
رواية مهمة زواج الفصل الثامن عشر18والتاسع عشر19 بقلم دعاء فؤاد
يجلس أمام الدوار و هو يضرب فخذيه بحسرة كل حين و آخر فاقبلت عليه زوجته و هي تراقب حالته الغريبة و سألته باندهاش:
ـــ أباه!.. مالك يا حمد.. من عشية امبارح و انت عمال تضرب كف بكف و حالك لا يسر عدو ولا حبيب... كانك مفرحانش بالنسب اللي كنا بنحلمو بيه.
رمقها بغل ثم نظر أمامه و هو يفرك فخذه بغيظ و تحدث مصطكا فكيه:
ـــ نسب الشوم يا حزينة... اهو احنا طَلَعنا من المولد بلا حمص.
هرولت لتجلس بجواره و تسأله باستنكار:
ــــ واه!!... كيف يعني يا ابو البنات..
قال و هو مازال يضرب على فخذيه من فرط الحسرة:
ـــ الخمس فدادين اللي اخويا حمدان سابهملي ازرعهم و المحصول بيناتنا بالنص.. معتصم ولده مضاني امبارح على عجد بيع و شرا بيهم و جالي دول مهر صافية..
ضربت على صدرها بحسرة:
ـــ واه واه واه... يا مراري الطافح..
استرسل حمد بمزيد من الغيظ:
ـــ اني كنت جولت انه نساهم و المحصول كلاته ببيعه و تمنه بشيله في چيبي كانها ارضي و ملكي.. جولت اني اولي و هما حداهم اراضي و مزارع كَتيرة.. بس طلع واعر جوي يا ام كريمة.. مينساشي حاچة واصل... جالي اني سايبلك الارض بكيفي.
صاحت بغيظ و حقد:
ـــ كيف يعني.... يعني طلعنا اكده بولا حاچة؟!.. و المهر اللي كنا مستنينن نتلايم عليه عشان نهد الدار و نبنيها من اول و چديد؟!
أخذ يهز رأسه بتهكم مرير:
ـــ بيعي الارض بجى و هدي و ابني ياخيتي كيف ما بدك... أني من الاول بجول انك وش فقر.
ثم هب من مقعده و فر من أمامها بعصبية و هو يكاد يصاب بالجنون.
استيقظت ندى لتجد أن الساعة دقت الثامنة صباحا فأخذت تزفر بضيق، فقد فاتتها صلاة الفجر.. و لكن كيف لم تسمع صوت المنبه..
نهضت و هي تردد أذكار الصباح لتتفاجئ بأدهم يجلس على الأريكة المقابلة و يمسح وجهه من آثار النوم و يبدو أنه أيضا استيقظ للتو..
أخذت تنقل بصرها بينه و بين ذلك القميص القصير الذي بالكاد يصل لفوق ركبتيها، هل كان نائما هنا و رآها عارية هكذا أثناء نومها...
شهقت بخفوت ثم ركضت من أمامه قبل أن ينتبه لها باتجاه المرحاض و لكنه قد توقع ذلك فكان أسرع منها و قبض على يدها و هي تركض من أمامه ليجذبها بقوة فوقعت جالسة على فخذيه، و من فرط صدمتها من سرعته لم تقوى على النطق، فقط تنظر له بصدمة..
ـــ انتي بتجري مني ليه؟!... احنا مش اتفقنا اننا هنكون زي اي اتنين متجوزين؟!.. يعني المفروض تبطلي كسوف مني بقى..
لم تستمع تقريباً لما قاله، فقد كانت شاردة في ملامحه المثيرة...عينيه الناعسة.. شعره الطويل الأشعث.. صوته المتحشرج من أثر النوم... تفاحة آدم التي تتحرك مع حركة فمه..
بالطبع لاحظ شرودها و تأملها له، فابتسم بجاذبية ليقول بنبرة مثيرة:
ـــ حلو.. مش كدا؟!
ردت و كأنها في عالم آخر:
ـــ ها؟!
ازدادت ابتسامته اتساعا ليسترسل بمزيد من الاثارة:
ـــ و انتي كمان حلوة...
كادت أن تفقد وعيها من فرط جاذبيته و جمال نبرته المثيرة التي جعلتها أسيرة له، و لكنها ابتلعت ريقها بصعوبة ثم أخيرا عادت لوعيها لتقول بتوتر و توسل:
ـــ أدهم انا عايزة ادخل الحمام..
ترك يدها فنهضت سريعا لتركض مرة أخرى باتجاه الحمام و تغلق الباب ثم تستند عليه من الداخل و هي تضع يدها على موضع قلبها و تحاول تهدئة ضربات قلبها و أيضا أنفاسها المتسارعة..
بينما أدهم ضحك من مظهرها المرتبك ثم قال بصوت عال لتسمعه:
ـــ مسيرك تقعي تحت ايدي يا ندى و مش هتعرفي تفلتي..
كان يقصد فقط مشاكستها لا أكثر حتى يقلل من خجلها و توترها المستمر أمامه... بينما هي ابتسمت من عبارته و هي تتنهد بعشق خالص لذلك الذي سيفقدها عقلها يوماً.
تركها بالمرحاض و غادر الغرفة متجها الى غرفته ليأخذ حمامه الصباحي و يصلي الصبح قضاء، ثم ارتدى حلة سوداء بقميص اسود بدون رابطة عنق و انتعل حذائه ثم أخبر والدته أنه سيذهب لصديقه آسر ليكونا في استقبال حماه في المطار و من ثم يحضر معه مراسم الدفن..
بعد حوالي ساعتين كان كل من آسر و أدهم في مطار القاهرة يجلسان في مقاعد الانتظار، و قد كان آسر يرتدي حلة سوداء أيضا بدون رابطة عنق تماما مثل أدهم في صدفة غير مقصودة...
بعد دقائق قليلة أقبلت عليهما والدة مودة و هي منهارة من البكاء و قد وصلت المطار لتوها قادمة من مدينة جدة حيث تقيم مع زوجها الثاني و حين رأت آسر ركضت اليه و هي تبكي بشدة و تنوح الى أن التقفها يسندها و هي تكاد تفقد وعيها و قد خارت قواها تماما من فرط الحزن و النواح...
ــــ ميريهان يا آسر ماتت؟!.. ماتت و هي زعلانة مني؟!.. يعني مش هشوفها ولا هكلمها تاني؟!.. مش هطلب منها تسامحني؟!... آاااااه يا حرقة قلبي عليكي يا بنتي...
