رواية نيران الغجرية الفصل التاسع والثلاثون39والاربعون40بقلم فاطمة أحمد
الفصل التاسع و الثلاثون : حرب صامتة.
"يحدث احيانا أن تنتهي حكاية الأنثى بصمت ...
و صدى ذلك الصمت أحدث انهيارا في كسرة قلبها ...
ترى من تخلى عنك في منتصف الطريق ... ترى قائمة من الخذلان ..."
خريف بلا مأوى
تمر على الإنسان لحظات لا ينفع فيها صراخ ، بكاء أو جدال و تبرير ، حين لا يجد رد فعل يناسب الموقف الذي يعايشه ، فينعقد لسانه و يكف عن الكلام ...
و هذا ما حدث لهما بعدما خيم الصمت المهيب على المكان إلا من صوت عجلات السيارة التي نهبت الأرض تشق طريق العودة.
تركزت أنظارها على الطريق بعينين غائرتين بوجع عظيم بعدما ألقت أول سر بجعبتها ، و تذكرت مريم وجهه الذي تشنج وهي تحدثه عن مقطع الفيديو فاِختفت الثقة التي كانت تنضح من وجهه و سكت عن الحديث حتى ظنته أصيب بالبكم ! حينها ظل يطالعها بضياع حتى و بدون أي شيء يعبر عن مشاعره في تلك اللحظة.
كان مثل الجماد تماما وحقا هي لا تعرف كيف فعل هذا.
و هاهي تعود معه بعدما فتح الباب و أشار لها بالصعود لسيارته ، و كل هذا من دون التنبس ببنت شفة !
تنهدت مريم بحرقة من هذا الألم العظيم ، عندما رأت مدى ثقته بنفسه وهو يخبرها بأنه لم يخنها كادت تقتنع و تمنت لو ينفي اتهمامها ، ان يخبرها بأن المقطع مزيف مثلا أو هي من أخطأت في النظر بسبب تأثرها بألم بطنها.
تمنت لو يبرر لها بأي حجة غبية لا يستوعبها عقل طفل و لكنه لم يفعل ، بل أخفض عيناه بذنب أكد كلامها ، فتحطمت آمالها التي رسمتها هذه الليلة !
أما هو فكان شاردا في عالم آخر ، لا يصدق أن مريم كانت طوال هذه المدة تعرف بشأن تقبيله لندى ، تلك اللحظة التي اخطأ فيها سهوا ومن غير وعي منه قد كلفته الكثير.
مريم رأت كل شيء وسط ألم إجهاضها و كرهته لهذا السبب ، و لكن كيف حدث هذا من الذي صور المقطع و أرسله لزوجته ، يا الهي اي عائلة هذه قد كُتب له العيش معها و اي نوع من المؤامرات الرخيصة هذه التي تحاك ضده.
ضغط بيده على على المقود حتى ابيضت أطرافها ثم حاد بعينيه نحوها فرآها متكئة على النافذة بإرهاق و بؤس ، اذا هذا هو سبب إدعائها الدائم بخيانته و الدافع للإنتقام منه فهي شاهدت تقربه من أخرى بعينيها و عندما طلبته لم يجبها ، كيف سيستطيع التبرير لها و إخبارها بأنه كان تحت تأثير الأدوية وقد رآها هي بدلا من ندى و تخيل نفسه يقبلها هي لا غيرها.
من اين ستصدقه وهو من تبكم عندما واجهته ، تنهد بتعب و تابع طريقه حتى وصلا إلى البناية فخرجت مريم سريعا قبل أن ينطق بكلمة واحدة و صعدت لشقتها.
بينما اختفى جمود عمار و حل مكانه السخط الشديد فإنطلق مجددا نحو القصر و اقتحمه كالإعصار صارخا بقوة :
- سعاد هانم !
انتفضت تلك الجالسة في الصالة مع فريال و ارتعبت من حالته هذه فنهضت و اقتربت منه بسرعة متسائلة بقلق :
- عمار في ايه خير ايه اللي حصل.
وضعت يدها عليه فصدمها عندما أبعدها عنه و رشقها بنظرات لم ترها من قبل ثم وجدته يحدق فيها بأنفاس متقطعة حتى غمغم :
- انتي اللي عملتي كده صح ... انتي اللي صورتي الفيديو.
عقدت حاجبيها بعدم فهم بينما اندهشت فريال و اصفر وجهها بخوف من أن يكون قاصدا لما خطر في بالها الآن أما هو فتابع بحدة :
- ولا انتي يا فريال هانم ... مين اللي استغفلني.
- عمار انا مش فاهمة انت بتقول ايه اهدا شويا و اتكلم بالراحة.
هتفت سعاد بعتاب فتقلصت شفتاه في ابتسامة ساخرة و تكلم دفعة واحدة دون مقدمات :
- من سنة ونص جيتي و قولتيلي ان ندى حكتلك انتي أمها ع اللي حصل بيننا و عاتبتيني عشان قربت منها و انا عشان حسيت بالذني اتجاهها و لأني كنت مش عارف افكر بسبب غياب مريم قررت اخطب ندى ... مش كده.
بس النهارده عرفت ان في فيديو كان متصور لينا احنا الاتنين و واحد من القصر هو اللي عمل كده ... مين هو.
اغضمت سعاد عينيها عند رؤية الإتهام ينضح منه إعتقادا بأنها هي من خططت ضده فطأطأت رأسها ولم تجبه ، غير أن عمار لم يكترث بمشاعرها لأول مرة وهو يردف :
- اما انتي او فريال هانم او حد من الخدم مفيش غيركم و مدام مش عايزين تردو عليا انا هسأل اللي شغالين هنا.
و حينما أدركت أن عمار فقد أعصابه حقا ولن يهتم اذا تداول الخدم الأمر على ألسنتهم و شاع في الخارج شهقت فريال و رددت سريعا :
- انا اللي عملت كده ... في اليوم اياه انا كنت رايحة لأوضة بنتي عشان اشوفها بس سمت صوتها وهي بتعيط في اوضتك ولما وصلت لقيتك ...
