الفصل الواحد والعشرون : هروب ... من الواقع.
_________________
كانت تقرفص مسندة رأسها على ركبتيها وتحطيه بذراعيها بسكون، مغمضة عيناها ترزح بين الغفلة واليقظة ووعيها يقل تدريجيا فبعدما غفت لدقائق قصيرة عادت واستيقظت وهي تتعرق كأن النوم جافاها أيضا، وكيف تنام في هذه الظروف أساسا ...
رفعت نيجار رأسها ببطء تلف بصرها في المكان من حولها فلم ترَ سوى تلافيف الظلام الذي لم تستطع فتيلة القنديل القديم ذاك القضاء عليه بنورها الضعيف. وفي كل الأحوال لا تعلم في أي وقت هم الآن وتجهل إن كان اليوم انتهى أو أن الشمس لم تسدل ستارها بَعَد.
وفجأة هاجمها الضوء من الخارج حينما اقتحم أحدهم الغرفة وفتح الباب على مصراعيها فرفعت عيناها المنتفختين للزائر واتسعتا وهي تراه واقفا أمامها !
شهقت واستندت على مرفقها كي تنهض مطالعة إياه بعينين تُنزلان وديانا مستمرة من الدموع غير مصدقة بأنه يقف أمامها في هذه اللحظة وارتجفت شفتاها هامسة باِسمه في ابتسامة هشة تزعزعت حين رفع مسدسه ووضعه على رأسها مباشرة مقابلا إياها بوجه يشع حقدا ويبصق كلماته المتوعدة عليها :
- جه وقت حسابك.
وكأنها لم تسمعه، أمسكت قلبها الذي يكاد ينفرط من اللوعة ووزعت نظراتها على جسمه تتفحصه ان كان بخير حتى تركزت على الدعامة التي تثبت كتفه وذراعه لتشعر بالوجل وتتقدم خطوة واحدة منعها آدم من المتابعة حين دفعها لتعود للخلف وهنا أفاقت نيجار وهي تستمع لصوته المقتضب :
- رجعتي وعملتي نفس الغلطة رجعتي غدرتي بيا من تاني بس المرة ديه وانتي جوا حدود بيتي ومبتقدريش تخلصي مني ... غبية بس حقارتك ملهاش حدود.
- لا ... لا ...
تمتمت كلمات متقطعة تنفي ما يقال لكن آدم لم يعر اهتماما لإنكارها وكأنه مبرمج على عدم تصديقها وعلت نبرته بسخط حاد :
- كنتو مخططين لإيه تقتلوني غدر زي عوايدكم وابن عمك الـ*** ياخد مكاني مش كده وطبعا انتي ترسمي دور الزوجة الحزينة وتاخدي عزايا بدموعك الكدابة ديه.
انتفضت نيجار معترضة وهي تردد بتحشرج :
- لا أبدا والله العظيم أنا مليش دعوة متفقتش مع حد عشان اؤذيك مستحيل اعمل كده بعد ما عشت معاك وعرفتك يا آدم صدقني.
- بعد ما عشتي معايا وعرفتيني ليه انتي مكنتيش بتعرفيني لما غرزتي الخنجر جوايا ؟ كفاية ترخسي نفسك بالأكاديب ديه انتي كده كده ميتة على الأقل اعترفي بجريمتك قبل ما اخلص عليكي.
هدر آدم بنقمة عليها وبدأ يقترب منها حتى ألصقها في الجدار خلفها ووضع فوهة السلاح عليها مباشرة مردفا باِزدراء :
- يعني اتفقتو عليا فبيت العمدة وجيتي بعدها ودخلتي في حضني عادي كده بس تعرفي هو ده اللي بيناسبك انك تتصرفي زي بنات الشوارع وهتفضلي طول عمرك كده.
أحست بقلبها ينكسر لأجواء وبروحها تحترق وهي تستمع لإهاناته وكلماته الجارحة التي كانت لتردها عليه أضعافا في ظروف أخرى ولكنها الآن تقف عاجزة أمامه لسبب لا تعرفه تقابله بدموع وألم بدل أن تغضب وتستثير منتقمة لكرامتها !
كز آدم على أسنانه وغمغم :
- مين اللي اتفقتو معاه عشان يقتلني اسمه ايه وجبتوه منين وامتى ... انطقي !
تنهدت نيجار ومسحت دموعها مجيبة :
- معرفش ... انا متفقتش مع حد.
ركل الجدار لاعنا إياها وتجاهل ألم جرحه صائحا بوحشية :
- انتي بتستهبلي عليا مانتي اعترفتيلي انك قابلتيه هتجي تنكري دلوقتي وقابلتيه النهارده الصبح لما جه لبيتي وقعدتو تتكلمو مع بعض !
- لا مش هنكر لأن كلامك صحيح بس اللي بتفكر فيه غلط اديني فرصة اشرحلك بس.
- ماشي اتكلمي مستني اعرف هترقعيها ازاي ممكن تقوليلي انكم كنتو بتطمنو ع بعض مش كده.
لفظت نفسا عميقا وخفتت نبرة صوتها وهي ترد عليه بأسف :
- لا مكنش بيطمن عليا ... صفوان في الليلة اياها جه سحبني من ايدي وكان متعصب جدا كمان وطلب مني اتعاون معاه علشان يخلص عليك بس أنا رفضت والله العظيم رفضت وقولتله اني مش هرجع اؤذيك.
ابتسم آدم بسخرية سوداء لتكمل هي محاولة إقناعه :
- مش هكدب عليك انا قولتله اني هقف معاه لو حب ياخد العمودية بس مش بالغدر والقتل كنت عايزاه ياخدها وهو بيستاهلها بعدين صفوان قالي انه اتراجع ومش هي نفذ الخطة.
ثم استطردت بلهجة أقل انفعالا بعدما وجدته ساكنا وساورها الأمل في أن يصدقها رغم تقاسيم وجهه الجافية :
- ولما قابلته النهارده هاجمته ع اللي عمله بس هو قالي انه ملوش دعوة لأنه اتراجع وقالي ان عندك أعداء غيره هيحبو يخلصو منك ... بصراحة انا مقدرتش اتأكد من صدق كلامه بس ممكن يكون عنده حق ممكن يـ...
- خلاص اسكتي.
أوقفها آدم بإشارة منه حينما بدأت في دفاعها عن ذاك الوغد وقال بنقمة :
- بتلفي ودوري وبترجعي تدافعي عنه ... مستحيل تتغيري هتفضلي زي مانتي معتبرة نفسك بتقدري تضحكي عليا فكل مرة.
داهم الدوار نيجار مجددا وبدأت قدماها في التراخي لكنها حاولت التغلب على شعورها وبرطمت مجهدة :
- أرجوك متعملش كده طيب لو مش مصدقني أنا بالذات لانك شايفني واحدة كدابة فكر بعقلك وهتلاقي الجواب انا امتى هلحق اتفق معاه وعملت ايه في السفرية ديه يخليك تشك لحظة واحدة فيا طيب امتى حاولت استدرجك واسحبك للمكان اللي اتضربت فيه ولو فعلا حبيت اقتلك مش المفروض اخد احتياطاتي عشان ميشكوش فيا بس بصلي اهو انا من امبارح محبوسة هنا ومش عارفة اخرج يبقى ازاي كنت هوقع نفسي في المصيبة ديه لو عارفة نتايجها من الاول ؟!
زفر وناظرها بهياج ولم يسعه سوى التدبر في حجتها ليجدها منطقية حقا ان كانت امرأة خبيثة مثلها دبرت خطة هروبها من بيت الهضبة وسفرها إلى المدينة قبل طعنه فكيف كانت لتترك الأمر للحظ الآن وهي تعلم بأن الشكوك ستُرمى عليها مباشرة.
كان من الساخر بالنسبة لآدم أن يثني على ذكائها في طعنه سابقا ويبرهن لنفسه بواسطة تلك الحادثة أنها ليست المجرمة هذه المرة ولكنه وقف عاجزا أمام انعدام الثقة الذي يشعر به نحوها.
