الفصل الأول : بداية اللعنة
__________________
."بين الغفلة والخيانة يوجد خط رفيع ...
فإذا إستقام الخط نجت الروح من الوقوع في الخطيئة، و إن مال قليلا ... تشتت منطق العقل و غرق القلب في قعر السواد ... والموت هو النتيجة "
في بلدة صغيرة بعيدة عن المدن وصخبها ، المتميزة بجمالها وهدوئها ، وبساطة سكانها..
وبالضبط داخل مزرعة واسعة حيث المناظر الطبيعية الخلابة التي تظهر مدى إهتمام أصحابها بها نظرا لمكانتها بالنسبة إليهم ...
كان يركض في الساحة على منحى دائري ممتطيا جواده في هذا الوقت المبكر من صباح يوم خريفي ، حيث انتهى من فرز البساتين والإطمئنان على سير العمل بشكل مثالي ليتوجه للإسطبل ويزين الحصان بالسرج واللجام سارحا به وسط المروج الخضراء الممتدة من حوله ...
وبعد دقائق قفز من على الحصان وأعطاه للرجل الذي يكلفه عادة بالإهتمام بالإسطبل ثم تقدم إلى الساحة التي أعدت خصيصا للتدريب على التصويب ورمي السهام ، حمل البندقية ووقف في نقطة معينة حاملا إياها بين يديه المتينتين ثم رفعها للأعلى معطيا إشارة للشخص الذي يبعد عليه بمسافة طويلة كي يبدأ بإطلاق الكرات المطاطية في الهواء ...
وبينما تنطلق الكرات بسرعة فائقة بإتجاه السماء قام الأخير بتصويب الرصاص عليها واحدة تلوَ الأخرى بمهارة وتركيز شديدين حتى انتهى منها دون أن يخطئ هدفا واحدا !
- طول عمرك شاطر في التصويب وبتجيب الهدف بتاعك من أول مرة يا آدم بيه.
صدر صوت من خلفه فتهكم آدم وهو يعطي الإشارة لإطلاق الكرات في الهواء مجددا :
- لسه بدري يافاروق.
تنحنح الآخر واقترب منه مبررا سبب تأخره :
- اخويا محمد كان تعبان النهارده الصبح ومقدرش يروح يوصل اخت حضرتك للكلية بتاعتها علشان كده انا وصلتها بداله.
- ماله اخوك مجبتلوش طبيب يشوفه ليه.
- لا مفيش داعي هو اخد شوية برد و الحجة بتاخد بالها منه دلوقتي هيبقى كويس من هنا لبكره.
صمت فاروق قليلا يفكر في شيء ما قبل أن يستجمع شجاعته ويسأله :
- سمعت ان العمدة طلبكم امبارح انت و ابن عيلة الشرقاوي خير كان عايز ايه منكو؟
تجهم وجه آدم عند ذكر سيرة ذلك البغيض لكنه لم يظهر ذلك وهو يجيبه بهدوء شابه ملامحه التي لا تظهر مايفكر به عادة :
- كان عايز يعمل جلسة صلح مابيننا لان مشاكلنا كترت والأهالي بدأوا يشتكوا وانا فهمته ان عيلتنا ملهاش دعوة ومش عايزين نحتك بيهم أساسا بس التاني هو اللي بيعمل المشاكل وانا طبيعي أرد عليه لما ألاقيه بيتعرضلي، وبعدها اخد العمدة وعد شرف مننا عشان نهدا ومنعملش مشاكل بس انا مش واثق فيه
- ليه ؟
- لانه عديم شرف علشان كده مش هيلتزم بوعد الشرف بتاعه.
أجابه ببساطة فهمهم فاروق بإقتناع مفكرا بأن تصالحهما سيكون أفضل شيء يحل على العائلتين وعلى أهل البلدة فعلا ولكن مثلما قال آدم لا يمكن الوثوق بذلك المتحذلق الذي يسعى لخلق المشاكل دائما.
في نفس الدقيقة رن الهاتف فأجاب على الإتصال لينكمش وجهه بعد سماع كلام الطرف الآخر ثم أغلق الخط ونظر إلى آدم الذي سأله بإحتراز بينما يطلق الرصاص :
- في ايه.
لعق شفته السفلية مجهزا الكلمات التي سيقولها ثم رد على سؤاله بإحتراز :
- إبن الشرقاوي رجع عمل مشاكل من تاني.
ورافق كلمته تلك آخر رصاصة إنطلقت من بندقية آدم الذي توعد له بالنهاية هذه المرة !
__________________
في إحدى المقاهي بالبلدة.
صدر صوت لكمة قوية سقطت على وجه رجل خمسيني فوقع على الأرض متأوها يستمع للذي يصرخ عليه بسخط :
- انت مبتفهمش بقولك عايز حقي يعني عايزه فاكر هتقدر تفلت مني لما تشتكي للعمدة.
إنقض مساعدوه على الجسد المنهك ليرفعوه بعنف تحت استنكار الأهالي الذين يشهدون على هذه الواقعة بينما يتمتم الرجل بقلة حيلة :
- يا صفوان بيه والله انا محيلتيش قرش واحد اديهولك ومش لاقي اكل لعيالي بالله عليك اصبر عليا شويا وانا هردلك الدين كامل.
أمسكه صفوان من ياقة قميصه المهترئ وهو يهزه هادرا :
- مش على أساس بدأت تشتغل عند ابن سلطان من كام يوم ايه هو مبيديلكش حقك ولا ايه.
- كتر خيره آدم بيه اول لما سمع ان بقالي اسبوع مدخلتش لقمة لعيالي بعتلي اللي فيه النصيب وستر عليا.
أجابه بخوف وحرج من إهانته أمام الجميع لكن صفوان الذي انكمشت ملامح وجهه بكره عند سماع إسم عدوه لم يلقِ بالا لمكانته أو لسِّنِ الرجل فطفق يهدر بقسوة :
- وانا مالي بيك وبعيالك بتشكيلي ليه اومال بتستلف ليه مادام انت مش قدها ! انا عايز فلوسي وإلا اقسم بالله لموتك.
نزلت دموعه بإنكسار مخزٍ مستمعا للإهانات التي يتعرض لها من هذا الظالم ورجاله الذين لا يعرفون معنى الرحمة وقبل أن يتوسله أكثر لمح سيارة يعرفها جيدا تدخل وسط الساحة ثم يظهر من داخلها آدم الذي غمغم بصوت جهوري :
- في ايه بيحصل هنا انت بتعمل ايه !
تهللت أسارير البعض وإحترز البعض الآخر خاصة صاحب المقهى الذي طفق يجمع ما يمكن إنقاذه من محتويات محله خوفا من بدء شجار بينهما كالعادة فيتضرر رزقه ، بينما رد عليه صفوان متأففا بضيق :
- ديه حاجة بتخصني انت ملكش دعوة.