تحولت نبرتها الى الغضب و هاجمته :
- انت كنت مقرب منها وانا اضطريت اصوركم عشان محدش هيصدقني لو اتكلمت من غير دليل ... اضطريت اعمل كده عشان بنتي.
ضحك عمار عليها و ناظرها بإستحقار معلقا :
- عشان بنتك ؟ انتي لو ندى كانت بتهمك بجد مكنتيش هتستني تصوريني وانا مقرب منها لأ كنتي هتجي و تقلبي الدنيا ع دماغي و تفضحيني بس انتي عملتي ايه ... طمعك خلاكي تصوريني و تبعتي الفيديو ده لمراتي مش كده.
- ايه ؟
شهقت سعاد بذهول و فتحت عيناها بإتساع غير مصدقة لما تسمعه و طالعت فريال مهمهمة :
- انتي ... انتي كنتي عارفة انه متجوز ؟
زفرت الأخيرة و جزت أسنانها بغيظ لأنها فُضحت و تم اكتشاف ألاعيبها فإضطرت للإعتراف :
- لأ انا افتكرتها عشيقته و جبت رقمها من تلفونه لما نسيه في مرة وهو مفتوح ... مكنتش اعرف انها مراته و بعدين انت ازاي تجيلك الجرأة تطلعني الغلطانة على الاقل انا عملت كده علشان عارفة ندى متعلقة بيك و افتكرت البنت ديه واحدة رخيصة و قررت ابعدها عنك علشان بنتي بس انت عملت ايه ؟ كنت عامل نفسك مش مهتم بيها وبتقول عليها انها بنت عمك وصديقتك بس بعدين انت استغليت انجذابها ليك و قربت منها.
هز عمار رأسه ثم شد شعره غير مصدق لمدى نفاق هذه المرأة الخبيثة وكيف أنها تستغل كل شخص من أجل مصالحها حتى لو كانت طفلتها الضحية.
ثم رمقها بإشمئزاز و همس بقوة :
- مش انا اللي قربت ... انا كنت واخد دوا عشان انام و مكنتش في وعيي لما لقيتها قدامي افتكرتها مراتي فممنعتهاش لما باستني ... بنتك هي اللي قربت مني مش انا !
انفجر صارخا في آخر جملة بكل قوته وهو يجد نفسه مجبرا للتفسير و كشف حقيقة أن ابنة عمه هي من قامت بهذا الشيء وليس هو.
عمار لم يكن يريد أبدا فضحها و اكتفى بتحمل الخطأ بمفرده طوال هذه المدة ، لكنه لن يفعل بعد الآن ، لن يراعي مشاعر و سمعة عائلته التي تحيك المؤامرات ضده ، حتى لو اضطر لتعرية فضائحهم.
حانت منه لفتة لأعلى الدرج و اندهش عندما وجد ندى بجوار أختها و يبدو من دموعها أنها سمعت كل شيء ، عمار لم يرد إبكاءها و فضح تهورها لكنه صدقا لا يملك خيارا غير هذا ...
بينما ندى قد شعرت بألم يكوي قلبها ويساوي بكرامتها الأرض وهي تسمعه يعترف بأنه لم يكن يقصد الاقتراب منها بل كان يتخيل زوجته.
حسنا هي تعترف أن المبادرة منها ولكن ماذا تفعل ان كانت قد فقدت سيطرتها على مشاعرها اتجاه من أحبته ، أين يكمن الخطأ في التعبير عن حبها ، أم أن هذا الحب نفسه هو الخطأ من الأساس.
تعلقت مشاعرها برجل لا يراها سوى ابنة عم و صديقة ، ولن يراها كحبيبة أبدا.
حركت قدماها و انسحبت الى غرفتها تفتح الباب بعنف و كأنها ستقتلعه من مكانه ثم انهمرت في الصراخ و البكاء و تحطيم محتويات طاولة الزينة بهستيرية حتى بح صوتها و جاءت شقيقتها من خلفها تهدئها من جنونها مرددة :
- اهدي يا ندى متعمليش في نفسك كده.
- سمعتي عمار قال ايه يا منال هو قال انه مكنش شايفني وقت قربت منه و فكرني مراته و اتجوزني عشان زن مرات ابوه عليه بس هو محبنيش !
- هو مبيستاهلش دمعة واحدة منك خلاص انسيه و كملي حياتك من غيره.
هتفت منال بشفقة عليها و في هذه اللحظة دخلت فريال التي انصدمت من حال الغرفة فصرخت عليها بغضب :
- بطلي الجنان اللي بتعمليه ده انتي بنفسك سمعتي عمار قال ايه مفيش داعي تفضلي متعلقة بيه انسيه كأنه مكنش موجود في حياتك.
تصنمت ندى تستمع لكلماتها ثم ابتسمت و التفتت اليها معلقة :
- انساه ؟ حاضر هدوس على زرار قلبي و انسى عمار و الفترة اللي كنا فيها مع بعض اساسا ده اللي انتو عايزينه صح حبيه يا ندى ارتبطي بيه يا ندى اتمسكي بيه لا خلاص انسيه و حبي حد غيره ههه و انا طبعا همشي ع كلامكم.
توقفت تلتقط أنفاسها بصعوبة قبل أن ترفع اصبعها مشيرة به عليهما وهي تهدر بإتهام :
- انتو السبب في اللي انا فيه دلوقتي انتو اللي زنيتو عليا و قعدتو تقنعوني بأن عمار بيحبني لحد ما صدقتكم و بقيت اجري وراه ... لولا كلامكم عليه كنت هفضل شايفاه ع انه My cousin وبس.
و ده كله بسبب حبك للفلوس يا ماما ... حضرتك دمرتيلي حياتي.
