رواية لعنة الخطيئة الفصل الاربعون40 بقلم فاطمة أحمد
: اليد اليمنى.
ضحك سليمان مجددا واستقام واقفا يتأمل صورتها التي كانت أكبر من بقية الصور وغمغم باِستهجان :
- في ايه يا حكمت هانم ده احنا طبخناها سوا ... نسيتي قبل سنين لما العمدة كان بيحتضر وخلى وصية للخليفة بتاعته نسيتي انه كان كاتب في الوصية ان كبير عيلة الشرقاوي يعني جد صفوان هو الأحق بالعمودية من وراه وانتي بقى خلتيني اسرقها وهو بيطلع في الروح قدامي وزوّرتيها .... وكتبتي اسم جوزك بدال اسم الخليفة الحقيقي !!
وكأنها رأت حياتها تتسرب من بين يديها في لحظة !
ارتعشت أنامل حكمت على الهاتف وقد فاض بها الكيل مع تدفق ذكرى خطايا الماضي واحدة تلوَ الأخرى والأدهى أنها ليست خطيئة تُنسى ويُعفى عنها ... بل هي خطيئة قادرة على تدمير كل ما بَنَته يوما !
ورغم المخاوف التي تدور بداخلها الآن لكن جبروتها المعتاد لم يكن ليرضى أن يظهرها فرفعت رأسها بكبرياء وأكسبت صوتها صلابة أكثر وهي تقول :
- الخدام اللي كان بيبوس الأيادي امبارح جاي النهارده وهو مستقوي وبيحاول يهددني ... انت نسيت حقيقتك وبقيت فاكر نفسك قدي لأنك لميت قرشين ولا ايه.
تأجج وجهه بالحقد والبغض من إذلالها الدائم له وضرب على الحائط بقوة ريثما تضيف حكمت بلهجة حادة :
- اقصر الشر يا سليمان ومتحاولش تلعب بديلك معايا انت اكتر شخص بيعرف انا ممكن اعمل ايه لو حطيت حد في دماغي يبقى ابعد عن سكتي وسكة حفيدي وإلا ...
- وإلا هتعملي ايه انا بسأل نفسي ياترى انتي هتستعملي مين وتضحي بمين المرة ديه.
قاطعها بإقرار ونبرة تخلو من الضعف ثم أردف :
- فاكرة انك هتخليني اتراجع بتهديداتك ديه يا حكمت مش كده وبعدين انتي مفكرتيش طول السنين ديه ايه اللي هيحصل لما آدم يكتشف انك عيشتيه في كدبة ولولا لعبتك مكنش هيوصل للمركز اللي هو فيه دلوقتي.
- قولتلك ابعد عن حفيدي واوعى تقرب ع حد من عيلتي !
- فكك من حكاية العيلة انا اكتر واحد بيعرف انك مبتفكريش غير في مصلحتك وعارف كمان انك مبتعتبريش آدم سلطان الصاوي حفيدك من لحمك ودمك قد ما انتي معتبراه وسيلتك عشان تحافظي على السُلطة بتاعتك و ده السبب اللي مخليكي خايفة من انه يتأذى بس صدقيني أنا هبقى كابوسك اللي ممكن يتهجم عليكي ويقطع نفسك في أي لحظة.
أنهى تهديده وأغلق المكالمة في وجهها فنظرت حكمت لهاتفها بصدمة سرعان ما تحولت إلى حدة وهي تتذكر كل شيء حدث في الماضي.
نعم لقد كان كبير عائلة الشرقاوي هو المرشح للعمودية وكان سيصبح العمدة الجديد بعد وفاة الأول، و نعم قامت هي بسرقة الختم وتزوير ورقة الوصية حيث جعلت زوجها مكانه كذِباً وزورا وهي ليست نادمة على ذلك فلطالما استحقت أن تكون في المراكز العليا لم تكن لتجعل أي شخص آخر بأخذ مكانها.
والآن بعدما عُيِّن آدم خليفة للعمدة الحالي وزاد مركز عائلتها لن تتوانى عن تدمير كل من يسعى لهدر تعبها خاصة حشرة عديمة النفع مثل سليمان ذاك !!
_________________
بعد مرور يومين وفي سرايا الشرقاوي.
