رواية عقاب ابن الباديه الفصل الثاني2بقلم ريناد يوسف


رواية عقاب ابن الباديه
 الفصل الثاني2
بقلم ريناد يوسف



نظر الشيخ منصور الى قُصير بسخط وقبل أن يتوالى عليه بالشتائم والمسبات أردف قصير مدافعاً عن نفسه:
-هدي ياشيخ ..قصير ماأول مره يحوي 
منصور:
بس مابديت حوي بالصل الأسود ابداً ياقصير وانا وانت نعرف مليح ان الصل الأسود قتال، شوف الوليد كيف حنكه يفور منه السم وجسمه يرجف رجف؟ ولولا فاهم علك كان قلت انك قاصد تنهي هالوليد.
قصير:
اتطامن ياشيخ ولا وردت حدا للموت، اللي فهمته منك تريد هالولد حاجه غير، وتريد يصير عليه اللي ماصار على والي قبله
ونا قلتلك سيبه لي وكون هاني ياشيخنا
 حالته هاي لاجل أول نوبه جسمه يتعرض لنوع سم ولازم يتعب، 
هون عليك انا قننت نصاب السم قبل لا (خليه يلدغه ،روق انت واتركه لي وانا حماله  لو صارله شي. 
منصور:
-لو صار شي للوليد 
الله في سماه ياقصير نصلبك 
على نخلة ونطعميك للغرابيب
قُصير:
لا تخاف قلتلك عندي. 

أنهى منصور حديثه ونظر إلي الصبي بتمعن ولم يستطع من هيئته وحالته أن يُطمئن قلبه، فخرج من الخيمة واخذ يزرع رمال الصحراء ذهاباً وأياباً وهو يحدث نفسه ويتسائل.. 

تُري ماذا سيفعل إن حدث للصبي مكروهاً وماذا سيخبر أباه الذي إئتمنه عليه وبأي وجه سيواجهه بأن ضيع أمانته وهو الذى لم يؤتمن يوماً إلا وصان الأمانات وأوفى بالعهود؟ 

ساعات مرت كان يدلف إلى الخيمة بين الفينة والفينة ينظر للصبى ويجس نبضه ويتلمس جبهته ليقيس حرارة جسده، فيخرج مهرولاً وقد أكل القلق والخوف قلبه أكثر من ذي قبل، ولم يتوقف عن سب قُصير بأبشع المسبات. 
إلى أن حل المساء وبدأ الظلام فى إكتساح الصحراء ليغطى على لونها الأصفر بعتمته. 
لم يجلس فيهم منصور إلا لدقائق ليستريح ثم ينهض كمن لدغته عقرب ويذهب للصبي ينظر إليه من بعيد ويفر هارباً. 

أما قُصير فلم يفارقه رفة عين؛ جلس تحت اقدامه النهار بأكمله ينقط له في فمه ترياق، 
ويرغمه على إبتلاعه ومن ثم يأخذ خرقة من خيش منقعة بالماء ويضعها على قدميه، وأخرى على جبهته، 
وطوال هذة المدة لم يتذوق احد من رجال البادية كسرة من خبز، 
وهم يرون حالة شيخهم، وعم القلق والخوف علي كامل البادية،
 حتى ان الاطفال اخذوا نفس الموقف، وجلس الجميع خارج خيمة آدم ينصتون لأي صوت منه يدل على أنه عاد من صراعه مع الموت للحياة مرة أخرى،
 أو حتى يتفوه قُصير بخبر عن أنه بدأ فى التحسن. 

أما قُصير فبدأ هسيس من الخوف يتسرب إلى قلبه، 
فقد إستغرق الصبي وقت أكثر من اللازم، 
وبدأ يتسائل هل بالفعل أخطأ حين بدأ معه بنوع السم هذا؟ أم هل ذادت منه الجرعة حتى بعد ان تلقى اغلبها في جسده أولا؟ 
وماذا سيفعل إن كان هذا خطأه الأول والأكبر والأعظم الذي سيمحي كل أفعاله الصالحة مع عمه وشيخ قبيلته ويحل هو مكانها؟ 