سقطت دمعة من عين فريال التي تبلمت وهي تحدجها بدهشة ولا تقوى على الحديث ، كانت هذه أول مرة تواجهها ابنتها بمشاعرها و بالفعل هي لم تخطى في اتهاماتها ، هي محقة في كل شيء لقد حولت حياة ابنتها الى جحيم بسبب طمعها ولم تكسب شيئا في النهاية ...
_______________
بعد مرور يومين.
دخلت الى الشركة بخطوات ثابتة و وجه جامد يصعب على من يلمحه توقع ما تفكر به ، و بمجرد ولوجها الى قسم الترجمة صادفها يوسف الذي شقت الابتسامة وجهه حينما رآها :
- مريم.
ثم تمالك نفسه و أخفى لهفته الواضحة عليها مستدركا :
- good morning ... مدام مريم.
بادلته الابتسامة بإحترام و ألقت عليه التحية فتابع بحذر :
- احم سوري لو كنت بتدخل في حاجات مش بتخصني بس انا ملاحظ عليكي من يومين انك متغيرة يعني من وقت لما طلعتي مع عمار ... Is everything okay ؟ ( هل كل شيء على ما يرام ).
تنهدت مريم و هزت رأسها بإيجاب :
- انا بخير متقلقش عليا ... بعد اذنك.
تجاوزته و ذهبت لتجلس في مكانها تحت نظرات مجموعة من المتدربين اللذين يترصدون حركاتها و يعلقون في الخفاء على كل ما تقوم به و هي تعلم ذلك جيدا لكنها لا تهتم ، أساسا هي لم تعد تكترث بما يقال عليها في هذه الشركة او بمكان آخر ...
بينما من الناحية الأخرى كان هو يراقبها بواسطة الكاميرات المركبة في كل قسم من أجل متابعة الموظفين إلا أنه هذه المرة كانت عيناه معلقة على امرأة واحدة دون سواها ، و رأى كيف ابتسمت لصديقه بدبلوماسية فإنكمش وجهه بحدة و غيرة ليس من يوسف بالطبع فهو يتعامل مع الجميع بلطافة.
و لكن لأن مريم ترمي الابتسامات حتى لعابر السبيل أما هو فترشقه بنظرات الغضب و القرف.
تنهد بخنق ثم نهض و اتجه الى قاعة الاجتماعات و بمجرد جلوسه و البدء فيه نطق أحد اعضاء مجلس الادارة :
- حضرتك يا عمار بيه احنا كنا متفقين نبدأ المشروع الأسبوع ده بس حتى الميزانية لسه متكلمناش عليها و الوقت بيعدي.
تابع عضو آخر :
- الزباين بيتصلو علينا بس لسه بنأجل مواعيدنا معاهم مش شايف أن التأخير ده بيأثر على الشركة ؟ قول حاجة يا رأفت بيه احنا صوتنا على عمار بيه و خلينا المدير التنفيذي علينا بس من لما حصلت المشكلة بتاعتكم ....
قاطعه عمار مغمغما بنبرة قاتمة :
- انا معترف اني مقصر الفترة ديه مش هنكر بس زي ما اتجاوزنا أزمات كتيرة من قبل هنقدر نتجاوز الأزمة ديه كمان.
تنهد رأفت بإستياء بينما هتف شريك معهم معقبا عليه :
- و ازاي هنقدر نحل مشاكل الشركة وانت مش قادر تحل مشاكلك الشخصية و مخليها تأثر علينا احنا ملناش ذنب ف اللي بيحصل بينك و بين زوجتك و المفروض تبقى محترف و تقدر تفصل بين حياتك و شغلك بس بدل ما تعمل كده دخلت مراتك للشركة ...
التف عمار ناحيته سريعا و كاد ينهض لكن يد رأفت التي ضغطت على ساقه منعته من ذلك ، ف اكتفى بمطالعته بحدة و غمغم بتحذير :
- اولا انا هبقى مبسوط لو محدش فيكم جاب سيرة اللي يخصني هنا ... ثانيا انا وعدتكم احل الموضوع و هبقى قد وعدي و اللي عارف شغلي و ازاي وصلت للمنصب ده بيعرف اني دايما ببقى اول واحد يلاقي حلول لكل أزمة.
و مع ان الخسارة مستبعدة بس لو خايفين تتأذو من الناحية المالية ف انا مستعد اعوض كل واحد منكم و اتحمل الخساير لوحدي لو حصلت.
- عمار !
همس والده بتفاجؤ و تحذير من اندفاعه لكن الآخر طمأنه بهزة من رأسه و كأنه يخبره بأنه على علم بما يقوله ، فاِبتسم رأفت و التف الى بقية الحضور ليكملوا اجتماعهم.
و بعد ساعتين انهوا عملهم فنهض عمار و خرج مباشرة الا ان رأفت أوقفه مناديا اياه.
استدار اليه بوجوم فقال الآخر بجدية :
- انا مش هقولك انت ليه مواجهتنيش لما عرفت اني انا اللي كنت بصعب عليك توصل لأسرار مريم ... ولا هسألك ليه اتخانقت مع سعاد اللي بتعتبرك ابنها و بقالك يومين مجيتش للقصر.
بس المفروض بعد الاجتماع ده تبقى فهمت كل حاجة و عرفت ليه انا بحاول ابعدك عن الست ديه ... قارن بين حالتك و شغلك زمان و بين حالك في الشهرين دول و استوعب اللي بيحصل.
صمت لثوان ثم وضع يده على كتف ابنه و أكمل هامسا :
- انا قبلت اشغل البنت الغجرية ديه عشان تشوف بنفسك و تعرف انها هتدمرك يبقى لازم تلحق نفسك قبل ما تخسر كل حاجة انت بنيتها.
ربت عليه مرتين و غادر و لأول مرة لا يجد عمار ما يجيب به على والده لأنه من الأساس لم يجد له ثغرة او خطأ واحدا في كلامه.