أخذ آسر يربت على كتفها بمواساة و هو في أشد الحاجة لمن يواسيه ثم قال لها بنبرة باكية:
ـــ اهدي يا طنط بالله عليكي.. مينفعش اللي انتي بتعمليه دا عشان خاطر ميريهان... هي مش هتكون مبسوطة بكدا... ادعيلها يا طنط.. ادعيلها ربنا يرحمها و يصبرنا على فراقها...
كانت تبكي على كتفه و نياط قلبها تتمزق من الحسرة... فحتى انها لم تراها قبل موتها و لم تعلم شيئا عن تلك الحادثة التي أودت بحياتها.. لم تودعها... ماتت دون أن تغفر لها...تبكي و الندم ينهش بصدرها و الحسرة تكاد تقتلها..
دوى صوت المذيع الداخلي بهبوط الطائرة القادمة من برلين، لينتصب الثلاثة في وقفتهم في انتظار جثة ميريهان المحفوظة داخل صندوق خشبي لتظهر بعد قليل محمولة على أكتاف أربعة من الرجال منهم أبيها في مشهد يدمي القلب ..
لتخرج صرخة مدوية من فم أمها، فقام آسر سريعا يتكميم فمها بكفه حتى يمنعها من مزيد من الصراخ و هو يقول لها بحدة:
ـــ من فضلك متصوتيش.. عيطي من غير صوت كدا مينفعش...
هزت رأسها بايجاب و الدموع تنحدر من مقلتيها بدون توقف فتركها و أخذ أدهم ليحملا الصندوق بدلا من اثنين من عمال المطار حتى أوصلوه الى سيارة الاسعاف التي كانت تنتظرهم خارج المطار..
انطلقت السيارة الى المسجد لاقامة صلاة الجنازة و ركب كل من آسر بجوار أدهم و محمد و زوجته بالمقعد الخلفي، فقام آسر بالاتصال بوالده ليخبره أنهم في طريقهم للمسجد، فقد كان ينتظرهم هناك..
تمت صلاة الجنازة و من ثم أخذوها للمقابر الخاصة بعائلتها ليقوم آسر بخلع سترته و شمر عن ساعديه و قام بدفنها بمساعدة عامل المقبرة و أبيها و لكنه لم يستطع تحمل ردمها بالتراب و انسحب بعيدا ليسنده أدهم و هو يربت على ظهره دون أن يتفوه بحرف... فكل الحروف قد عجزت عن صياغة الكلمات التي يمكن أن يواسيه بها...
عودة لسوهاج.....
مازال معتصم بمكانه في اسطبل الخيول بعدما غادرت ريم لتضب ملابسها و أغراضها بحقيبة السفر....
قام بالاتصال بشقيقه لأمر ما ليرد حمد بصوت ناعس:
ـــ أيوة يا عصوم..
ـــ انت لسة نايم يا حمد؟!
ـــ الساعة لسة تسعة.. هصحى دلوقتي اعمل ايه؟!
ـــ اه ياخويا عاملي فيها عريس..
ـــ ولا عريس ولا نيلة... الله يسامحك على اللي عملته فيا..
ضحك معتصم ليقول بمزاح:
ـــ بكرة تدعيلي..
ـــ أتمنى ذلك..
ـــ المهم قوم فوق كدا و اجهز عشان هتاخد ريم معاكو و انتو مسافرين توصلوها لحد بيتها في القاهرة..
ـــ ايه دا هي ريم برضو مصممة تمشي؟!
ـــ أيوة مصممة.. بس طبعاً مش هسيبها ترجع لوحدها.
ـــ تمام يا عصوم...ساعة كدا و اكون جهزت... كلم بقى هشام و عيشة خليهم يستعدوا عشان نمشي علطول...
ـــ تمام... عايزك تخلص كل الشغل المتأخر اللي في الشركة في خلال الأسبوعين الجايين.. عشان هتاخد اجازة شهر تقضيه مع عروستك و هكمل انا مكانك.
ـــ شهر كتير اوي يا معتصم.
ـــ ياخي حد يطول ياخد اجازة شهر!
ـــ ماشي يا سيدي عقبالك و هديك شهرين... اوبس انا نسيت انك متجوز اصلا.
تجهمت ملامح معتصم بضيق ثم قال مغيرا مجرى الحديث:
ـــ اخلص مفيش وقت... سلام.
اغلق الهاتف و هو يزفر بضيق من تلك الزيجة التي تلاحقه كاللعنة.. لو يدري أنه سيقع في شباك الحب ما قبل بها أبداً.
عاد الى الدوار ليبحث عن ريم فانقبض قلبه خشية أن تكون قد سافرت بمفردها، فقام بالاتصال بها:
ـــ ألو ريم... انتي فين؟!
ـــ أنا في القوضة اللي في المضيفة بجهز شنطتي.
ـــ طيب تعالى انا مستنيكي برا... عايز اتكلم معاكي في حاجة مهمة..
ـــ حاضر ثواني..
ارتدت حجابها على عجل ثم خرجت له و يخالجها شعورا بالخجل منذ أن طلبها للزواج، و لكنها حاولت التظاهر بحالة طبيعة لتجده يجلس بغرفة الجلوس ينتظرها..
استقبلها بابتسامة حالمة تجاوزتها حتى لا يزداد خجلها ثم جلست بالأريكة المقابلة له لتقول:
ـــ خير في ايه؟!
حاول التحلي بالجدية و هو يقول:
ـــ كل خير ان شاء الله.... حمد و عيشة و جوزها مسافرين القاهرة بعد شوية.. فأنا عرفت حمد ياخدك معاه و يوصلك لحد البيت.
هزت رأسها بنفي:
ـــ أنا آسفة يا معتصم مش هينفع..
زفر أنفاسه بضيق بالغ ثم قال بانفعال طفيف:
ـــ هو مفيش حاجة تقولي عليها ماشي من اول مرة ابدا!!
هبت من جلستها لتقول بذات الانفعال:
ـــ انت بتزعقلي كدا ليه؟!.. مش من حقك تزعقلي على فكرة..
أخذ يمسح وجهه من الغضب و هو يستغفر بخفوت ثم قال بهدوء نوعا ما:
ـــ يا ريم انا خايف عليكي انك تسافري لوحدك... و هكون مطمن اكتر لما اخويا يوصلك.
ردت بتحدِ:
ـــ متنساش اني جيت هنا لوحدي و زي ما جيت لوحدي هقدر ارجع لوحدي.