اقترب منه آدم وأزاحه عن طريقه لينتشل ذلك المسكين ثم قابل صفوان وجها لوجه ، تطلع في تقاسيمه التي تبعث في نفسه الإشمئزاز ومالبث أن هتف ببلادة :
- طالما عملت المسرحية ديه قدام الناس يبقى مبتخصكش انت لوحدك ثانيا المفروض تراعي ان الراجل ده في سن أبوك ومتهينوش بالطريقة ديه ثالثا والأهم لو عندك مشكلة اتعامل معاها زي الرجالة و اشرحهالي عشان نلاقي حل ليها.
- وانت مين بقى علشان اشرحلك مشكلتي ايه حد وكلك محامي ليهم ولا مصمم كل مرة تلعب دور الشهم اللي بيدافع عن المظلومين؟ امشي يا آدم انا مش عايز ارد عليك عشان هتروح جري للعمدة تشكيله مني زي عوايدك.
تنحنح فاروق الذي كان يقف خلف آدم وهو يتأهب في حال اندلع الشجار الآن وهجم رجال صفوان عليهم، إلا أن آدم لم يعر بالا لعجرفته بل أشاح وجهه ونظر للرجل المكدوم هاتفا :
- عمي محسن انت روح كمل شغلك دلوقتي ... وانت يا صفوان انا هتكفل بالدين بتاع الراجل يلا امشي معايا نروح نتفاهم في مكان تاني لأننا عاملين دوشة هنا.
تفاجأ الآخر من موقفه بعدما كان يتوقع أن يغضب ويتهجم عليه أمام الجميع ليظهر بصورة المخطئ فزاد هذا من حنقه خاصة عندما انحنى محسن على يدي آدم ليقبلها مرددا بلهفة :
- ربنا يحفظك ويسترك دنيا وآخرة زي ما سترتني.
لكنه سحب يداه سريعا متمتما بأن لا لزوم للشكر وطلب منه العودة إلى منزله، ثم عندما أوشك على المغادرة هو أيضا أوقفه صفوان متمتما بسخرية :
- عرفت تلعب دورك كويس وتظهر للناس قد ايه انت راجل جدع مش كده انا لازم اتعلم الاستعراض منك.
رفع يده ليحك طرف ذقنه مبتسما قبل أن يجيبه ببرود :
- وحتى لو تعلمت مش هيليق عليك لأن معدنك قذر زيك يابن الشرقاوي الجدعنة والشهامة مش مناسبين ليك.
حدجه صفوان بحقد أهوج وهو يشد على قبضته محاولا اِسترداد حق كرامته المهدورة :
- بس الاستعراض لايق عليكم يا إبن سلطان الصاوي بتاكل حق الناس من جهة وبتعمل نفسك بريء من جهة تانية زيك زي كل عيلتك.
- عيلتي مكلتش حق حد وأي حاجة كسبناها وخدناها كنا بنستاهلها بس انتو اللي كدبتوا الكدبة وصدقتوها ! وتاني مرة متجيبش سيرة عيلتي بالباطل عشان مغرقش وشك في ترعتكم.
رصَّ آدم حروفه بصلابة تتخللها نبرة تحذير عساه يدخل الفكرة في رأسه ثم أشاح وجهه عنه مستعدا للمغادرة...
لكن صفوان الذي قبض على ذراعه لم يسمح له بذلك وهو يأبى أن ينهي المواجهة بسهولة :
- خايف من وجع الحقيقة صح؟ مش جدك وأبوك سرقو مننا حق الزعامة متحججين بمرض جدي و ع أساس ابويا وعمي مكنش ينفع يورثوه لانهم مش قدها؟
نظر آدم إلى موضع يد صفوان على ذراعه وقد بدأت عضلات فكه تنقبض بإنفعال مما يسمعه ومع هذا حاول السيطرة على نفسه قدر الإمكان فغمغم مهددا :
- سيب دراعي ومتلعبش بالنار.
إبتسم الآخر بإستمتاع متابعا :
- حتى لو انكرت بس الحقيقة هتفضل موجودة انت حرامي ابن حرامي والخداع والسرقة ماشيين في دم عيلة الصاوي ااا...
في اللحظة الموالية وبدون أن تتاح له فرصة الرمش حتى ، وجد صفوان نفسه يتراجع خطوة للخلف إثر قبضة ادم التي نزلت على وجهه بغفلة منه فصرخ بألم مفاجئ بينما دخل رجال كلا منهما في الإشتباك فورا وعاد الأهالي للتجمع ومشاهدة القتال المحتدم !
رفع ساقه يركله والآخر يلكمه ويواصل ضربه في اشتباك عنيف جعلهما ينزفان بدون اِهتمام منهما وبعد مرور دقائق على الصراع انتهى الأمر بجعل آدم يلوي يد صفوان خلف ظهره ويضربه على ساقه ليسقط الأخير جاثيا على ركبتيه فورا، حاول الإفلات منه لكن آدم ثبته مغمغما بصلابة :
- هدي الرجال بتوعك ومتخليش الموضوع يكبر من مفيش لاني مش هقدر اصبر عليك اكتر من كده !
توقف الرجال عن الشجار وتعالت هتافات المتفرجين بحماس مريب من بعضهم وخوف وقلق من البعض الآخر بينما شعر ذاك الذي مازال يجثو على ركبتيه بأن كرامته هُدرت تماما فقال بعجرفة يائسة محاولا النهوض دون جدوى :
- مبتقدرش تعمل حاجة انت اخرك الكلام وبس.
زفر آدم بصبر نافذ وقد تأكد من أنه يهادن بلا فائدة فاِنحنى يستل سكينا من داخل حذائه الجلدي ليضعه على عنق صفوان هادرا بقسوة :
- صدقني لو معقلتش هتبقى نهايتك على ايدي انا يابن الشرقاوي وانا مبهددش زيك انا بنفذ اللي بقوله !
تهكم مظهرا الإستهزاء رغم ألم الجرح الطفيف الذي سببه السكين الموضوع على بشرته مباشرة، والخوف الذي بدأ يتسلل إليه فهو يعلم جيدا بأنه طالما سحب السكين إذا هو بالتأكيد قادر على قتله الآن، وقبل أن يبدي رد فعل آخر صدر صوت صهيل الخيل من بعيد فجأة منبئا عن قدوم أحد وربما صفوان يعلم جيدا من الذي جاء فرفع رأسه بسرعة وهمس :
- نيجار !
