رواية نيران الغجرية الفصل الثالث والخمسون53 والرابع والخمسون54 بقلم فاطمة أحمد
الفصل الثالث و الخمسون : لا ينفع.
لم تكن مخططة لهذا التصرف بل أرادت فقط ان تحدثه إلا أنها في لحظة لم تستطع منع نفسها من الانجراف خلف مشاعرها الفياضة ...
و في غمر العناق وجدت نفسها تلقي بحملها عليه بدلا من أن تكون هي سنده و تواسيه ، و ودت لو تستريح على صدره لما تبقى من عمرها ، أن تنسى كل المشاكل و الحواجز التي تمنعهما عن بعضهما ...
غير أن هذا من سابع المستحيلات فجروحهما لا تزال رطبة لم يشفها الزمن بعد ، و كسورهما لم تُجبر ....
تنهدت مريم و ابتعدت عنه لتجده يحدجها مستغربا ثم انقلبت اساريره و هتف ببلادة :
- في لزوم اسألك الحضن ده بريء او وراه حاجة ولا لأ.
قلب عيناها بخنق و مطت شفتها بينما تعلق على كلامه :
- انت عارف اني مبقتش زي الاول خاصة بعد كل حاجة ما اتكشفت و اتوضح سوء الفهم ما بيننا.
تهكم عمار و ردد بنفي :
- لا مفيش حاجة اتوضحت لان مش بمزاجك يا هانم تتهميني و تبرئيني الاول انتي صدقتي اني ممكن اقتل ابني و هربتي بعدها صدقتي كلام ابويا و رجعتي طلعتي فيوم فرحي و فضحتي عيلتي و عملتي كل حاجة عشان تأذيني مبتقدريش تجي دلوقتي و تقولي انك مبقتيش زي الاول و سوء الفهم اتوضح يا مريم ... حضنك ده كان ممكن يحل مشاكلنا في الماضي لما كنا مع بعض مش دلوقتي.
انقبض قلبها وشعرت بغصة مؤلمة تحكمه جراء كلمات عمار ولكنها أدركت بأنه يحاول تفريغ غضبه و حزنه بها فعقدت يديها قائلة بهدوء :
- وانا محضنتكش عشان المشاكل تتحل بس انا عارفة كويس معنى انك تخاف تخسر أبوك لاني جربته من قبل بس الفرق بيننا اني ملقتش حد يخفف عليا علشان كده عايزة اكون جمبك زي لما انت كنت معايا في مرض عمي و فرح ابن خالتي ... بس كده.
صمت يستمع لكلماتها التي تنطقها بنبرة متحشرجة وقد استدعت ذاكرتها مشهد خسارتها لوالديها في نفس اللحظة نتيجة تعرضهما لحادث سير أودى بحياتهما و تركها يتيمة شكلت عبئا لعمها و زوجته ، ثم ذهب ليجلس على السرير و يرتشف قليلا من كوب القهوة قبل أن تقترب منه مريم متسائلة :
- الدكاترة قالو ايه.
- نوبة قلبية قوية بس حالته مستقرة دلوقتي و هيفضل تحت المراقبة الليلة ديه.
- طيب ازاي ده حصل قصدي هو كان تعبان من الاول ؟
هز رأسه بإيجاب :
- ايوة قلبه ضعيف وانا لما دخلت وواجهته مأنكرش بس اتصدم لما قولتله انك اتسممتي و اتصدم اكتر لما ... اتهمته.
حاد بعينيها نحوها و تابع :
- حسيته مش فاهم ولا عارف انا بقول ايه بس مقدرتش اركز من غضبي و قولتله كلام وحش اوي ... انا اتسرعت يا مريم ولو طلع مظلوم مش هقدر اعيش مع تأنيب الضمير من جهة ولا هقدر اعيش مع حقيقة انه كدب عليا و طلعني بصورة سيئة.
طالعته مريم بحزن تمكن منها و قسم قلبها لنصفين و شتمت نفسها لأنها أخبرته الحقيقة بهذه الطريقة و تسببت له بكل تلك المواجع بداية من اتهاماتها الباطلة عليه الى حين كشف غدر المقربين اليه.
و لكنها حاولت التماسك قدر الإمكان فربتت على كتفه مهمهمة :
- انا مرضتش اواجهك عشان كده مكنتش عايزاك تحس بالوجع ده ولا اواجهك بالطريقة ديه يا عمار صدقني ... و احتمال كبير يطلع ابوك بريء واللي عمل فينا كده حد تاني.
- ايوة يعني مين هو ... مين وليه عمل كده هيستفاد ايه لما يقلب حياتي !
هدر بعصبية تجلت في نبرة صوته المتشنجة و ضرب بقبضته على السرير لاعنا إياه فقالت مريم :
- عمار كده كده مبقاش في حل غير اننا نجيب سليم ده و نجبره يتكلم مهما كان التمن لانه ممكن يعرف باللي حصل بينك و بين ابوك و يلحق يهرب.
همهم بموافقة :
- ايوة انا كلمت واحد من رجالتي و قولتلهم يدورو عليه عشان محتاجه فموضوع مهم ... و كمان سمعت التسجيلات من المايكرفون اللي حطيته في مكاتب الشركة بس موصلتش لحاجة و كأن المجهول ده شيطان مش بيسيب دليل وراه.
تمتمت الأخرى بعقلانية :
- مفيش حد بيعمل جريمة كاملة مسيره يسيب طرف خيط وراه يوصلنا لمكانه ساعتها هيندم ع كل حاجة عملها بس انت متشغلش بالك دلوقتي لازم تريح نفسك.
دلك عمار عنقه مجيبا :
- ماشي انا هتصل بالشوفير عشان يوديكي للشقة الوقت اتأخر.
- هروح بس مش قبل ما تاكل.
هتفت بضحكة وهي تفتح الحقيبة متوسطة الحجم التي جلبتها معها تحت نظراته المتسائلة لتفاجئه بإخراج علب طعام معقمة ليقول بإستنكار :
- ايه ده متقوليش انك جايبالي لانش بوكس زي العيال.
- انت عادة مبترضاش تاكل حاجة لما تبقى مضايق متعصب او زعلان او متوتر فقدرت اتوقع انك قضيت اليوم بطوله مع القهوة و السجاير و بما انك مش بتحب اكل المستشفيات او الفاست فود فنص الليل طبختلك بنفسي.
رددت بثقة وهي تنهض و تجلب الطاولة ذات العجلات لتضع العلب عليها ثم فتحتها واحدة تلوى الأخرى لتصل لأنفه روائح طبخها الشهي الذي اشتاقه مع الأعشاب الخاصة بها فرفع عمار حاجباه مهمهما :
- انتي بتتكلمي جد بقى ... بس انا مليش مزاج اكل يعني ندى اقترحت عليا تجيبلي حاجة من البيت وانا مرضتش تعبتي نفسك ع الفاضي.
توقفت مريم مكانها و أغمضت عيناها بغيظ من فظاظته و كلامه الذي لا يمت للذوق بصلة على غير العادة لكنها أدركت انه يتعمد استفزازها فلم ترد اعطاءه الفرصة للنجاح فارسمت ابتسامة حادة على وجهها و ردت :
- بس طبخي مش زي طبخ اي حد انت عارف.
ناولته الملعقة فتذوق قليلا من الحساء و حينها لم يستطع منع نفسه من التلذذ و مدحها :
- شوربة الجبن والفراخ ... محدش يقدر يعملها احسن منك فعلا.
فرحت بداخلها على اطرائه و شعرت بنفس أحاسيس الماضي عندما كانت تطبخ له بكل حب وهي تردد كلمات أغانيها الغجرية ثم تجلس أمامه منتظرة منه ان يعطيها رأيه في صنع يدها ...
تنهدت بلوعة فاِنتبه اليها عمار و استطاع أن يتوقع ما تفكر به لأنه طرت على باله أيضا ، فتنحنح و سألها بهدوء :
- انتي كمان لسه مكلتيش صح تعالي اقعدي جمبي.
ابتسمت مريم و جلست بجواره ليمر الوقت سريعا وهما يتشاركان نفس الأطباق ونفس المشاعر ، و كل منهما محتار بخصوص الأسرار التي أشعلت النيران عند انكشافها و الحفرة التي تسحبهما للأسفل كل مرة مانعة إياهما من انتشال أنفسهما منها ...
و بعد فترة كان عمار يخرج مع مريم من باب المستشفى الخلفي لكي يوصلها الى السيارة و عندما كانت ستركب أمسك يدها هامسا :
- كويس انك جيتي ... شكرا يا مريم.