ضم يديه وأسند جبهته عليهم وأخذ يدعوا الله ألا يحدث هذا، وأن ينعم عليه الله بتوفيق آخر كما يحدث طوال الوقت، وألا تكن هذه نكبته الأولى. 
فإنفرجت ملامحه وتهللت أساريره على الفور، وهو يرفع رأسه على أنة من الغلام ردت إليه هو الروح من قبله، واردف ضاحكاً:
- الحمد لله يااارب.. جمدت الدم بعروقي ياولد. والله نظير الخوف هاد لأعلمك شغلك. 
ثم نهض مسرعاً وازاح ستار الخيمة لينظر إلي الشيخ منصور ويردف بذهوا الإنتصار:
- قلتلك ماتخاف ياشيخ، الوليد بخير وتوه تحدت. 
أسرع منصور الي الخيمة مهرولاً وهو يحمد الله، وجلس بجانب الصبي الذي كان يتلفت حوله بعيون يكسوها اللون الاحمر، وأردف بتعب:

- بابا.. انا عايز بابا وودوني لماما.. هما مش بيجوا ياخدوني من هنا ليه، وليه الراجل دا خلى التعبان قرصني، ليه عايز يموتني؟ 
نظر اليه منصور وتلمس وجنته في حنو وأردف:
- ماتخاف ياولد مافي حدا بدو يموتك ولا شي، هاد عمك قُصير وهو اكتر حدا هون راح يخاف عليك ويهمه انك تكون بخير من بعدي. 

اغمض آدم عينيه وعاود للأنين والتألم واخذ يهزي بإسم أبيه وأمه حتى غلبه التعب وأسبل عينيه مستسلماً للنعاس. 
منصور:
شربو دهن وايد ياقُصير ولا تغفل عنو لسه الوليد مازال عنو الخطر. 
قُصير:
- لا تخاف ياشيخ بس بالله عليك قول لحرمتي تجيبلي أي شي آكلو مصاريني تتعارك من الجوع وراح تاكل بعضها. 
منصور:
- ومين سمعك ياقُصير والله الباديه كلها اليوم صابها الجوع والرعب وماحد داق الزاد.. يلا بنبهلك ع الوكل واشيعهولك مع معزوزه بتك أو مع رابح. 

خرج الشيخ منصور من الخيمة وطمئن الجميع، فأنفض الجمع فرحاً بنجاة الصبي،
 ودخل الأولاد الى الخيمة يطمئنون عليه، ونظر رابح إلي قُصير وأردف معاتباً:
-خاطرت بعملتك كتير ياعمي بس الله نجاك منها ونجى الوليد، ماتعيدها مره تانيه ماسمعنا عن حدا اتحوى بالصل الأسود بأول مره ليه، طول عمرنا نعرف أن الصل آخر شي ينلدغ منو المحوى وهو سم الختام، ليش انت بدأت بيه ويش هدفك؟ 

قُصير:
شوف يارابح ياطويل اللسان، انا ماحد يستجرى يحاسبني على أفعالي ويسألني ليش وماليش،
 بس راح جاوبك لأني بعرفك ماراح تسكت الا تفهم. 
الوليد بحياته الجايه راح يتعرض لأقوى انواع السم، اخوه مات بنوع سم الاطبا ماعرفوه، وعشان هالشي لازم بدايته مع السم تكون غير وقوية، لازم يبتدي بالخطر والصعيب وينتهي باللي مافي بني آدم يتحملوا. 

هز رابح رأسه لعمه قُصير بتفهم ثم أردف وهو ينظر لآدم بتفحص:

لكنها مخاطره كبيره وجايز كان مات فيها الوليد فلا تعيدها. 
وهو ليش الناس تسمم وليد صغير لا حول ليه ولاقوة ومابيعرف يأذي نمله؟ ومين اللي بدهم يأذوه وأذوا اخوه قبل منه؟! 
قُصير:
- أقرب الناس ليه ياوليدي.. هو دايماً الاذي مايجي غير من القرايب. 
يلا روح جيبلي وكل الجوع موتني، بس تاكد أن الوكل انحط للشيخ منصور بالأول وماتجيبلي اي شي إلا يبدأ هو بالأكل. 
رابح:
تأمر ياعمي انعم توا. 