و اللعنة ألف مرة لأنه محق في كل حرف قاله.
ضغط على أسنانه بإنفعال وهو يدلك عنقه ثم تحرك متجها لخارج الشركة و في طريقه صادفها ...
كانت تحمل الملفات لكي تأخذها إلى المسؤول عن تدريبها و عندما رأته تسمرت قدماها في الأرض بتلقائية و بقيت ترمقه بضياع متوقعة أن يتكلم معها لكنه خيب ظنونها حينما ابعد ناظريه عنها سريعا و تجاوزها مغادرا ...
تفاجأت مريم و همست :
- هو ماله عامل كده ليه ... ده حتى مبصليش ولا...
استفاقت من أفكارها و ضربت جبينها زاجرة نفسها :
- و انتي مالك بيه يعني كنتي متوقعة يجي يكلمك مثلا و يبررلك ... حقيقته انكشفت اساسا و مقدرش ينكر اللي قولته يبقى مفيش داعي نزود في الكلام و هو اللي قت...
أوقفت جملته و استغربت عندما وجدت نفسها عاجزة عن القول بأن عمار هو من قتل طفلها ، لا تعلم سبب هذا و لكنها منذ ذلك اليوم الذي انهارت فيه فاِحتضنها و أقسم لها بأنه كان سيعلن زواجهما و رأت الدموع مترقرقة في عينيه أصبحت متخبطة في مشاعرها و غير واثقة من اتهاماتها ، و الآن باتت متيقنة من أنها ضعيفة أمامه.
ربما هو المجرم الحقيقي ولكنه سيتمكن من خداعها و تغيير مسار فكرها اذا واجهته ، حينها ستفقد القضية التي تسعى اليها !
________________
بمجرد ركوبه السيارة لمح وليد يتجه نحوه و يشير له بالتوقف ثم فتح الباب الأمامي و ركب بجواره مرددا بأنفاس لاهثة :
- كويس اني لحقتك تقدر تمشي دلوقتي.
رفع حاجباه بغرابة و تساءل بعدم فهم :
- امشي اروح فين و انت بتعمل ايه هنا اساسا يا بني مش عندك عربية.
تنهد و رفع يده دون مبالاة :
- الشوفير بتاعي اضطر ياخد اذن و مشي و انا مليش خلق اسوق النهارده خدني معاك في اي داهية انا لازق فيك.
- يوسف لو سمع الالفاظ اللي بتقولها ديه هيجيب أجلك.
عقب عليه عمار ساخرا فضحك وليد عليه :
- لو عرف اننا طلعنا سوا و مقولنالوش هيجيب أجلنا احنا الاتنين ف امشي بسرعة قبل ما يعرف هو عنده شغل كتير النهارده مش هيقدر يشبط معانا.
ابتسم عمار ولم يجبه فهو يعلم جيدا أن صديقه لحق به من أجل التخفيف عنه و هذه الحركات الصبيانية ما هي إلا محاولات منه لتعديل مزاجه ، لذلك انطلق مسرعا و سار في طرق عدة دون وجهة محددة حتى توقف عند إحدى الشوارع النائية و المغطاة بالأشجار و النباتات فترجل هو و تبعه الآخر ثم استندا على مقدمة السيارة و ساد الصمت بينهما ...
حتى قطعه وليد بجدية نادرا ما تظهر :
- انت محتار تعمل ايه صح ، حاسس نفسك بتلف في نفس المكان ومش عارف توصل لطرف الخيط ، و في نفس الوقت شايف ان محاولاتك ديه بتخسرك في حاجات كتير فمحتار توقف ولا تكمل.
نفث عمار أنفاسه بإرهاق و برطم :
- من جهة حياتي و عيلتي و شغلي و من جهة التانية مريم ... انا بحس بعجز غريب لما اشوفها قدامي و بيبقى مش هاين عليا اؤذيها ولا اجرحها بكلمة سايبها تفرغ كل غضبها و كرهها ومش عارف اعمل حاجة ليها هي بالذات.
لوى شفته بتهكم ساخرا من حالته و علق :
- مين كان متوقع عمار البحيري يبقى بالضعف ده قدام واحدة ست لو كان حد غيرها كنت ...
- لو حد غيرها فضحك وعملك مشاكل في حياتك و شغلك كنت انت محيته من الوجود و مصبرتش عليه حتى لو الغلط منك.
أكمل وليد عنه بثقة ثم جعد وجهه و تابع بجدية :
- بس انت لازم تفوق لنفسك بقى لان حالتك ديه خلتنا كلنا نتضرر احنا وقفنا معاك في مشكلتك بس مش لدرجة تبقى أناني و تنسى اننا كلنا تعبنا عشان نوصل للنجاح ده متدمرش نفسك و تدمرنا معاك عشان واحدة ست !
كان كلامه هجوميا نوعا ما ولكنه ضروري لأن وليد أصبح يدرك أن تلك المرأة قادرة على تضييع مستقبل عمار كليا و هذا ما تأكد منه اليوم لذلك يجب إفاقته لأنه ليس من العادل أن يتسبب بالضرر لنفسه و للجميع هكذا !
هذا ما فكر به وليد و لكن عمار الذي داهمه الصداع مجددا بصورة مضاعفة لأنه لم يأخذ أدويته اليوم و نسي علبة سجائره في المكتب غمره الشعور بالضيق و أراد إفراغه بأي طريقة فزفر بحدة مغمغما :
- انا مش اناني ومش غبي عشان ادمر نفسي.
تمتم وليد ساخرا :
- واضح.
اعتدل عمار في وقفته و التف اليه بغضب :
- هو ايه اللي واضح شايفني بشد في شعري بعدين انت جاي معايا عشان تهون عليا ولا تشتمني لا بقولك ايه انا ماسك نفسي بالعافية.