وقفت عند الشرفة المطلة على الطابق الأول مسندة كوعها على الإطار وواضعة وجهها على كف يدها وهي تتأمل غروب الشمس بشرود، ثم نظرت للأسفل ووجدت أفراد العائلة جالسين في منتصف الفِناء وحينما لمحتها سلمى أشارت لها بالإنضمام اليهم لكنها رفضت فزم صفوان شفته معقبا باِستهزاء :
- سيبيها براحتها تلاقيها بتفكر في روح قلبها ومقهورة لأنه مش معبرها.
زجرته جميلة بجدية :
- قولتلك اكتر من مرة بلاش تقول الكلام ده وتخلي نيجار تسمعك هي من غير حاجة زعلانة فمتزودهاش عليها.
- أنا نفسي افهم عملها ايه ابن سلطان عشان يعلقها بيه ديه طول عمرها قوية وقلبها بارد ازاي آدم حولها لواحدة غبية تضحي بحياتها علشانه.
تأففت جميلة بيأس منه وفتحت فمها لتتكلم لكن فجأة طُرق الباب الخارجي ودلف أحد الحراس مبرطما بجدية :
- في حد عاوز يقابل حضرتك.
- مين ده.
تساءل صفوان بغرابة ليسمع صوتا رجوليا خشنا يعرفه جيدا وهو يهدر :
- آدم الصاوي.
ظهر في الوسط بعدما أزاح الحارس بهدوء ودخل فاِستقام الآخر بدهشة وضيق من وجوده أما نيجار التي كانت تراقب الوضع انتفضت بخفة واعتدلت في وقفتها هامسة اسمه :
- آدم.
حانت منه لحظة رفع بها رأسه للأعلى وأبصرها تحدق فيه فاِبتسم برصانة وتقدم للجمع مرددا :
- مساء النور.
ردت له جميلة التحية فورا وقامت بدعوته للجلوس متجاهلة نظرات صفوان الذي كتم تأففه واقترب منه مغمغما :
- خير ايه سر زيارتك المشرفة ديه.
احتفظ بالابتسامة المرسومة على وجهه وردَّ بنبرة باردة :
- جاي أشوف مراتي واطمن عليها ... و اخدها معايا.
في هذه اللحظة كانت نيجار قد نزلت إليهم وسمعت ما قاله فرفعت حاجباها ورمقته بدهشة من تصرفاته حيث أن آدم لم يزرها أو يكلمها منذ آخر مرة تسلل لغرفتها حتى كادت تجزمه بأنه تخلَّى عنها لكن هاهو يظهر على حين غرة ويخبرهم بأنه سيأخذ زوجته معه ... هل أثرت كل تلك الأحداث على خلايا عقله أم ماذا ؟
بينما همهم صفوان بغيظ واستنكار وقال :
- كويس انت لسه فاكر انك متجوز اهو.
تجاهل آدم تلميحاته وتوجه لنيجار ووقف مقابلا إياها ليردد بجدية :
- انتي عامله ايه دلوقتي بقيتي كويسة ؟
تدخل الآخر هذه المرة أيضا بحشرية وعلَّق :
- ولسه فاكر بردو ان مراتك اتصابت وبسببك كويس ده تقدم ملحوظ.
وكزته جميلة محذرة إياه ثم ادعت التريث بينما تتمتم :
- أهلا بيك يابني بس انا بظن ان نيجار لسه تعبانة ومحتاجة رعاية يعني مش حمل تعمل أي مجهود.
- أنا هاخد بالي منها كويس ومش هخليها تتعب نفسها خالص ... ايه رأيك يا نيجار انتي عاوزة ترجعي معايا دلوقتي ولا لسه مش مستعدة هحترم قرارك أيا كان.
كان آدم يتحدث بثبات كعادته ولكن هذه المرة امتلأت عيناه بشيء غير الضيق والامتعاض ... شيء كالإهتمام الحقيقي مثلا ؟
تلكأت نيجار ولثواني تغلب عليها غضبها من غيابه وكادت ترفض وتخبره بأنها لن تعود معه في محاولة منها لكي تحافظ على ما تبقى من كبريائها إلا أنها عندما رأت آدم يلتقط يداها بين كفي يديها الدافئتين تملَّكتها الحيرة وبرطمت بخفوت :
- أنا مش عارفة ...