خرج رابح وقطع نصف المسافة وإذ بمعزوزة إبنة عمه قُصير الكبيرة  لاحت من بعيد وميزها رغم الظلام، وهي تحمل الطعام لابيها، فأسرع رابح والتقطه منها وأخذ هو على عاتقه مهمة توصيله لعمه، بعد ان تاكد منها أن الطعام وصل للشيخ منصور أولاً، 
وطلب منها العودة لمساعدة باقي الفتيات والنساء في تجهيز طعام العشاء لباقي اهل البادية وامتثلت معزوزة لأمره. 

أوصل رابح الطعام لخيمة عمه ووضعه له، وخرج بعدها ينتظر مع الصبية الطعام الذي سيسد جوعهم بعد يومهم العصيب هذا..
 والذي علم الجميع من بعده أن هذا الصبي ذات شأن عظيم لدى الشيخ منصور، وأنه خط أحمر من لا يريد عداوة الشيخ منصور لا يتجاوزه. 

أكل الشيخ منصور واتم طعامه، ورفع ناظريه وهو يسمع صوت سيارات قريب، 
وأستقام في جلسته وهو يرى قافلة من ثلاث سيارات مصفحة آتية من بعيد تحت ستار الليل، فأمر كل من معه بأن يخلوا المجلس، 
ولم يبقى الا هو، وهذا مايحدث عادة حين تأتي هذة السيارات الثلاث مجهولي الهوية ومجهولي أسباب القدوم لكل أهل البادية، الا للشيخ منصور وقُصير، فليست كل الأمور متاح معرفتها للجميع. 

خرج قُصير أيضاً مسرعاً بمجرد أن أرسل اليه الشيخ منصور خبراً بأن القافلة السوداء قد حضرت.. وجلس الاثنان في إجتماع مغلق في الخلاء هم و٦ من رجال ملثمين يجرون المباحثات السرية. 

أما آدم ففتح عيناه اخيراً على صوت كركبة بجانبه، فوجد صبي ممن يتشاركون معه المبيت في الخيمة يبحث في زاوية الخيمة عن شيء ما، وحين التفت ورأي آدم ينظر اليه تبسم له واقترب منه واردف له:

-الحمد لله على سلامتك، كيف حالك توا؟ 
نظر اليه آدم، طويلاً دون ان يجب فتفهم الصبي انه لا يفهم حديثه، فحاول تغيير الجملة:
-كيفك الحين بخير؟ 
أومأ له آدم برأسه ولم يتحدث، فاكمل الصبي تساؤلاته:
انت ليش اهلك سيبوك هنا ومشو، وانت الباين فيك ولد عز وترف؟ 

فهم آدم هذه المرة ولكنه ايضاً لم يجب، فهذا السؤال هو نفسه لا يملك الإجابة عليه، واكتفى بالتنهيد، فجلس الصبي بجواره وقال له:

انا أسمي سالم ولد زيد وقُصير بيكون عمي، فينا نصير رفقه؟ قالها ومد يده اليه مصافحاً،
 فتردد آدم لثوانٍ وبعدها رفع يده بوهن يصافح سالم، فهو تعلم أن من غير اللائق أن تمتد يداً لنا بالسلام ولا نصافح. 
تبسم سالم حين صافحه آدم واردف:
-من اليوم راح تصير رفيقي المقرب وراح اعلمك كل شي بعرفو. 

مر يومان تحسن فيهم آدم كثيراً عن زي قبل، وأستطاع الخروج من الخيمة والمشي مع الاولاد، حتى وصلوا لبئر الماء، 
وهناك آدم أخذ يتلفت حوله وهو يتسائل الى متى سيمكث في هذا المكان المقفهر، متي سيتمكن من العودة الي بيته وفراشه الوثير، الى العابه ومدرسته وأصدقائه، متي سيعود الى حياته الطبيعية وإلى حضن أمه الذى إشتاق إليه حد الجنون، متي سيعود ليغفوا على صوت أبيه الحنون وهو يقص له قصة عن الصحابة وعن الانبياء؟ 

قطع تفكيره هذا صوت الشيخ منصور وهو يحدثه:
-بيش صفنان ياوليدي بيش تفكر؟ 
نظر اليه آدم وسأله بلهفة ممزوجة ببعض اليأس:
-ماما وبابا هيجوا ياخدوني إمتا؟ 
اجابه منصور وهو يجلس بجانبه:
-بوك وامك راحلين ورحلتهم طويله. 