شهق وليد بذهول و تصادم معه ندا لند قائلا :
- لا متمسكش نفسك و وريني هتعمل ايه ماهو انت مبتقدرش على غيري.
طحن الآخر ضروسه و احتقن وجهه بهمجية فلم يجد نفسه الا وهو يرفع قبضته ثم يلكم صديقه الذي ارتد للخلف و ناظره بصدمة لأنه لم يكن يتوقع تماديه لهذه الدرجة.
ليزم شفتاه بغيظ و يلكمه في بطنه هادرا بوعيد :
- انت فاكرني ابن ناس من البدلة اللي لابسها لا فوق ده انا تربية حواري.
تأوه عمار و انقض عليه مجددا فأخذا يضربان بعضهما بشراسة و يتدافعان على السيارة التي اهتزت بسببهما حتى خسرا طاقتهما فسقطا على الأرض ليلهثا بعنف و يتحسسا أماكن الإصابة.
لمس وليد فكه و تأوه بألم :
- يخربيت الساعة اللي عرفتك فيها ااه منك لله بوظتلي وشي.
رد عليه الآخر متحسسا صدره بكبت :
- انت بتضرب زي ولاد الشوارع ليه يا بني.
- معلش اصل مكنتش اعرف انك هتجيبني عشان تطحن عظامي هنا ابقى عرفني تاني مرة عشان اخد دروس في ضرب ولاد القصور ... حيوان.
برطم بقرف و ساد الصمت لدقيقتين قبل أن يدخلا في نوبة ضحك هستيرية دمعت عينا عمار على إثرها وهو يرتد الى الخلف متنهدا بأريحية :
- دلوقتي بقيت احسن.
- كنت شاكك ان ليك ميول للعنف بس خلاص اتأكدت ابقى فكرني احجزلك عند دكتور نفسي.
قالها وليد بتلقائية دون أن يقصد سوءا ولكن ابتسامة عمار تلاشت فحدج فيه بصمت ثم تنحنح و نهض مرددا :
- الوقت اتأخر خلينا نمشي.
- مش قادر اقوم جيب ايدك.
ساعده في النهوض و كانت حالتهما يرثى لها فعدلا منها و سأل وليد ان كان لديه مياه كي يغسل يداه فأشار له الأخير لصندوق السيارة.
ففتحه وليد و كاد ينتشل القارورة البلاستيكية عندما لمح جسما صغيرا يتأرجح من الأعلى و يبدو كأنه تفكك من مكانه الأصلي إثر تصادمهما على السيارة منذ قليل ، عقد حاجباه بتدقيق و مد يده يسحبه مع الخيط الرفيع الموصول به قائلا بصوت عال :
- انت حاطط ايه هنا يا عمار.
- حاطط ايه.
- تعالى شوف.
تعجب عمار و ذهب اليه ليتفاجأ بشيء أسود تعرفت عيناه عليه فورا فاِلتقطه بسرعة مهمهما :
- انت لقيته فين ؟
أشار وليد للزاوية الصغيرة أعلى صندوق السيارة من الداخل ثم سأله بحذر :
- هو ده GPS ( جهاز تتبع ) ولا ايه.
أغمض عيناه و انقبضت أصابع يده المحيطة بالجهاز مومئا بتوحش استعر بداخله كالجحيم فركز صديقه عليه قبل أن يردف :
- مين اللي حطه و ازاي مخدتش بالك منه لحد دلوقتي ... هو مين اللي مخليه مسؤول عن عربيتك اصلا.
راقب عمار هو يجز على أسنانه بضراوة حتى فتح عيناه الحمراوتان هامسا بوعيد :
- سليم.
الفصل الاربعون : تعرية الروح.
__________________
" حاولت الهروب مرارا ، فوجدت أنني أينما ذهبت احتجت أن أهرب مرة أخرى " #.نوبة_عزلة # سارة_عدنان_العبد الله
- سليم المسؤول عن العربية بتاعتي ... طول الوقت ده كان في حد بيراقبني وانا مش واخد بالي.
غمغم بهوس ثم انقلبت ملامحه و زمهرت عيناه بالجنون وهو يركب سيارته لكن ارتجاف يده جعله يتراجع عن القيادة فصرخ ضاربا المقود بوحشية تفجرت من أوداجه ...
ثم نضبت آخر ذرات تعقله فألقى نفسه خارج السيارة صافقا بابها ليهدر بقوة :
- اتصل بسليم و بقية الرجالة و اديهم العنوان عشان يجولي هنا.
انتفض وليد و ناظره بإحتراز من حالته المفاجئة لكنه كان يملك من الفضول ما يجعله يريد معرفة حقيقة الأمر هو أيضا فتنهد و فعل ما يقوله ثم هتف بجدية :
- عمار احنا لقينا الجهاز صدفة و يمكن مبقالوش كتير و مساعدينك ملحقوش يكتشفو وجوده ... اهدا شويا عشان نعرف نتصرف ازاي.
لم يعلق عليه و بقي يلتفت حول نفسه كالليث الحبيس و رأسه يكاد ينفجر من التفكير حول كيف و من و متى تم وضع جهاز تعقب في سيارته.
لقد اكتشف بفضل سليم منذ سنتين تقريبا أن والده يتعقبه فواجهه ليتقبل الآخر الأمر بدون انكار ، و عندما لاحظ أن هناك سيارة سوداء تلحق به اتهم السيد رأفت إلا أن هذا الأخير أنكر الأمر و أخبره بأنه لم يحاول تعقبه مجددا.
و الآن هاهو يكتشف بالصدفة بأنه مراقب للمرة الثانية و لا يعلم من هذا الذي يلاحقه ...
ظل يجول و يحدث نفسه حتى وصل سليم و باقي رجاله و الذي بمجرد النظر إلى حالة سيده الغاضبة و الشيء الذي بيده نضبت الدماء من وجهه و جف حلقه حتى كاد يكشف نفسه ولكنه تمالك أعصابه و تنحنح بهدوء مدعيا الجهل :
- حضرتك طلبتني يا عمار بيه.