إشرأبت أعناق الجميع ومنهم آدم إلى الفتاة التي قفزت من على ظهر الحصان بمهارة وطفقت تقترب منهم بشموخ تاركة شعرها الأسود يتطاير في الهواء حتى وصلت إلى التجمع هاتفة :
- ايه اللي بيحصل وايه اللي حضرتك بتعمله يا آدم بيه هي الأحوال وصلت بيك لهنا ؟
- نيجار ايه اللي جابك امشي من هنا بسرعة.
وبخها صفوان بحنق لكنها تجاهلته و اإلتفت للآخر الذي تمتم ببرود :
- ديه حاجات بتخص الرجالة واحنا مش متعودين نحشر الحريم وسطينا.
- لو الحرمة ديه شايفة واحد ناوي يدبح ابن عمها يبقى هي مضطرة تدخل مش معقول تفضل ساكتة.
تنهد وقد أرخى ضغط السكين من على رقبته :
- ابن عمك اللي بدأ مع اني حذرته كتير بس مسمعنيش علشان كده لازم يتعاقب.
اقتربت منه نيجار بخطوتين مطالعة ابن عمها الذي يتوعد لها ثم رفعت وجهها ناحية آدم تقول برصانة :
- هو لو غلط في عمدة يحاسبه او بتقدرو تتواجهو وانتو لوحدكم و متأملة من حضرتك متأذيش واحد قدام فرد من عيلته حتى لو عدوك.
ركز بنظره على وجهها الجامد لعدة ثوان قبل أن يزفر ويفلت صفوان مرددا :
- ادعي لبنت عمك لأنها هي اللي حاشتني عنك وتاني مرة متحاولش تستقوى على واحد تبعي.
وقف الآخر على قدميه مطالعا إياه بحقد دفين وهو يشعر بالخزي مما حدث للتو لكن آدم لم يبالي به بل رمى نظرة أخيرة على نيجار وغادر ساحة المقهى ليتبعه فاروق ورجاله ...
*****
فتح باب السرايا ليدخل منه وهو يقبض على ذراعها بقوة مزمجرا بأعلى صوته :
- انتي ايه اللي وداكي هناك ايه اللي جابك فهميني.
تمالكت نفسها قبل أن تقع ثم نظرت إليه مجيبة :
- انا كنت برا وسمعت ناس بتقول انك روحت تهين الراجل اللي استلف منك الفلوس ومرجعهاش ف قدرت اتوقع اللي كان هيحصل بينك وبين ابن سلطان.
حينها صرخ عليها بحدة :
- وانتي مالك ازاي تدخلي وسط الرجالة وتترجيه عشان يعفي عني يا غبية انتي حطيتي راسي في الطين هتخلي الناس يتكلمو عليا ويقولو اني بتحامى في الحريم وكل ده بسببك.
تأففت نيجار بملل مستنكرة تفكيره السطحي :
- سيبك من الناس دلوقتي آدم كان هيقتلك لو اتا ملحقكتش وأساسا اللي انت عملته غلط في غلط وبدل ما تلومني ادعي ربنا ميكبرش الموضوع اكتر من كده لأنك عماله تغلط وهتودي نفسك وتودينا معاك في داهية.
تجمعت العائلة على صوتهما العالي فنزلت على إثره زوجة عمها و إبنتها التي هي في نفس سن نيجار وبدأتا التساؤل عما حدث وعن سبب هذا الشجار القائم إلا أن الأخير غادر بسخط بدون أن يجيبهما، فإتجهت والدته "جميلة" والتي تكون أم نيجار بالرضاعة إلى الأخيرة تسألها بهلع :
- مالكم ايه اللي حصل ؟
- ابنك كان هيتقتل يا مرات عمي.
- إيه !!
اندلعت صرخاتهما فشرحت لهما الأمر بإختصار وصعدت إلى غرفتها لتلحق بها ابنة عمها وتتساءل بدهشة :
- بجد انتي دخلتي وسط الرجالة وترجيتي آدم عشان ميأذيهوش.
تململت بضجر من نفس السيرة المتداولة :
- مترجيتوش يا سلمى انا طلبت منه وهو سمع مني بس أخوكي مسابش كلمة إلا وقالهالي كأني عملت فيه جريمة وبعدين ايه الغريب ف اني احمي ابن عمي وأخويا مش فاهمة معقول اشوفه بيتأذى واسكت.
- خلاص اللي حصل حصل وصفوان شويا وهيروق ... بس ايه رايك يا نيجار.
همهمت سلمى بنبرة خافتة فسألتها الأخرى بدون فهم :
- رأيي في ايه ؟
زمت شفتها وقالت وكأنها تتآمر :
- متعمليش نفسك مش فاهمة انا بقصد ايه رايك في ابن سلطان يعني هو عامل ازاي ... انا سمعت انه وسيم وجسمه قوي وعنده هيبة وكلمته مسموعة خاصة انه مقرب جدا من العمدة.
بهتت نيجار لثوان ثم نهضت ترتب بعض الأغراض متمتمة :
- انا مكنتش مركزة معاه.
- بتتكلمي كأنك مشوفتيهوش من قبل.
- لا اكيد شوفته بس مهتميتش كتير وبعدين ايه اللي انتي بتفكري فيه ده أمك لو سمعتك هتجيبك من شعرك.
أجابتها مازحة فهمهمت سلمى بملل :
- مكانوش كلمتين قولناهم اهو سكت خلاص.
سمعت صوت والدتها تناديهما من الأسفل فقالت :
- ماما عايزانا علشان نساعدها في الغدا انتي عارفة خالتي حسناء واخدة اجازة النهارده يلا ننزل.
أفاقت نيجار من شرودها مرددة :
- تمام يلا ....
______________
- اللي عملته النهارده تستاهل مدح عليه بس انا خايف العمدة ينزعج منك يا آدم.
نطق فاروق بهذه الكلمات وهو يقود السيارة بينما يجلس الآخر على الكرسي المقابل له بهدوء، وجه نظره إلى مساعده وصديقه ثم رد عليه :
- انا حاولت اتمالك نفسي بس صفوان مكنش ناوي على خير و انا أكيد مكنتش هسكت ع اهانته لعيلتي.
تنهد الثاني معارضا :
- مش من حقي أقول رأي فوق رأيك بس كنت بتمنى لو مدخلتش نفسك في الموضوع من البداية ومشغلتش محسن عندنا انت عارف عيلة الشرقاوي بتاعت مشاكل واحنا مش ناقصين والعمدة ااا...
قاطعه آدم بحدة و اِنزعاج :
- متخلنيش ابدأ بالعمدة بتاعك ده انت كنت عايزني اخرس واهرب علشان خاطره انا صحيح وعدته معملش مشاكل معاهم بس ده ميعنيش اني احط كرامتي تحت رجليهم ! وأساسا لازم صفوان يحمد ربنا عشان سبته ومقتلتوش.