آدم:
يعني إيه راحلين؟ 
منصور:
يعني مسافرين وسفرتهم بتطول، وهملوك هون لحين يعاودوا.. وبوك طلب مني ادير بالي عليك واعلمك كل شي عن حياة الباديه. 
آدم:
- لأ انا مش عايز اتعلم حاجه ومش عايز أفضل في الصحرا هنا رجعني بيتنا هستنى هناك مع عمي وعمتي لغاية مابابا وماما يرجعوا من السفر. 

تبسم الشيخ منصور وأردف ساخراً:
أي ويبقى عطينا العطيه للحرامي يحرسها، هو بالاساس كل البلا من العم والعمه. 
لم يفهم آدم مايرمي إليه الشيخ منصور فهو رغم كل شيئ طفل لم يكتمل نضج عقله، فأكمل سلسلة تساؤلاته:
-وبعدين هما ازاي يسافروا ويسيبوني دول عمرهم ماعملوها قبل كدا عمرهم ماسابوني. 
فرد عليه منصور:
-لكل شي مره اولى..ثم أخذت ملامحه وضع الجدية وهو ينظر لآدم ويخبره بنبرة تنم عن قرار لا رجعة فيه:
-إسمعني ياولد زين.. من اليوم لحين يعود ابوك ياخدك مابدي تعصالي أمر ولا اطلب منك شي إلا وتلبيه. 
وكلمة "نعم وتوا" ماتفارق لسانك. بدي منك الطاعه عشان ماتشوف مني قساوة. 
ومن بعدي عمك قُصير ايش مايقولك تطيعه وما تخالفله أمر. 
آدم:
-انا مش هسمع كلام حد انا عايز ارجع بيتنا انا مش حابب اعيش هنا. 
الشيخ منصور:
-ما انا توي اقولك ماهو بقولك، ولا باللي تعوزه، الكلمه هيني كلمتي انا ومن بعدي قُصير. 
وانت حالك حال باقي الوليدات تسمع وتطيع، 
والحين قوم امسك دلوك متلهم وعبي مي وودي حدر الحريمات خليهم يعملولك الوكل اللي تاكله.. هون مافي حد مايشتغل بأيده ويتعب عالخبزه اللي ياكلها،
وانت من هالحين لازم تتعب لتاكل،
ودير بالك اللي يخالف للشيخ منصور أمر بيشوف اللي مايسره إن كان غلام ولا رجال شنبه يحط عليه الصقر واسأل الوليدات لو مامصدق. 

إستمع آدم لتعليمات الشيخ منصور الأخيرة بفم مطبق، فهو التمس الجدية الكاملة في تهديداته، 
وهو هنا وحيد لن يجد من يحتمي فيه من بطشه إن قرر البطش به. 

انهى منصور حديثه مع الغلام ووقف مغادراً المكان بعد أن تأكد بأن حديثه معه قد اسفر عن النتيجة التى يرجوها، وأوصل له رسالته التي يقصدها، وتركه يتقبل فكرة انه بات محاصراً هنا وسط الصحراء، وإما الطاعة العمياء او مصير لن يتحمله.

بعد أن غادر منصور إقترب سالم من آدم وسأله عما دار بينه وبين الشيخ، فقص عليه آدم كل الحديث عله يجد عنده مخرجاً لمأزقه،
 فما كان من سالم إلا أن بث الرعب في نفسه اكثر، وحذره من قساوة الشيخ منصور وبطشه، وخاصة مع الأولاد الصغار. 
فهم لا يعرفون شيئاً إسمه دلال أو رفاهية، وجل ما يحصلون عليه من كلمات الثناء هي:
أحسنت وليدي، وهذه الجملة تعادل الف جملة دلال بعد اجتيازهم لأعتى الإختبارات. 
إستسلم آدم وسلم أمره لله، فما عاد يمتلك إلا الصبر والإنتظار الى ان يعود إليه أبواه ووقتها سيقتص منهما على كل ما عاناه وما سيعانيه بسبب تخليهم عنه وتركهم له فى هذا العالم الموحش.