رمقه بطرف عينه ثم دنى منه بخطوات بطيئة حتى وقف أمامه و غمغم بقتامة :
- انت بتشتغل عندي من كام سنة.
رد عليه :
- ارب ... اربع سنين يا فندم.
- و ايه هي مهمتك بالضبط.
اصطحت أسنانه ببعضها في اضطراب إلا أنه أجابه مجددا بأن مهمته هي متابعته كظله و تنفيذ جميع أوامره و الإهتمام بمتعلقاته خاصة السيارة منها.
لكن بمجرد لفظ جملته الأخيرة قبض عمار على مؤخرة عنقه بقوة و رفع الجهاز أمام وجهه يسأله بحدة :
- مادام مهمتك تاخد بالك من عربيتي و متخليش حد يقرب من حاجة تخصني يبقى ايه ده يا سليم ... انا لقيت GPS في صندوق عربيتي و في مكان محدش يقدر يوصله بسهولة غير لو عارف اجزاء عربيتي بالتفصيل و عنده وقت يفتش فيها براحته تقدر تشرحلي.
لحسن حظ سليم أنه كان مدربا على تمالك أحاسيسه لذلك سيطر على خوفه و توتره في هذه اللحظة ولم يظهرا على وجهه ، فأحنى رأسه بدهشة مزيفة :
- انا مش عارف اقول ايه لحضرتك لأني متفاجئ زيك ... العربية انا المسؤول عليها و قليل لما اكلف غيري بالمهمة ديه ف ...
قاطعه عمار عندما رفع قبضته و لكمه صارخا :
- يعني ايه مش عارف انت مهمتك ايه بالضبط انا مشغلك عندي ليه !
ناداه وليد بحذر غير ان الآخر لم يستمع له عندما دفع سليم على باب سيارته ثم قبض على رقبته و ضغط على مجرى تنفسه مزمجرا بنبرة إجرامية :
- في حد بيراقبني الله اعلم من امتى ووصل لعربيتي اللي انت مسؤول عليها و كنت مكلفك تدورلي على مكان مريم وانت كل مرة تبرر فشلك و قبل كده مراتي هربت من المشفى وانت مشوفتهاش ... مش ملاحظ ان غلطاتك كتيرة اوي بالنسبة لواحد دبة النملة بيسمعها !
احتقن وجهه و لمعت عيناه بدموع الإختناق عندما كبس على أنفاسه و جاهد ليتكلم فلم تخرج منه سوى كلمات متقطعة :
- يا ... باشا انا ... والله م معرفش ... سامحني انا غلطان ... بس هصلح غ غلطي و اعرف ... مين اللي ... يا باشا انا بختنق.
نظر بقية الرجال لبعضهم البعض بذهول و احتراز و هم يرون ان سيدهم ينوي قتل سليم حقا لكن وليد الذي كان يقف خلفه أمسك ذراعه و هتف بقلق :
- عمار سيبه انت هتقتله ... عمار في ايه مالك بقولك الراجل هيموت !
صاح بقوة فأفلته عمار و عاد الى الخلف يشاهد سليم وهو ينحني يسحب اكبر قدر من الهواء لرئتيه ، كانت ملامحه إجرامية لا مكان للشعور بالذنب فيها لأنه يستحق هذا.
مرر يده على خصلات شعره المشعثة ثم التفت لرجاله صارخا بقسوة :
- انا عارف ان واحد منكم هو اللي خانني و استغفلني بس صدقوني هجيبه من تحت الأرض ومش هرحمه انتو سامعين !
ألقى عليهم نظرة أخيرة و غادر بسيارته تاركا وليد مذهولا مما حدث و عقله لا يستوعب إلى اي مرحلة وصل اليها صديقه !
__________________
جلست وسط الأوراق المتكومة على الأريكة و بعض منها قد أخذ مكانه على الأرض فتجاهلت الفوضى التي أحدثتها و نظرت الى شاشة حاسوبها بدقة و إهتمام وهي تقرأ الإيميل الذي وصلها من السيد يوسف ، و الذي يتضمن نموذجا لكيفية إعداد ثاني مرحلة من مراحل الترجمة.
حيث تتم مراجعة النصوص مراجعة شاملة بمطابقة النص الأجنبي مع النص العربي وعمل التعديلات اللازمة قبل إنتقاله للمرحلة الثالثة ، و ها هي مريم تتمرن على طريقة تطبيقها وقد استطاعت فهم النموذج بفضل الشرح الممتاز للسيد يوسف و بقية مساعديه.
و بعد مرور وقت طويل قضته أمام الحاسوب مع أكواب القهوة لتطرد النعاس من عينيها ، سمعت صوت فتح باب الشقة فمطت شفتها بضيق هامسة :
- ايه اللي جاب ده دلوقتي.
أغلقت الجهاز بضجر و التفتت نحو عمار الذي دخل للتو فتوجست لوهلة حينما رأت حالته المريبة التي لا تمت لمظهره المنظم المعتاد بصلة ، شعره أشعث غير مرتب قد نزلت بعض من خصلاته على جبينه.
يفتح أول ثلاث أزرار من قميصه الأسود الذي يلبسه أسفل سترة بدلته الكحلية تاركا رائحة عطره الرجولية تفوح مع رائحة السجائر القوية ...
هيأته هذه ورغم عدم هندمتها إلى أنها أظهرت طابعا فوضويا و بوهيميا ... و جذابا !
ذعرت مريم من تفكيرها و عادت لرسم الجمود على وجهها هاتفة :
- خير في الوقت ده.
رمقها بنظرات داكنة قبل أن يزيح بعض الأوراق و يتخذ مكانه على الأريكة ، معقبا عليها بنبرة متهدجة :
- هو في خير بيجي من وراكي أصلا.