نهض بعصبية من مجلسه ليقترب منها و يصيح بانفعال:
ـــ ممكن اعرف ايه وجهة نظرك في الرفض؟!... ولا هو عند و خلاص..؟!
لوحت بيديها بعشوائية:
ـــ و انا هعند معاك ليه... كل الحكاية ان أدهم لو عرف اني ركبت عربية حد غريب المسافة دي كلها هيزعل جدا مني.
أمال رأسه اليها ليقول بغيظ:
ـــ ما قولتلك عيشة اختي هتكون معاكم... يعني مش هتسافري لوحدك في عربيته..
ربعت ذراعيها أمام صدرها لتقول باصرار:
ـــ لأ برضو مش هينفع..
اقترب منها للغاية مميلا رأسه للأسفل لأنها أقصر منه قامة حتى كادت أن تختلط انفاسهما، ليصيح بنبرة قاطعة:
ـــ بقولك ايه.. انتي هتسافري مع اخواتي يا اما و ديني ما انتي متحركة من هنا... فاهمة؟!
أجفلت من قربه الشديد و من نبرته العالية لتقول بتوتر و كأنها قد ارتعبت منه:
ـــ هسأل أدهم الأول.
حانت منه بسمة انتصار أخفاها سريعا ثم قال بجدية:
ـــ تمام... كلميه و اجهزي..
رفعت حاجبيها باندهاش لتقول بسخرية و هي تغادر من أمامه:
ـــ بتتكلم كدا كأنك واثق انه هيوافق..
أخذ يهز رأسه بيأس و هو يبتسم، و ما ان ابتعدت عنه مقدار خطوتين عاد يناديها بنبرة حانية على النقيض تماما من نبرته الحادة منذ قليل، نبرته جعلت دقات قلبها تتسارع، فالتفتت له مهمهمة:
ـــ امممم..
ـــ هتكلمي اخوكي على طلبي؟!
سكتت مليا تلملم شتات نفسها ثم قالت بجدية:
ـــ أكيد طبعاً... موافقة أدهم قبل موافقتي.
هز رأسه بموافقة ثم قال بنبرة راجية:
ـــ تمام هستنى ردك على أحر من الجمر..
أطرقت رأسها و هي تبتسم بخجل ثم استدارت لتغادر من أمامه سريعا، بينما هو بقي ينظر في أثرها بعشق بالغ و هو يُمني نفسه بقرب اللقاء..
قامت ريم بالاتصال بأدهم عدة مرات و لكنه لم يحيب ولا مرة، فهو كان في ذلك الوقت في جنازة ميريهان و كان هاتفه على وضع الصامت.
تأففت بضيق ثم لم تجد بدا من الذهاب مع حمد و سوف تقوم بالاتصال به لاحقا أثناء سفرها بالطريق.
قامت ريم بتوديع الحاجة ام معتصم و مارتينا و معتصم ذاته الذي كان يودعها بحزن لفراقها و لو مؤقتا.
كان يوما عصيبا للغاية على محمد والد ميريهان و والدتها و آسر الذي كان في أشد حالات البؤس... الى الآن لا يصدق أنه فقدها للأبد...
انتهت مراسم العزاء و عاد محمد في المساء الى ألمانيا مرة أخرى للحاق بمودة... فقلبه يؤلمه كثيرا عليها و يخشى فراقها هي الأخرى.
بينما قام أدهم بتوصيل آسر و والده الى منزلهما، أما والدة مودة أقامت بفندق لتعود في الصباح الباكر الى جدة بالمملكة العربية السعودية.
في تمام الثامنة مساءا عاد أدهم الى المنزل و تتجلى علامات الارهاق على ملامحه..
و بمجرد أن رأته ريم يدلف من باب الشقة صرخت باسمه ثم ركضت اليه تحتضنه بشدة و هو أيضا يشدد من احتضانه لها و هو يضحك و يقول:
ـــ وحشتيني يا شقية انتي.. وحشتيني اوي..
ـــ و انت كمان يا حبيبي وحشتني اوي..
ابتعد عنها ثم أحاط كتفها بذراعه و سارا سويا لغرفة الاستقبال و هو يسألها بدهشة:
ـــ انتي جيتي امتى؟!.. و ازاي معرفتنيش؟!
أجابته بغضب مصطنع:
ـــ ما سيادتك مبتردش يا بيه... شوف موبايلك كدا هتعرف رنيت ولا لأ؟!
استل هاتفه من جيب بنطاله و هو يقول بتذكر:
ـــ ايوة صح انا كنت عاملة silent عشان العزا بس نسيت خالص ابص عليه.
أخذ يتفقد سجل المكالمات الفائتة ليجد عدة مكالمات من ريم و أخرى من والدته و أيضا مكالمة واحدة فائتة من ندى، فابتسم بسخرية لذلك فيبدو أنها لم تحاول اعادة الاتصال به حين لم يرد عليها...
وصلا الى الغرفة ليجد والدته و ندى يجلسان سويا في انتظاره، انحنى يقبل يد والدته ثم اتجه الى ندى و ألقى عليها تحية السلام ثم جلس بجوارها ليهمس لها:
ـــ ازيك عامله ايه؟!
أومأت و هي تقول ببسمة خجلى:
ـــ كويسة الحمدلله..
حمحم ثم قال محاولا تبرير عدم رده عليها:
ـــ على فكرة الفون كان صامت لما رنيتي عليا و لسة شايفه حالا..
هزت رأسها عدة مرات ثم أجابته بخفوت:
ـــ انا كنت بطمن عليك بس لما اتأخرت اوي.
أومأ و شعورا بسعادة لا يعرف سببها يغمره.. أو ربما راحة نفسية لا يدري.. أن تهتم به ملاك كـ"ندى" فهو شيئ يدعو للارتياح...
كانت والدته و أخته يراقبان و يتغامزان عليهما، فريم لأول مرة ترى شقيقها يتحدث بتلك الرقة و يبرر دون أن يُوجه اليه اللوم... حقا رأته شخصا آخر.. فحتى حين كان مرتبطا بـ دارين لم يكن بتلك الحالمية بتاتا البتة.
ـــ سيدي يا سيدي على أدهم باشا الحبيب..
التقط الوسادة من جانبه فألقاها بها و هو يقول:
ـــ امشي يا حقودة انتي..
ضحكت ريم و هي تلتقط الوسادة و من ثم ضحكوا جميعا، فنهض أدهم و هو يقول:
ـــ أنا هدخل اخد شاور و اغير هدومي و ارجعلك يا دكتورة ريم عشان تحكيلي على اللي حصل معاكي في الصعيد..