توردت وجنتاها و تسارعت دقات قلبها وهي تشعر بنفسها كمراهقة تجرب الحب لأول مرة فحاولت السيطرة على نفسها و ابتسمت له بخفة لتغادر سريعا و تترك عمار يراقب السيارة حتى اختفت ...
ثم وصله اتصال انتشله من هفوة المشاعر التي غرق بها ليفتح الخط و يصله الصوت من الطرف الآخر :
- احنا دورنا على سليم فكل مكان يا باشا بس مقدرناش نلاقيه.
___________________
في اليوم التالي.
بعدما سمح له الطبيب بزيارة قصيرة لوالده بشروط ارتدى الزي المعقم حرصا على اتخاذ لوازم الاحتياط ثم دخل الى الغرفة التي يمكث فيها رأفت و وقف أمام السرير بصمت لا تقطعه سوى الأصوات التي تصدرها الأجهزة الطبية بإنتظام ...
تأمله عمار بتقاسيم جامدة و مشاعر متخبطة ، لا يصدق ان والده الذي لطالما شهد على قوته و تحمله يرقد الآن على فراش المرض ...
ولا يستوعب أنه يقف أمام والده الذي وقع في دائرة الاتهام ، لا يعلم ان كان يجب أن يحزن عليه أم يغضب منه أم يخاف من فقدانه ، داخله يتألم و روحه تتمزق بلا حول ولا قوة و لكن الشيء الوحيد الذي هو متأكد منه أنه لن يستطيع مجابهة الألم اذا اتضح بأن والده هو من قتل طفله ... لن يتحمل ...
تنهد بوجع و شرد متكلما بصوت لم يكن واضحا بسبب الكمامة التي يضعها :
- زمان وانا ولد صغير كنت شايف قد ايه انت بتحبني صحيح مش فاكر كويس بس اللي مثبت عليه انك مكنتش تقضي يومك من غيري تحضني و تلعب معايا و تجيبلي كل اللي نفسي فيه.
بعدها انت اتغيرت فجأة و بقيت تتحجج علشان تبعدني عنك و شويا شويا بقيت تزعقلي و تقسى عليا انا مكنتش فاهم السبب و ليه بتعامل ابنك بطريقة سيئة بس لانك بتتخانق مع مامته.
ابتلع غصة مؤلمة اعتصرت قلبه و لفحات الماضي تصفع ذاكرته و تخنقه ، ثم تابع بصوت أكثر تحشرجا :
- هو في حد بيقدر يبعد ابنه عنه و يبعته لمكان بعيد بعد موت والدته ؟ انت عملت كده و مكتفيتش لأ كمان كنت حارمني من اني اشوفك.
لما صحابي كانو بيقضو الويكاند في بيوتهم انا كنت بفضل قاعد لوحدي في اوضتي ولما اتصل بيك و اطلب منك تجي توديني عشان مضايق هنا بتقوم انت تبعتلي فلوس و هدايا ع اساس هتعوضني ع غياب أهلي ... بس انا مكنتش عايز غيرك يا بابا.
نفث أنفاسه بحرارة كأنه يطرد طاقته السلبية ثم ازدرد لعابه محاولا السيطرة على الرجفة التي شابت صوته و أردف مبتسما بحزن :
- لما عشت مع كل الحاجات الوحشة لوحدي و اتقهرت و زعلت بقيت حاسس اني جماد معنديش مشاعر و لقيت نفسي بصدك وبصد كل اللي بيحاول يقرب مني لحد ما شوفتها ..
البنت الغجرية اللي عينيها كانت بتلمع وهي باصة لشهادتها وكأنها الحياة ساعتها ملكتني و مبقتش قادر افكر في غيرها ...
مريم كانت بالنسبة ليا السلام و الحب و الهدوء وصح انا اذيتها اوي بس مكنش قصدي انا كنت بحاول اداوي الجرح اللي فقلبي ومن غير ما احس حبيتها بس انت عملت ايه ؟ استخسرتها فيا و بعدتها عني بحجة انها مش من مستوايا طيب انا هستفاد ايه لو كانت من عيلة غنية بس مبتقدرش تكون زوجة و أم صالحة لولادها ؟
بس تصدق مع ذلك انا مقدرتش اكرهك للاسف رغم كل اللي عملته فيا لسه قلبي بيوجعني لما بحس اني ممكن اخسرك معرفش ليه بس يمكن عشان ... عشان لسه متأمل تبقى علاقتنا زي أي أب و ابنه.
سكت يسترجع أنفاسه المتثاقلة ثم نزع الكمامة و اقترب من أذن أبيه هامسا :
- حضرتك قلت انك مش المذنب في قتل ابني تمام يلا اصحى عشان تثبتلي انك مش بتكدب ... اصحى عشان تثبت اني مكنتش غلطان لما قعدت مع نفسي مرة و فكرت في اني اصلح علاقتي معاك.
و كان جوابه هو السكون الفضيع ليمرر عمار يده على كتف والده و يغادر الغرفة بل المستشفى كله و بمجرد وصوله للحديقة التابعة لها وضع يده على قلبه يتحسس نبضاته و شهق للهواء يسحب أكبر قدر منه لعله ينجح في إطفاء ناره ...
ثم التقط هاتفه و طلب أحد الأرقام ليتكلم مباشرة بعد فتح الخط :
- دكتورة ريماس ... انا قدرت اعمل اللي قولتيلي عليه النهارده الصبح.
ابتسمت الطبيبة برضا فأكمل عمار :
- انا قدرت احكي كل اللي عايزه ... الكلام اللي مكنتش بتجرأ اقوله بيني وبين نفسي حتى انا روحت قولته لأبويا بس هو مكنش سامعني.
هزت رأسها و تمتمت بعملية :
- انت لسه داخل في مرحلة انك تعبر عن اللي فقلبك للطرف اللي عنده مكانة مهمة فحياتك و مع الوقت هتبقى قادر تاخد و تدي و تسمع و تتكلم معاه كفاية انك عملت خطوة كبيرة زي ديه.
- ايوة معاكي حق.
- قولي انت حاسس ب ايه دلوقتي.
جلس عمار على إحدى المقاعد و تنهد بينما يجيبها :
- كأن جبل اتشال من صدري حرفيا ... يعني لما بدأت اتكلم معاه كنت حاسس بتقل كبير بس شويا شويا بدأ لساني ينطق الكلام من غير حساب ولا تخطيط و قولتله كمان اني مستعد اسمع تبريراته و اصدق براءته ... يا ترى هو بجد بريء ؟
ردت عليه ريماس بسؤال مماثل :
- انت شايف ايه ؟
اكتست الحيرة تقاسيم وجهه و شرد في رأفت وكيف رآه عندما واجهه آخر مرة ليعبس قائلا :
- مش عارف يعني لما بفتكر شكله و صدمته لما قولتله ع اللي حصل ل ابني وكمان سعاد هانم قالت انهم مكنوش بيعرفو بحمل مريم اصلا غير لما واجهوني بحس اني اتسرعت و ممكن ميكونش رأفت بيه اللي عملها ... اقصد ان صحيح هو غلط في حقي كتير بس مش لدرجة يتمادى و يأذيني بالطريقة ديه.
ومن جهة صدمتي فيه و فالكلام اللي قاله لمريم و أنه بعدني عنها وخلاها ترسم عني صورة وحشة ده مخليني اقول ان اللي بتهون عليه سمعة ابنه و مشاعره ممكن يعمل اي حاجة تانية.
- عمار انت زعلك و خيبة أملك بأبوك مخلية عقلك الباطني عايز يلاقي سبب اضافي عشان تكره ابوك فرسملك امكانية انه ممكن يكون المجرم.
طبعا انا مش هنكر ان في احتمالية ابوك يبقى مذنب بس لازم تتأكد بالدلائل و متخليش غضبك منه يظلمه في حاجة هو بريء فيها ... مهمتك دلوقتي تدور ع الحقيقة ديه أهم من اي حاجة تانية دلوقتي.
اومأ بإقتناع و ظل يتحدث معها لبضع دقائق اخرى حتى أغلق الخط و دخل الى المستشفى مجددا ، مر الوقت سريعا و خرج الطبيب من الغرفة مبشرا إياهم بأن المريض قد أفاق فاِنتشرت الفرحة بينهم و شعر عمار وكأن الحياة عادت اليه و لكن رغم هذا رفض الدخول و رؤيته فدلف أفراد العائلة على دفعات بطلب من الطبيب الذي أخبرهم بأن التجمعات ليست جيدة له.
و بعد مغادرة عادل و صديقيه الى الشركة و عودة فريال مع ابنتها للقصر ظل عمار واقفا أمام باب الغرفة حتى دنت منه سعاد مرددة بعتاب :
- انت مش عايز تدخل تشوف ابوك ليه يا عمار مش عايز تطمن عليه.