ابتسم الآخر عند آخر جملة وكاد يتكلم لكن عند دخوله للزقاق المؤدي للسرايا فضل السكوت و تأجيل الحديث إلى حين آخر ثم وصلا بعد لحظات قصيرة ونزلا ليدخل الأول إلى الفناء الضخم ويتبعه فاروق الذي عاد للتعامل معه برسمية على أساس صاحب عمل ومساعده.
- نورت البيت يابن الغالي.
صدع صوتها من أعلى درجات السلم فإبتسم وهو يراقب جدته التي تنزل من عليه بخطوات رصينة تعادل ملامحها القوية رغم كبرها ، وصوتها الذي يجبر رجالا صغار وكبار على الإصغاء إليها واحترامها.
السيدة "حكمت" أرملة أغنى تاجر في البلدة والعمدة السابق لها ،ووالدة المرحوم سلطان زعيم البلدة السابق ، والآن هي جدة آدم الذكر الوحيد للعائلة ووريث أعمالها وتجارتها.
وصلت للفناء مبتسمة فأقبل عليها حفيدها مقبلا يدها بإحترام :
- بيتنا منور بوجودك يا ستي.
مسحت على شعره بحنان تسأله عن يومه كالعادة ثم هتفت بنبرة حسابية :
- ايه اللي حصل مع ولد الشرقاوي.
طالعها بصمت وقد كان متوقعا بأن الأخبار ستصل إليها حتما فجدته لا يخفى عنها شيء في البلدة لكنه أجابها بإيجاز :
- مفيش مجرد جدال بيني وبين صفوان زي العادة متشغليش بالك.
أدركت أنه يتهرب من الموضوع فإحترمت رغبته وغيرت سير الحديث مرددة :
- تمام اطلع لأوضتك عشان ترتاح وانا شويا وهندهلك عشان تتعشى ، انا موصية أم محمود تعملك كل الأكل اللي انت بتحبه هتتعشى وبعدها نقعد نسهر مع بعضنا.
- تسلم ايديكو يا ستي بس انا مش هقدر اسهر لأن عندي شغل وهرجع اطلع بعد العشا.
كادت تعترض لكن مجيء شقيقته قاطعها بينما هرعت الأخرى لتحتضنه بقلق :
- ابيه انت كويس انا خفت عليك لما سمعت انك اتخانقت مع واحد برا.
بادلها العناق ثم أبعدها قليلا وداعب أرنبة أنفها برقة ملاطفا إياها :
- انا كويس يا ليلى متخفيش عليا انتي عملتي ايه في امتحاناتك النهارده.
- حليت كويس الحمد لله ومن شويا كنت بذاكر عشان الامتحان الجاي بس في كام حاجة واقفة معايا معرفتش أحلها ممكن تساعدني.
أومأ آدم بإيجاب رغم إرهاقه الكبير وحاوط ذراعها صاعدا معها للطابق العلوي قائلا :
- أنا تحت أمرك يا سلطانة بس مش هنطول كتير يدوب الحق اتعشى وارجع اطلع.
صعد معها تحت نظرات حكمت حتى تأكدت من إبتعاده كليا ثم رشقت فاروق بنظرات حازمة متشدقة :
- قولي دلوقتي ايه اللي حصل بالضبط وازاي الخناقة ديه بدأت وانتهت.
تنحنح بإرتباك جلي وكاد يجيبها بمثل إجابة حفيدها لكنها رفعت يدها في وجهه موقفة محاولته وحذرته :
- منصحكش تخبي عليا.
تنهد الآخر وهز رأسه بيأس ليبدأ بسرد ما حدث...
****
كانت واقفة في شرفة غرفتها تتأمل السماء المظلمة ونجومها المتلألئة بتدقيق وملامحها جامدة لا تعبر عن شيء ، من يراها لا يستطيع توقع ماتفكر أو ماتشعر به، تجلس مطالعة السماء كل مساء وكأنها تستنبط منها الكلمات دون جدوى.
فجأة ضربتها نسمة هواء خريفية باردة ليقشعر جسدها فقررت الدخول لكي لا تصاب بالمرض من تأثيرات التغير الموسمي وقامت بإطفاء الأضواء لكن عند وصولها للسرير سمعت ضجة خفيفة من خارج الشرفة لتنتبه حواسها وتركز على الباب المفتوح متسائلة بصوت عالٍ نسبيا :
- مين هنا ؟
لم يرد عليها أحد حتى كادت تفكر بأنها تتخيل ولكنها عادت تسترق السمع وإستطاعت تمييز الصوت هذه المرة وكأن أحدهم تسلّق على الحائط وقفز للداخل.
ارتفعت دقات قلبها بإنفعال وإزدردت ريقها بحذر قبل أن تنتشل السكين الموضوع على صحن الفاكهة وتقبض عليه بقوة متجهة للشرفة ...
وحين دخولها مررت بصرها على المكان ووجدته فارغا تقدمت تطل من على الشرفة لكنها لم تجد سوى المساحات الخضراء مقابلة إياها وقبل أن تستطيع التركيز وجدت يدا تسحبها من الوراء وتدفعها على الجدار خلفها فإنطلقت صرخة تلقائية كتمها بيده فورا وباليد الأخرى أوقف كفها الذي توجه نحو صدره بسرعة فائقة تنوي غرزه بالسكين !
تململت بين يديه بقوة محاولة التحرر منه والصراخ لكنها لم تستطع فضربت ساقه بقدمها لتسمع تأوها خفيفا يصدر منه ثم صوته الرجولي يهمس :
- هشش اهدي ده أنا.
سكنت فجأة تميز نبرته بينما إمتدت يده هو تشعل الأضواء ووقف يطالع هيأتها المشعثة بإبتسامة هامسا مجددا :
- نيجار.
وضعت يدها على صدرها موضع قلبها حتى تسيطر على وتيرة تنفسها المتزايدة ثم تمتمت بعدم تصديق :
- آدم !
وقبل أن تستوعب تماما وجوده هنا في هذا الوقت حاوطها آدم بذراعيه ودفن وجهه في ثنايا عنقها متأوها بشوق :
- وحشتيني ...
الفصل الثاني : ظلامُها.
________________
- آدم !
وقبل أن تستوعب تماما وجوده هنا في هذا الوقت حاوطها ادم بذراعيه ودفن وجهه في ثنايا عنقها متأوها بشوق :
- وحشتيني ...
تسمرت مكانها وقد إستكان إنفعالها قليلا لكن سرعان ما انتفضت عند سماع طرق الباب يليه صوت زوجة عمها جميلة التي نادتها بقلق :
- نيجار في ايه سمعتك بتصوتي في حاجة و الباب مقفول ليه ؟
أجابتها بلجلجة خفيفة محتارة بداخلها عن الباب الذي أدركت للتو أنه مغلق :
- ها الباب ... خبطت رجلي في الباب وانا بقفله عشان ... عشان اغير هدومي فصوتت.