أومأت ريم و هي تفكر من أين تبدأ له حكايتها مع معتصم و بأي كلمات سوف تصفه بها و كيف ستسرد له طلبه الزواج بها.
ـــ قومي مع أدهم يا ندى..
قالتها السيدة تيسير لتنظر ندى لها بتردد في بادئ الأمر ثم لم تجد بدا من الاستجابة لأمرها.
دلف أدهم غرفته و كاد أن يغلق الباب فتفاجئ بندى تدفعه، فنظر لها باستفهام فقالت له بارتباك:
ـــ دي ماما تيسير قالتلي أجيلك عشان لو احتاجت حاجة..
أغلق الباب من خلفها ثم سبقها ليجلس بتعب على حافة الفراش و لكن ندى مازالت واقفة متسمرة بمكانها بجانب الباب ليهتف بها:
ـــ ندى ممكن بعد اذنك تدلكي رقبتي؟!
أومأت و هي تبتلع ريقها بصعوبة من فرط التوتر، فقربه الزائد يربكها للغاية، أما هو بدأ في فك أزرار قميصه ثم خلعه لتعتلي ندى الفراش و تجلس خلفه ثم تبدأ في تدليك كتفيه، تشنجت عضلاته اثر لمستها الأولى لتشعر بتيبسها تحت يديها و لكنه أخذ نفسا عميقا يحاول تهدئة مشاعره التي تولدت بداخله إثر قربها منه ثم بدأت عضلاته ترتخي رويدا رويدا تحت لمساتها الحنونة و بقيا على ذلك دقيقة او دقيقتان..
ـــ انتي شاطرة أوي في المساچ..
ضحكت رغما عنها ثم قالت بجدية:
ـــ اممم... كنت بعمل مساچ لبابا دايما لأكتافه و رقبته لحد ما بقيت خبرة..
ضحك أدهم ثم باغتها بمسك يديها و هي خلفه ثم قبل باطنهما:
ـــ شكرا.. تسلم ايديكي..
تسمرت ندى من فعلته، بينما هو نهض و هو يحاول السيطرة على مشاعره التي تدفعه لاحتضانها و سحقها بين ذراعيه، ثم التقط ملابسه من الخزانة و اتجه مباشرة الى المرحاض دون أن يلتفت اليها، بينما بقيت هي تهدئ من نبضاتها المتلاحقة... إنه يسحبها الى دوامة عشقه بأفعاله دون أن يشعر.. و هل كان ينقصها عشقا فوق العشق الذي يغمر قلبها!!..
بعد قليل خرج من المرحاض مرتديا ملابس بيتية مريحة، و كانت ندى حينئذٍ تمشط شعرها أمام المرآة، فوقف خلفها و كان أطول منها قامة و التقط فرشاته و أخذ يمشط شعره و هو ينظر لها بتأمل في المرآة، الأمر الذي أربكها، فوضعت فرشاتها و تنحت لتفسح له و لكنه قيدها بذراعيه يوقفها ثم تحدث اليها عبر المرآة و هو خلفها:
ـــ مش عارف ليه حاسس انك مش قادرة تتعودي عليا... مع اني اتعودت عليكي بسرعة مكنتش متوقعها من نفسي.. بس يمكن عشان انتي انسانة نقية اوي و تتحبي بسرعة.
استدارت لتواجهه و لكنها بمجرد أن نظرت الى عينيه المسلطة في عينيها تاهت منها الكلمات... الى متى سيطغى حبه على قلبها و يعجز عقلها حتى عن التفكير.. فقط دقاته تتسارع في حضرته و عينيها تتعطش لرؤيته..
ـــ اتكلمي يا ندى.. ساكتة ليه..
أجلت حنجرتها ثم حاولت أن تتحلى بالجدية:
ـــ أدهم سبق و قولتلك ان انت شخصية مميزة و أي بنت تتمناك.. بس اعذرني ظروف جوازنا غريبة شوية و من ناحية تانية بحاول أتأقلم على الحياة بدون بابا.. بابا كان و مازال هو كل حاجة بالنسبالي و فراقه مأثر فيا جداً.
هز رأسه عدة مرات بتفهم:
ـــ أنا مقدر الظروف دي طبعاً و ان شاء الله الفراق ميطولش و...
لم يكد يكمل عبارته حتى قاطعه رنين هاتفه، فذهب ناحية الفراش و التقطه ثم فتح الخط ليجيب:
ـــ ألو... ايوة يا باشا.. انتداب؟!... بكرة؟!.. و حضرتك بتبلغني دلوقتي؟!.. تمام تمام... تمام.. شكرا مع السلامه..
أقبلت عليه ندى لتستفسر منه بقلق:
ـــ خير يا أدهم... مال شكلك اتغير كدا ليه؟!
رد بملامح متجهمة:
ـــ بلغوني اني طالع انتداب لجنوب سينا لمدة أسبوعين.
انفرج فمها بصدمة و تجهمت ملامحها بحزن بالغ حتى كادت أن تبكي.. فكيف ستتحمل فراقه بعدما تقربت منه حتى كاد حلمها باندماجها معه أن يتحقق.
لاحظ شرودها و تجهم وجهها فاقترب منها و قام بلف ذراعه حول خصرها ليضم جسدها الى جسده قليلا ثم قال و هو ينظر لها بحزن حاول اخفاؤه:
ـــ عادي يا ندى أنا متعود على كدا...مش أول مرة يعني.
هزت رأسها و هي تجاهد عينيها لألا تبكي ثم قالت بصوت متحشرج:
ـــ تروح و ترجع بالسلامة ان شاء الله.
قبل مقدمة رأسها ثم تركها و اتجه نحو الخزانة ليستخرج منها حقيبة سفر، فأقبلت عليه:
ـــ أنا ممكن أساعدك في تجهيز الشنطة..
هز رأسه بالايجاب و قاما معا بترتيب الملابس و غيره من متعلقاته الشخصية..
بعد حوالي ساعة انتظرته ريم خلالها لإخباره بأمر معتصم، أقبل عليها أخيرا و جلس بجوارها لتقول له بتأفف و ضيق:
ـــ ايه يا أدهم؟!.. كل دا بتاخد شاور و بتغير؟!.
نهرتها أمها بنظرة زاجرة:
ـــ بنت عيب كدا...