تنحنح و رد عليها مبررا :
- انا اتطمنت عليه من الدكتور و مش عايز ادخل لاني ...
صمت بدون أن يستطيع الشرح فملست سعاد على وجهه بينما تكمل بدلا عنه :
- خايف عليه يتعب تاني لما يشوفك لانكم سبق و اتخانقتو وهو تعب بسبب الخناقة ديه ؟
اندهش عمار من مدى استطاعتها قراءة ما يفكر به ثم أبعد عيناه عنها فأثبت لها صدق كلامها لتبتسم قائلة :
- ابوك نفسه سأل عليك اول ما صحي و طلب يشوفك يلا يا حبيبي خلاص حصل اللي حصل واحنا مبنقدرش نرجع الماضي صحيح انا مش فاهمة اتخانقتو ع ايه بس عارفة كويس انك مكنتش عايزه يتأذى متفضلش تلوم في نفسك بس كمان حاول متكلموش في اللي حصل ماشي.
تردد لبضع لحظات ثم حسم أمره و دخل الى الغرفة التي نقلوه اليها بعدما استفاق ، وجد رأفت بوجه شاحب و جسد مرهق يستلقي على السرير وهو يطالع السقف و حينها تذكر عمار الكلمات التي رددها بكل قسوة " شايف واحد عديم الرحمة كل همه مصلحته حتى لو هيأذيني ... شايف واحد قاتل ..
انت اكبر بلاء في حياتي مش هسامحك على اي حاجة عملتهالي ... انا بكرهك ! "
دار بحدقتيه في المكان عندما تفطن لنظرات والده اليه ثم تقدم بخطوات بطيئة حتى وصل اليه و قال بثبات مزيف :
- حمد لله على سلامتك.
تأوه رأفت ببعض الألم ليجيب :
- عمار ابني ... صدقني انا معملتش حاجة لإبنك ... انا ... مستحيل اعمل كده اا...
قاطعه الآخر على الفور عندما بدأ يسعل :
- مش وقته الكلام ده صحتك أولى دلوقتي و هنبقى نتكلم في الموضوع التاني لما تخف.
أطلق آنة تنبع من وجع صدره ليوافقه على قوله مؤقتا ، قبل أن يردف على حين غرة :
- قبل ما يغمى عليا سمعتك بتناديلي يا بابا.
اندهش عمار و رمش بعينيه وهو يمرر بصره على أي شيء ما عداه ثم دلك رقبته متمتما بإضطراب :
- انا اتصدمت لما لقيتك وقعت بين ايديا ومبقتش عارف اعمل ايه يعني مكنتش متوقع ولا عايزك تتعب بس الإحساس اللي عشته في اللحظة اياها كان أسوء حاجة عدت عليا فحياتي و لقيت نفسي برمي اي كلام وخلاص ...
لم يكن عمار يدرك بأنه في خضم محاولة منه لتبرير انفعاله أو حتى الاعتذار عما بدر منه في تلك المواجهة التي حدثت في غرفة المكتب غير أن أحاسيسه التي عادت لتتخبط بداخله مجددا منعته عن المواصلة وهي تصور له بأن والده هو المذنب وهو من يجب عليه الإعتذار ليس العكس ...
لذلك استأذن و خرج مقابلا السيدة سعاد في طريقه لكنه اكتفى بهز رأسه لها و الذهاب أما هي فدخلت الى زوجها و سألته :
- عمار خرج وهو متنرفز انتو مرجعتوش تخانقتو تاني صح.
نفى رأفت مستطردا :
- لا متخانقناش ... عايز أسألك ... عمار كلمك او لمحلك عن حاجة غريبة مفهمتهاش ؟
مطت شفتها ناكرة ثم استدركت بتذكر :
- مقالش هو فضل ساكت اغلب الوقت ... بس سألني امتى عرفنا انه متجوز و حاجات تانية مركزتش فيها اوي ، في مشكلة ؟
امتنع عن الإجابة و اكتفى بطمأنتها بصمت قبل أن يعاود مطالعة السقف محدثا نفسه :
- الواضح في اسرار كتيرة لازم اكشفها ...
_________________
مر أسبوع على رأفت وهو في المشفى بعدما أكد له الطبيب بضرورة العناية به جيدا في هذه الفترة و رغم امتعاضه من هذا لأنه بطبيعته لا يحب أن يكون ضعيفا الى هذه الدرجة إلا أنه اضطر للموافقة.
و حينما تحسنت حالته أخرجوه من المستشفى وسط الضجيج الذي تسبب به الجمع الغفير من الصحافة المكتظة أمام الباب الخارجي بسبب انتشار أخبار أخرى مفادها بأن رجل الأعمال رأفت البحيري تعرض لوعكة صحية بسبب مشكلة كبيرة اندلعت بينه و بين إبنه من أجل الأموال غالبا فجاءت لتستنبط مدى صحة هذا الخبر غير مهتمين بالظروف التي يمر بها المريض.
إستطاعت العائلة الوصول الى القصر أخيرا وبعد الإطمئنان عليه هاهو عمار يجلس في غرفة والده لكي يعطي له الدواء ثم عدل الوسادة خلف ظهره و قال :
- هنبه ع الشغالين يجولك في ميعاد الدوا مع اني مش فاهم ليه رفضت نجيب nurse من المشفى عشان تساعدك اكتر.
- مفيش داعي لكل ده انا كويس بعدين انت و سعاد موجودين ملهاش لازمة نكبر الموضوع.
- طيب براحتك بس لو عزت اي حاجة كفاية انك تدوس ع الريموت ده تمام و انا او اي حد تاني هيجي فورا.
قالها عمار وهو يشير الى جهاز الإستدعاء الذي وضعه فوق الكوميدينو ثم استقام واقفا و كاد يخرج إلا أن رأفت أوقفه وهو يمسك يده مرددا :
- تعالى اقعد يا عمار ... و اشرحلي ايه اللي بيحصل بالضبط و ايه اللي كنت بتقوله في اوضة المكتب.
تضايق و اختنق صدره من ذكر نفس الموضوع و كان سينكر ولكن والده شدد عليه مصرا على فهم كل شيء فتأفف و عاد ليجلس على مضض مغمغما :
- عايز اشرحلك ايه ... مثلا اني عرفت ب ان حضرتك سبق و شوفت مريم و كدبت عليها بخصوصي و خليتها تصدق عني حاجات مش صحيحة في الوقت اللي كنت انا بدور عليها زي المجنون وحطيت ثقتي فيك بس انت خذلتني للمرة المليون و علشان كده سمحت لمريم تدخل للشركة مقابل انها تسكت.
احتكمته غصة في قلبه فإنكمش وجهه بألم و لكنه قاوم ذلك وهو يهتف :
- كل واحد مننا عنده وجهة نظر خاصة في طريقة حمايته للناس اللي بيحبهم و ديه كانت طريقتي عشان احميك يا عمار ايوة غلطت و لفيت و كدبت بس انا عملت كل ده عشان انقذك من الحالة اللي كنت هتقع فيها بسبب حبك لواحدة مختلفة عنك في كل حاجة.
لأن لا مريم كانت هتقدر تتأقلم مع حياتك ولا انت كنت هتتعود عليها بعد انت ماقررت تعلن جوازكم وتعيشو مع بعض ع العلن ... و مش ندمان لأني أب ومهما حصل ما بيننا هتفضل أوليتي و هتفهم كلامي لما تبقى أب انت كمان.
تهكم عمار في وجهه وهو يضغط على وتره الحساس فعلق :
- انا كنت هبقى أب بس مسمحوليش و قتلوه قبل مايشوف الدنيا.
اعتدل رأفت في جلسته و برزت ملامح الجدية عليه بينما يسأله بترقب :
- وصلنا لموضوعنا الأساسي ... ايه قصة السم ديه و طلعت منين مش المفروض مراتك سقطت بسبب مشاكل صحية عندها و ليه اتهمتني انا ازاي فاكر اني ممكن اقتل حفيدي اللي ياما اتمنيته وكنت بسعى لأنك تتجوز بس علشان اشيل ابنك بين ايديا.
تحول الأمر الى عتاب في النهاية بدون قصد و لكن رأفت لم ييستطع هضم فكرة أن ابنه يظنه بهذه البشاعة فزفر عمار بتردد من اخباره لأنه لم يتأكد لحد الآن اذا كان بريئا حقا أم يدعي ذلك.