- وقفلتي الباب ليه اصلا مين هيدخل عليكي ... طيب انا رايحة أنام عايزة حاجة مني.
- لا ... لا شكرا تصبحي على خير.
- وانتي من أهله.
بدأ صوت خطواتها يبتعد حتى اختفت نهائيا فزفرت نيجار براحة ثم تمتمت وهي تسأل نفسها :
- الباب ده امتى اتقفل.
أجابها آدم ببساطة كأنه يروي شيئا يفعله يوميا :
- انا دخلت من شباك الأوضة وقت طلعتي انتي عشان تشوفي مين اللي هنا وقفلت الباب بسرعة وجيت.
اتسعت عينا نيجار بدهشة :
- وازاي لحقت تعمل كل ده !
قابلها ببسمة دون رد لتصمت هي ايضا ثم تبعده عنها وتدخل لغرفتها، رفع الآخر حاجبه من حالتها وتبعها متسائلا :
- في ايه مالك ضاربة بوزك شبرين كده ليه ؟
جلست نيجار على سريرها مجيبة بغير رضا :
- بعتقد انك عارف السبب.
- اه عشان اللي حصل النهارده الصبح.
هتف آدم بإدراك ثم إستطرد بجدي :
- اللي بعرفه اننا اتفقنا من قبل ع انك متدخليش في المشاكل اللي بيني وبين صفوان ...
تمام هو ابن عمك وأخوكي في الرضاعة بس احنا الاتنين من البداية عارفين قد ايه العلاقة بين العيلتين وحشة و بالتالي الحوادث ديه هتحصل كتير اوي لو هو مبطلش صياعة وقلة أصل معايا.
إستاءت نيجار من وصفه لإبن عمها بهذه الكلمات فكادت تعارضه لكنه أوقفها بنبرة رخيمة وهو يجلس بجوارها على السرير :
- اسمعيني كويس انا مستحيل اسكت لواحد غلط فيا و صفوان مكتفاش ب انه يعصبني لا هو ضرب راجل في سن أبوه وقدام الناس واتكلم وحش عن أبويا عشان كده كان بيستاهل الاهانة والضرب.
- يعني لو انا مجيتش ووقفتك كنت هتموته ؟!
- مش هكدب عليكي وأقولك اني سامحته بسببك لا، بس لما شوفتك افتكرت ان عنده أم وأخوات فمحبتش اؤذيه حتى وقت كلمني العمدة من شويا وقالي انه هيعاقب صفوان قولتله ان الموضوع بسيط ومبيستاهلش.
كان آدم يتحدث بجدية وثقة تجعل أي شخص يستمع إليه يهابه لذلك قررت نيجار غلق الموضوع فقالت :
- ماشي يا آدم بس ياريتك مجيتش لهنا وأصلا انت ازاي قدرت تدخل مع الحراسة ديه مش فاهمة.
هز كتفاه بدون إكتراث :
- مش عايز ابقى واحد بيمدح نفسه بس انا مفيش باب مبقدرش ادخل منه ولا حارس مقدرش اتجاوزه ... خاصة لو كان الهدف اني اشوف البنت الجريئة اللي دخلت وسط خناقة رجالة ومخافتش من حد.
إبتسمت نيجار متهدجة :
- انا مستعدة اعمل كل حاجة علشان عيلتي.
- وعلشان كده انا معجب بيكي.
هتف بهدوء واضعا يده أسفل ذقنها ثم أدار وجهها إليه متأملا إياها لعدة ثوان قبل أن يزفر هامسا :
- هنفضل كده لحد امتى ؟ بنشوف بعض في السر زي المراهقين وخايفين حد يشوفنا كان ناقص اتشعلق ع الحيطان واهو عملتها بسببك.
- اومال انت عايزنا نعمل ايه ؟
- نتجوز.
رصَّ حروف الكلمة ببساطة متزنة لتقف نيجار كمن لسعتها النار وتتسع عيناها مكررة ما قاله هو :
- نتجوز ! انت بتهزر معايا ؟
رد عليها آدم بجدية :
- انتي شايفاني ههزر في الموضوع ده ؟
وقف قبالتها و حاوطها بذراعيه مستطردا :
- انا سبق وقولتلك هجي اطلب ايدك من أهلك بس انتي رفضتي وطلبتي مني وقت علشان الخلافات اللي مابيننا تتحل ووافقت..
بس انا شايف مفيش فايدة من الانتظار لأنها كده كده مش هتتحل طالما صفوان معتبرني العدو الأبدي بتاعه ولا عيلتي انا هتقبل بسهولة لأني سبق وحاولت ومنفعش علشان كده لازم نتجوز الاول ونحطهم تحت الأمر الواقع ساعتها مش هيقدرو يبعدونا عن بعض.
أشاحت نيجار وجهها عنه وجالت بحدقتيها في المكان دون أن تنبس ببنت شفة، وصمتها هذا فسَّره الآخر على أنه رفض فعبس بتقاسيم وجهه لهنيهة سرعان ما درأه قائلا بلهجة صلبة يواري خلفها ضيقه :
- سكوتك اداني الاجابة واضح انك مش عايزة الجواز علشان كده انا مش هجبرك.
ألقى عليها نظرة شاملة ثم همَّ بالمغادرة فأوقفته نيجار قبل أن يقفز من الشرفة :
- استنى !
توقف آدم و استدار لها مجددا لتدنو منه هي مقلصة المسافة بينهما وتمسك يداه متمتمة :
- انت فهمتني غلط انا مش رافضة الجواز منك بس اقتراحك نزل عليا فجأة ومقدرتش استوعب، انت عارف ان الموضوع ده مش سهل وهيسبب مشاكل كتيرة ليا وليك انا هدخل في دوامة مع عيلتي وكمان مكانتك وشغلك ممكن يتأذوا.
تنهد هو وضغط على أصابعها الممسكة به قائلا بروية :
- انا عارف وفاهمك كويس بس مفيش حل غير ده لو كان في أمل صغيرة علشان يوافقو انا مكنتش هستسلم بس جدتي مبطيقش تسمع اسمكم ولا اخوكي طايقني، وبالنسبة لشغلي ومكانتي متفكريش فيهم انا مأمن نفسي كويس وفي مهمة هنفذها قريبا وتخليني فوق ساعتها حتى العمدة مش هينزعج اوي لاني اتجوزتك من غير محد يعرف.
- مهمة ايه ديه ؟
- متشغليش بالك المهم قوليلي انتي موافقة على طلبي ولا لا.