ضحك أدهم و هو يقول:
ـــ سيبيها تتكلم براحتها يا ماما..
ثم قرصها من وجنتها بمزاح:
ـــ كنت بجهز شنطتي عشان مسافر بكرة يا غلباوية انتي.
شهقت بخفوت ثم سألته بحزن:
ـــ مسافر فين؟!... هو انا ارجع انت تسافر؟!
ـــ لسة جايلي مكالمة من الادارة بلغوني بأمر انتداب مؤقت لمدة أسبوعين في جنوب سينا.
تهدل كتفاها باحباط بالغ ثم تمتمت بحزن:
ـــ تروح و تيجي بالسلامه يا حبيبي..
أمنت أمها على دعائها ثم قالت:
ـــ خلي بالك من نفسك يا أدهم و طمنا عليك علطول يابني..
ـــ حاضر يا ماما... و انتو كمان خلو بالكم من نفسكم و خلي بالك من ندى يا ماما..
ـــ ندى في عنيا يا حبيبي.
وكزته ريم بكتفها:
ـــ ايوة يا عم بقى ليك حد توصينا عليه..
ـــ عقبالك يا حقودة..
ـــ جينا بقى لمربط الفرس.
ـــ خير..
اعتدلت في جلستها لتكون بمواجهته ثم أجلت حنجرتها لتتحدث بتوتر طفيف مع قليل من الخجل:
ـــ طبعاً انت عارف معتصم اللي كلمك قبل كدا عشان يطمنك ان حادثة السرقة دي مش هتتكرر تاني... فاكره؟!
سكت لوهله يتذكره ثم ضيق عينيه بترقب:
ـــ اممم.. اه افتكرته.. كبير البلد اللي قولتيلي عليه..
أخذت تلوح بيديها بحركة دائرية:
ـــ هو مش كبير اوى يعنى... اقصد كبير مقاما بس مش كبير سنا... هو تقريباً قدك في العمر.
ـــ اممم... اه و بعدين..
أخذت تفرك كفيها بتوتر ملحوظ ثم استرسلت:
ـــ هو على فكرة خريج كلية اقتصاد و علوم سياسية و عنده شركة و مصنع بيديرهم هو و اخوه هنا في القاهرة و شخصية متحضرة جدا.. و في نفس الوقت هو يعتبر حاكم البلد بتاعته و عنده املاك كتير فيها..
ـــ اممم... جميل.. و ايه تاني.
ـــ هو كان طلب يتقدملي و انا طبعاً مقولتلهوش رأيي و استنيت لما اقولك و فهمته ان موافقتك قبل موافقتي.
سكت أدهم مليا يدير حديثها عنه في رأسه، و قرر أنه لن يسلم أخته الغالية لمجهول مهما كان رأيها و قناعتها فيه.
ـــ واضح من طريقة كلامك عنه انك ميالة ليه.
ـــ بصراحة يا أدهم هو لما حكالي عن مشوار حياته انبهرت بيه و حسيته شخصية من الشخصيات النادرة و الناجحة رغم صغر سنه..
انتفخت اوداجه بغضب ثم قال بنبرة مخيفة:
ـــ اممم..واضح كمان انك كنتي بتقعدي معاه و تحكيله و يحكيلك...
ابتلعت ريقها بصعوبة لتقول بتوضيح:
ـــ لا يا أدهم انت عارفني كويس...دي كانت مرة واحدة بس اللي حكالي فيها عن نفسه لما استضافني في مضيفة بيته بعد حادثة السرقة و مقعدتش بعدها غير يومين تقريبا و قررت النهاردة اني ارجع... و على فكرة هو لسة مكلمني على موضوع طلب الجواز دا النهاردة قبل ما اسافر.
هز رأسه عدة مرات ثم قال بجدية:
ـــ و أنا لو مش واثق فيكي يا ريم كان هيكون ليا تصرف تاني....انا من حيث المبدأ معنديش اعتراض طالما انتي شايفاه كويس.. بس دا ميمنعش اني لازم أقابله و اتعرف عليه و على عيلته و بعدين نبلغه برأينا النهائي.
أحست بقليل من الارتياح، فهو محق في قراره تماما و طالما أدهم وكيلها بعد الله فلا مجال للقلق.
الفصل التاسع عشر
أنهت ريم حديثها مع شقيقها ثم دلفت الى غرفتها و التقطت هاتفها و استخرجت رقم معتصم فشردت في ذكرياتها القليلة معه و هي تبتسم بحالمية، لقد استطاع أن يستحوذ على تفكيرها و ربما قلبها في غضون أيام قليلة......
شخصيته المتعددة الجوانب و نجاحه المعتمد على ذكائه و مكانته بين أهل بلدته رغم صغر سنه و فوق كل ذلك رقته المتناهية و احتوائه لها الذي لمسته فيه في أثناء نوبات الهلع التي أتتها هناك، كل تلك الأشياء أسرت قلبها في سجن حبه..
اتخذت قرارها بالاتصال به و اخباره بحوارها مع شقيقها...
على الناحية الأخرى..
رغم حلول الليل و انتشار الظلام الدامس الذي عم اسطبل الخيول إلا أنه قضى وقتا طويلا واقفا هناك شاردا بحزن في أحواله التي انقلبت رأسا على عقب... زواج غير متكافئ بالمرة من المدعوة نرمين ثم بعد حوالي خمس سنوات منه يقع في حب أخرى لتنقلب حياته الى جحيم لا يدري متى سيغفر له حتى يخرج منه.
رن هاتفه برقم ريم لينظر الى الشاشة ليجد اسمها يضيئها تماما كما أضاءت عتمة قلبه، فابتسم بعشق رغم لمحة الحزن التي كست ملامحه ثم فتح الخط ليجيبها:
ـــ ألو.. ازيك يا ريم.. حمد الله على السلامة.
ابتسمت رغما عنها و هي تجيبه:
ـــ الله يسلمك يا معتصم.
ـــ أخبارك إيه؟.. و الجرح اللي في رجلك اخباره ايه دلوقتي؟
ـــ تمام الحمد لله كويس..
سكت ينتظر أن تبشره بخبر ربما يثلج صدره، لتقول بعد برهة:
ـــ أنا كلمت أدهم في موضوعنا من شوية
ـــ اممم و قال ايه؟!
ـــ عايز يتعرف عليك و على عيلتك الأول و بعد كدا يقرر هيوافق ولا لأ
ـــ تمام.. حقه طبعاً.
ـــ خلاص كلمه و اتفق معاه.