إلا انه استسلم و رضخ لرأفت ليجيبه :
- انا عرفت من حوالي شهرين ان مريم اتسممت هي اعترفتلي بنفسها ومش عارف اذا كانو قاصدين يتهموني عشان تبعد عني ولا لأ لأن الممرضة جت و قاتلها جوزك سمع بأنك اتسممتي بس معملش حاجة فنفس الوقت اللي الدكتور جه و قالي انها سقطت لأسباب صحية تانية علشان كده مريم هربت ... هي افتكرت اني قتلت ابننا و بكلام حضرتك معاها اتأكدت.
- ايه الكلام ده انت متأكد منه يمكن تكون لعبة جديدة منها.
- ايوة اتأكدت من السجلات الطبية و في حاجات تانية ظهرت و أكدتلي اكتر.
دفعات من الصدمة كانت تنهمر عليه واحدة تلوَ الأخرى دون رحمة ومع كل حرف من عمار كان رأفت يدرك كم أنه كان بعيدا كل البعد عن حياة إبنه ، فبينما يسعى هو للنجاح في الحياة العملية و المحافظة على سمعة العائلة و الإزدهار أكثر كان ولده يعاني وهو لم يرَ ذلك.
و تلك الغجرية هاقد اتضحت أسباب تصرفاتها و رغم أنه لا يزال يكرهها و يود ابتعادها عنهم إلا أن رأفت لم يستطع منع الشعور بالشفقة اتجاهها من التسلل لقلبه فهي امرأة قُتل طفلها و عاشت الكثير و هذا يمنحها الحق فيما فعلته ... لأنه لو كان مكانها لفعل أكثر !
هز رأسه مهمهما بإنهاك :
- مين اللي عمل كده و ليه و ازاي.
- في الاول انت قولي ايه قصتك مع سليم وليه كنت بشوفك معاه في اخر فترة.
- سليم جه لمكتبي و قالي ان عنده مشاكل مادية و محتاج فلوس بس لسه مقبضش قمت اديته سلفة هيرجعها لما يقبض منك لانه مش عايزك تعرف.
و لما رجع السلفة طلبت منه يعملي خدمة بدل الشوفير بتاعي لانه كان تعبان بعدها طلب قرض كبير و رفض يقولي السبب بس لما ضغطت عليه قالي ان اخوه اتورط مع ناس لعب معاها قمار ولازم يدفعلهم فأسرع وقت الصراحة صعب عليا وحبيت اساعده بما انه مساعدك المخلص فأديته المبلغ و قولتله يرجعهم ع مهله.
- انت اديتله الفلوس امتى ؟
- تقريبا فليلة اخر حفلة اتعملت بس انا مش فاهم انت بتسأل ليه و مال سليم في الموضوع ؟
ازدرد عمار ريقه ليبلل حنجرته الجافة و ضغط على قبضة يده بغضب بينما يرد من بين أسنانه :
- سليم متعاون مع الكلب اللي عمل فينا ده كله ... هو حطلي ال GPS فعربيتي و جاب سباك لشقتي عشان يركب جهاز تنصت وهو اللي بعت الشوكولا المسمومة لمريم وخلاها تسقط و كمان عرفت ان الدكتور اللي عالجها صديق مقرب لسليم و بعتله فلوس اكتر من مرة.
- عمار انت بتقول ايه معقول سليم !
- ايوة هو و بقالي كتير بعمل تتبع لخطواته بس شكل السيد بتاعه ذكي جدا و خلاه ياخد احتياطاته و يمكن كمان كشفو اني بقيت اعرف كل حاجة عشان كده سليم مختفي من اسبوع ومش عارف هو فين.
صمت عمار بعدما تملك منه الضيق و أحس بكتلات نار تحرق دماءه فبدأ يأخذ أنفاسا عميقة منتظمة كما علمته ريماس سابقا حتى هدأ قليلا و التف الى والده مردفا :
- لما عرفت من مريم الحقيقة مبقتش قادر اتحكم في اعصابي و انت كنت الوحيد اللي ممكن اقدر افرغ فيه غضبي عشان كده اتهمتك و قولتلك كلام مهما كان ما بيننا بس مكنش ينفع يطلع من لساني ... انا يعني ... لما قولت اني بكرهك مكنتش ...
توقفت الحروف في حلقه و أبت الخروج وكأن حاجزا حديديا يمنعها فعادت لتُختزن داخل قلبه كسابق الحروف التي لطالما أراد إخراجها وفشل في ذلك ، غير أن رأفت الذي رأى الندم و الحرج في عينيه أدرك جيدا ما يفكر به فاِبتسم بإنهاك هاتفا :
- انا عارف انك مكنتش بتقصد انت زي أمك لما كانت بتعصب بترمي اي كلام عشان تجرح اللي قدامها و قلبها يبرد بس انا فهمت انك مقصدتش اول ما ناديتلي بابا لما وقعت.
رفع عمار رأسه اليه بدهشة و استغراب ليتابع الآخر :
- ديه كانت اخر كلمة سمعتها قبل مايغمى عليا ساعتها حتى لو مُت كنت هموت وانا مرتاح لاني اخيرا سمعت الكلمة اللي بقالي سنين طويلة بتمنى تقولهالي.
تمتم بدموع التأثر متذكرا انه سمع ايضا كل ما قاله عمار عندما دخل لغرفة العناية المشددة حينها كان هو متأرجحا بين الخيال و الواقع و اعتقد بعد استيقاظه أنه كان يحلم إلا أن سعاد أخبرته بأن عمار هو الوحيد الذي دخل اليه وعندما خرج لاحظت عيناه الحمراوتان و كأنه يسعى لكبت دموعه ...
يتذكر رأفت جيدا كل كلمة خرجت منه و كيف حكى له عن طفولته و عن أنه لم يرد سوى وجوده في حياته لكنه بالمقابل تلقى الخيبة و الخداع منه و أبعد حبيبته عنه ومع ذلك لم يستطع كرهه ... عمار لا يزال يعتبره والده وهو سيفعل المستحيل من الآن فصاعدا ليعيده اليه !
__________________
بعد حديثه مع والده الذي تلقى من الصدمات ما يكفي ووعده بأن يتعاون معه و يظل الحديث سرا بينهما هاهو يذهب الى الشركة و يدخل لمكتبه و خلفه مساعدته سلمى التي أبدت فرحتها بعودته و سألته عن صحة السيد رأفت فطمأنها و قال ريثما ينزع جاكيته و يجلس :
- في حاجة حصلت في غيابي.
ردت عليه بعملية :
- حضرتك الاخبار اللي بتقول ان رأفت بيه تعب بسبب مشاكل في الشغل أثرت علينا شويا و خلت بعض المستثمرين عايزين يتأكدو من السيولة اللي عندنا بس عادل بيه و سعد الدين بيه حلو الوضع و أكدو ان كل اللي اتقال كدب ، كمان المستر يوسف و وليد بيه حضرو كل ال meetings المطلوبة يعني الشغل ماشي كويس.
اه صحيح المتدربة مريم بقت من الtrainees الأساسيين و انضمت للاجتماعات مع يوسف بيه اكتر من مرة.
همهم مستطردا :
- طيب املي عليا List of works بتاعت النهارده خليني اشوف عندي ايه.
- في ميتينج واحد لمراجعة الميزانية مع عملاء شركة *** بعد 10 دقايق يافندم حضرتك لو تعبان ومش عايز تنضم مع المجلس هقو....
قاطعها عمار وهو ينهض :
- لا انا مستعد مفيش داعي نضيع وقت اكتر.
بعد انتهاء الاجتماع وعودته للمكتب طلبته سلمى على الهاتف و أخبرته بأن مريم تود مقابلته فسمح لها لتدخل الأخيرة على الفور و تقترب منه بلهفة لم تحاول اخفاءها :
- انت كويس انا قلقت عليك بقالك اسبوع مختفي ومقدرتش اشوفك وكمان متصلتش بيا.
رفع عمار حاجباه ساخرا منها :
- هو مين اللي مفروض يتصل بالتاني لو كنتي قلقانة عليا بجد كنتي سألتي.
مطت شفتها بعبوس :
- لا انا كنت بسأل وليد بيه و يوسف بيه وكمان بتابع الnews من ع السوشيال.
أحس أنها تتعمد استفزازه بكلامها الغبي فاِعتدل في جلسته عاقدا حاجبيه :
- بتسألي اصحابي و بتابعي اخباري من السوشيال انتي مسمعتيش بإختراع اسمه تلفون بتقدري تطلبي رقمي منه و تكلميني ؟ انتي شكلك رايقة النهارده و عايزة تضيعي وقتك بس معلش مليش مزاج تقدري تتفضلي.