تلكأت نيجار مكانها ثم تنهدت مردفة :
- ممكن تديني فرصة أفكر شويا ونلتقي بعديها ونتكلم ؟
ورغم إمتعاضه إلا أنه تفهم موقفها وخوفها فأومأ بإيجاب وطبع قبلة على وجنتها هامسا قبل أن يذهب :
- اكيد طبعا وانا هكون مستنيكي في مكاننا ...
_______________
صمت رهيب غرق فيه الرواق وقطعه صوت طرقه على الأرض بحذائه وهو يمشي بخطوات متأنية حتى وصل إلى غرفة المكتب، وقف قليلا يطالع ذلك الجالس على الأريكة يتحسس كدمات وجهه ثم اقترب ووضع كيس الثلج على الطاولة أمامه مغمغما ببلادة :
- خد حط التلج ده هيفيدك ويخبي آثار خيبتك ع الاقل.
حدجه بغيظ قبل أن يلتقط الكيس ويضعه أسفل عينه مرددا من بين تأوهاته الناتجة عن ألمه :
- انا كنت قربت اعلم على ابن سلطان بس هو غفلني وكان هيقتلني أو يوديني لعند العمدة ويشتكيله مني.
جلس الآخر على كرسي مقابل له وهمهم ببساطة :
- ده عشان انت غبي.
توقف صفوان عن تمرير الثلج على كدماته وناظره بسخط معترضا عن إهاناته المستمرة :
- ليه الغلط دلوقتي يا مراد مش انت اللي متعود تحرضني عليه مالك بقيت ضدي فجأة.
ضغط "مراد" على فكه السفلي ممتعضا من سطحية تفكيره ثم إنحنى للأمام قليلا مردفا بنبرة جادة :
- اللي عملته انت غلط مكنش ينفع تحط نفسك في موقف المشكلجي اللي بيتضرب كل شويا !
انا قولتلك لازم تطلع آدم بصورة واحد فاشل مش قد المسؤولية وتخليه يقع من عيون الناس بس انت عملت ايه؟ روحت جبت راجل كبير وقعدت تضرب فيه وتهينه قدام أهل البلد ولما جه آدم اتصرف بوعي و بين انه مش عايز ينزل لمستواك بس بردو انت جلدك حكك والنتيجة اهي واضحة قدامي.
أشار لوجهه بإستهزاء فزفر صفوان بغضب و رمى الكيس هادرا :
- اومال كنت عايزني اعمل ايه وانا شايفه عماله يلمع صورته في عيون الناس والكل واقف في صفه ؟ مش كفاية ان عيلته سرقت حق عيلتي في الزعامة من سنين قام جه هو وكمل عليا ... لولا جده وأبوه كانت عيلة الشرقاوي هي الكل في الكل حاليا.
عند استماع مراد لجملته انقطع تركيزه معه وغاص في الفراغ مستقبلا مقتطفات من الماضي فهمس دون وعي :
- وانا سرقو مني حياتي.
- مسمعتكش ؟
تنحنح عائدا للواقع وتكلم بصلابة إكتسى به صوته :
- انا بقول جه وقت نردله الضربة وناخد اللي يخصنا منه ... انت قدرت تعرف هو حط سبايك الذهب فين ولا لسه ؟
نفى صفوان بفتور :
- لا لسه موصلتش للمكان اللي مخبيهم فيه احنا بندور عليه بقالنا خمس شهور بس مقدرناش نوصل لنتيجة ... آدم ذكي وكتوم صعب ناخد منه اللي احنا عايزينه.
- العمدة اداله الشحنة ديه وكلفه بمهمة الاحتفاظ بيهم عشان يسلمهم للتجار في الميعاد اللي هو محدده ، لو قدر يسلمهم في الوقت المحدد ومن غير اي مشكلة قيمته هتزيد كتير عن الأول وبما ان العمدة معندوش اللي يورثه فمش هستغرب لو ورثه المنصب بتاعه وانت عارف ممكن يحصل ايه ساعتها.
نطق مراد بهذه الكلمات آخذا بعين الإعتبار كل تفصيل ذكره ثم استطرد قائلا :
- انا لقيت كام عنوان كده وهستنى اتأكد منه علشان نخطط للسرقة ولو نجحنا هنكون ضربنا آدم ضربة مستحيل يقدر يقوم منها ديه ثروة بتتقدر بعشرات الملايين في الاخر يعني هندمره كليا.
بس انت كمان اعمل اللي عليك متنساش الخطة ديه مرهونة بيك هتبقى الكل في الكل لما تنجح.
بمجرد تخيل صفوان إنهزام عدوه اللدود شعر بنشوة عظيمة تتسلل إليه و إنشرحت أساريره مستدركا حجم الربح الذي سيعود عليه.
فإضاعة آدم لأمانة العمدة يعني إيقاع الأخير في مشاكل مادية كبيرة مع التجار الأجانب وبالتالي فقدان سمعته وهيبته وسط من يعتبرونه العمدة الأمين الصادق.
وقتها سيتدخل صفوان وينقذه من الفخ الذي أوقعه هو بنفسه فيه وهكذا سوف يسترجع مكانته وينتزع من آدم جميع صلاحياته !
_________________
أشرقت الشمس ببطء من وراء قمم الجبال وبدأ الضباب يتلاشى تدريجيا مع إرتفاع درجات الحرارة معلنين عن بدء يوم خريفي جديد ...
بعد فراغه من ركوب الخيل وممارسة هواية التصويب المعتادة لديه إتجه إلى بستانه الذي يعد من أكبر البساتين في البلدة والمناطق المجاورة ويجمع عشرات العمال ذوي الخبرة فلطالما حرص على أن يشغل الأكِفاء لديه كي يكسب كل مرة أكثر مما مضى ويبقى في صدارته على بقية التجار.
سار يقضي جولته اليومية بين الصفوف الخضراء من أشجار التفاح والتين، التوت البري والرمان وباقي الفواكه الخريفية...
إضافة إلى النباتات و صفوف اليقطين والملفوف وغيرها من الخضر الطازجة في هذا الموسم.
ثم يركز ناظريه على العمال مقيما أداء كل شخص منهم مابين الزراعة والسقي والتنظيف وقطف الثمار الجاهزة للتصدير...
بعد إنتهاء جولته وقف آدم أسفل إحدى الأشجار معلقا عيناه على طول الأفق الذي يبدو له وكأنه يستحيل الوصول إليه، وتذكر لقاءه مع نيجار منذ يومين والشيء الذي عرضه عليها...
لا يعلم إن كان محقا تماما في قرار زواجه منها بالسر أم يجب عليه التريث قليلا في هذا الموضوع لأنه سيتسبب في حصول عدة مشاكل هو في غنى عنها.
كما أنه ليس متعودا على التصرف بتهور هكذا لطالما فكر عشرات المرات قبل الإقدام على خطوة مهمة ولكن منذ تعرفه على نيجار قبل ست أشهر لم تغب عن باله !
