي سقطت فيه زوجتك و نقابل الدكتور اللي اشرف ع حالتها اكيد هو شريك في الجريمة بما انه خبى التقارير الحقيقية و كدب عليك.
هز عمار رأسه و عيناه تلمعان بالحقد و السخط لافظا حروفه المتوعدة من فمه :
- و الراجل اللي اتصل بمريم و طلب منها يعملو ديل مع بعض و يتفاهمو عليا ممكن يكون هو عدوي نفسه او حد تبعه ... بس لازم نتحرك بهدوء لان الشخص اللي قدر يوصل لنص بيتي و يعرف اسراري اكيد هو واحد قريب مني جدا و خطير فذات الوقت و مخلي سليم الكلب بتاعه.
- طبها هناخد بالنا بس ايه مخليك متأكد من ان سليم جاسوس مزروع عندك ؟
جز على أسنانه و ضغط بأصابع يده على كوب القهوة الساخنة مجيبا :
- اسراري كلها كانت عنده جوازي و الشقة بتاعتي وحتى هو اللي جاب بوكس الشوكولاطة من مريم وهو اللي وداني للمشفى اياه بحجة انه اقرب من باقي المستشفيات الخاصة ومع الاسف انا مكنتش داري باللي بيحصل قدامي لما لقيت مريم غرقانة في دمها علشان كده سبته يتصرف ، يبقى مفيش حد غيره ممكن يغلوه جاسوس عندي.
أماء وائل باِقتناع و ارتشف من قهوته مردفا :
- مينفعش حد يعرف باللي اكتشفته كمل في لعبتك و اعمل نفسك مش فاهم ايه اللي بيحصل قدامك و نبه مراتك متتكلمش ف المواضيع اللي بينكو في شقتكم.
- اشمعنا يعني... استنى قصدك ان ممكن ...
تمتم عمار مستدركا بترقب فهز الآخر رأسه بتأكيد :
- بما انهم عرفو بحمل مراتك و بأغلب تفاصيل حياتكم ف احتمال كبير يكونو مراقبينكم و زارعين اجهزة تنصت جوا شقتكم فبيقدرو يعرفو كل حاجة عنكم.
ذهل عمار و مسح على وجهه بغير تصديق متمتما :
- ايه اللي بيحصل ده ازاي انا كنت مغفل للدرجة ديه.
لقد كان منشغلا بهواجسه و ذكرياته و كوابيسه و شكوكه الدائمة بمريم حتى ترك كارهيه يجولون براحة و دون رقيب لأنه ببساطة لم يكن مباليا بأحد آخر غيرها ، يا الهي كيف وقع في هذه الغفلة اين كان عقله.
لعن نفسه بداخله بينما يرخي أذناه لوائل الذي قال :
- مش هينفع ابعت ناس تبعي و يدخلو شقتك لان ممكن يكونو مراقبينك من برا علشان كده هعلمك ازاي تستخدم جهاز يقدر يكشفلك اذا في اجهزة تنصت في بيتك ...
*** في المساء.
بعد عودة مريم لشقتها اخذت حماما طويلا و رتبت أغراضها ثم خرجت الى الشرفة مطالعة الشوارع في الخارج بشرود حتى وصلتها رسالة لهاتفها و كانت من عمار يخبرها فيها أن تشغل الموسيقى في الشقة و ترفع الصوت قليلا.
رفعت احدى حاجبيها و كادت تسأله عن مالذي دهاه إلا أنه سبقها برسالة أخرى " في حاجة انا لازم اتأكد من وجودها في الشقة يلا اعملي اللي قولتلك عليه وانا هجي بعد شويا ".
تعجبت أكثر وزفرت بينما تنفذ ما يقوله وبالفعل حضر بعد دقائق ووجد الموسيقى عالية فتحدث بصوت عال نسبيا :
- انتي مشغلة الميوزيك ليه حد قالك انك لسه في فرح ابن خالتك.
انكمش وجه مريم بتعجب فأشار لها عمار بالحديث و مسايرته لتهز كتفها بذهول ثم تمالكت نفسها قائلة :
- مبسوطة و جاي ع بالي افرح اكتر ايه ممنوع ؟
اقترب منها عمار و همس في اذنها بأن تتابع التكلم في اشياء أخرى ريثما يقوم بفعل ماجاء من أجله لأنه من المحتمل أن يكونا تحت المراقبة ، انتفضت الأخرى بذعر فهدأها سريعا ثم ابتعد عنها و أخرج جهاز الماسح الضوئي من جيب سترته وهو يردد بينما يمرره على كل ركن في الشقة :
- لا مش ممنوع بس في اخر فترة مبقتش في حاجة تفرحك الا لو كانت بتأذيني انا شخصيا علشان كده قلقت.
قلبت مريم عيناها بتملل و اختارت عدم الانسياق وراء كلماته هذه و التركيز على المهمة المطلوبة منها فرمت عليه أجوبة عشوائية و ظل عمار يمرر الجهاز على المصابيح و ساعات الحائط و إطارات الصور و المرايا و على الأرضيات أيضا حتى أنير الماسح فجأة و بدأ يصدر اهتزازا طفيفا فقضب حاجباه بترقب أكبر و قربه للمقبس لتزداد حدة الضوء الأحمر ...
ولم تمر ثوان حتى وصلته رسالة من وائل ففتح الهاتف و انحنت عليه مريم تقرأ معه محتواها :
- اشارة الترددات وصلتني اهي يا عمار ... يعني انتو فعلا تحت المراقبة !