اندهشت مريم من تقلبه السريع وكيف انتقل من قمة البرود لقمة الضيق في أقل من دقيقة فقالت برفعة حاجب :
- انت عارف ان حكاية انقلاب مزاجك ف كام ثانية ديه حاجة مش طبيعية صح ؟
تذكر عمار كلام ريماس عندما كان يجلس معها في مرة من المرات بكل هدوء و فجأة غضب حين سألته عن كونه متأكد من شيء ما و قال لها بأنه راشد كفاية ليكون متأكدا فاِبتسمت و قالت له بأنه ذو مزاج غير معتدل لا تعرف متى يكون هادئا و متى ينفعل ، لاحظت مريم شروده و ابتسامه كأنه يتذكر حدثا ما بينما يردد :
- ايوة عارف قالولي قبل كده.
من الذي أخبره بذلك هل ندى أم تلك المدعوة ريماس التي سمعته يكلمها اكثر من مرة و يراسلها ايضا أم اِمرأة اخرى ؟ كتمت مريم هذا السؤال بداخلها وهي تضغط على نفسها كي لا تشتمه لتردف :
- طيب بعد اذنك انا عندي شغل.
استدارت بإتجاه الباب فنهض عمار و لحق بها ليمسكها قبل المغادرة ، قبض على ذراعها و لفها ناحيته فشهقت مريم بفزع :
- في ايه.
حدق بها الآخر بزيتونيته و همس بنفس متسارع :
- قالولي انك بقيتي من المتدربين الأساسيين و من أول المرشحين اللي هيستلمو الوظيفة بعد فترة التربص ما تخلص ... برافو عليكي.
ابتسمت بفرحة سرعان ما تحولت لعبوس وهي تقول :
- بس رأفت بيه مش هيسمحلي لأني خلفت ال deal اللي كان مابيننا و قولتلك ع اللي حصل و كمان عادل بيه هيستغل اي فرصة عشان يطلعني من المولد بلا حمص.
- ايه اللي جاب الحمص لكلامنا مش فاهم.
ردد بعدم معرفة للمثل المتداول بين عامة الشعب فضحكت مريم وهي تردف :
- متشغلش بالك قولي انت قدرت تعرف حاجة جديدة.
ترك يدها و عاد وجهه للجمود وهو يخبرها بأن رأفت بريء و هناك أحد آخر متورط و بينما هما يتحدثان وصله اتصال من وائل ففتح الخط و فعل مكبر الصوت :
- اهلا يا وائل.
- ايوة يا عمار عامل ايه طمني ع صحة والدك.
- بخير الحمد لله بس انت باين عليك مضايق خير في حاجة حصلت ؟
سأله عمار بعدما تبينت له نبرة الإنزعاج ليحمحم الآخر و يغمغم بجدية :
- الصراحة حصل ... احنا لقينا سليم.
اتسعت عينا مريم و نظرت لزوجها الذي جز على أسنانه هاتفا :
- لقيته فين و مع مين ... هو فين دلوقتي.
تنحنح وائل متنهدا :
- مش عارف اقولهالك ازاي والله ... احنا اه لقينا سليم بس مش هنستفاد ... لانه عمل حادث بالعربية امبارح بالليل و اتوفى ...
الفصل الرابع والخمسون : أشواك بدل الورود.
___________________
يكون الطريق للوجهة الصحيحة مليئا بالأشواك ، تدعس عليها أحيانا ، تتفاداها أحيانا أخرى أو تقص أجزاءها و تعبر فوقها ...
ولكن ماذا إن لم تعد المشكلة الوحيدة هي الأشواك فقط بل تطورت و أصبح الطريق نفسه طويلا و بدلا من قطع مسافة الألف ميل ينبغي عليك قطع ملايين الأميال ...
و كلما تقدمت خطوة ... إمتدت المسافة مائة خطوة بالمقابل !!
خرجا من المستشفى و على وجههما علامات لا تدل على الخير كلا منهما صامت لا يجد كلمة لتفسير ما يحدث أو ما رأوه بالداخل ، في لحظة واحدة وبينما أوشكوا على الاقتراب من الحقيقة هاهم يعودون لنقطة الصفر مجددا !
زفر بكبت وهو يدلك صدغيه و اتجه بنظره للسيارة التي تجلس فيها مريم وبمجرد رأت زوجها قادم مع وائل اعتدلت في جلستها و سألتهما فور ركوبهما :
- ايه الاخبار انتو اتأكدتو من الجثة اللي مات ده سليم ؟
لم يجب عليها عمار فتولى وائل دفة الحديث :
- ايوة هو عمل حادثة ع الدائري ليلة امبارح و مات قبل الاسعاف ما يوصل.
ضيقت مريم حاجبيها بأسى ولم تعرف بماذا عليها أن تشعر هل تحزن على موت إنسان بهذه الطريقة أم يبرد قلبها لأن من تعاون على قتل طفلها قد مات أم تغضب لأن الوصول للمجرم الحقيقي بات أصعب من السابق ...
تنهدت و ساد الصمت ليقطعه عمار مغمغما بهدوء :
- في احتمال يبقى الحادث ده مدبر ؟ سليم مختفي من ساعة تعب ابويا ومقدرناش نلاقيه ف اي مكان و فجأة سمعنا انه اتوفى.
- قصدك ان الريس بتاعه قتله لما عرف اننا كشفناهم و هندور ورا سليم ؟ بس هيعرف منين واحنا عاملين نفسنا مش فاهمين اللي بيحصل.
تساءلت مريم باِضطراب فرد عليها وائل بتفكير :
- يمكن قصة خناقة عمار مع ابوه وصلتله و عرف هما اتخانقو ليه و أن عمار بقاله كتير بيدور ع الشخص اللي سممك ويمكن سمع كل الكلام مابينهم كمان علشان كده خلى سليم يختفي من الوسط وبعدها قتله.
طحن الآخر ضروسه وضرب مقود السيارة بسخط و نزق :
- لو سيطرت ع نفسي و مروحتش كلمت رأفت بيه في الشركة مكنش كل ده حصل ... بس مين سمع كلامنا سليم ولا الريس بتاعه معقول يبقى هو قريب مننا للدرجة ديه.
- مش ممكن يبقى مركب جهاز تنصت في مكتبك و مكتب ابوك وبيقدر يعرف كل اللي بيحصل جوا ؟
- لا انا اتأكدت ان مفيش حاجة في المكاتب بتاعتنا وحتى اني بتأكد من التلفونات والعربيات كل فترة وكمان حتى لما بجي لعندك ببقى متأكد ان مفيش حد ورايا.
وائل :
- الشخص ده ذكي كتير لدرجة انه بيبقى قدامنا واحنا مش عارفينه ... على كل حال التحقيقات بدأت ولما تطلع النتايح هنقدر نعرف ان كان الحادث طبيعي ولا مدبر المهم انتو دلوقتي خدو حذركم اكتر من الاول لاننا تقريبا بدأنا نلعب ع المكشوف بس مع ذلك مفيش داعي نعمل اي تصرف يوضح اننا في مواجهته.
تابعوا كلامهم سويا حتى مر الوقت و حل الليل ليوصل عمار مريم الى الشقة و عندما كانت ستترجل من السيارة توقفت أصابعها قبل أن تفتح الباب و شعرت بالتردد من الصعود وهي تعلم بأنها ستكون بمفردها تحت مراقبة قاتل ينهي حياة الأبرياء و الأشخاص اللذين يعملون تحت امرأته دون شفقة ، كادت تطلب منه أن يظل معها هذه الليلة إلا أن عبوسه و ضيقه جعلاها تتخلى عن هذه الفكرة لأنها لا تود ازعاجه اكثر اما الآخر لاحظ شرودها فسألها :
- خير في حاجة ؟
- ها لا خالص.
اجابت مريم بتلعثم فحانت منه نظرة اليها و قال :
- انا عارف انك تعبتي من كتر احداث النهارده بس بكره الجمعة مفيش شغل هتقدري ترتاحي.
هزت رأسها بإيجاب وودعته مغادرة ليبقى عمار ساكنا عدة دقائق ثم ذهب هو ايضا ...
__________________
في ظهر يوم السبت.
ذهب وليد وشقيقته التي عادت من سفرها برفقة هالة ووالدتها و أخيها من أجل شراء الشبكة وبعد إقتناء دبلة الخطوبة و توابعها هاهو وليد يحظى بالفرصة للجلوس معها بمفردهما على طاولة المطعم مع حرص شقيقه على ألا يبتعدا عن أعينهما ...