ـــ هكلمه حالا.. ايه رأيك اعزمه على فرح أخويا حمد بعد اسبوعين ان شاء الله.
ـــ حلو اوى.. يكون رجع من الانتداب..
ـــ انتداب ايه؟!
ـــ أصل أدهم مسافر الصبح لجنوب سينا و هيرجع بعد اسبوعين ان شاء الله..
ـــ طاب ألحق أكلمه بقى قبل ما يسافر.
ـــ تمام كلمه.
ـــ تمام.. خلي بالك من نفسك و ابقي طمنيني عليكي.
ـــ حاضر سلام.
ـــ سلام.
أغلق الخط مع ريم ثم أخذ نفسا عميقا استعدادا للاتصال بأدهم.. فيبدو أنه ليس شخصا سهلا و أكثر ما يقلقه أن يكتشف زواجه بأخرى قبل تسوية أموره و يفسد كل شيئ..
قام بلمس ايقونة الاتصال ثم وضع الهاتف على أذنه ينتظر اجابته و بعد ثانيتان أو ثلاث أتاه صوته العميق ليرد:
ـــ و عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. أدهم باشا أكيد حضرتك لسة فاكرني..
أجابه بجدية تامة:
ـــ أيوة طبعا فاكرك يا معتصم بيه و مسجل رقمك..
أجلى معتصم حنجرته ليقول:
ـــ احم... دكتورة ريم قالتلي ان حضرتك عايز تتعرف عليا و على العيلة.
ـــ أولا بلاش حضرتك و الالقاب دي.. اعتقد اننا من سن بعض و مفيش داعي للجو دا.
أحس معتصم بقليل من الارتياح:
ـــ صح معاك حق.
ـــ ثانيا بقى يشرفني طبعا اننا نتعرف على بعض و نقرب من بعض أكتر.
ـــ طبعاً يا باشا شرف ليا.. عشان كدا بعزمك انت و الدكتورة ريم و بقيت العيلة الكريمة على فرح أخويا الجمعة اللي بعد الجاية ان شاء الله هنا في البلد.. و لو تمام هبعتلكم عربية تاخدكم من القاهرة لحد البيت هنا.
سكت أدهم مليا يفكر ثم أومأ بموافقة:
ـــ تمام.. ان شاء الله نتقابل في الفرح و نتعرف على بعض.
ـــ تمام يا أدهم باشا هتنوروا البلد كلها.
ـــ منورة بأهلها يا معتصم بيه.. أشوفك على خير ان شاء الله.. مع السلامة
ـــ مع السلامة يا باشا اتفضل.
أغلق الخط ثم تنفس الصعداء، لأول مرة يتحدث مع شخص بكل هذا التحفظ و التوتر.. و لكن لأجلها يتحمل الصعب مادام سينعم بنيلها.
أخذ يخلل أصابعه في خصلات شعره بشرود و هو يتأمل السماء بنجومها المتلئلئة...مابال الشرود و الحزن يلازمنه منذ دق قلبه بحبها.. للأسف لقد مال قلبه لها في الوقت الخطأ.
فتح هاتفه بعدما فكر في الاتصال بنرمين يمهد لها أمر انفصالهما، و بعد تفكير طويل حسم أمره بالتحدث اليها...
في تلك الأثناء كانت جالسة بفراش الزوجية تتصفح مواقع التواصل الاجتماعي بملل عبر هاتفها الثمين لتتفاجئ برقم معتصم يضيئ شاشة هاتفها، فاتسعت ابتسامتها باشتياق بالغ و فتحت الخط....
و حينها أتاه صوتها الملهوف.
ـــ ألو.. ازيك يا نرمين عاملة ايه؟!
ـــ يااااه يا معتصم!.. لسة فاكر ان ليك زوجة اسمها نرمين؟!
أخذ يركل حبات الحصى بقدمه:
ـــ معلش يا نرمين كنت مشغول جداً الايام اللي فاتت..
اتكأت بكوعها على الوسادة لتجيبه بدلال:
ـــ ماشي يا حبيبي انت عارف اني مبعرفش ازعل منك... طمني عليك عامل ايه؟
تنهد تنهيدة عميقة ثم أجابها:
ـــ أنا كويس الحمد لله..
ـــ وحشتني اوى اوى يا معتصم... مستنية أشوفك بفارغ الصبر
سكت و لم يستطع أن يرد... فاسترسلت بمزيد من الهيام:
ـــ وحشني حضنك و نفسي اترمي فيه... كل حاجة فيك وحشاني.. كل يوم بكون عايزة اكلمك بس بخاف تزعل مني.
سكت يأخذ نفسا عميقا و الشعور بالذنب يتفاقم بداخله كلما تحدثت بالمزيد.. سألها بنبرة هادئة يملأها الشجن:
ـــ حبتيني امتى يا نرمين؟
ابتسمت بحالمية ثم أجابته بعشق جامح:
ـــ من أول شهر في جوازنا...
ـــ ليه؟
تنهدت بعمق ثم قالت:
ــ بدأت أقارن بينك و بين عادل الله يرحمه في كل حاجة.. اكتشفت اني كان فايتني كتير اوي و انا معاه.. و انت عيشتني احاسيس عمري ما حسيتها معاه.. لحد ما وقعت في حبك لدرجة الادمان.. بس خوفت أحسسك بكدا عشان متبعدش عني.
بدأت نبرته تحتد بجدية:
ـــ بس دا مكانش اتفاقنا.
تجهمت ملامحها بحزن ثم قالت:
ـــ عارفة.. بس حصل غصب عني.
أجابها بنبرة جادة قاتلة:
ـــ بس أنا محبتكيش يا نرمين.
شعرت كأنه غرس خنجرا في قلبها و لكنها تظاهرت باللامبالاة:
ـــ مش مهم.. مسيرك هتحبني عاجلا ام آجلا.
ـــ فات خمس سنين من جوازنا و محبتكيش.. معقول ممكن احبك بعد السنين دي كلها؟!
قطبت جبينها باستغراب و أحست بوجود خطبا ما:
ـــ في ايه يا معتصم؟!.. اول مرة تتكلم معايا في الموضوع دا.. بقالي فترة بلمحلك بحبي ليك و انت كل مرة بتصدني.. بس مفيش مرة ناقشتني بالطريقة دي.
زفر أنفاسه بضيق بالغ ثم احتدت نبرته بانفعال:
ـــ عشان مش عايزك تتعلقي بحبال الهوا الدايبة...عايزك تفتكري دايما اننا اتفقنا على ان جوازنا للمصلحة مش اكتر من كدا و ان من حقي اني اتجوز بنت مناسبة ليا من كل النواحي.