هو لا يثق بها ولا بأي كلمة تنطقها لا يراها سوى خائنة لعوبة تستخدم نفسها من أجل إغواء الرجال والله وحده يعلم إن كان هو الوحيد الذي لعبت عليه أو أن صفوان سبق واستعملها في تجارب مع رجال غيره !
طالعت نيجار ملامح وجهه المتغيرة بين الفينة والأخرى كانت تعلم بأن آدم يركز في كلامها الآن وربما وجده منطقيا لذا آثرت الصمت أملا في وصوله للحقيقة ولكن عند تغير ملامحه للاِشمئزاز فجأة أحست بأنه وصل إلى أفكار سيئة تخصها ... أفكار ربما لو سمعتها الآن سينقبض قلبها الوجل ألما !!
وفي هذه اللحظة اكفهرت تقاسيمها وظهر التحدي في عينيها حين أمسكت يد آدم القابضة على المسدس موجهة إياه نحو رأسها مجددا وضغطت على اصبعه الموضوعة على الزناد صارخة :
- طالما مش مصدقني يبقى خلص عليا يلا اعمل فيا اللي نفسك تعمله من زمان ومن غير تردد !
تفاجأ آدم من فعلتها ولوهلة ثبت نظراته على فوهة السلاح وارتعشت يده مفكرا في الإطلاق عليها حقا، رصاصة واحدة كانت ستخلصه من أكثر النساء غدرا وتنعتا في الوجود، المرأة التي جهز لها أحد البيوت يوما كي يكون عش الزوجية فحولته هي لرماد بعدما أضرمت به نيرانا كادت تحرقه أو أنها أحرقته فعلا وماهو الآن سوى بقايا لرجل مطعون في رجولته ...
بادلته نيجار نظرات ميتة ككل شيء فيها ممزَّقة بأنياب وحوش الندم الضارية عندما طال تردده بخصوص إبعاد مرمى الأذى عنها فهمست بكلمات رجمت روحها كالصخر الساخن :
- أنا بنفسي بطلب انك تقتلني دلوقتي وتريحني مش هجرب انقذ حياتي عشان عارفة تنت بتكرهني قد ايه ... قولت عليا اني كدابة وحقيرة وخاينة قولت اني اسوء حاجة حصلتلك وبتقرف من نفسك لأنك حبيتني في يوم من الأيام يبقى ايه لازمة اشرحلك اكتر.
غامت عيناه بحزن درأه سريعا وهو يبرطم بجمود :
- ده حوار جديد بتعمليه عليا علشان تطلعي نفسك مكافحة واني ظلمتك بالصفات ديه.
نفت ببطء وتمتمت بصوتها المتحشرج المختنق بالدموع :
- لأ، أنا بس عايزة اقولك انك لو عايز تقتلني يبقى اعمل كده لأني غدرت بيك من قبل لأنك لو عايز تقتلني بسبب آخر حادثة فاكرها من تخطيطي يبقى انت كده بتظلمني.
أنهت آخر كلمة وهي تضغط على اصبع آدم ليهتز الجو بصوت رصاصة اللوعة والثأر !!
أجفل سكان السرايا بصدمة وهرعوا إلى الطابق السفلي بفزع وعيون جاحظة لتتجمد حكمت مطالعة المشهد أمامها ببلادة ويمسك فاروق رأسه بأنفاس مخطوفة زفرها في النهاية متنفسا الصعداء وهو يرى أثر الرصاصة المستقرة على الجدار بجوار رأس نيجار مباشرة فلو تأخر آدم لمدة جزء من الثانية في سحب المسدس قبل الإطلاق لكان رأسها متفجرا الآن.
بعد مرور ثوانٍ تزحزحت حدقتاها مطالعتان ما خلفها ثم عادت وطالعت الواقف أمامها بجسد مرهق تراخى بغتة فاِلتقطها آدم بتلقائية قبل سقوطها على الأرضية وصاح :
- ليلى تعالي لهنا ... ليلى !!
انتفضت هذه الأخيرة مستفيقة من حالة الذهول التي كانت بها وهرعت راكضة إليه لتسأله :
- انت كويس يا ابيه ؟
تجاهل الرد على سؤالها وهو يغمغم بصلابة محاولا رفع نيجار المغمى عليها :
- ساعديني عشان نطلعها لفوق.
اندهشت من طلبه وفتحت فمها لتعترض وتخبره بأن تبقى هذه القاتلة محبوسة هنا لكنه رشقها بنظرة كانت كفيلة لجعلها تتراجع وتسند جسد الأخرى على مضض حتى وصلا للغرفة في الطابق العلوي ووضعها على السرير ثم قال وهو يتأمل شحوب وجهها :
- ديه مكلتش حاجة من امبارح صح.
كادت تجيبه لكن تدخلت حكمت التي قابلت الموقف بهدوء تحسد عليه :
- انت رايك ايه نأكلها ونشربها من خيرنا عشان تقوى وتقتلنا واحد واحد ؟
استدار لها بتعبيرات لم تستطع بها أن تقرأ ما يدور في خلده إلا أنه سرعان ما ترجم أفكاره الداخلية على شكل كلمات رصَّها ببرود :
- خلوها تفوق ... هي لازم تصحى وترد على أسئلتي.
________________
صباح اليوم التالي ...
استيقظ من نومه وبقي جالسا على سريره يتصل مرارا على رقم محدد والآخر يرفض الرد حتى زفر يائسا ووضع الهاتف متمتما بنزق :
- انا مش فاهم ايه هي مشكلة مراد بالضبط لو انت بتحب آدم اوي كده اومال بتتفق معايا نسرقه ونبوظ شغله من الاول ليه ... ولا انت بجد كل همك اني حاولت اقتله من غير ما ارجعلك.
قطب حاجباه بعدم فهم ليرن هاتفه فاِلتقطه متوقعا بأن مراد من اتصل لكن ملامحه تجهمت سريعا عند ظهور اسم "مليجي" على الشاشة وأغلق الخط مستنكرا اتصاله به بعدما فشل في قتل غريمه، وهنا طرق الباب ودلفت سلمى مبتسمة :
- صباح الخير يا ابيه.
- صباح النور خير في ايه.
أجاب تحيتها بفتور واستغرب من مجيئها في هذا الوقت المبكر فهمت هي ما يفكر به واقتربت من فراشه وجلست على طرفه قائلة :
- أنا جاية اقولك أن ماما روحت لواحدة جارتنا عشان هي بتولد ف انت بتقدر تنزل تفطر دلوقت من غير ماتشغل بالك بالزعيق.
شرد صفوان في شجارات يوم أمس بسبب والدته التي لم تترك كلمة إلا وقالتها له تارة تصيح عليه بجنون لأنه قام بنفس الجريمة السابقة ولن يدعه أحد يفلت من العقاب هذه المرة وتارة تلومه لأنه أدخل نيجار في لعبته وسيجعلها تخرب بيتها أو تُقتل ببيت الصاوي وتعود جثـ.ـة لهم ورغم أنه أخبرها مرارا ببراءته من هذه الحادثة إلا أنها لم تصدقه ... وكيف ستصدقه من الأساس وهي تعرف طبيعة ولدها جيدا !
لكن رغم وقوف جميلة ضده دائما لن يتراجع عن أهدافه لن يصبح متخاذلا وخائفا مثل والدته بل سيسعى للحصول على مآربه مهما طال الزمن.
أفاق من سيل ذكرياته وقال :
- مش عايز اكل مليش نفس وبعدين عندي شغل لازم انزله افطري انتي.
تنهدت مومئة وأطرقت هنيهة مترددة قبل أن تطالعه وتسأله بشكل مباشر :
- انت بجد ملكش علاقة بالهجوم على حفيد حكمت هانم ولا قولت كده عشان تسلم من زعيق ماما.
- جبتي منين الكلام ده انا قولت ان مليش دعوة هكدب ليه يعني.
- معرفش بس ممكن عشان آدم مماتش وهتبقى عنده فرصة يلاقي المجرم الحقيقي وأنا خايفة عليك.