فتحت فمها بدهشة من جوابه و ضغطت على أسنانها بغيظ فقالت :
- اختصر لو سمحت انا مش فاضية.
رفع رأسه اليها و غاص في ملامحها الخالية من أي مستحضر تجميل ثم شعرها الذي لم يعد مموجا وقد رفعته في هيأة كعكة أحكمتها بدبوس و بيجامتها الحمراء الحريرية ، لا يزال الأحمر من أجمل الألوان التي من الممكن أن ترتديها.
شرد عمار فيها و فكر ، هل هناك إحتمالية بأن تكون مريم هي من وضعت جهاز تتبع في سيارته ؟
لقد كان يأتِ اليها كثيرا و بالتالي لديها الفرصة في إخفاء الجهاز الصغير داخل صندوق السيارة ، ربما لكي تلاحقه و تعرف نقاط ضعفه و ربما لأنها تريد الإنتقام بعدما علمت بأنه كان يراقبها بواسطة الكاميرات و يتنصت على مكالماتها ، أو ربما تعاونت مع أحد منافسيه و عقدت معه صفقة ضده !
احتشدت أنفاسه و ضغط على يده حينما راودته هذه الفكرة و جعلته يرغب في النهوض الآن و سحق عظامها بين يديه مستجوبا إياها ...
لكنه هز رأسه محاولا طرد ما يجول في دماغه فأخرج الجهاز الصغير و عرضه أمامها مغمغما بنبرة قاتمة :
- ده.
تعجبت مريم التي كانت تراقب نظراته و قد شعرت بالخوف رغما عنها حين رأته يركز عليها بطريقة مريبة ، ثم نظرت إلى ما يحمله و قضبت حاجباها هامسة دون تردد :
- ده GPS ... بيعمل ايه عندك كنت ناوي ترجع تراقبني تاني ؟
هاجمته بغضب نضح في صوتها و انتصبت واقفة بينما رفع عمار حاجبه يتأملها بقوة لعله يبصر أي محاولة منها لتغطية اضطرابها لكنه لم يجد شيئا بل كان يلاحظ الضيق و الرعونة منها فقط.
فأعاد إخفاءه في جيبه هاتفا :
- اقعدي انا لو حبيت اراقبك مش هتكشفيني غير بالصدفة زي ما عملتي اول مرة.
تبكمت مريم و تذكرت أن اكتشافها لحقيقة المراقبة كان بسبب ذلك المتصل المجهول و الذي لم يعاود الإتصال بها مجددا ، ثم استعادت رشدها و تساءلت :
- اومال بتوريهولي ليه ؟
- انا لقيته في عربيتي النهارده و عرفت ان في حد بيراقبني و يلحقني.
تمتم بجدية فرمقته بدهشة و هنا فهمت أنه كان يختبرها منذ قليل لمعرفة إن كانت هي من وضعت جهاز التتبع ، و رغم ذلك إدعت عدم الإهتمام وهي تردد :
- و انا مالي ؟ الله اعلم انت عامل عداوة مع مين خلته يراقبك.
- يعني انتي معندكيش فكرة عن مين ممكن يبقى مراقبني ؟
سألها بصلابة مطالعا إياها وهو يضع إحتمالا حول إمكانية تعاونها مع أحد أعدائه الذي يضمرون له شرا ، بالتأكيد لن يثق بها و يتبع القصائد الغبية المنادية بالثقة و الأمان ، من فعلت به كل هذا تستطيع فعل أي شيء آخر !
بينما نضبت الدماء من وجه مريم و شردت في هوية المتصل المجهول ، و والده السيد رأفت و ربما شخص من عائلته.
هي تعلم أن عمار يولي إهتماما كبيرا بسياراته و لا يسمح لأحد بالإقتراب منها إلا من يختارهم هو بعناية ، لذلك من المحتمل أن يكون " المتتبع " فردا مقربا منه ، أحد رفاقه أو عائلته و أصدقاء العائلة !
لكن بالطبع لم تكن لتخبره بتحليلاتها كي تفيده ، فمطت شفتها ساخرة و أجابته متشدقة :
- السؤال ده المفروض تسأله لواحد قريب منك و عارف كل عنك ... زي حبيبتك اللي بتعشقها.
بجملتها الأخيرة أدارت المدفع نحوه و أنسته الأمر الذي جاء من أجله ، و في الحقيقة لم يكن هذا تهربا منها بقدر ما كان استهجانا و اتهاما صريحا بخيانته لها فتنهد عمار بقوة عند ذكر نفس الموضوع مجددا ثم اقترب منها بالقدر الذي جعل أنفاسه تلفح بشرتها ...
مد يده و رفع رأسها مانعا إياها من إفلاته و رشقها بنظرات ناعسة متعبة :
- انا مش عارف اقولك ايه ولا ابررلك ازاي ... من يوم اللي واجهتيني فيه وانا مش قادر الاقي طريقة اشرحلك بيها علشان كده سكت.
مريم انتي ممكن دلوقتي متصدقيش اللي هقوله و تعتبريها محاولة فاشلة مني عشان ادافع نفسي بس ...
قاطعته بنبرة كادت تقتلع قلبه من صدره لشدة الحرقة التي ظهرت فيها :
- بس ايه ؟ هتقول ان الفيديو تركيب ولا انك مكنتش في وعيك ... ولا استنى انت في الفترة اللي كنت متخانق فيها معايا و رفضت ابني و زعقتلي و أهنتني روحت لبنت عمك عشان تهون عليك قامت هي باستك غصب ... مش ده اللي بتفكر تقولهولي.
انعقد لسانه ولم يجد ما يعقب به على حديثها لأن معظمه صحيح و بالتأكيد هي لن تصدقه ، فإلتف يمسح وجهه المتعرق ثم فجأة عاد اليها و صاح منفعلا :
- انتي واخدة اسلوب الهجوم ليه بتواجهيني ليه طالما مجهزة أجوبتك معاكي و واخدة استعداداتك عشان متصدقنيش !