أدرك آدم ماتفكر به فهمس بصوت لا يصل لغيرها :
- عارفة انك زعلانة مني بس أنا هشرحلك كل حاجة لما ترجعي للبيت معايا ... لبيتنا.
أخذت نيجار نفسا عميقا وزفرته على دفعات ثم أماءت بإيجاب متمتمة :
- ماشي.
وبالفعل صعدت الى غرفتها برفقة سلمى لكي تساعدها في توضيب أغراضها ورغم أن جميلة طلبت منه البقاء للعشاء إلا أنه رفض دعوتها بأدب وأمسك يد نيجار يشدها بجانبه وباليد الأخرى حمل حقيبتها وغادرا معًا....
بعد فترة وصلا لسرايا الصاوي ودخلا فاِستقبلتهما حليمة التي استقامت واقفة بدهشة في البداية من عودتها المفاجئة ثم تمالكت نفسها واقتربت منهما مرددة :
- أهلا بيكم نورتو ... ازيك يا نيجار عامله ايه دلوقتي ؟
- كويسة الحمد لله.
ردت عليها بقليل من الفتور لتعقب الأخرى :
- ان شاء الله دايما يارب.
في هذه اللحظة كانت ليلى متوجهة الى المطبخ وحينما رأت نيجار توقفت برهة مفكرة في تجاهلها لكنها تراجعت وتقدمت منها وهي تقول بهدوء :
- حمد لله على سلامتك.
شكرتها بخفوت ونظرت لآدم الذي استأذن وأخذ زوجته لغرفتهما في الطابق الثاني أما حليمة فاِبتسمت وهي تسمع ليلى تبرطم :
- غريبة نيجار بقالها كام يوم في بيت عيلتها لدرجة افتكرت انها مش هترجع.
التفتت اليها وأردفت :
- مش انتي بس حتى حكمت كانت فاكرة انها خلصت من بنت الشرقاوي وأكيد هتنصدم لما تشوفها.
- انتي مبسوطة برجوعها لأن تيتا بتكرهها وبتضايق من وجودها صح.
- مش علشان السبب ده بس، نيجار واحدة خاطرت بحياتها عشان تنقذ آدم ومخافتش على نفسها فأكيد أنا هفرح لما اشوفها بخير.
** من الناحية الأخرى خرج آدم من الغرفة تاركا زوجته تبدل ملابسها ليتقابل مع جدته مباشرة وحين أبصر الخادمة ام محمود من خلفها عرف سبب تجهمها وغضبها فحمحم مغمغما :
- مساء الخير يا ستي.
- مساء النور يا حفيدي ممكن تجي نتكلم شويا في اوضتي ؟
حرك رأسه بآلية موافقا وبمجرد أن اغلق الباب خلفه نظرت له الأخرى نظرات جامدة تحمل بين طياتها سخطا ترجمه لسانها على شكل كلمات وهي تقرعه بحدة :
- أنت ليه مقولتليش انك جايب البت ديه معاك النهارده.
- لازم اخذ اذنك عشان اجيب مراتي ؟
- انا شايفة انك بقيت بتقول عليها انها مراتك ببساطة كده ومن غير ما تتردد ماهو خلاص انت نسيت اللي هي عملته فيك.
- حضرتك مبتسبيش ليا أي فرصة عشان انسى اصلا.
رد عليها آدم بلهجة متهكمة استشعرتها حكمت فطفقت تلقي سمومها المعتادة كي تجعل حفيدها يعود لعقله ولا ينجرَّ خلف تلك الأفعى :
- بس أنا شايفة انك نسيت بمجرد ما نيجار عملت حاجة كويسة لمرة واحدة وقال ايه انقذت حياتك اللي استقصدتها في الماضي !
شدد القبض على يده بخنق وأغمض عيناه محاولا الحفاظ على هدوئه بيد أن جدته لم تكن لديها نية لتمرير هذه الليلة على خير فضربت بعصيها على الأرضية متابعة :
- هي ديه البت اللي انت اتجوزتها عشان تنتقم منها وتخليها تتمنى الموت ومتطولوش ديه نفسها اللي ضحكت عليك وسرقتك وكانت هتموتك لولا اننا لحقناك في آخر لحظة قمت انت كرهتها وحلفت تاخد بتارك منها هي وعيلتها ؟ ايه يا سبع يا عمدة يا راجل عيلة الصاوي ازاي نسيت كل حاجة بالسرعة ديه نيجار رجعت وقعتك في نفس الحفرة مش كده بس الحق مش عليها الحق على اللي محطش اعتبار لكرامته وسُمعة عيـ....