نظر اليها بإبتسامة وهي ترفع كوب الماء بإرتعاش وترتشف منه القليل محاولة إخفاء توترها و خجلها و لكن إحمرار وجنتيها كشفها فحاول الأخير فتح الحديث بينهما قائلا :
- انا مبسوط اوي النهارده يا هالة اخيرا هتبقى علاقتنا رسمية و قريبا هتكوني في بيتي ان شاء الله.
ابتسمت له مرددة :
- لسه بدري شويا احنا متفقناش ع ميعاد الخطوبة حتى.
- والله لو عليا عايز اكتب كتابي عليكي دلوقتي قبل بكره انا بحلم باليوم ده بقالي كتير ومش مصدق لسه انك قاعدة معايا ... مع ان اخوكي مش سايبنا بنظراته بس معلش.
نظرت بطرف عينيها لأخيها الجالس مع والدتها و شقيقة وليد وتذكرت أن الأخير ظل يترجاه طوال الطريق من أجل منحهم مساحة كافية للتحدث على انفراد حتى وافق بصعوبة ، فضحكت برقة لتتفطن لنفسها و تعود لتصمت حتى تنهد وليد :
- لا و النبي متخبيش ضحكتك عليا عايز اشوفها و اسمعها ع طول.
توردت وجنتا هالة و أخفت بصرها ثم حمحمت متمتمة بخفوت :
- ممكن اقول حاجة ... حرام الحلفان بغير الله.
- ازاي يعني مش فاهم.
رفعت وجهها اليه و بدى لها اهتمامه بما تقوله فتابعت موضحة :
- قال الرسول عليه الصلاة والسلام ( من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) رواه البخاري ومسلم. وقال كمان: (من حلف بغير الله؛ فقد كفر أو أشرك) رواه الترمذي ... المقصود هنا ان حرام الحلفان بغير الله كائنا من كان سواء بالنبي او بالكعبة او بالقرآن ولا حياة حد عزيز عليك.
- حتى النبي عليه الصلاة والسلام ؟
اومأت هالة بإيجاب فهمهم وليد :
- انا مكنتش اعرف ... متشكر اوي ع المعلومة ، حدق بها لثوان و أردف :
- عارفة انا لما شوفتك من سنتين كنت واخد عنك فكرة تانية خالص.
عبست هالة وكادت تستفهم عن مقصده فسبقها بالقول :
- يعني اول مرة شوفتك خانقتيني من غير سبب و تاني مرة هاجمتيني ولما رجعنا شوفنا بعض عاملتيني وحش ف كنت فاكرك انسانة عصبية و متهورة بس لما سألت عليكي اكتر و شوفت ازاي بتشتغلي من قلبك و التلاميذ عندك بيحبوكي و بيحترموكي حتى أدبك و احترامك لأهلي و ان اول سؤال كان ليكي هو اذا انا بصلي ولا لأ خلاني اعرف قد ايه انا محظوظ ببنت زيك و عصبيتك بتاخديها وسيلة عشان تحمي نفسك .... مع العلم اني حبيتك بعصبيتك حتى.
تفاجأت هالة من اعترافه الذي جاء بدون سابق انذار فتصاعدت الدماء لوجنتيها مجددا و ضغطت على الملعقة التي بيدها ليلاحظ وليد ذلك و يبتسم مغيرا الموضوع كي لا يحرجها اكثر ...
_________________
في المساء.
دخل الى ساحة القصر بسيارته بعد يوم قضاه جالسا تحت الأمطار يكاد يجن من التفكير و محاولة توقع هوية العدو الذي يتربص به إلا أنه فشل في ذلك !
حتى شعر بجسده يهمد وقد أصيب بالدوار فقرر العودة وهو لا يحس بنفسه أنه بخير ، دخل ووجد العائلة متجمعة فألقى السلام و صعد لغرفته مباشرة ليغير ملابسه ثم نزل و جلس معهم على طاولة العشاء مرددا بإمتعاظ وهو يطالع والده :
- حضرتك تعبت نفسك و نزلت ليه مش الدكتور قالك تريح ومتعملش اي جهد لحد لما تتعافى.
تنهدت سعاد بسأم :
- والله تعبت وانا بقنعه يفضل في الاوضة بس مرضيش.
ابتسم رأفت برضا من اهتمام ابنه بصحته :
- زهقت وانا قاعد في الاوضة متقلقش انا بقيت كويس الحمد لله ومش بعمل اي حاجة بتتعبني.
سعل عمار بخفة و شعر بإزدياد دوار رأسه لينتبه الى سؤال عادل :
- انت كنت فين يا عمار طول اليوم مشوفتكش في الشركة خالص.
رد عليه بإقتضاب :
- كنت بخلص اجراءات الدفن بتاعت سليم بعدين روحت شوفت اخوه الصغير و عزيته يعني هو بقاله كتير بيشتغل عندنا ده اقل واجب لازم نعمله.
في الحقيقة هو ذهب للعزاء من أجل أن يراقب الحضور و ينتبه على اي شيء غريب على أحد منهم ولكنه لم يستفد شيئا لأن معظمهم من أقاربه و أصدقائه القدماء لا أحد له صلة بعائلة البحيري من اي اتجاه ... تململ مكانه و لم يشعر برغبته في تناول شيء فنهض مرددا :
- الف صحا بعد اذنكم انا تعبان شويا و عايز اطلع ارتاح.
ذهب عمار الى غرفته و رمى بجسده على السرير بإنهاك وهو يشعر بأضلاعه المتشنجة تكاد تتحطم زفر بنزق وهنا دلف رأفت برفقة سعاد ليقول :
- كام مرة قولنالك متقعدش تحت المطر بس انت مبتسمعش الكلام شوف جسمك عرقان ازاي.
أردفت زوجة والده مضيفة بينما تتحسس جبينه :
- و عندك سخونية كمان استنى هعملك مشروب اعشاب يفيدك.
ذهبت رغم رفض فأسند رأسه على مسند السرير و نظر لوالده الذي تحدث مباشرة :
- انا عرفت سليم كان مختفي فين قبل ما يموت هو سافر في القطر بعد حوالي ساعتين من دخولي للمشفى و التذكرة كانت للاسكندرية بعدها فضل حاجز في اوتيل *** و من 4 ايام بالضبط حجز تذكرة cairo/ paris يعني هو كان هيسافر لباريس فليلة الحادث.
استمع له عمار بتركيز محللا كل حرف يقوله و استدرك هاتفا :
- طيب مادام كان هيسافر في الليلة ديه ايه اللي جابه للمكان اللي عمل فيه الحادث.
- مش قولنا حجز ال ticket من القاهرة اكيد لازم يجي عشان يعرف يسافر و...
توقف رأفت فجأة مستوعبا ما يقصده عمار الذي قال بجدية :
- تماما الطريق اللي اتقلبت فيه عربيته معاكس تماما لطريق المطار المفروض سليم يروح من جهة *** بس هو كان في الطريق اللي ... بيوصل لينا احنا.
وكمان مش هو كان متخبي في الاسكندرية ليه محجزش من المطار هناك و سافر ليه حب يحجز من هنا مع انه عارف تماما اننا بندور عليه و احتمال نقدر نقبض عليه بسهولة سليم ذكي و اكيد مكنش هيفكر بالطريقة الغبية والمتهورة ديه.
رأفت :
- قصدك انه كان جاي علشان حاجة تانية غير السفر ؟ طب ممكن جه يشوف الشخص اللي متعاون معاه او جاي لأخوه الصغير عشان يودعه ف اضطر يحجز من هنا عشان ميضيعش وقت ... نتايج التحقيق طلعت ولا لسه ؟
أجابه عمار بالنفي فربت عليه الأخير مردفا :
- متشغلش بالك كتير مسير كل حاجة انها تتكشف مفيش سر هيفضل مخبى.
حينها شرد عمار وهمس :
- بس في اسرار مينفعش تتكشف ابدا.
همهم والده كدلالة على أنه لم يسمع فتنحنح الآخر مغيرا الموضوع :
- انا متشكر ليك بس حضرتك تعبت نفسك انت لازم ترتاح و متعملش اي حاجة لحد ما تخف تماما ساعتها هنكمل اللي بنعمله بس ياريت متثقش اوي في الناس اللي بتشتغل عندك و اه متسيبش حد يقرب من مكتبك او الحاجات اللي بتخصك تلفونك و عربيتك و الورق بتوعك لحد لما نكشف مين الشخص ده.
- متشلش هم انا واخد كل احتياطاتي.
طرق الباب و دلفت سعاد تحمل معها كوبا من مشروب الأعشاب الساخن فشكرها عمار ليقوم رأفت و يخبرها بأنهما عليهما الذهاب و تركه يرتاح.