تجهمت ملامحها بغضب و لكنها حاولت أن تتحدث بنبرة طبيعية لتقول:
ـــ و انا امتى كنت عارضتك في كدا؟.. اظن انت اللي مش حابب تتجوز.. ببساطة كدا عشان انا مكفياك.
انتفخت اوداجه بغضب جامح لهيتف بها و هو يصتك فكيه بغيظ:
ـــ عاجباني ثقتك في نفسك دي.. بس للأسف انتي فاهماني غلط.
ـــ فهمني انت الصح يا معتصم.
ـــ هفهمك... بس مش هينفع في التليفون.. لما ارجع هفهمك كل اللي انتي عايزة تفهميه.. سلام..
لم يترك لها الفرصة للرد فقد أغلق الخط في الحال..
أخذ يعتصر قبضتيه بغضب بالغ، فقد استطاعت استثارة عصبيته و تعكير صفوه و ندم أن تحدث اليها من الأساس... فلماذا يمهد لها؟!.. الأمر بيده ان أراد الاستمرار معها استمر و ان لم يرد فليطلقها بدون سرد الأسباب و المبررات..
بينما هي ألقت بالهاتف على الفراش بعصبية ثم أخذت تحدث نفسها بشك:
ــــ يا ترى في ايه يا معتصم و ايه مناسبة المكالمة دي؟!... حب جديد دا ولا ايه يا ابن الصعيدي!
تحاول فتح جفنيها و لكنهما ثقيلان للغاية.. تفتح فمها تحاول نطق اسمه تناديه لعله يساعدها على النهوض و لكن صوتها يأبى أن يتخطى حنجرتها، لتستسلم لتلك الغيمة مرة أخرى لتغوص بها لعلها تراه هناك في ذلك الحلم الذي تعيش فيه حرفيا.. تراه يفتح لها ذراعيه و هي تقف بعيدا بفستانها الوردي لتتسع بسمتها و تركض اليه مستجيبة لنداء ذراعيه و ترتمي بأحضانه فيحملها و يدور بها في مكانه و هي تضحك بملئ فمها و تهتف به من بين ضحكاتها:
ـــ براحة يا آسر.. هتوقعني... لا يا آسر هتوقعني بجد..
حينما لاحظت الممرضة الألمانية المسؤلة عن حالتها أنها تحاول فتح عينيها و تحرك يديها سجلت ذلك في ملاحظاتها التمريضية ثم قامت بالاتصال بالدكتور رؤف تبلغه بتطور درجة وعي المريضة.
لم يكذب خبرا و قام فورا بفحصها فوجد أنها بالفعل تحاول فتح عينيها عند مناداة اسمها الأمر الذي يبشر بتحسن كبير و استجابة جيدة لبروتوكول العلاج..
و بعدها قام باستدعاء محمد والد مودة ليبلغه بآخر تطورات الحالة الصحية لها الأمر الذي أثار سروره البالغ و خر ساجدا شكرا لله.
قضى أدهم تلك الليلة ساهرا مع عائلته يودعهم استعدادا لرحيله و غيابه عنهم لأسبوعين كاملين حتى انتصف الليل، فأشفقت عليه أمه و نصحته بالخلود للنوم حتى يستطيع الاستيقاظ مبكرا للسفر.
مد يده لـندى لتعطيه يدها تحتضن يده ثم نهضت ليدلفا سويا الى غرفته..
دلفت ندى أولا لتجد هاتفها يرن برقم أبيها و يبدو أنه اتصل بها عدة مرات و لم تسمعه....
ـــ أدهم أنا هروح أكلم بابا في قوضتي من اللاب فيديو كول..
أومأ عدة مرات:
ـــ تمام.. ابقي سلميلي عليه كتير.
ابتسمت بود قائلة:
ـــ حاضر... عن اذنك.
سارت نحو الباب فاستوقفها ﻤناديا:
ـــ ندى
ـــ اممم
ـــ أنا هنام عشان هصحى بدري... و لما تخلصي ابقي تعالي نامي مكانك هنا.. متناميش في قوضتك..
هزت رأسها عدة مرات و هي تبتسم بحالمية و لم يسعفها عقلها لقول شيئ ثم استدارت لتغادر الغرفة على مضض... فلولا اشتياقها لأبيها و قلقها عليه لما تركته تلك الليلة بالذات.
بينما أدهم شعر بالاحباط، فقد كان يخطط لأن ينام الليلة و هي بين ذراعيه معبرا لها عن حبه و اشتياقه لها... فلا يعلم ان كان سيعود من تلك السفرة سالما أم لا!..
اعتلى فراشه ثم جلس به فابتسم بحالمية و هو يفكر... هل هذا إذن هو الحب الذي كان دوما يتسائل عنه و عن كيفية الشعور به؟!.. هل كان قلبه حجرا إذن قبل أن يلين هياما بها؟!
كان يتعجب من صديقه آسر حين يرى تبدل حاله حين يتحدث الى حبيبته الراحلة..كان دائما يتسائل هل الحب يبدل الأحوال هكذا؟!...الى أن رأى بأم عينيه غرقه اللامحدود في عشقها و في كل تفاصيلها صغيرة كانت او كبيرة..
استيقظ أدهم في تمام السادسة صباحا ليجد الفراش خاليا، فظن أنها قد نامت بغرفتها فهو لم يشعر بأي شيئ حين غفى على وسادته حتى استيقظ على صوت المنبه.
نهض و هو يردد أذكار الاستيقاظ ثم دلف المرحاض ليأخذ حمامه الصباحي و يتوضأ و يصلي الصبح..
أنهى صلاته ثم ارتدى ملابس غير رسمية ليسافر بها كانت عبارة عن بنطال جينز اسود و قميص أبيض مجسم و شمر كمه حتى منتصف ساعديه ثم مشط شعره و نثر عطره و نوى الخروج لكي يودع أمه و أخته و ندى ان كانت مستيقظة.
لم يكد يفتح الباب حتى وجد ندى تدلف و بيدها صينية بها طبق من الشطائر و كوب من اللبن الساخن، فقابلته ببسمة جميلة حبست أنفاسه و شعرها الغزير مع غرتها تتهافى على وجهها بجاذبية:
ـــ صباح الخير... انا قومت قبلك عشان الحق اعملك فطار.