- كــفـايــة !!
تفجرت صرخة قوية اهتزت لها جدران الغرفة وتفاجأت بها حكمت التي اجتدت عيناها بصدمة وتحذير إلا أن آدم لم يهتم وهو يتابع ساخطا :
- كفاية بقى انا تعبت من اللي بسمعه منك كل شويا عدت شهور طويلة ع الحادثة ومع ذلك مسبتيش حاجة مقولتيهاليش عن الموضوع كل ما تشوفيني هادي ولا مرتاح بترجعي تفكريني في جروحي مش فاهم انتي عاوزة ايه بالضبط معقوله حضرتك بتبقي مبسوطة للدرجة ديه وانتي بتفكريني بالماضي وبتكرهيني في نفسي ؟
لم تجبه حكمت وظلت على ثباتها فزفر مخرجا أنفاسه المحبوسة داخل صدره ودمدم معترفا :
- أنا عارف ايه اللي عملته نيجار كويس عارف انها رسمت عليا الحب وانا صدقتها عارف اني استعجلت فعلاقتي معاها ولأول مرة سبت نفسي لمشاعري والنتيجة كانت اني اتخدع زي ما انا بعرف كويس انك مهتمتيش بالحقيقة ديه ساعة ما دعمتي جوازي منها عشان تنولي رضا العمدة.
تفاجأت من حديثه وانتفضت مبررة نفسها ياِستماتة :
- أنا أقنعتك تتجوزها عشان تقدر تاخد بتارك منها براحتك وعلشان متضيعش حقك بسبب عداوتك مع الشرقاوي.
انشق جانب شفته في نصف ابتسامة لم تحمل ذرة من المرح وهو يبرطم مصححا :
- حضرتك أقنعتيني اقبل الجواز بالبنت اللي ضحكت عليا عشان انتي اللي تكسبي وتبقي الكل في الكل في البلد.
- يعني الحق كله بقى عليا دلوقتي ؟
- مقلتش كده بس اللي حبيت اوضحهولك انه خلاص حصل اللي حصل ومبقاش في فايدة من اننا نتكلم ع الماضي، ونيجار اهي دفعت تمن ذنبها وزيادة وأنا مش مستعد اكمل حياتي في الكره والكدب.
أنهى جملته وأولاها ظهره المتصلب وهو يمسح على وجهه حتى هدأ نسبيا فاِستدار لها والتقط يدها مقبلا إياها بينما يردد بصدق ولين :
- انتي غالية عليا اوي يا ستي غالية لدرجة انك الوحيدة اللي طول عمري بسمع كلامك لأني بحبك وبحترمك ... بعرف انك بتكرهي نيجار لأنها أذتني وده حقك بس لو ليا خاطر صغير عندك افهميني واحترمي قراراتي بخصوص علاقتي معاها.
رغم أن آدم كان طوال حياته حازما إلا أن اصراره هذه المرة أوضح لحكمت بأنه لا جدوى من مجادلته خاصة أن رؤيته لنيجار تضحي بحياتها من أجله قد قضت على آخر ذرات كره يحمله ناحيتها لذلك اتخذت استراتيجيتها الثانية وهي - المسايرة - وربتت على ظهر يده الممسكة بيدها معقبة :
- الواضح اني مش هقدر اقنعك مهما تكلمت وحذرت ... ماشي يا حفيدي براحتك اعمل اللي انت عاوزه هسيبك تقرر وتتحمل نتايج أفعالك بنفسك بس متجيش بعدين وتقولي أنا رجعت وقعت يا ستي.
ابتعدت عنه وأولته ظهرها معلنة عن رغبتها في إنهاء النقاش فتنهد آدم وغادر لتبقى حكمت بمفردها، شددت على قبضة عصاها الصلبة وانكمشت ملامح وجهها في شرٍّ بائن متذكرة عصبيته وصراخه وغضبه الشديد منها حتى اتهامه المباشر بأن فضَّلت مصلحتها وأقنعته بالزواج من تلك الأفعى الوقحة.