اضطرب صفوان قليلا لكنه تمالك نفسه واعترض متشدقا :
- اطمني مش هتحصلي حاجة ومن الأحسن متشغليش بالك بالمواضيع ديه.
- ليه ؟ لأني مش نيجار !
ردت سلمى بضيق طفيف وتابعت :
- انت بتحكيلها عن كل حاجة تخص شغلك وبتتفق معاها على قصص وأسرار محدش بيعرفها غيركو ولما اجي انا اكلمك تقولي مشغلش بالي مش أنا المفروض اختك ؟
- طبعا اختي بس قصدي انك لسه صغيرة ومفيش داعي تنشغلي بمشاكلنا مع عيلة الصاوي انا حميتك منهم بالعافية لما كنتي هتتجوزي آدم وأكيد مش هنبسط لو رجعت دخلتك بنفسي.
تنهدت بيأس منه ثم استطردت تعبر عما يجول في خلدها :
- على فكرة أنا قلقانة ع نيجار اوي ديه كانت تعبانة اوي امبارح ووشها مصفر خايفة الست حكمت تفتكرها مشتركة في الاغتيال وتعملها حاجة تؤذيها انت عارف ان عيلة الصاوي بتكرهها جدا ياريت لو بنقدر نطمن عليها.
غامت عيناه بضيق وزفر مدركا كم أن شقيقته على حق حكمت لن تتركها وشأنها حتى آدم الذي لم يمت سيعتقد بأنها متشكرة معه وربما يقتلها هذه المرة بالفعل.
ولكن صفوان لم يرد أن تتعرض ابنة عمه للأذى فهو وضع خطته على أساس أنه سيموت وحينها سيجلب هو نيجار للمنزل ويخلصها من براثين الصاوي إلا أن الخطة فشلت وربما عليه أن يحيك مؤامرات أخرى كي يستطيع النجاة من العقاب ...
أفاق من شروده وأخبر سلمى بأنه سيغادر لبستانه وبعد مدة وصل وشرع في القيام بأعماله حتى جاء أحد العمال قائلا :
- في حد طالب يشوفك يا بيه.
- مين ده.
- بيقول انه اسمه مليجي.
اندهش صفوان من حضور ذلك الفاشل لمقر عمله وذهب إليه ليجده واقفا بتقاسيم وجهه المريبة نتيجة إحتوائها على علامات إصابات لم يخفها الزمن وعندما لاحظ وجوده رمقه بعينان المقطرتان شرًّا وقال :
- أهلا يا باشا.
كز على أسنانه وهمس بحذر :
- متتكلمش هنا تعالى معايا.
توجها للمستودع المغلق ونظر له صفوان هاتفا بعنهجية :
- انت بتعمل ايه هنا مش قولتلك العيون هتبقى عليا الفترة ديه ومينفعش تجيلي ولا انت ناوي تعملنا مصيبة.
تأمله المدعو مليجي بجمود قبل أن يجيبه وهو ينشغل بتجهيز سيجارته :
- لقيتك مردتش عليا مرة واتنين فقولت مبدهاش بقى هروحله بنفسي وأشوفه، خير يا باشا زيارتي معجبتكش ده انا حتى ضيف والمفروض تعمل الواجب.
تأفف بضجر وقابله بإيجاز :
- انت جاي وعايز ايه دلوقتي.
- عايز فلوسي.
- مانا اديتك حقك.
- بس مكنتش بعرف ان بعد ما اضرب الراجل ده بالنار البلد هتتلم وتدور عليا العمدة وعيلة الصاوي شغالين يدورو في كل مكان وممكن في اي وقت يوصلولي انا محتاج فلوس زيادة عشان اقدر اهرب ومتنساش اننا اتفقنا تديلي نص المبلغ والباقي تبعته بعد ما اخلص مهمتي.
رفع إحدى حاجبيه وهتف بإستهانة :
- ابعتلك الباقي يا سلام طيب انت خلصت مهمتك بنجاح عشان تطمع في كمالة التمن ؟
تقدم مليجي خطوة منه وأجابه بنبرته الغليظة :
- انا عملت اللي عليا وصاوبته مات مماتش ده مش شغلي يا ابن الشرقاوي انا ليا حق وعايزه فورا.
- حق ايه يا أبو حق انت مستوعب انك لبستني مصيبة لما مقتلتش آدم وهدخل في مشاكل ملهاش آخر لو قدر يوصلي انا كنت هغنيك لو عرفت تنفذ المطلوب منك بس طالما فشلت يبقى ملكش عندي حاجة واتفضل امشي من هنا قبل ما حد يشوفك هنا و...
قطع كلامه عندما انقض مليجي قابضا على ياقته بعنف وسحب السكين صغيرة الحجم من جيبه ووضعها على رقبة صفوان هاسًّا بوحشية :
- مش من مصلحتك تعاديني يا شرقاوي متنساش الشغل القذر اللي كنت بخلصهولك قبل كده وكام مرة نظفت من وراك متجيش دلوقتي وتخليني اقلب عليك.
اهتزت حدقتا عينيه شاعرا بالسكين تنغز مجرى تنفسه وخاف من أن يقتله فتمتم بتقطع محاولا ثنيه عما ينوي عليه :
- حط في بالك انك مش هتخرج من أرضي وانت حي لو فكرت تؤذيني فـكن واهدى ومتلعبش بالنار.
أطلق سُبابا من شفتيه ودفعه بعيدا عنه متلفظا بتهديده إليه :
- أنا معتبرك عدوي من اللحظة ديه وهتشوف انا هعمل ايه فيك.
قلب صفوان عيناه بملل وأدخل يداه في جيوب بنطاله بينما يردد :
- هتروح تعترف للعمدة بـ انك اتعاونت معايا عشان نقتل خليفته فاكرني هخاف من التهديد ده.
- مش مليجي اللي يستنى من حد ياخدله حقه !
هدر بحدة وغادر لتختفي تعبيرات الهزل من وجه صفوان ويضرب قدمه على الأرض لاعناً إياه ثم برطم :
- مكنش ناقصني غير كلب الفلوس ده علشان يجي يهددني.
أخرج هاتفه وطلب رقم مراد للمرة التي لا يعلم عددها إلا أنه لم يجب عليه هذه المرة أيضا فزفر بخنق هامسا :
- انت وراك حاجة وأنا هكتشفها النهارده او بكره بس هكشفها.
________________
تحرك جسدها الغافي على السرير وبدأ عقلها يعود لحالة الوعي بعد غفوة دخلتها طوال الليل فرمشت ببطء ثم فتحت عيناها المثقلتين بصعوبة ليقع نظرها على السقف مباشرة، عقدت حاجباها بعدم استيعاب حين زارتها ذكريات متداخلة ببعضها انتهت بصوت إطلاق النار فاِنقشعت حالتها الضائعة وزار الإدراك عقلها لتنتفض معتدلة وتجده جالسا على السرير مقابلا إياها مباشرة !
همست اسمه بخفوت تتأمل وجهه الهادئ قبل أن تسأله :
- آدم ... ايه اللي حصلي جيت لهنا امتى ؟
صمتت نيجار متلقية الجواب بنفسها عندما هاجمتها الذكريات مجددا من بينها خيال لشخص أيقظها من اغمائها وجعلها تشرب عصيرا حلوا تغلغل داخلها وأنقذها من الهبوط الذي أصابها لتعود بعدها وتنام براحة غريبة ... رفعت نيجار رأسها إليه وتحدثت مرة أخرى بتوتر :
- انت جبتني وساعدتني من الحالة اللي كنت فيها عملت كده ليه طالما فاكر اني كنت هقتلك ... ولا انت صدقتني ؟
نطقت آخر جملة بلمعة أمل فتخلى آدم عن صمته وتحدث أخيرا :
- عملت كده عشان مكنتش هسمحلك تموتي بسهولة ولا تستخدميني علشان تخلصي من الحياة اللي وقعتي نفسك فيها وسبق وقولتلك ان اي حاجة هتعيشيها هتكون بمزاجي يا بنت الشرقاوي.