في اليوم التالي، إستيقظ آدم في الصباح الباكر مع إختلاط الخيط الأبيض والأسود في كبد السماء علي صوت راجح الذى اصر اليوم أن ينضم اليهم في سعيهم الصباحي وان يغتنم ساعات الصبح المباركة، فإستجاب آدم وخرج مع بقية الأطفال للخلاء،

 فوجد قصير في إنتظاره وكأنه يعلم أنه اليوم سينضم للأولاد، أو ان هذا القرار كان قراره هو، 
فأشار إليه بيده ليقترب، فلبى آدم وإقترب منه، فأعطاه إناء صغير وأشار له على إحدى العنزات وأردف له آمراً:
-إجلس وإحلب العنز هادي وجيب فطورك. 
آدم:
بس أنا مش بعرف أحلب! 
قُصير:
-تعلم. مافي شي اسماه ماتعرف فرض عليك تعرف كل شي. 
سالم:
-تعا ياآدم وشوفني ويش اسوي وسوي متلي. 
وبدأ سالم يعلم آدم الحلب وأمسك بيده وأخذ يعلمه كيف يحبس اللبن في ضرع المعزة ثم يضغض عليه بحرفية ليخرجه منها، وبعد عدة محاولات نجح آدم في إنزال بعض الحليب، فتبسم فرحاً، ثم نظر إلى قصير منتظراً لعبارة ثناء،
 ولكنه وجد ملامح قصير جامدة ولم يتأثر، وكأن مافعله شيئ عادي لا يدعوا للفخر، 
ثم عاد يكمل مابدأة غير مهتم باي ثناء من أحد، فهذا شيئ عادي بالنسبة لهم هم، أما هو فيعتبر مايفعله أكبر إنجاز قام به يوماً، ويكفيه فخره بنفسه. 

انهوا حلب الماعز وانتقلوا بالحليب الى النساء ليعدوا لهم طعام الإفطار، ثم أمر قصير بعضاً من الصبية للذهاب إلى البئر لنقل الماء، ومن ضمنهم آدم الذى ذهب معهم وهو يشعر ببعضاً من الإعياء، فمازال أثر سم الثعبان فى جسده. 
التف الصبية حول البئر، وأمسك كل منهم دلواً واخذ يغترف الماء من البئر ويملأ دلوه ويأخذه ويغادر،

 وحين إتي الدور على آدم تقدم وحاول سحب الماء من البئر، وبعد محاولة مضنية نجح في إخراج الماء وقام بسكبه في دلوه، وهم يحمله  فاردف له له قصير:

-هم بالدلو زين ورينا قد ايش حيلك ياولد الحضر. 

هم آدم برفع الدلو فلم يستطع رغم أن الدلو لم يكن يحوي إلا القليل من الماء،
 فضحك الصبية عليه وهو ينزل الدلو سريعاً ولا يقوى علي رفعه، فحدجهم قصير بنظرة غضب وقال لهم محذراً:
-ماحد يتهزاء بيه
هاذا بأمر ربي هيكون خير منكم. 
انتهى من جملته ونظر إلى آدم محفزاً.. إحمل ياولد ماتضحك عليك الولاد. 
فإستجمع آدم كل قوته وحمل الدلو وسار به حتى أوصله عند النساء، وجلس بعدها يلتقط انفاسه تحت أنظار الشيخ منصور الذي أشار لقصير بمعنى هذا يكفيه لليوم. 

أما في قصر محمود الدلال. 

جالس في مكتبه بالقصر وسمع عدة طرقات على الباب فعرف منهم من وراء الباب فدعاه للدخول قائلاً:
ادخل يايحيى. 
فدخل اخيه يحيى وإقترب من محمود وبنبرة تحمل أداب حديث مزيفه:
-ممكن اتكلم معاك كلمتين بهدوء يامحمود وبعد اذنك تسمعني للآخر. 
أومأ له محمود بالموافقة ودعاه بيده للجلوس، وعقد اصابعه وأسند ذقنه على يديه في تأهب لما سيقوله اخيه والذي يعلمه جيداً، فتحمحم يحيى وأردف:
- يامحمود يااخويا اللي بتعمله دا غلط، وخوفك على ابنك مننا دا قمة الظلم لينا، لأنك بكده اثبتلنا إنك لسه مفترض فينا السوء، ولسه محملنا دم إبنك اللي مات، ومش قادر افهم لغاية النهارده انت بنيت اتهامك على أي اساس؟! 
إستمع إليه محمود ورد عليه بجمود:
- يحيى إنت عايز إيه دلوقتي، أنا إبني مش هرجعه هنا تاني، وقراري وأخدته، ولو سمحت متتكلمش معايا تاني في الموضوع دا، 
وأظن سبق وقلتلك ان الموضوع دا بالذات ميخصكش ولا يخص حد، لان ببساطه لو اخدت نفس القرار مع حد من أولادك انا مش هتدخل بالمره من بعيد أو من قريب. 
يحيى:
-يامحمود إنت كده بتقطع كل روابط الأخوة مابينا وبتحط حدود مش المفروض تكون موجوده من الأساس. 
محمود: 
-يحيى لو انتهيت وخلصت اللي عندك إتفضل  اخرج وسيبني لأني ورايا شغل كتير مينفعش يتأجل. 
يحيى:
-لحد إمتا يامحمود؟ 