كيف يجرؤ على قول هذا هل نسي مقدار السنوات التي تعبت فيها عليه وعلى شقيقته لتنشئتهما هل نسي أن جدته أخذت دور الأب والجد بعد وفاة رجال العائلة وسعت كي يكبر ويصبح رجلا بحقّ ؟
هل جاء آدم الآن مستعرضا قوته وتنعته عليها وهو من امتلك السمعة والمركز والقوة بفضلها وكله هذا بسبب نيجار ابنة ألد أعدائها !!
_________________
بعد فترة اجتمعت العائلة على سفرة العشاء وجلست حكمت على رأس الطاولة كالعادة وتقاسيم وجهها واجمة لا تبشر بالخير نهائيا رمقتها حليمة بطرف عينها وتنحنحت متمتمة بصوت خفيض :
- باين عليكي مضايقة ياحكمت هانم اللهم اجعله خير.
لم تجد ردا من الأخرى فأضافت بضحكة خفيفة :
- مع اني افتكرت انك هتبقي مبسوطة برجعة مرات حفيدك وتستقبليها استقبال يليق بيكي معلوم انتي بتعزيها جدا.
رفعت حكمت رأسها عاليا وأجابتها بشموخ :
- متقلقيش استقبالي ليها هيكون احلى من اللي بتتوقعيه معلوم أنا ست البيت ده وياما اتشرفت بضيوفه حتى لو طولو في القعدة معانا وانتي خير العارفين.
رفعت حليمة حاجبها مستنكرة وكادت تتحدث لكن قاطعها دخول ليلى وجلوسها ثم آدم وزوجته رشقتهما هذه الأخيرة بتطليعات باردة دون النبس ببنت شفة جاعلة نيجار ترتبك وتتسمر في وقفتها، وحين دلفت أم محمود ممسكة بالأطباق كادت تمد بتلقائية لكي تحضر معها الطاولة لكن آدم منعها وأحكم القبض عليها حتى لا تتحرك من جانبه.
طالعته بحيرة وتساؤل فهز رأسه وجلس على السفرة مغمغما بصوت جدي :
- واقفة عندك ليه تعالي اقعدي.
اتسعت عينا ليلى بذهول ونظرت لعمتها لتتأكد من صحة ما سمعته صحيحا ثم نظرت لجدتها التي تشنجت بخطورة وعدائية ولوهلة خُيِّل لها بأن حكمت ستقوم وتقلب المائدة بما فيها، بيد أن توقعات ليلى خابت عندما عادت الأخرى إلى برودها وبرطمت :
- خلينا ناكل قبل العشا ما يبرد.
ومن الناحية الأخرى جلست نيجار في الكرسي المجاور لكرسي آدم بتوجس وهي لا تصدق ما يحدث أمام عينيها لدرجة أنها فكرت جديا في النهوض والمغادرة لكنها تراجعت حينما سمعت همسه الحازم يأمرها بالبقاء فأخذت نفسا متوترا وتجرعت رشفة من الماء محدثة نفسها :
- ايه اللي بيحصل بالضبط أنا حاسة نفسي بحلم غالبا آدم متخانق معاها فقعدني هنا علشان يستفزها ربنا يستر.
بعد فترة أوى كل فرد لغرفته ووقفت نيجار بجوار الباب المغلق تراقب آدم وهو يغير ملابسه ببساطة بينما يقول :
- مفيش داعي تتعبي نفسك مع شنطة هدومك انا هبقى اقول لأم محمود تعملها.
نظر لها عندما لم يسمع ردا منها وعقد حاجباه مستفسرا :
- مالك في حاجة وجعاكي ؟
تنهدت بهدوء واقتربت قاطعة المسافة بينهما حتى وقفت مقابلة إياه وسألته بشكل مباشر :
- أنا اللي مفروض اسأل مالك ... بقالك كم يوم مكلمتنيش ولا اتصلت تسأل عليا لدرجة افتكرتك ارتحت من غيابي أو حكمت هانم أقنعتك تتخلى عني بس انت ظهرت فجأة وطلبت مني نرجع سوا وخلتني اقعد لأول مرة على سفرة العيلة وجدتك منطقتش بحرف واحد فمن حقي استغرب واسأل عن سبب التغيرات المفاجئة ديه.