وبالنسبة للموضوع التاني فأنا مصدقتيش لأنك طلبتي أصدقك بس لما فكرت لقيت ان لو كنتي انتي اللي مخططة تقتليني كانت هتبقى النتيجة حاجة تانية باِعتبار عندك خبرة في المجال ده.
أخذت نيجار نفسا عميقا وزفرته على دفعات وقالت :
- طيب انت عايز مني ايه دلوقتي.
- عايز اعرف أسامي الناس القذرة اللي كان بيتعامل معاهم ابن عمك ممكن الجاني يكون واحد منهم وهقدر اوصله بطريقة أسرع ومتقوليش انك مبتعرفيهمش.
- افندم وانا هعرفهم ازاي وليه اصلا حضرتك شايفني بلطجية وبعدين مين قالك ان صفوان عنده ناس قذرة بيتعامل معاهم !
رد عليها الآخر ببساطة أزعجتها :
- عيب عليكي ديه سمعتك سابقاكي انتي ووياه ومش هستغرب لو عرفت انك شريكة معاه في كل نشاطاته الو***.
انتفضت نيجار بصدمة وتسرب الغضب إليها سريعا وهي تهدر منفعلة :
- ايه اللي بتقوله ده أنا مبسمحلكش تغلط فيا ولا تعتبرني واخداها مهنة ديه مرة واحدة غلطت فيها ولسه بدفع تمنها لغاية دلوقتي.
ارتعشت عضلات قلبه لثوان عندما سمعها تصف جريمتها في حقه بكلمة "غلطة" وكأنها دعست على رجله بالخطأ فثط وتقلص فمه مستنكرا بيد أنه استجمع شتات نفسه سريعا قبل انتباهها وبرطم :
- قُصره، قوليلي ايه هي أسامي الناس ديه لو بتعرفيهم أو على الأقل شخص محدد كان بيتعامل معاه ولا اسم قاله قدامك لما تقابلتوا في بيت العمدة وبنصحك متخبيش لأن الحقيقة هتظهر فكل الأحوال.
رطبت شفتها السفلية باِضطراب ألمَّ بها وبالفعل حاولت إفادته بشيء ما لربما يصدق بأنها لا تنوي إصابته بأي نوع من الأذى وربما يكون صفوان بريئا حقا هذه المرة فيكتشف آدم ذلك وتثبت براءتها أمامه !
دعكت صدغيها بإرهاق مفكرة حتى نطقت :
- أنا بعرف الراجل اللي اسمه مراد ده هو ساعد صفوان ساعة السبايك بس مبظنش ان ليه علاقة المرة ديه لأني مسمعتش بسيرته من يوم ما انت استرجعت الدهب.
مراد، ذلك الاسم الذي لم يجد أية معلومات مفيدة عن صاحبه لحد الآن إلى درجة أنه يعتقد أحيانا بأن ذاك الرجل بلا هوية دخل لحياتهم فجأة وخرج منها فجأة حتى أن فاروق لم يستطع التأكد من كونه مشتركا مع صفوان في محاولاته لإفساد صفقات عمله أم لا.
هز آدم رأسه ونهض ليغادر فأوقفته نيجار بغتة وهي تهتف بـ :
- ممكن صفوان معملش حاجة بجد المرة ديه لو سمحت متستعجلش قبل ما تتأكد.
رمقها باِبتسامة تخلو من أي طابع للمرح وعقب عليها :
- لأ أنا متأكد من أنه هو لأن ده طبع اندال زي صفوان عشان كده هحرص على اني الاقي الـ*** اللي هاجمني وساعتها هبقى مبسوط وأنا بوري للناس قد ايه عيلتك رخيصة وملهاش أمان وبتعرفي هيحصل ايه بعدها ... هيجي الدور عليكي وتتدفني جمب أخوكي في الرضاعة بس بعد ما امسح بكرامتكم الأرض يا نيجار هانم.
تسمرت بصدمة مطالعة إياه بعدما استمعت لتهديده والتاعت روحها بسببه خاصة حين ألقى عليها نظرة مشمئزة وغادر فتساقطت دموع نيجار بوجع هامسة :
- كنتي متوقعة ايه منه هياخدك في حضنه ويقولك سامحتك لأن ملكيش دعوة وكنتي هتقتلي نفسك عشان اصدقك ؟ انسي اللي بتفكري فيه وبعدين انا بعيط ليه دلوقتي دموعي بقت تنزل بسهولة ليه !
هدرت باِختناق ورفعت يداها تمسح وجهها بعنف تخلله الضعف في آن وجلست مستذكرة تهديد آدم بأنه سيريق كرامتها هي وصفوان أمام الجميع ويقتلهما يبدو أن تأكده من تورط ابن عمها ليس عن عبس ربما هو محق وان أثبت هذا الشي لن تسلم نيجار منه أو من حكمت ...
ولهذا وبعد دقائق صامتة مرت عليها لمعت عينا نيجار بقوة وتنهدت هامسة :
- مش هتورط في العاب صفوان تاني هخلص نفسي منه ومن عيلة الصاوي ومن القرية ديه كلها ... أنا لازم اهرب !
_______________
بعد مرور أسبوعان قضا فيهما آدم وقته رفقة فاروق وهما يحاولان الوصول إلى دليل يدين تورط صفوان في عملية اغتياله وبالفعل أحرزا تقدما واستطاع آدم أن يحصل على معلومات آخر لقاءات أجراها مع أُناس غرباء خاصة عندما أخبره جاسوسه في بساتين الشرقاوي بأن هناك رجلا مريبا زار صفوان بعد يومين من الحادث وارتفعت أصواتهما في المستودع ليخرج هذا الأخير من المكان بملامح غاضبة ساخطة وكأن الشياطين تلتف من حوله كما سمع في إحدى المرات مكالمة أجراها صفوان وتحدث فيها بصراخ قائلا للمتصل بأنه لن يدفع أي مبلغ إضافي نتيجة فشله في مهمته.
واليوم وبالتحديد في هذه الليلة الباردة كان آدم جالسا حول النار يلتحف معطفه الشتوي ويتدفأ من لهيبها بينما يحادثه فاروق بلهجة جادة :
- احنا قربنا نوصل للبلطجي اللي كلفه صفوان بمهمة قتلك الواضح انه لسه موجود في البلد ومش هيهرب قبل ما ياخد المبلغ الكامل ده لو كانت تحليلاتنا صحيحة.
- طيب معرفتوش اسمه ولا اي حاجة تخصه.
- لا بس لما طلبت من العامل يحاول يفتكر ملامحه قالي انه كان شعره بني مايل للأحمر وجسمه ضخم و في علامة جرح بسكينة ع وشه ومع ذلك احنا لسه مش متأكدين ممكن يطلع الراجل ده واحد تاني غير اللي بندور عليه.
همهم آدم موافقا وأردف بصلابة :
- ومع ذلك هنكمل تدوير وراه لازم الاقيه قبل ما يلاقيه العمدة يا فاروق.
أومأ فاروق بإيجاب ثم نظر لكتفه التي نزع الدعامة من عليها وقال :
- أنا بقول لو ندخل لجوا احسن ما نفضل قاعدين في البرد الليل لسه طويل وانت مناعتك لسه ضعيفة وممكن ترجع تتعب حتى كتفك لسه مخفش كويس.
مط شفته بإمتعاض من نفس العبارات التي يسمعها منذ يوم إصابته وأجابه :
- أنا بخير بلاش الاسطوانة اللي بسمعها من حكمت هانم كل يوم من غير حاجة عملت مشكلة لما عرفت اني هقضي الليلة في المزرعة وقالتلي انت لازم تاخد بالك من نفسك مينفعش تفضل في البرد يعني ايه المبالغة ديه كلها حسيت اني رجعت عيل صغير.
وليلى من وقت ما عرفت بقصتي مع نيجار مش راضية تكلمني زي قبل وبتعاتبني ليه خبيت عنها وسمحت لبنت الشرقاوي تدخل بيتي وقال ايه أنا لازم ارميها برا ولا اخد بتاري منها واقتلها ... مش عارف البنت ديه طلعت لمين.