- يمكن علشان بقالك كتير بتقولي انا مخنتكيش و في الاخر بتطلع بايس بنت عمك وانتو قاعدين ع السرير و الله اعلم عملتو ايه تاني ؟ و يمكن علشان لسه بتظهر نفسك بريء رغم كل الأدلة !
صرخت مريم وهي تضرب صدره ليمسك يديها و يرد عليها بصراخ مماثل :
- لا انا مش هنكر ومش هعمل نفسي بريء الفيديو حقيقي و انا وندى قربنا من بعض بس اقسم بربي يا مريم ان كل حاجة حصلت في لحظة ملحقتش افهم فيها اللي حصل.
في الليلة اياها انا كنت واخد حبوب علشان اقدر انام ولما صحيت الصبح لقيتها جمبي و الدوا كان لسه مأثر عليا عشان كده انا مكنتش فايق ... وهي ...
علقت الحروف داخل حلقه ولم يستطع إخراجها ، لم يرد إلقاء اللوم على ابنة عمه و تشويه سمعتها أمام مريم ، في الأساس ضميره يؤنبه لأنه أحرجها أمام نساء عائلته عندما فضح حقيقة الأمر في لحظة غضب و ندم بعدها على ذلك.
هو لا يود تكرار نفس الخطأ مجددا ، و لهذا تراجع عن ذكر ندى فزفر و استطرد قائلا :
- انا مش خاين يا مريم ... صحيح أهملتك و زعلتك و جرحتك اوي بس مفكرتش أخونك.
هزت رأسها برفض لما يقوله إلا أن عمار ضم وجهها بين يديه و قربها منه حتى ألصق جبينه على خاصتها ولم تعد تفصل بينهما سوى سنتيمترات قليلة ، شهقت مريم وقد بدأ الشعور بالضعف يتغلغل داخلها من قربه فاحتقن وجهها و تصاعدت الدماء لوجنتها عندما وجدته يتهدج بصوت رجولي مثقل :
- لو بس تعرفيني انتي سمعتني ايه عني ... لو تقوليلي كنتي مع مين لما هربتي و ايه السر اللي بينك و بين والدي خلاه يوافق يدخلك شركته خليني افهم عشان اعرف اتصرف ازاي لأن ...
تغيرت نبرته الحانية فجأة و انقلبت لأخرى مهددة عندما ضغط عليها و غمغم :
- لأني لو عرفت بنفسي و اكتشفت حاجات بتعصبني ... ساعتها محدش هيقدر ياخدك من تحت ايديا يا مريم.
انفجرت القوقعة التي غاصت فيها للحظات و استفاقت على تهديده الصريح ، ففتحت عيناها بعدما أغمضتهما بتأثير منه و نظرت نحوه لترى جموده القديم ...
تلك الملامح التي كانت تراها عليه في السابق عندما يكون نائما ثم يستيقظ فجأة وهو ينهج بقوة و يطالعها بطريقة تخيفها ، و ستكون كاذبة الآن اذا قالت أنها لم تتوتر من حالته هذه.
غير أنها كانت شجاعة كفاية لتدرأ عنها هذا الشعور المقيت و تهتف بقوة :
- انت عارف ايه مشكلتك يا عمار ، مبتقدرش تقعد دقيقتين ع بعض من غير ما توري تسلطك و غرورك حتى لو كنت الغلطان ... عايز تحط الكل تحت ايدك ومحدش يطلع عن طوعك و فاكر الناس بتخدعك في الوقت اللي انت بتخدع و تخون.
- مريم !
هدر بخشونة تجلت في نبرته وهو يحذرها من التمادي لكنها انتفضت تحرر نفسها منه و ألقت عليه كلماتها السامة :
- هي ديه حقيقتك انت فاكر اني هربت مع راجل و خونتك معاه علشان كده مخبية عنك هوية اللي ساعدني و من لما اتجوزتني وانت بتفكر بالطريقة ديه علشان كده كنت بتحبسني ... عشان من جواك عارف انك متستاهلش واحدة نظيفة زي الغجرية الهبلة اللي اتجوزتها و خفت يجي يوم و افوق و اهرب منك قمت حبستني و عملت كل حاجة عشان افقد ثقتي في نفسي ومعتمدش على حد غيرك.
ضم قبضته بعنف مهتاج الأنفاس غارقا بين كسور عينيها ، بالنسبة اليها كان الأمر أشبه بتقشير ضمادات جروح مازالت رطبة وهي تفتح سراديب روحها و تلقي بحمولة كرهها عليه ، كان عمار يدرك هذا جيدا ولكنه لم يستطع تحمل ضرب الحقيقة في وجهه.
حقيقة أنه دائما يتوقع الخيانة منها هي بالذات ولسبب لا يعرفه !
لذلك رفع يده ليدلك عنقه مغمغما بإنفعال :
- خلاص اسكتي.
فقدت مريم تعقلها فإنهالت عليه تهاجمه بصراخها وقد فاض بها الكيل :
- انت واحد معندكش اتزان و بتكدب على كل اللي حواليك و بتخدعهم بتحضرك و الدليل اهو الدم اللي باين ف ايدك مين عارف انت عملت ايه و أذيت مين تاني.
عايز تعرف كل حاجة عني علشان تأذي اللي ساعدني و تقدر تخدعني تاني و ارجع زي الاول بس عارف با عمار كل حاجة ما بيننا انتهت و مفيش أمل للرجوع حتى لو كلام طلع صح و مكنتش بتخوني.
حتى لو أفكاري اتجاهك غلط و ظلمتك بإدعاءاتي بس مفيش حاجة هتتغير لاني مستحيل انسى دموعي و زعلي وقلة القيمة اللي حسيت بيهم من ساعة ما اتجوزتك انت فاهم !
احنا مبقيناش ننفع لبعض يا عمار !