صمتت قليلا تسترجع أنفاسها المسحوبة ثم استطردت بتساؤل :
- في مشكلة حصلت مابينكم وانت قمت تعمل الحركات ديه عشان تلعب بأعصابها ؟
لم يبدو على آدم الانفعال وهو يجيبها بسؤال آخر :
- ليه بتقولي كده ؟
- لان مفيش سبب غير ده.
- طب مش ممكن يكون في سبب تاني فعلا.
- ازاي.
استفهمت نيجار بحيرة ليبتسم الآخر على تقطيبة حاجبها التي تتشكل عندما تعجز عن فهم شيء ما، ثم أشرف عليها من فوق وأمسك يداها مغمغما برصانة :
- مش طلبتي مني فرصة تانية يا نيجار ... فرصة عشان نبتدي من جديد.
تحولت حيرتها لذهول مومئة بترقب وهي تفكر في شيء تستبعد حدوثه بيد أن آدم تابع مضيفا بنفس اللهجة :
- قولتي انك ندمانة ع اللي عملتيه ولو أنا وافقت اديكي فرصة هتعوضيني عن الماضي وتعملي كل حاجة عشان تسعديني.
- ايوة ... لسه فاكرة.
- بصي يا نيجار مش هكدب وأقول اني نسيت غلطتك في حقي من بداية تعارفنا لغاية يوم اللي حصل في بيت الهضبة ولا هقول اني مشاعري اتغيرت وثقتي بيكي بدأت ترجع بس أنا تعبت من الكره والغضب اللي عايش فيهم بقالي شهور وحسيت انه مفيش فايدة اكمل في الكره والحقد طالما مش هقدر ارجع للماضي وأغيره.
رغم أن هذا الموقف لا يدل على احتمالية سماع أشياء سيئة لكنها لم تستطع منع الأفكار السلبية من التسلل لعقلها وارتجف كفّها بخوف أدركه آدم فضغط على أناملها وتلفظ بكلمات جادة مختلطة باللين :
- صدقيني مش سهل عليا اني اقولك الكلام ده بس أنا عاوز نحاول مع بعض من تاني.
انتفضت غير مصدقة لما تسمعه وشهقت بتقطع مرير فأمست كمن حصل على رشفة ماء بعد أيام قاحلة في الصحراء، انتحرت الدموع من مقلتيها وارتجفت شفتاها في ابتسامة معيدة صياغة جملته في ذاكرتها وانتهت بسؤاله :
- انت بتتكلم بجد ؟ ازاي وليه.
وفجأة مُسحت بسمتها وقلَّ حماسها وهي تحرك رأسها هاتفة بتوجس :
- آدم انت لو مقرر تديني فرصة لأني اتصبت وانا بدافع عنك يبقى بلاش أنا معملتش كده علشان اضغط عليك وأخليك تحس بإمتنان ناحيتي.
- في حد قالي انه ربنا بيحط اتنين في طريق بعض أحيانا عشان كل واحد منهم يبقى سبب للتاني يعالجه ويصلح نفسه، وأن اللي بيندم على غلطه من حقه فرصة يطلب فيها السماح وبإيدينا احنا نديله الفرصة ديه ولا نقفل الباب في وشه ونكمل بقية حياتنا بثقل الكره.
احتبست نيجار أنفاسها وزجرت عيناها تمنعهما من الاكفهرار بعد أن عصف بها دون أن تكون قادرة على مجاراة المشاعر التي غزتها كالنار في الهشيم، لكنها لم تستطع منع دمعتها أكثر من ذلك فاِنهمرت ليلتقطها آدم بإصبعه يناظر تقاسيم وجهها التي تباينت بين لونين.
ذنب وخزي على ما اقترفته في لحظات غفلتها وسَواد روحها، ثم طمأنينة وراحة لأنه أخيرا أعطاها فرصة للتخلص من لعنة خطيئتها، فرصة للإظهار له كم أنها تحبه بحق !!
ارتمت بين أحضانه على حين غرة وحاوطت خصره بيديها واضعة رأسها على صدره الصلب بسلام فقام هو بدوره بلف ذراعيه حولها وأغمض عيناه مبتسما وقد زار السكون قلبه بعد وقت طويل ....