- طلعت لمين ؟ ع أساس انت مش عارف يعني.
علق فاروق ضاحكا فرمقه آدم بطرف عينه ثم عاد يتأمل كومة النار المشتعلة أمامهما حتى رن هاتفه ليجيب عليه :
- نعم يا ستي أنا قولت اني ...
ابتلع بقية حروفه وهو يستمع لما تقوله جدته واسودت تقاسيم وجهه لافظا أنفاسه بخشونة هاسًّا :
- انتي بتقولي ايه ؟
شدد القبض على هاتفه حتى كاد ينكسر ثم انتفض واقفا يتبعه الآخر المتسائل بريبة :
- في ايه ؟!!
أطلق سُبابا لاعنا وركض يمتطي حصانه متوجها للسرايا دون أن يبالي بنداءات فاروق حتى وصل واقتحم المبنى لتقابله حكمت وليلى وبصمت فتركهما وركض لغرفته ينهب الخطوات نهبا حتى اقتلع الباب ودخل مجولا عيناه في المكان ووجده ... فارغ ... لقد هربت !!
الفصل الثاني والعشرون : إبقَ...بجانبي.
_________________
بمجرد رؤيته للغرفة وهي خالية هرع للخزانة يفتحها ورأى أن نيجار أخذت بعضا من أغراضها فقط فركل الباب بغضب وخرج للفناء صارخا :
- ممكن افهم ازاي ده يحصل وانتو كنتو فين انتي كنتي فين يا ستي ازاي نيجار لمت حاجاتها وهربت من غير ما حد ياخد باله !
قابلته حكمت بثباتها الإنفعالي وهي ترى سخطه وعصبيته وردت عليه :
- مش وظيفتي احرسها فكل مكان بتروحله يا حفيدي انا كنت نايمة في اوضتي واختك في اوضتها لحد ما جه الحارس وقالنا انه ملقاش الحصان المربوط برا الواضح ان الست هانم نطت من البلكونة الخلفية وركبت عليه وهربت ... قولتلك ان البت ديه شيطانة وملهاش أمان بس هي مكفاهاش اللي عملته من قبل ودلوقتي جاية تفضحنا وياعالم راحت ع فين.
صمتت تسترجع أنفاسها المهدورة ثم أكسبت نبرتها حدة أكبر وهي تقترب من آدم مردفة :
- ياما حذرتك من تساهلك مع بت الشرقاوي قولتلك اكسرلها ضلوعها وذلها وخليها مترفعش عينيها فيك بس انت عملت ايه اتجاهلتني وقولتلي انا مش هنزل للمستوى ده واضرب واحدة ست ... نفس الست اللي ضحكت عليك وقللت من قيمتك و...
- خلاص كفاية !
هدر آدم يقاطعها قبل أن تبدأ في ترديد نفس العبارات التي حفظها عن ظهر قلب لأنها لم تنفك تذكره بها طوال الأربع أشهر التي مرت على حادثة الطعن، ثم وجه نظره إلى فاروق الذي وصل للتو وسمع الأخبار من الحراس وقال :
- ابعت البهايم اللي تحت دول يروحو يدورو عليها في الشارع اللي ورا وخلي الباقي يحاول يلاقي أثر ليها من الجهة الشرقية وأنا هبقى اتحاسب معاهم ع التقصير ده بعدين.
- ماشي وانت هتروح ع فين دلوقتي.
سأله فاروق وهو يراه يخرج فرد عليه الآخر بإيجاز مقتضب :
- لمحطة القطر جايز هتسافر لازم اوصل لهناك قبل ماهي توصل.
- محطة القطر ؟ طب مش المفروض ندور عليها في بيت الشرقاوي الاول ممكن تكون هربت لعند صفوان وخباها عنده.
توقف آدم عن السير واستدار له مغمغما بغلظة :
- طالما قررت تهرب يبقى اكيد مش هتروح لعيلتها لأنها عارفة اني هلاقيها وارجعها انا بعرف ازاي هي بتفكر ديه قالت اكتر من مرة انها هتسافر للمدينة وغالبا عايزة تنفذ اللي في دماغها.
دلك رأسه بألم واستطرد بنبرة ساخطة :
- بس انا مش متأكد من انها اتواصلت مع صفوان عشان يساعدها تهرب ولا لأ ... لازم الاقيها قبل ما الخبر ينتشر في البلد مش هسمح لحد يقول ان حرمة الصاوي هربت منه.
أنهى كلامه وركب سيارته منطلقا بها في الشوارع المظلمة وهو يشعر بالشياطين تحوم من حوله في هذه اللحظة لا يصدق أنها خططت للفرار دون علمه واستطاعت فعل ذلك من دون انتباه أي أحد في السرايا، ترى منذ متى ونيجار تخطط وكيف امتلكت الشجاعة بل ولماذا الآن بالتحديد هل خافت من تهديده الذي أخبرها فيه بأنه سوف يكشف حقيقتها هي وصفوان أمام الجميع ؟
حسنا يبدو هذا السبب منطقيا اتضح بأنها جبانة للدرجة التي لا تقدر فيها على تحمل نتائج أفعالها لم يكفها ما ارتكبته في السابق ولم يكفي ما فعله ابن عمها بل هاهي نيجار تود فضحه أمام العمدة وسكان القرية أيضا حتى تشوه سمعته وتُفقده مزاياه وتجعله يخسر مكانته كرجل وكخليفة للعمدة في نظر كبار الرجال.
لعن آدم بداخله وضرب مقود السيارة هادرا بغضب :
- انتي مصرة تلعبي معايا اللعب الرخيس ده وتؤذيني بكل الطرق حكمت هانم عندها حق مكنش ينفع اتساهل معاكي و احط في الاعتبار انك واحدة ست بس ادعي يا نيجار اني ألاقيكي بسرعة قبل ما حد يسمع لأن اقسم بربي هدفنك وانتي حية المرة ديه لو سيرتي اتجابت ع لسان حد من البلد بسببك !!
__________________
أوراق متساقطة وأحراش غار حمراء ... طريق وعرة محملة بالطين الناتج عن مطر دام ليوم كامل ... ونسمات شتوية باردة عصفت بالأثقال التي بقلبها فزادته ثقلا لتطفق تستنشق النفس العليل قبل إكمال سيرها ...
لقد بدأت بالتخطيط منذ أسبوع من أجل هروبها، استسلمت وتخلت عن المقاومة من أجل عائلة ضحت بها وزوج يراها نكرة لا تستحق الإحترام فسعت للتحرر وجهزت حقيبة صغيرة خبأتها أسفل السرير تحتوي على قطع من ملابسها وبضع أوراق مالية تكفيها للسفر إلى المدينة وحين تصل سوف تتدبر حلا للمصاريف هناك.
وقفت نيجار تلهث بتعب من المشي لمسافة طويلة في هذا الجو لقد كان عليها ترك الحصان في منتصف الطريق حتى يعود ولا يستطيعوا بذلك تتبع أثرها لكن الشوارع الوعرة تجعل خطواتها متثاقلة لذا ضربت جبينها متمتمة :
- أول مرة بحس اني عملت حاجة غبية للدرجة ديه بس كان لازم استغل فرصة ان آدم مش موجود واطلع الليلة ديه ومن غير ما حد ياخد باله ... بس لازم اوصل للمحطة بسرعة أنا همشي كمان شويا لحد كام اقدر اخد تاكسي ولا توكتوك يوصلني.
حملت حقيبتها الصغيرة مجددا لكي تكمل سيرها ومن شدة البرد أدخلت يدها في جيب معطفها لتستشعر غرضا ما فأخرجته متأملة إياه بشرود لقد كان نفس قلادة عباد الشمس التي أعطاها لها آدم في فترة تعارفهما وحين رآها على عنقها ليلة إعلانه خليفة العمدة انتزعها بعنف ورماها أرضا فاِنكسرت وهاهي قد أخذتها معها بعدما ظلت محتفظة بها في أسفل درج في الخزانة.