- لو تقصد علي آدم فا لغاية مايكبر ويبقى راجل يقدر يحمى نفسه، وسبق وقولتلك الكلام ده، 
ولو صحيح بتحبه زي مابتقول وخايف على مصلحته توافقني على قراري مش تعترض وعايز ترجعه هنا بأي طريقه عشان يحصل أخوه وانحرم منه. 
يحيى:
-يامحمود مروان الله يرحمه كان حادثه، قضاء وقدر. 
محمود:
-وأنا بعدت ابني عشان اتحدى القدر. 
تفوه بها وهو ينظر لعيني اخاه بإصرار وكانه يخبره إنك أنت القدر السيئ الذي اخاف منه على إبني  ولست اتحدى غيرك. 

فإبتلع يحيى مرارة الهزيمة مجدداً، واردف في محاولة بائسة أخيرة:

- طيب قولنا عالأقل وديت الولد فين، الدنيا منضمنتش ولاقدر الله جايز تحصل اي حاجه يبقى الولد كده ضاع ولا ايه؟ 
أجابه محمود مصراً:
- متقلقش لو جرالي حاجه انا وأمه هو هيرجع في الميعاد المحدد، وهيرجع وهو عارف كل حاجه وعارف اللي ليه.. واللي ليه برضوا. 

هب يحيى واقفاً وهو يستشيط غضباً، فها هي جميع مساعيه تفشل ويعود لتخبطه، فاليوم إكتمل الأسبوع وهو لا يعلم عن غريمه الصغير شيئاً! 

اغلق محمود دفاتره اخيراً ونهض متوجهاً لتلك التي أوجعت قلبه فوق وجعه وجعاً منذ أن أجبرها على ترك طفلها الذى إنتشلها من غياهب الحزن إثر فقدها لوليدها الأول، وهاهي تذبل مجدداً بعد أن ازهرت روحها مع ولادة آدم. 

دلف اليها وإقترب منها وهمس لها وهو يتفحصها من راسها لاخمص قدمها:
مش هتقوميلي ياناديه وتقفي جنبي؟ انا محتاجلك اوي الفتره دي، أوعى تفتكري اني قوي للدرجه اللي تخليني اتحمل حالك ده.. انا اضعف من كده ياناديه والله. 

امسكت ناديه كفه التي تمسد على رأسها وهمست له بترجي:
- طمني عنه يا محمود، عرفت تطمن عليه، قدرت تعرف أخباره ولا خلاص كده إبني اتنفى واتقطعت أخباره؟ 

تبسم محمود وهو يخبرها بأنه بالفعل إطمأن عليه وعلى أحواله، وكإثبات لذلك قام بإخراج مظروف من جيبه وفتحه وأخرج لها منه صوراً لآدم وهو يحلب الماعز وصور أخرى وهو جالس وسط الأطفال يأكل وملامحه ضاحكة، 
فإختطفت الصور منه بعد أن إنطلقت منها شهقة خرجت من منتصف روحها، واحتضنت الصور وهي تزرف الدموع،
 ثم أبعدتهم وأخذت تتاملهم وتتلمس طفلها الغائب، 
والذي إنتفض قلبها برؤيته بعد كل هذة الايام التي تعادل لديها سنوات فراق طويلة.. وشعرت بوخذات في قلبها وهي ترى الإختلاف الذي طرأ عليه، 
فقد أثر فيه الفراق مثلها وربما أكثر.. فملامحه ذابلة وإبتسامته باهتة وخسر بعضاً من وزنه..
 وسخطت من كل قلبها على من كان سبباً في فراقها عن صغارها، فهذا الأمر لا يرضى رباً ولا عبداً إلا من كان جباراً مريداً. 