و بمجرد مغادرتهما أخرج الأخير سجائره و بدأ بإستهلاكها واحدة تلوَ الأخرى لعلها تمتص طاقته السلبية بينما يرسل لوائل تسجيلات صوتية وهو يخبره بالمستجدات و عاد يدخن حتى أفاق على اتصال من الآخر ففتح الخط على الفور :
- اهلا يا وائل ايه الاخبار عرفتو حاجة ؟
- ايوة نتايج التحقيقات و الحادث طبيعي يعني مكنش في مشكلة في العربية وحتى سليم اتوفى بتأثير الحادث ... حتى شنطة السفر مفيهاش غير هدومه وحاجات تانية بديهية و تلفونه كان معاه وبردو مفيهوش حاجة تخلينا نشك وكل ده بيدل ع ان الحادث مكنش مدبر.
تجهم عمار مغمغما بنقمة :
- يعني بردو موصلناش لحاجة مهمة ... طيب ازاي التلفون مفيهوش اي حاجة المفروض يبقى في اتصالات و رسايل من الريس بتاعه ماهو اكيد مكنش بيتواصل معاه بالاسلكي.
- و ممكن كمان كان عنده تلفون تاني و اتخلص منه لما ركب عربيته.
- معرفش انا حاسس بحاجة غريبة نتايج التحقيق نظيفة بشكل مريب و كأن سليم واحد بريء و ملوش علاقة بكل اللي حصل.
- فعلا انا لولا عارف بتواصله مع الدكتور و السباك اللي ركب جهاز التنصت فشقتكم كنت هقول اننا ظلمناه لما اتهمناه.
تنهد عمار ثم سعل بقوة ليقول الآخر :
- انت شكلك تعبت من مشوار النهارده خلاص ارتاح دلوقتي و هنكمل بكره.
أغلق الخط و ظل يفكر في الأمر مرارا و تكرارا و يبحث عن اي جزء ربما غفل عنه حتى أصابه التعب و ازداد ألم رأسه فقرر أن ينام غير أنه تذكر مريم ليبعث لها برسالة يخبرها بكل ما عرفه ثم طلب رقمها و انتظرها حتى ردت عليه ...
في هذه الأثناء كانت مريم جالسة على أحر من الجمر تنتظر معرفة ما حدث معهم من جهة يستحيل أن تتصل بعمار مهما حصل ومن جهة أخرى حتى ان فعلت ذلك فهي لن تستطيع التكلم في الموضوع براحتها لأنها تحت المراقبة لذلك يبدو أنها ستصبر ليوم غد.
قاطع تفكيرها وصول رسائل من عمار يحكي فيها عما عرفه وثم أخبرها بأنه سيتصل بها و يكفي أن يتكلم هو فقط ففتحت الخط متمتمة :
- الو
- ازيك.
- كويسة وانت.
دلك عمار صدغيه مهمهما :
- انا كمان كويس.
لاحظت وجود بحة و ارهاق في صوته و كانت ستسأله عن ذلك لولا سبقها وهو يقول :
- بصي انا عارف انك مش عايزة تقعدي في الشقة ديه لوحدك عشان مش واخدة راحتك فيها بس انتي عارفة كويس اننا مبنقدرش نعمل حاجة او نبين اننا فاهمين ايه اللي بيحصل حوالينا.
سعل مجددا و تابع بصوت مثقل :
- بس اتأكدي بأننا هنوصل للشخص اللي بيلعب علينا مهما عمل عشان يخبي نفسه انا مش هسيبه و هفضل وراه لحد لما الاقيه.
همهمت مريم بإيجاب و أردفت :
- باين من صوتك انك مش كويس ايه اللي حصل.
و قبل أن يجيبها طرق باب غرفته و دلفت ندى هاتفة :
- Sorry على المقاطعة بقدر ادخل.
صمت عمار مدركا أن صوتها وصل لمريم التي تأففت متمتمة بغيظ :
- انا هقفل دلوقتي.
و حين كانت ستغلق توقفت مفكرة بأنه يجب عليها سماع ما يدور بينهما ، ولم ينتبه عمار ل أنه مازال على قيد الاتصال فوضع الهاتف بجانبه على السرير قائلا :
- طبعا اتفضلي.
ابتسمت له و دخلت حاملة معها بعض الأدوية :
- انطي طلبت من الشغالة تجيبلك البرشام ده بس انا خدته منها وجبتهولك ومنه بقدر اطمن عليك.
استلم منها الدواء و كأس الماء شاكرا اياها فاِستطردت ندى بعبوس :
- Unbelievable, معقول شربت سجاير وانت تعبان كمان هتستفاد ايه من الدوا و الشاي اللي عملتهولك.
رفع عمار حاجباه بدهشة :
- انتي اللي عملتيه.
أماءت بإبتسامتها المعتادة :
- ايوة انا لاني عارفة انت بتشربه ازاي فاكر من كام سنة كده لما احنا الاتنين قضينا الليلة برا و انا صممت ناكل ايس كريم و مرضنا في نفس الوقت.
انتقلت ابتسامتها اليه تلقائيا وهو يجيب :
- وانا دخلت للمطبخ و عملت الشاي ده و خفينا فورا.
تذكر انه أعد نفس المشروب لمريم عندما زارها في الشقة قبل سنتين ووجدها فاقدة الوعي فقضى الليلة يعتني بها حتى تأكد من أن حرارتها انخفضت حينها استلقى بجانبها وهي توليه ظهرها باكية بسبب مشاجرتهما و كيف أذاها بكلامه عندما طلبت منه أن يعلن زواجهما.
تنهد عمار و أفاق على ابنة عمه التي وضعت يدها عليه تتلمسه بينما تردد :
- انت عرقان كويس مع ان مينفعش تفضل قالع التيشرت كده هتتعب اكتر.
أبتعد الآخر عنها مغمغما بهدوء :
- انا مبقدرش انام وانا لابس من فوق.
- ايوة عارفة ... المهم لو كنت عايز حاجة انا و انطي سعاد و اونكل رأفت هنا ماشي يلا Good night.
ودعها عمار و التقط هاتفه مجددا فتفاجأ بأن المكالمة كانت قيد التفعيل و تم انهاؤها قبل نصف دقيقة فقط هل هذا يعني أن مريم كانت تستمع للحديث ألم تخبره بأنها ستغلق الخط ؟
لعق شفته السفلية و طلب رقمها فرفضته على الفور جعد الأخير جبينه بضيق و غيظ منها فهي تعلم جيدا أنه يكره هذه التصرفات الصبيانية ولكنها تريد استفزازه لذلك قال :
- طيب لو مش عايزة تردي براحتك.
*** من الناحية الأخرى كانت مريم كمن ألقوا عليها كُتلا من الجحيم ليحمر وجهها بهذه الطريقة الفضيعة تجز على أسنانها بعصبية و تحرك ساقها متذكرة الحدث الذي دار بين زوجها المزعوم و مدللته.
في البداية تدخل الى غرفته في منتصف الليل ممثلة دور البريئة التي تود الاطمئنان على ابن عمها ثم تمازحه و تذكره بأيامهم في الماضي و تقلق عليه أيضا ، ما شأنها هي بمرضه كيف تذهب اليه رغم كل المشاكل التي حصلت و بأي صفة تعاتبه لأنه يدخن و تقول له أنها موجودة في حال أراد شيئا.
هل لمسته وهو جالس أمامها بدون قميص أيضا ياللروعة !
سحقا له و لها و للغيرة التي تنهشجها من الداخل الآن.
رن هاتفها بإسمه فقطعت الاتصال مرددة :
- لما انا اسأله بيقولي انه كويس بس لما تجي الهانم عشان تديله الدوا بيضحك و بيهزر معاها و يشكرها طيب خلي المسكينة البريئة بتاعتك تنفعك.
عقدت مريم يديها أمامها ممررة بصرها في كل مكان وهي تمثل على نفسها بأنها لا تهتم إلا أنها لم تستطع تحمل فضولها فنظرت بطرف عينها للهاتف مفكرة :
- هو مش هيرجع يرن عليا تاني ... طبعا عمار مبيحبش اللي بيقفل في وشه قال ايه عنده كرامة و انا مالي ان شاء الله عمره ما يتصل.
... بعد خمس دقائق.
- طيب اتصل تاني و هرد عليك المرة ديه.
تمتمت بيأس مطالعة الهاتف حتى رن فاِنتفضت واقفة وهي تضحك ثم انتظرت قليلا و عدلت من نبرة صوتها لتجيب ببرود مصطنع :
- افندم خير.