مطت نيجار شفتها وهمست ممتعضة :
- ايه اللي خلاني اجيبها معايا ده انت مسبتش كلمة الا وقولتهالي لما شوفتني حاطاها عليا ودلوقتي أنا هربانة منك بس واخدة معايا ذكرى ليك ومش عارفة ليه ... أنا أصلا مبقتش افهم اللي بيحصلي كل ما اشوفك قدامي بقيت حاسة اني مش نيجار اللي بعرفها.
عادت وألقت القلادة داخل جيبها سائرة في حسرة وذكريات لا أحد يشاركها بها سوى جشاء الرياح ... بيد أن وحدتها لم تدم طويلا !!
توقفت قدماها عن المتابعة وضيقت عيناها بتوجس وأذناها التقطت صوت حوافر حصان قادم من بعيد فهلعت مفكرة بأن آدم وصل إليها لكن ظنها خاب عندما تراءى لها خيال جسد مختلف عن خاصة آدم وطفق يقترب وهو على ظهر الحصان حتى وقف أمامها فتراجعت نيجار خطوة إلى الخلف بتحفز قطعه الآخر وهو ينزل مقتربا مننا بملامح لا تبشر خيرا، رمقها من الأعلى إلى الأسفل بنظرات غير مريحة وقال :
- انتي مين يا قطة وبتعملي ايه هنا.
تلونت عيناها بعدائية هوجاء أخفت وراءها رهبة من هذا الرجل المريب وكادت تتابع خطواتها متجاهلة إياه لكنه أوقفها بكلامه وقد اكتسب صوته خبثا واضحا :
- أنا حاسس اني شوفتك قبل كده ... اه افتكرت ... مش انتي الست اللي كانت واقفة مع ابن الصاوي يوم ضربته بالنار.
انتفضت بفزع من كلامه وأحست بخفقات قلبها توشك على الإنفجار حين أدركت بأنها واقفة في طريق معزولة مع المجرم الذي حاول قتل آدم فرمت الحقيبة بتلقائية لتهرب منه لكن الآخر قبض على معصمها وأعادها إليه مقهقها :
- استني يا حلوة رايحة فين ده انتي جايالي ع طبق من دهب عشان اخد بتاري من الـ*** ابن عمك هو مرضيش يديلي حقي وقعد يغتر بنفسه قدامي بس أنا هوسخ شرفه وأخليه ميطيقش يبص في عيون الناس علشان يعرف من بعد كده ازاي يضحك ع مليجي.
تلميحاته القذرة وصلتها بوضوح فوقع قلبها أسفل قدميها وشهقت محاولة التخلص من قبضته صارخة بجزع :
- ابعد عني يا حيوان سيب إيدي ... الـحـقـوني !!
صاحت بأعلى صوتها وهي تثبث ساقيها في الأرض باِستماتة بينما يجرها مليجي خلفه برعونة وسط صراخها المستمر وهي تحاول إنجاد نفسها من قبضته والوصول إلى السكين المخبأة داخل حذائها الطويل إلا أنها لم تقدر لأن حركتها سكنت ... تماما كما سكن صوتها بعدما ضربها على رأسها وأفقدها الوعي !
وبعد مدة رمشت ببطء وقد تحرر عقلها من حالة الإغماء وعاد للوعي إثر إستمرار رأسها في الاهتزاز لعدة مرات قبل أن تفتح عينيها فتجد نفسها مربوطة على ظهر الحصان مثلما رُبط فمها ويديها فاِنتفضت متململة بعنف تضرب بقدميها في الهواء وتحاول التحرر بدموعها الغزيرة وصياحها المكتوم حتى توقف مليجي أمام كوخ مهترئ وسحبها معه ليرميها بالداخل ملقيا إياها على الأرض وهو يضحك بزهو منتصر :
- أخيرا وقعت بين إيديا وليمة مبتتقدرش بتمن. شرف الشرقاوي والصاوي بقى بين إيديا وهعمل مابدالي فيه.
لو أن الكابوس يعاش على أرض الواقع لتجسد في حالة نيجار الآن وهي مخطوفة من قبل قاطع طريق ينوي الانتقام من غريمه بواسطتها ولو أن الجماد ينطق لتلفظت جدران الكوخ بالرعب الذي تعيشه هي حاليا، رفعت يداها المقيدتان لتزيح الرباط من على فمها وهتفت بأنفاس محبوسة ووجه شاحب :
- أنا مش عارفة ايه هي مشكلتك مع عيلتي بالضبط بس اللي لازم انت تعرفه انك هتودي نفسك في داهية لو اذيتني ... جوزي مش هيسيبك هيجي يقتلك من غير ما يرفله جفن.
أطلق ضحكات صدئة فخرجت رائحة الخمر المقرفة من فمه لتشعرها بالغثيان ثم انحنى عليها ومرر يده على وجهها مرددا :
-و فين جوزك ده سايباه في نص الليل ومروحة ع فين ولا هو رماكي لما عرف انه ابن عمك اللي خطط لقتله بس تعرفي أنا هاخد اللي عايزه منك وارميكي عند باب بيت الشرقاوي عشان الكل يشوف الـ*** وهو...
صفعة مدوية حشرت سيل كلماته الشنعاء في حلقه وجعلت رأسه يرتد بعنف حينما انتفضت نيجار بإشمئزاز من لمسته وهبطت بظهر يدها على صفحة وجهه بكل ما أوتيت من عنفوان نضح من صرختها الشرسة :
- النجوم أقربلك مني يا ندل يا واطي !!
بَيد أن هذا الندل الذي يعتبر أن التعدي على جسد امرأة هو نوع من الرجولة أظلمت عيناه بجنون وأعاد لها صفعة بواحدة أقوى صارخا :
- انا كنت ناوي اسيبك عايشة بس حتى الحياة مش هتطوليها.
أنهى مليجي كلامه ضاربا رأسها في الأرض فصرخت نيجار وهي تركله وتقاوم يده التي امتدت لمعطفها تمزق أزراره كانت دموعها مختلطة بقطرات الدماء التي تسربت من انفها النازف إثر صفعاته كي يفقدها قوتها فداهمها الدوار بضراوة لكنها جاهدت لتبقى بوعيها وتنقذ نفسها فرفعت قدمها وسحبت السكين من داخل حذائها لتوجهه نحوه من دون تردد فأصاب كتفه !
انصدم مليجي من فعلتها وصرخ بألم شاتما إياها وتنحى جانبا يتأوه بشدة مرددا :
- يا بنت الـ*** أنا هوريكي.
قفزت من مكانها بهستيرية وتحاملت على نفسها مستخدمة كل طاقتها المتبقية لتنهض وتهرب وبمجرد وصولها للباب المهترئ شعرت بقبضته تمسكها من الخلف وتسحبها حتى تقع على الأرض وهنا صرخت نيجار بأعلى صوتها :
- ابـعـد عـنـي ... آااادم !!
وأغمضت عيناها بعدما خيل لها بأن رأت وجهه، وسمعت صوته، أو ربما لم يكن خيالا ...
_________________
شد بأصابعه على عجلة القيادة حتى انحسرت كل نقطة دماء فيها، فهز رأسه بقوة وهو يحاول باِستماتة تبين الطريق من خلف رؤيته الضبابية المغشاة مدمدما بأعصاب تالفة :
- واحدة غبية يوم ماحبت تهرب طلعت في الجو ده انتي بلائي في الدنيا ديه بس استني وشوفي هعمل فيكي ايه لما الاقيكي.
ختم توعده الخافت بشهقة حادة عندما باغته اِنزلاق أرضي شديد ألقى به بعنف إلى الأمام وأوقف معه السيارة بشكل كلي، فاِنتزع نفسه من لجة الصدمة وترجل ليرى العجلة وقد انغرزت بعمق داخل حفرة فجة، فلعن بداخله وجال بعينيه المضطربتين بقلة حيلة في الطريق المهجور للحظات قبل أن تلتقط أذناه أصواتا أشبه بوقع حوافر حصان وتوقف بغتة ثم صدعت صيحة بعيدة مع كلمات متداخلة دامت لثوان وسكتت على حين غرة ...