التقط منها الصينية و هو مدهوشا من فعلتها ثم ذهب و وضعها على الكومود و قال بامتنان حقيقي:
ــــ شكرا يا ندى تسلم ايديكي..
ـــ بألف هنا.
ـــ تعالي كلي معايا بقى..
ـــ حاضر..
جلسا بجوار بعضهما على حافة الفراش، فناولها شطيرة ثم أخذ شطيرته و بدأ يأكل، و بعد ثوان قليلة باغتها بسؤاله:
ـــ نمتي فين امبارح؟!
حمحمت بتوتر ثم قالت بنبرة مترددة:
ـــ احم... بصراحة قعدت اتكلم مع بابا فترة طويلة و بعد ما قفلت معاه غصب عني نمت مكاني ع السرير.
هز رأسه عدة مرات، فنظرت له بطرف عينها فوجدته متجهم الملامح فسألته بتردد:
ـــ زعلت؟!
هز رأسه بنفي ثم قال بنبرة باردة:
ـــ لأ عادي... براحتك.
شعرت من نبرته أنه غاضب الأمر الذي أثار سرورها البالغ، فهذا إن دل فإنه يدل على حبه لقربها أو ربما يكون قد أحبها بالفعل... يبقى فقط أن يقر بحبه بلسانه قبل أي شيئ.
تناول كوب اللبن ثم وضعه على الكومود و هو ينهض:
ـــ الحمد لله... أنا كدا اتأخرت و العربية تحت مستنياني بقالها اكتر من ربع ساعة.
نهضت هي الأخرى لتقف قبالته تتطلع اليه بحزن بالغ لفراقه، قبل مقدمة رأسها ثم نظر اليها بحزن و هو يقول:
ـــ مش عارف اذا كنت هعرف اكلمك في التليفون ولا لأ.. لأن الشبكة هناك سيئة و الاتصالات صعبة.. مش عايزك تقلقي و ماما و اخواتي متعودين على كدا و عارفين الكلام دا... خلي بالك من نفسك.. أشوف وشك بخير..
اغرورقت عيناها بالدموع و لكنه لم يستطع أن يصمد واقفا أمامها أكثر من ذلك، فحتما ان بقي ثانية اضافية فلن يستطيع تركها بالمرة، فذهب من أمامها ليحمل حقيبته على ظهره و يجر الأخرى بيده ثم سار مباشرة الى الباب دون أن يلتفت لها.
بمجرّد أن وصل الى الباب نادته بلهفة فاستدار بمواجهتها و ترك حقائبه حين ركضت اليه ترمي جسدها عليه ليرتد خطوة الى الخلف اثر اندفاعها القوي ناحيته، فتعلقت بعنقه فمن ثم لف ذراعيه حول خصرها يحتضنها بقوة نابعة من شدة اشتياقه لها و هو منحني عليها نظرا لقصر قامتها عنه، رغما عنها بكت على صدره فحملها ليرفعها قليلا عن الأرض لتكون رأسها بمستوى رأسه فقامت بدورها بدفن رأسها بين رأسه و كتفه و هو يمرمغ وجهه بشعرها يتنفس عبقه و هو يشدد من تطويقه لها و كأنها ستهرب منه...
كان الصمت مخيما عليهما فلم يكن لأي منهما القدرة على التفوه بأي شيئ من فرط المشاعر الجياشة التي غمرتهما..
يعلم جيدا أنه تأخر و لكنه استصعب تركها و كأنها كانت غائبة عنه لسنوات، حتى أتته طرقات عالية متتالية على الباب و ريم تصيح بصوت عال:
ـــ أدهم العربية مستنياك من بدري و بتضرب كلاكسات بقالها ساعة لما الجيران كلها صحيت.
فكت عقدة يديها من حول عنقه لتنزل على الأرض فابتعدت عنه قليلا و هي تنظر له بخجل، فأخذ يمسح على شعره و يعيد هندام ملابسه محاولا السيطرة على موجة المشاعر العاتية التي ضربت قلبه حتى جعلت من فراقها أمرا عسيرا للغاية..
ـــ هتوحشيني..
قالها برقة متناهية أجفلت منها لترد عليه بنفس النبرة:
ـــ و انت كمان..
ابتسم ثم اختطف قبلة من وجنتها و حمل حقيبته مرة أخرى و خرج سريعا قبل أن يعود و يحتضنها مرة أخرى، و تركها متسمرة من فعلته و هي تضع يدها على وجنتها موضع قبلته و قلبها يرفرف من السعادة.
قام بتوديع أخته و أمه ثم هبط الى أسفل المنزل ليجد السيارة الخاصة بالعمل تنتظره..
فتح الباب الخلفي ليتفاجئ بآسر يجلس بالخلف فصاح به بحدة:
ـــ ناموسيتك كحلي يا أدهم باشا.. خير يابا الكلكسات دي كلها مسمعتهاش؟!
ألقى حقيبته بوجه صديقه ليلتقطها قبل أن ترتطم برأسه ثم ركب بجواره و هو يقول:
ـــ انت ايه اللي جايبك؟!
ـــ اللي جابك هو اللي جابني... اطلع يابني..
انطلقت السيارة في طريقها الى خارج حدود القاهرة، ليسترسل أدهم ببرود:
ـــ هما عاملين تمويه ولا ايه... محدش بلغني انك معايا في الانتداب..
رد آسر بسخرية:
ـــ ولا انا و حياتك.. انا لسة عارف الصبح انك معايا.. بس مال شكلك ع الصبح؟!
نظر له نظرة مطولة و لسان حاله يقول:
ـــ الله يكون في عونك يا آسر... بجد عذرتك.. فراق الحبيب صعب أوي.
ـــ ايه يابني بتبصلي كدا ليه؟!.. هو انا لحقت اوحشك.
ابتسم نصف ابتسامه و هو يقول بمزاح:
ـــ انت علطول واحشني..
أعاد رأسه الى الخلف ثم استرسل و هو مغمض العينين:
ـــ بقولك ايه.. نقطني بسكاتك بقى عشان عايز أكمل نوم لحد ما نوصل.
فعل آسر كما فعل صديقه ثم قال:
ـــ و الله يكون احسن.
فعم عليهما صمتا قاتلا و كلا منهما هائما في عالمه، أدهم يفكر في حياته الجديدة و مشاعره الدخيلة التي يختبرها لأول مرة مع ندى... و آسر شاردا في حبيبته الراحلة و ذكرياته الجميلة معها و كيف سيكمل حياته بدونها......