ابتسم عمار عند سماع صوت نفسها الذي يتسارع في حالة انفعالها او حماسها مما يعني أنها كانت تنتظر اتصاله ، فتنحنح قائلا بهدوء :
- انتي قولتي هتقفلي ومعملتيش كده ليه ولما اتصلت عليكي فصلتي الخط فوشي.
لفت مريم حول نفسها و مسحت على وجهها مفكرة في جواب سريع حتى تشدقت ممثلة عدم الاكتراث :
- ايوة انشغلت بحاجة تانية ونسيت اقفل وبعدين انا مش مضطرة ارد عليك في الوقت ده لاني كنت هنام بس ليه حصل ايه.
- مفيش ندى جت تطمن عليا وانا قلت ممكن مريم تسمعها وتفهم غلط اقوم انا اصحى بكره ع فضيحة جديدة عملتهالي.
راوغها عمار بمكر و استفزاز فأغمضت الأخرى عينيها بعصبية و منعت لسانها بصعوبة من نطق جميع كلمات الشتم التي تعرفها ، غير أنها قاومت لكي لا تظهر مابداخلها فتمتمت بإستهجان :
- وانا مالي بيك وبندى بتاعتك شكلك زي العادة واخد مقلب في نفسك وفاكر انك محور الكون صح.
انتظرت رده ولم يفعل فسألت :
- الو عمار انت معايا ؟ ساكت ليه.
تنهد بينما يشعل سيجارته :
- بفكر لو لسانك بقى طويل بعد السنة ونص اللي غبتي فيها ... ولا انتي من الاول كنتي وقحة كده بس رسمتي عليا دور المسكينة.
- انا وقحة يا سلام و ايه تاني عايز تقول ايه كمان.
حينها تغيرت نبرته و تثاقلت أنفاسه وهو يجيبها بتهدج :
- مش عايز اقول ... انا عايز اعمل.
شهقت مريم بتفاجؤ و تسارعت نبضات قلبها لتتلعثم مدعية العصبية :
- وبتقول عني وقحة وانت وقاحتك ملهاش حدود.
- استني انتي عقلك راح فين انا بقصد اني عايز انام لاني تعبت.
هدر كاتما ضحكته وهو يجزم بأنها على وشك الإنفجار فتأففت مريم بنزق ثم هدأت نفسها وهي تردف :
- انت عندك دور برد ولا ايه متقولش انك فضلت قاعد تحت المطر النهارده ... ليه بتعمل كده و بتتعمد تأذي نفسك.
تقلصت ابتسامته و عادت ملامحه مستكينة يرد عليها :
- انا اتأذيت بما فيه الكفاية و كام قطرة مطر مش هتعمل اكتر من اللي اتعملي من الناس المقربين ليا.
استطاعت التقاط الغصة التي شابت حلقه عند نطقه لآخر جملة فتنفست بعمق وهي تشعر بالأسى عليه اكثر من نفسها ... على الاقل هي لم تتعرض للخيانة من أبيها و من الشخص الذي اعتبرته يدها اليمنى و تلقت إتهامات بشعة زيادة على أنها محاطة بأعداء يتربصون بها ، تنهدت و حاولت مواساته فقالت :
- مش انت بتقول ان كل حاجة هتتكشف وهنعرف مين اللي بيلعب علينا انا واثقة فيك و متأكدة انك هتقدر تتجاوز كل حاجة ... احم اقصد يعني انا وانت و وائل بيه.
نفث عمار دخان السيجارة و عاد برأسه الى الخلف قائلا لها في نفسه أنه يستطيع حل كل شيء ... مادامت هي معه ...
___________________
أسندت يديها على طرف الجسر المطل على نهر النيل و غاصت عيناها في الاشيء بينما يقف هو أمامها بنفس الوضعية متذكرا أنها اتصلت به صباحا و طلبت منه أن يقابلها و هاهما يقفان بمفردهما في هذا المكان و الصمت يعم الأرجاء إلا من زفراتها الحزينة ...
نظر اليها وهي ترتدي معطفا من اللون الأبيض مع حذاء بعنق طويلة و تسدل شعرها الحريري الجميل على جانبيها معطيا لها شكلا آسرا خاصة مع الشال الأخضر الفاتح و الشبيه بلون عينيها ... وجد يوسف نفسه قد تاه في جمالها فحمحم مستعيدا ثباته و تحدث :
- ندى انتي ساكتة من لما جيتي ... Did something happen ؟
ابتسمت بتهكم عند سؤالها ان كان قد حدث شيء ما و ردت :
- صدقني انا نفسي مش عارفة ايه اللي بيحصل حاسة اني تايهة ومش قادرة استوعب حاجة.
- عمار تاني ؟
مطت شفتها ببؤس و نظرت اليه هادرة :
- لما ميكونش قدامي مبفكرش فيه خالص يعني برجع ندى القديمة اللي همها الماركات و السوشيال و الphoto sessions ( جلسات التصوير ) اللي بعملها.
بقضي يومي وانا بهتم بنفسي وبعدها بروح لدور الأيتام اللي انت بعتلي عناوينهم من فترة بحس ساعتها اني مبسوطة بس اول ما بشوف عمار ... بحس بحاجة غريبة يعني انا كنت متعودة اضحك و اهزر معاه بس دلوقتي كل حاجة متغيرة انت فاهمني يا يوسف.
استمع اليها بهدوء ثم قال بمنطقية :
- انتي بتنسيه لانه مش موجود في قلبك اصلا عمار موجود في ذكرياتك الجميلة و تلقائيا لما تشوفيه بترجعي تفتكري لحظاتكم مع بعض زيه زي اي حد تاني و تزعلي لانها خلصت بطريقة سيئة.
لو بتحبيه بجد مكنش هيغيب لحظة عن بالك هتفتكريه في الليل و النهار و فكل ثانية لان الحب كده.
تأملته ندى شاعرة بكل حرف يقوله لتتساءل بتردد :
- انت بتحس بالحاجات ديه اتجاه مريم ؟
حينها لا تعلم لماذا ارتاحت عندما أجابها يوسف نافيا :
- مشاعري لمريم كانت اعجاب حسيته بيتطور مع الوقت بس اقتنعت انها مش ليا ... هي و عمار بيحبو بعض و مينفعش اخون صاحبي.
- هنعمل ايه عشان منفكرش فيهم تاني طيب.
- هنحاول ننساهم و نصنع ذكريات جديدة مع ناس جديدة.
- ازاي هنقدر نعمل كده و مع مين ؟
هتفت ندى بحرقة وقد دمعت عيناها بيأس من حالتها فإقترب منها الآخر و وضع أصابعه على وجنتها البيضاء يمسحها بلطف متهدجا :
- بيقولو ان الدموع بتزيد الجمال وده بينطبق عليكي ... يعني الواحد مبيعرفش ان كان لازم يمسح دموعك او يخليها تنزل عشان يتأمل في العيون الحلوة ديه.
توردت وجنتاها و أصاب معدتها مغص مفاجئ جعلها تتأوه بدون شعور منها فأخفض يوسف رأسه ناحيتها يتأمل هذه الفتاة التي شغلت حياته منذ أيام ...
مرة وهي تبكي في الحديقة ومرة وهي تشكو وتضحك في المطعم ، أحيانا عندما يلتقي بها في حفلات الشركة وأحيانا في السهرات التي ينضمها الأصدقاء المشتركين انتهاء بجولاتهم معا على هذا الجسر و زياراتهم للأطفال الأيتام ...
لقد رأى ندى الحقيقية بعيدا عن وسائل الاعلام و التواصل الاجتماعي ، لم تخجل وهي تبكي أمامه و تريه ضعفها الذي تخفيه عن بقية اصدقائها لكي لا تفسد صورتها في أعينهم ، ثم رأى لطافتها و عفويتها مع الأطفال وهي تلعب معهم على الأرضية التي عادة ما تجعل الخدم ينضفونها أكثر من مرة حتى تستطيع أن تدوس عليها !
حينها علم ان خلف هذه الفتاة المدللة توجد طفلة بريئة فقدت الحق في التصرف بحرية بسبب " الشكل العام "، و تعلقها بعمار لم يكن سوى لأنه الشخص الوحيد الذي سمح لها بإظهار هذه التصرفات دون أن يصرعها بقول أنها لا تليق يإبنة عائلة البحيري !
و ريثما هو شارد بها لم يلحظ اقترابهما الزائد الذي ولد حرارة معاكسة للجو البارد المحيط بهما ، و التصقت شفتيهما في قبلة لم تكن بالحسبان !
قبلة استمرت لثوان فقدت فيها ندى قدرتها على الوقوف بصلابة فقبض يوسف على خصرها هامسا وهو يلهث :
- ندى ... تتجوزيني ؟