اتسعت عينا آدم بتلجلج مرددا اسمها بخفوت وركض لمرمى الصوت أسفل قطرات المطر الخفيفة وهنا جفت الدماء في عروقه حينما أبصر حقيبة صغيرة مرمية على قارعة الطريق ... حقيبتها هي !!
صعق آدم وحانت منه التفاتة نحو أطراف الغابة التي لاحت من خلف سيول الوبل الجائر ليستمع لوقع حوافر الحصان مجددا لكن هذه المرة وهو يبتعد فهز رأسه يمينا وشمالا هامسا :
- معقوله تكون ... نيجار ..
ثم ألقى بنفسه نحو الغابة !
***
شق تلافيف الغابة راكضا بمصباح كان نوره هو نقطة الضوء الوحيدة وسط ظلام دامس يجري من دون أن يلتفت إلى الخلف وأمطار السماء السخية ازدادت وتيرة انهمارها لتمسي سيولا جارفة أغدقت على جسده وهو يلهث مفزعا كائنات الغابة الحية بصرخاته المنادية :
- نـيـجـار.
وفي كل مرة كان يجيبه الصدى وبضع رفرفات لأجنحة طائر حانق !
هام آدم على وجهه مرات عديدة حتى بدأ اليأس يتسرب إليه وقد بدأ يفكر جديا بالعودة أدراجه نحو الطريق الخارجي شاتما نفسه ومتسائلا مالذي جعله متأكدا من أنها هي التي دخلت لهذه الغابة الموحشة فربما جاء صفوان وأقلَّها بنفسه أو أنها تركت حقيبتها لأي سبب وعادت للمنزل ولكن ما سبب سماعه لصرخة مستغيثة ترى هل كان يتوهم ذلك ؟
توقف عن الركض واستند لأحد الأشجار بعدما اشتد ألم كتفه وشرع يسحب الهواء لرئتيه بعمق حتى استرجع بعضا من أنفاسه وفكر بأنه ربما عليه تغيير الوجهة لأنه لا يرى ولا يسمع شيئا يدل على وجودها هنا، وبينما كان يهمّ بتنفيذ قراره التقط بطرف عينه لمعة على الأرض انعكست مع نور المصباح فدقق النظر وتراءت له ... قلادة عباد الشمس !!
انتفض آدم يلتقطها بلهفة وقد تيقن من أنها دخلت للغابة بالفعل فاِنطلق ثانيا يتبع هذه المرة آثار الحوافر حتى لمح كوخا من بعيد وركض ناحيته لينقبض قلبه بين ضلوعه حين وصلته صرخاتها المستنجدة وكانت آخر صرخة منها مقترنة باِسمه في نفس الوقت الذي حطم فيه الباب ليرى أسوء ما أبصرته عيناه منذ ولادته ... نيجار المغمى عليها بحالٍ مزرٍ ووغد يتهجم عليها بوجه مخدوش وكتف نازف ...
كلفه الوقت ثانيتان فقط قبل أن يقطع آدم المسافة الفاصلة بينهما ويكوّم مليجي على الأرض هادرا بصوت انعدمت منه ذرات الآدمية :
- يا *** يا **** أنا هقـ.تلك ... هـقـ.تـلــك !
تمرغ مليجي أسفله وحاول مقاومته لكن آدم الذي تحول لوحش بغيض جن جنونه وتدفقت بين عروقه حمما بدلا من الدم وهو يشرف عليه كملك الموت مكيلا له سيلا من اللكمات العنيفة التي انفرط لها ضماد كتفه لكنه لم يهتم بل كان كمن فقد تواصله بالدنيا أساسا ليجعله ينهض ويضرب رأسه عدة مرات على مائدة صغيرة يصرخ بجنون :
- ازاي تعمل كده في مراتي ازاي تلمس مـراتـي هقـ.تلك، همسحك من على وش الدنيا يا حـيـ.وان.
تفجرت الد.ماء من فم مليجي تماما كما تفجرت من فمه ومختلف أنحاء وجهه وجسده وقف عاجزا أمام هذا الهجوم الذي اكتسحه بضراوة حتى رماه آدم على الأرض لاهثا بحدة ليعسل هذا الأخير وتختنق كلماته في حلقه وهو يحاول التحدث :
- متقتلنيش ... أنا ... هساعدك اااه.
صاح ممزقا بالألم حين دعس آدم على ساقه لكنه تابع أملا في نيل رحمته مقابل الإعتراف بما اقترفه :
- أنا اللي صاوبتك بأمر من صفوان ... هشهد ضده بس ...
وانقطعت باقي حروفه مع خروج رصاصة من مسدس آدم مفـ.جرة رأسه !
***
بقلب ملكوم وفؤاد مفصوم، وجرح غائر فتك بكيانه المهزوم انحنى عليها يحرك جسدها المكدوم بين ذراعيه بلهفة وطفق يضرب وجهها بخفة لتستيقظ لكن سرعان ما توقف وهو يرى جروحها المفتوحة التي حتما لا تتحمل وضع لمسة إضافية عليها فتنهد بحرقة هتكت به وبرطم محدثا إياها :
- أنا لحقتك ... لحقتك وهطلعك من هنا متخفيش ... أنا معاكي.
تحامل على نفسه وهوان ساقيه ليحيط يدها حول رقبته قبل أن يأخذ نفسا عميقا ويحملها بين ذراعيه مخرجا إياها بعدما حرص على تغطيتها بالمعطف الشتوي نظر حوله بتيه باحثا عن الحصان الذي رآه منذ قليل وتعثر عقله بإدراك أنه ربما هاج وهرب خوفا من صوت الرصاص فزفر رافعا رأسه للسماء الماطرة بجنون متضرعا المدد من الله ثم سار يمشي بنيجار على الطريق الوعر وكل ما يتمناه هو ألا يخطئ في معرفة طريق العودة ...
_________________
رفع رأسه يحدق في المستشفى التي بدت له بعيدة المنال طيلة ساعتين عاصفتين وهو يحملها ويمشي بخطوات متثاقلة قضت على الباقي من قوته حتى وصل لمكان سيارته ونقلها بها ... فتمتم بهمسات شاكرة وتوقف باِندفاع عند مدخل الطوارئ هاتفا بوصب مرتاع :
- جيبو ترولي بسرعة ... مراتي بتموت.
اندلعت الحركة في المكان استجابة لهديره المهتاج مفزعا بعض الممرضين والمرضى الذين توجسوا من هيأته المزرية الفاقدة لكل معالم التحضر قبل أن يتمالك المعنيون بالأمر انفسهم ويجلبوا نقالة فدار حول السيارة واقتلع بابها الخلفي لتتبين له تلك المغيبة عن الحياة، هبَّ ينتشلها من المقعد بسرعة حين تراخى رأسها الشاحب على صدره ثم وضعها على النقالة مرددا وهو يتبع المسعفين الذين ركضوا بها إلى غرفة الفحص :
- اتضربت في دماغها ونزفت كتير أنا حاولت اكتر من مرة بس مقدرتش اصحيها.
وصلوا للمكان المنشود فأوقفته الممرضة عن المتابعة مرددة :
- حضرتك احنا هنشوف حالتها ونعمل الازم متشغلش بالك بس لازم نكشف عليك بردو.
أشارت لكتفه النازف المتهدل وهو يعجز عن تحريكها وطالعت لبرهة مظهره المدمر كمن خاض حربا تركته هائما لسنين طويلة، ببنطاله المتسخ بالوحل وشعره الأشعث الثائر وحدقتاه الحمراوتان نتيجة انفعاله وإرهاقه.
تأوه آدم فاقدا التوازن فأسنده الممرض وأخذه إلى حيث يستطيع تطهير جرحه وتجديد الضماد وفي هذه الأثناء ظهر فاروق الذي جاء على وجه السرعة حينما اتصل به الآخر منذ نصف ساعة نظر إليه بفزع مبرطما :
- آدم ايه اللي حصل مالك ايه اللي عمل فيك كده.