_________________
وزع الملفات المطلوبة على سطح مكتبه وأشرف عليهم بتركيز مدققا في كل تفصيل يمرّ عليه حتى ينهي عمله بسرعة قبل الغروب ويذهب لزيارة قبر والدته ...
غير أن تركيزه تشتت عندما اتصل به المساعد وأخبره بأن هناك من تريد رؤيته تعجب في البداية وتساءل وهنا احتلت الصدمة وجهه وهو يسمع الإجابة :
- الست حكمت الصاوي.
رفع إحدى حاجبيه بتعجب من حضورها ثم أعطاه الاذن وجلس يراقب هذه الأخيرة وهي تدخل بشموخ مرفوعة الرأس كأن الدنيا ملكها انتظرها حتى تجلس على المقعد المقابل ثم رفع جانب شفته في شبه ابتسامة متهكمة مبرطما :
- كان نفسي اعملك استقبال بيليق بيكِ بس فضولي لسبب زيارتك بيخليني عاوز اعرفه بسرعة من غير ما اضيع وقت اكتر.
لم يكن مُرَحبا بوجودها في مكتبه، كان هذا واضحا لحكمت التي واصلت النظر في عينيه مباشرة وهي تهتف بنبرة متلبدة :
- جاية أشوف ولد ولدي ... ده تاني لقاء مابيننا.
انكمش وجه مراد باِستنكار من حديثها وعلّق :
- تشوفي ولد ولدك مرة واحدة ؟ مش ناقص غير انك تقوليلي عاوزة اشبع من شوفتك يا حفيد عيلة الصاوي.
- وانت مش عاوزه ؟
- ايه هو.
تبسمت حكمت ومالت قليلا على المكتب كي تقترب منه ثم همست بقوة :
- اسم أكبر وأغنى عيلة في البلد ... آل الصاوي انت مش عاوز تحصل عليه.
توقف عن ضرب رأس القلم على السطح وأمسكه بين أصابعه متشدقا :
- مش فاهم ايه اللي بيخليني عاوز احصل على اسم اكتر عيلة أذت والدتي ودمرتها أنا لو في إيدي امحيها من الوجود مش هقصر.
- عاوز تقنعني انك ظهرت بعد السنين الطويلة ديه وعملت كل العمايل ديه عشان تدمرنا مش علشان تاخد مكانك في العيلة !
ردّت عليه حكمت ببرود مستهجن وتابعت مضيفة بهسّ كالشيطان الوسواس :
- جاوبني بصراحة انت عمرك ما اتمنيت يبقى اسمك الثلاثي مراد سلطان الصاوي زي آدم اللي انت شايف انه سرق حقك وخد الأفضلية، لما نزلت للبلد وشوفت مركزنا متمنيتش انك تبقى واحد مننا ويتعملك ألف حساب ده اسم عيلتنا قادر يفتحلك الأبواب اللي طول عمرها مقفولة.
تسمّر مراد هنيهة وقد شرد ذهنه ثم استفاق وتنحنح قائلا بثبات :
- حضرتك عاوزة توصلي لإيه.
- أنا بعرض عليك حياة ومناصب مبتقدرش تحصل عليها بحالتك ديه مهما اشتغلت وتعبت بديلك فرصة تاخد حقك وتبقى حفيد الست حكمت هانم.
استطاعت الحصول على تركيز مراد الكامل أخيرا فاِعتدل في جلسته وأمال رأسه للأمام مبرطما :
- حفيد حكمت هانم ... زي آدم يعني.
تبسمت حكمت وهي ترى اهتمامه الذي يحاول إخفاءه لتجيب بتلميح :
- ممكن أفضل منه كمان مين بيعرف.
أطرق مراد مهمهما وشردت عيناه مجددا وهو يفكر في عرضها حتى عاد ينظر إليها وتمتم بلهجة جادة :
- طيب و ايه هو المقابل انتي عاوزة مني ايه بالظبط.
تنهدت حكمت باِرتياح ولمعت عيناها باِنتصار ثم أسندت يدها على سطح المكتب الفاصل بينهما ورفعت حاجبها مغمغمة :
- عاوزاك تبقى إيدي اليمين يا مراد يعني تكون زي عيوني بتنفذ طلباتي وبتعمل اللي بقولك عليه مهما كان ... أنا عاوزاك تكون ظلِّي