قطع خيط ذكرياته لمسة وضعت على كتفه فإستفاق آدم من شروده ورفع عيناه ليجد فاروق بجواره متمتما بإبتسامة جانبية :
- ايه اللي بتفكر فيه وخلاك متاخدش بالك مني انت متعود تنتبه لأي حد يقرب منك خطوتين.
تنهد آدم و إعتدل في وقوفه دون أن يجيب ليستدرك الآخر متوقعا ما يشغل باله :
- طالما سرحان كده يبقى انت بتفكر في بنت الشرقاوي صح.
- ايوة بفكر في نيجار، هي لسه مردتش على عرض الجواز وانا مش عارف اذا هتوافق ولا لأ.
رد عليه بهدوء لم يظهر فيه إمتعاظه لكن فاروق فهم ما يجول بباله فعاد يسأله :
- طب انت هتعمل ايه لو رفضت الجواز منك هترجع تستنى المشاكل تتحل مابين العيلتين ؟
ساد الصمت بينهما للحظات قطعه آدم عندما أجابه بإقرار واضح :
- لا لو موافقتش انا هصرف نظر و اقطع علاقتي بيها أساسا، صحيح عايزها في حياتي بس ده ميعنيش اني افضل اعمل حركات المراهقين ديه واشوفها واكلمها بالسر انا اكبر من كده.
رفع حاجباه بدهشة من رده الذي لم يكن متوقعا وقال :
- ماهو طبيعي أي واحدة في مكانها هتخاف توافق انت عارف طبيعة العلاقة بينك وبين صفوان مستحيل يسكت وهيعتبرها إهانة ... مع اني اكتر واحد هرتاح لو ده حصل وعينه اتكسرت قدامك.
حاد آدم بعينيه ناحيته بحدة ليستطرد الآخر موضحا وجهة نظره :
- بص انت عارف اني من الاول مش مرتاح لعلاقتكم ديه وحاسس في حاجة غلط في الموضوع وانا مش فاهمها وبعدين ااا..
قطع كلامه صوت وصول رسالة فنظر آدم إلى هوية المرسل وابتسم عند رؤية إسمها ليقرأ فحوى الرسالة ويجد أن نيجار تطلب ملاقاته في مكانهما المعتاد ، أخذ نفسا عميقا وزفره ببطء ثم ربت على كتف فاروق مغمغما بثبات :
- انا مروح مشوار وجاي خد بالك من الشغل مش هتأخر.
ألقى آدم جملته وغادر دون أن يتيح له فرصة للحديث، إتجه إلى الإسطبل وأخذ حصانه منطلقا نحو المكان الذي قصدته نيجار وبعد دقائق وصل إليها ووجدها جالسة على طرف البحيرة تحدق في مياهها بشرود وقد بدت عليها علامات الحيرة والقلق.
ترجل من الحصان و إتجه إليها مناديا إياها :
- نيجار !
إنتفضت وإستدارت برعب جلي اختفى عند رؤيته فتنهدت براحة هاتفة :
- خضيتني.
عقد حاجباه بإستغراب منها ثم أحاط ذراعيها وساعدها في الوقوف متسائلا :
- تخضيتي ليه مفيش حد بيجي للمكان ده غيرنا احنا الاتنين يعني محدش هيشوفك.
وضع يده على وجنتها يمسحها برقة مستطردا :
- ولا انتي خايفة من حاجة تانية ؟
بللت نيجار شفتاها مركزة نظرها على الفراغ ثم وجهته ناحية آدم مرددة :
- انا فكرت كويس في الموضوع اللي قولتهولي الصراحة في الاول كنت هرفض بس بعدين لقيت ان كلامك صح انت لو طلبت ايدي من صفوان مش هيوافق اكيد ولو استنينا المشاكل تخلص يبقى هنستنى كتير اوي علشان كده ... انا موافقة على جوازي منك.
تهللت أساريره وشعر بنبضه يعود إليه بعدما فقد إحساسه به للحظات متوقعا رفضها فضمها إليه على حين غرة متهدجا بخشونة :
- انا بوعدك انك مش هتندمي على قرارك ده هنتجوز ونحطهم تحت الأمر الواقع ساعتها محدش من عيلتي او عيلتك هيقدر يبعدنا عن بعض لأنك هتبقي مراتي وفي بيتي ... انا مبسوط عشان وافقتي.
مرر يده على ظهرها يضمها إليه أكثر لكنه شعر بتيبسها بين ذراعيه فأدرك بأنه بالغ في قربه منها لذلك حررها بروية متنحنحا :
- فرحتي نستني نفسي مش عايزك تزعلي مني انتي عارفة ان انا من زمان عايزك تكوني حلالي واقرب منك براحتي والظروف هي اللي منعتنا بس دلوقتي مفيش حاجة هتخلينا بعاد عن بعض.
إبتسمت نيجار ثم عادت تعبس من جديد هاتفة :
- بس انا خايفة ومش عارفة هنعمل كده ازاي بقصد هنتجوز امتى وفين يا آدم ومين اللي هيبقى موجود و ازاي هنكتب الكتاب من غير حد مايعرف.
كان آدم قادرا على تفهم تخبطاتها وتوترها فحاول تهدئتها وهو يملس على شعرها متمتما :
- متشغليش بالك انا عامل حسابي لكل حاجة المأذون والشهود كان فاضل موافقتك بس واهو حصلت عليها.
قابلته نيجار بسؤال آخر قائلة :
- طيب احنا هنكتب كتابنا فين ؟
- والمكان بيهمك ؟
- اكيد مينفعش حد يعرف احنا فين لانهم لو سمعو هتحصل مشكلة كبيرة وهيعملو اي حاجة علشان بمنعونا احنا لازم نكتب في مكان بعيد من غير ما يعرفو ع الاقل لحد ما نخلص.
أجابته بمنطقية ملقية عليه تفاصيل تجاهلها هو من قبل لأنه كان سيوقف أي شخص يحاول منعه في كل الأحوال حتى لو كان صفوان وحتى لو أضطر إلى أذيته، لكن إصرار نيجار جعله يفهم مدى خوفها من كشف خطتهما وتفهمها فصمت يفكر قليلا ثم قال مقترحا :
- في مكان محدش يعرفه غيري انا وفاروق ... بيت بعيد عن هنا شويا وعليه حراسة لأن فيه حاجات مهمة هوديكي ليه يوم كتب الكتاب مع اني عايز نتجوز النهارده قبل بكره بس مع الاسف هاخد وقت لان لازم اجهزله من غير حد ماياخذ باله خاصة جدتي حكمت هانم.