تنهد بشجن واستقام واقفا ليهرع فاروق مساعدا إياه ويأخذه للمقاعد في الخارج مرددا باِستماتة :
- ساكت كده ليه قولي حصل ايه انت بتعمل ايه هنا والست نيجار فين.
- نيجار جوا في اوضة الكشف.
- نعم !
- اتخطفت ... والـ*** اتهجم عليها.
فغر فمه متلقيا الصدمة وسأل عما يعني هذا فشرع آدم يسرد له باِقتضاب بداية من سماعه صرخة استنجادها حتى إنقاذها وقتله لذلك الوغد، كان من الصعب عليه أن يحكي لرجل آخر عما تعرضت له زوجته ولكنه اضطر للبوح من أجل التعامل مع الموقف قبل وصوله لأحد غيره وكان له ذلك عندما تنهد فاروق بسخط مغمغما :
- يغور في ستين داهية الكلب ده، متشغلش بالك هتصل بحكمت هانم واقولها أنك لقيتها في الطريق وهترجعها وبعدين اكلم الرجالة واخليهم ياخدو جثته ويدفنوها ... ومحدش هيعرف باللي حصل غيرنا احنا الاتنين.
هز رأسه باِمتنان لينهض فاروق ويجري اتصالاته أما آدم جلس منتظرا حتى خرج الطبيبة وقالت بعملية بحتة :
- المريضة اتعرضت لمحاولة إعتداء ونجت منها بس باين أنها قاومت جامد فـ اتلقت عنف كبير من المعتدي وده واضح من حالتها ... آدم بيه ممكن اعرف مين الست ديه ؟
أجابها بصوت خافت :
- مراتي ... هي اتخطفت وأنا لحقتها ع آخر لحظة.
تهدلت عيناها بتعاطف معه وقالت :
- أنا المفروض ابلغ عن الحادثة بس متفهمة ان حضرتك مش عايز شوشرة عشان كده مش هفتح محضر.
- ماشي ... شكرا.
- العفو يا بيه حضرتك ياما ساعدت عيلتي وجه وقت اردلك الجميل وعموما انت بتقدر تاخد مراتك هي نايمة دلوقتي بسبب المخدر ومش هتفوق غير بعد كام ساعة حمد لله على سلامتها.
________________
تزامنا مع طلوع الفجر لبداية يوم جديد توقف بسيارته أمام السرايا الخالية من حراسها بأمر من فاروق ثم حمل نيجار وصعد لغرفتهما بهدوء كي لا يستيقظ فرد من أفراد عائلته، وضعها على السرير برفق وذهب ليستحم ويبدل ملابسه ثم جلس بجوارها مطالعا الشاش الملتف حول رأسها والكدمات الباهتة هنا وهناك متذكرا تفاصيل أطول ليلة عاشها بحياته وتغضن وجهه بضيق وحسرة :
- مش عارف ألومك واحط الحق عليكي ولا اتعاطف مع حالك واسكت ... انتي حطتيني في موقف الراجل اللي شاف مراته بتتعرض لهجوم كل لما افكر اني كان ممكن موصلش في الوقت المناسب ولا ماخدش بالي من صوتك بحس بغضب كبير ناحيتك.
مد أصابعه يتحسس جروحها مردفا بشجن :
رغبتك الكبيرة في انك تؤذيني اتقلبت عليكي وكانت هتوديكي في داهية حقدي ناحيتك كبير بس مع ذلك مش قادر اشوفك بالضعف ده ... البنت اللي من اسبوعين حطت سلاحي على دماغها ومرفلهاش جفن لما الرصاصة طلعت من مكانها وضربت الحيوان إياه بسكينة وشوهت وشه عشان ميقربش عليها مينفعش تكون في الحالة ديه دلوقتي.
قطع وصلتهما صوت رنين الهاتف فأجاب عليه واستمع لفاروق وهو يخبره بأن وصل للكوخ المنشود ودفن جثة القتيل كما أنه حرص على كتم خبر هروب زوجته والتهجم علبها ولن يصل لأي أحد كان فشكره وانهى المكالمة ثم جلس على مقعد خشبي في طرف الغرفة مفكرا في أن فاروق لن يكون بهذا التقبل إذا عرف هوية القتيل فهو سبيله الوحيد لإثبات جريمة صفوان وآدم يعلم ذلك جيدا لكن رجولته لم ولن تقبل أن يُبقي عديم الشرف الذي تعرض لزوجته على قيد الحياة بل ويساعده في مسألة اغتياله أيضا.
تنهد وفرك ذقنه مستدركا بهمس :
- بس طالما صفوان والبني ادم ده متفقين مع بعض والمفروض شركا يبقى ليه يروح يتهجم ع نيجار معقوله ميكونش عرفها وطمع فيها لمجرد أنها ست ماشية لوحدها بليل ... طيب ولو كان بيعرفها ايه هيخليه يعمل فيها كده ممكن حصلت مشكلة بينه وبين صفوان وحب ياخد بتاره منها ولا يمكن نيجار على معرفة بيه من وقت طويل وهاجمته على عملته فيا لأنها مش عايزة تدخل في مشاكل لما انا اتضرب.
تأفف بخنق فجأة وهو يشعر بعضلات جسده تكاد تتفكك من الألم والتعب فحاول النوم قليلا وبالفعل أغمض عيناه سامحا لنفسه بأخذ غفوة قصيرة ...
بيد أنها لم تكتمل لأنه انتفض كالملسوع في رقاده على الكرسي فاِستجمع وعيه المجهد بصعوبة وارتد رأسه نحو مصدر الأصوات المعذبة التي تحشرج بها حلق نيجار الغافية فذهب اليها وفاجأه الروع الذي فجع ملامحها وتيبس جسدها أسفل الغطاء دون أن تنفك حبالها الصوتية عن متابعة نشيجها وأنينها المستنجد.
وقف آدم متلكئا لبرهة حتى حسم أمره وهز كتفيها مبرطما :
- نيجار ... نيجار اصحي.
وصلها صوته مكتوما كما لو أنها غارقة في المحيط المظلم وظلت تنتفض بأنين حتى صدرت شهقة مجفلة وانبثقت من جوفها محررة كلمة واحدة ... اسمها واحدا :
- آدم !!
شخصت بعينين جاحظتين في تقاسيمه بينما يهتك رأسها طنين عنيف صاحت على إثره وهي لا تزال تحت تأثير الحادثة :
- ابعد عني ... لا متلمسنيش ... ابعد عني ...
انتفضت متراجعة لظهر السرير منتفضة بهستيرية ومحيطة جسمها بكفيها فرفع آدم يداه في الهواء مرددا :
- نيجار انتي هنا معايا اهدي.
هزت رأسها ترفض الإستماع وشدت على شعرها صائحة :
- مقدرتش ... مقدرتش انقذ نفسي ... هو لمسني ... لمسني.
تفاجأ من حالتها فسارع يطمس ظنونها السيئة يرجها بين ذراعيه بهمسات متثاقلة :
- محصلش حاجة يا نيجار صدقيني انتي ضربتيه ولحقتي نفسك ... نـيـجـار بصيلي واسمعيني.
ارتدت نحوه عيناها الملكومتان بتكذيب فصفعتها نظراته المدججة بالصدق وانهمرت دموعها متيقنة بأنها مع آدم الآن ... آدم الذي رأته في خيالاتها وهو يركض بها في الغابة المظلمة تحت زخات المطر القوية متأوها بين الفينة والأخرى بسبب ثقله الذي آلم كتفه المصاب ... آدم الذي ضمها بحماية ووعدها بإخراجها من الكوخ وإنقاذها ... آدم الذي يجلس بجانبها في هذه اللحظة ويطمئنها ... يخبرها بأنها أنقذت نفسها بنفسها !!
وشعر هنا بحرارة اللقاء، حينما ارتخت أطرافها المتصلبة وهدأ صراخها الملتاع، وانقضت عليه واضعة رأسها على صدره وذراعاها حول خصره، هامسة بنشيج حار أرهف روحها :
- متسيبنيش لوحدي ... أنا خايفة.