- البيت ده آمن ؟
تنهد آدم وضم وجهها بين يديه هامسا بخشونة :
- معقوله اوديكي لمكان فيه خطر عليكي ... متقلقيش انا لو كرهت حد هعمل أي حاجة علشان ادمره بس لو حبيت حد هقضي حياتي وانا بحميه وانتي البنت اللي بحبها يا نيجار اتأكدي من انك هتفضلي بأمان معايا ... أنا بحبك.
رمشت بعينيها للحظات ثم ردت عليه بهمس مماثل :
- و أنا بحبك.
________________
بعد مرور ثلاث اسابيع وقد أتى اليوم الموعود....
توقف بسيارته أمام منزل كبير يقبع بين التلال ويحيط به عدد قليل من الحراس من كل صوب ثم نظر إلى نيجار التي كانت تطالع المنزل بتدقيق وقال :
- ده البيت اللي حكيتلك عنه وهنكتب كتابنا فيه اليوم المسا.
همهمت بخفوت مرددة :
- مكنتش بعرف ان عندك بيت حلو اوي كده باين عندك اهتمام خاص بيه.
- محدش بيعرفه غيري أنا وفاروق أصلا وكنت مكتر الحراسة عليه بس قللتها النهارده عشان تاخدي راحتك.
ترجل من سيارته وتبعته نيجار إلى داخل المنزل ممسكة بيده، آرشدها آدم للطابق العلوي ثم اتصل بفاروق الذي رد عليه بعد ثوانٍ :
- نعم يا آدم.
بادره بالسؤال مباشرة :
- انت فين ؟
- في بيتكم الست حكمت طلبت مني اجيبلها المستندات و اه سألت عنك وقولتلها ان عندك شغل مع تاجر جديد وقاعد بتتفق معاه ... هخلص اللي ف ايدي و اجيب المأذون و اجي في الوقت المحدد متقلقش.
زفر مستشعرا حصول شيء ما اليوم لكنه آثر تجاهل إحساسه لربما كان هذا الشعور ناتجا عن حماسه وسيزول بمجرد عقد الزواج على المرأة التي يحبها، ثم أغلق الخط و استدار لأحد حراسه مغمغما :
- راقبوا المكان كويس أنا مش عايز جنس مخلوق يدخل لهنا و اول ما يوصل فاروق مع المأذون دخلوهم بعدين امشو.
- أمرك يا بيه.
صعد ادم الى حيث نيجار ودلف بعدما طرق الباب ليجدها تجلس مقابل مرآة التسريحة وحين رأت اِنعكاسه عليها تمتمت بإسمه فاِبتسم و دنى منها هاتفا :
- مش فاضل غير ساعات قليلة وتبقي مراتي ساعتها محدش هيمنعنا من اننا نكون مع بعض.
أومأت بإيجاب فإستدرك متسائلا :
- ملبستيش الفستان اللي جبتهولك ليه ؟
نظرت إلى الثوب الزهري الموضوع على السرير وكان ناعما ذو طبقات من الدونتيل اختاره آدم بعناية من أجل هذا اليوم ، فردت عليه مبتسمة :
- كنت لسه هلبسه دلوقتي بس خايفة يبوظ مني بسبب حماسي.
ضحك بخفة و ردد :
- فداكي بوظيه وانا هجيبلك غيره ... مع ان كان نفسي تلبسي الفستان الأبيض بس مع الاسف الظروف مسمحتلناش ورغم كده هتطلعي جميلة بردو بالفستان ده يلا متتأخريش
طبعا قبلة أعلى رأسها وغادر للخارج وبعد ساعة من الانتظار عاود الإتصال بفاروق مرارا حتى فتح الخط فصاح مباشرة :
- انت هتبات هناك ولا ايه مش اتفقت معايا تجي بعد شويا انت فين لغاية دلوقتي.
بعد دقائق كان آدم ينهب الأرض بخطواته السريعة وهو يصعد إلى نيجار ليجدها واقفة في منتصف الغرفة تطالعه بعدما فتح الباب بقوة ...
تسمر مكانه يتأملها بولهٍ غريب عنه وهي ترتدي الثوب الذي لاءمها وكأنه صنع من أجلها خصيصا مع شعرها المسترسل على كتفيها و شعر للحظات بأنه يملك العالم بين يديه ، مجرد التفكير بأنها ستصبح ملكه يجعله في قمة سعادته...
فهي المرأة التي أحبها من قلبه والمرأة التي ستسعده ... لن يتخلى عنها ولو اضطر إلى محاربتهم جميعا !
اقترب منها و أمسك يداها مقبلا إياهما بشغف :
- انا مبسوط اوي لأنك معايا وبتمنى لو كنت بقدر اخليكي ع اسمي حالا بس لازم نمشي من هنا فورا لأن ...
وقبل إنهاء جملته صدع صوت رصاص متتالي في الخارج كاد يخترق الجدران من قوته فجفل ادم وتحركت يده تلقائيا ناحية حزامه من الخلف لينتشل سلاحه مغمغما بإحتراز :
- غالبا عيلتك عرفت بالخبر وجم ياخدوكي أو واحد تاني اتهجم عليا ومتعمد يأذيني ... احنا لازم نطلع بسرعة عشان متحصلكيش حاجة امشي معايا !
قبض آدم على ذراعها كي يسحبها معه لكنه توقف عند شعوره بقدميها لم تتزحزحا من على الأرضية فإلتفت إليها قائلا :
- انتي واقفة كده ليه يلا نمشي !
رشقته نيجار بنظرات مختلفة عن نظراتها السابقة وهذه المرة هي من اقتربت حتى كادت تلتصق به وهمهمت محدقة في عينيه مباشرة :
- انا هطلع من هنا ... بس انت لا.
لم يفهم مقصدها أو بالأحرى لم يستوعب في هذه الأثناء خاصة مع الرصاص الذي كان يتدفق بسرعة تدفق قطرات المطر في ليلة عاصفة، و حينما كاد يسألها عن مقصدها، أحس على حين غرة بسهم من نار يخترق خاصرته !
توقف الزمن من حوله ، وإنعكست صورتها الدامية على عيناه اللتان طالما حدقتا بها بغرام ...
فمد يده يلامس المكان المخترق، لكنه إصطدم بالخنجر المغروس في نفس موضع يده، وبالسائل الدافئ المنساب منه ...
حينها سمع صوتها يأتي من بعيد رغم أنها ملتصقة به ، وأحس بهمستها التي حطت على وجهه بحرارة الشر :
- قولتلك قبل كده يا ابن سلطان ... انا مستعدة اعمل كل حاجة علشان عيلتي.
حينها افترقت يداهما بعدما امتزجتا بدمه، و انتشلت نفسها منه فسقط على ركبتيه مع صدمته قبل أن تغلق جفونه، ويستسلم للظلام الغارق فيه ...