ترك لها محمود الصور حتى إرتوت من النظر إليهم، ثم انتزعهم منها وقام بإحراقهم على الفور أمامها، ولم تعترض هي فهذا إجراء للحماية قد إتفقا عليه سابقاً. 
وقام بعدها محمود متوجهاً لخزنته فاخذ منها مبلغاً من المال ووضعه في حقيبة يده كي يقوم بإعطائه لمرسال الشيخ منصور في نفس السرية التي أخذ بها منه الصور  وإطمأن على إبنه. 

حل الليل وكان قصير يجلس مع الشيخ منصور يقررون من اين سيدبرون ما طُلب منهم هذه المرة، فالعدد كبير والمخاطرة أكبر، وفي هذه الأثناء اتت معزوزه إبنة قصير البكر تركض وأقتحمت مجلسهم وقالت من وسط انفاسها المتلاحقة:
-بوي أمي جابت. 
هب قصير واقفاً وقد تهللت اساريره وسألها بلهفة:
-ابشري يابنيه ويش جابت؟ 
معزوزه:
-بنت كيف البدر يابوي سمحه شدديد. 
جلس قصير مرة أخرى وقد إنطفأت فرحته، وإمتعضت ملامحه وأغمض عينيه ألماً، فقد شعر بإن زوجته خذلته للمرة الرابعة حيت انجبت له البنت الرابعة وقد حذرها من ذلك. 

 فنظر للشيخ منصور وهم أن يكمل حديثه معه، ولكن قاطعه الشيخ منصور قائلاً:
-روح شوف حرمتك بلاول وتحمدلها عالسلامه وشوف بنيتك وبعدها عاود نكمل حديتنا. 

قصير :
-لا مارايح ولا بدي شوف وجهها، ريتها ماتت هي وماجابت ولا كملتهم اربع رزايا فوق قليبي. 
منصور:
-وحد الله ياقصير عطايا ربك هاي. 
قصير:
-لا إله إلا الله، خلي نكمل حكينا ياشيخ، وانتي يامعزوزه روحي لأمك وقوليلها بوي يقولك مبارك عليكي لبنيه الرابعه وبوي راح يجيب ولادة الصبيان خلي بناتك تنفعك. 
معزوزه:
-خاف الله يابوي 
امي ايش سوت
ولا كان بيدها تخلف بنت هاذا امر ربي؟ 
قصير:
-وانا ايش سويت لابتلي بأربع بنات؟ 
منصور:
-روحي يابنيه وقولي لأمك بوي مشغول وبس يفضى بيجيلك. 

غادرت معزوزة وهي تحمل عبئ إخبار أمها بهذا، فهي حتما ستفهم ان ابيها لا يريد رؤيتها وأنه غاضب مما أنجبت، 
وحتى أمها حزينة فقد تمنت ان تنجب هذه المرة صبي يلجم فاه قصير ويؤجل أمراً محتوماً لبعض الوقت. 
دلفت معزوزه إلي الخيمه ووقفت أمام امها، وقبل أن تنطق بالكلمات التي ترتب فيهم طوال الطريق، اردفت أمها تجنبها عناء محاولة الكذب الفاشلة:
- كنت اعرف انو ماراح يجي ولا يريد يشوف وجهي، والحق معو، انا جبتلو اربع رزايا ويش يسوي فيهم؟ 

صمتت معزوزه وهي ترى امها ملمة بطبع ابيها وموقفه اكثر منها، واقتربت من اختها الصغيرة حملتها واخذت تنظر إليها وتبسمت وهي تقول لأمها:
-يمه ويش راح تسميها، بدها اسم سمح يليق ع وجهها السمح هاد. 

مكاسب: 
-ماراح اسمي ولا شي، سموها رزيه سموها بلوه ويش ماتنادولها قولو انا ماعايزاها. 

معزوزه:
-استغفري الله يومه وقولي لحمد لله انتي صرتي متل ابوي تكفري بنعمة الله؟ قولي الحمد لله علي تمام الخلقة. 

مرت ساعات الليل الأولى، وذهب قصير إلى البئر جلس عنده واخذ يراقب النجوم ويحاول المفاضلة بين فتيات البادية ويختار من بينهم الأنسب له، ممن أنجبت أمهاتهم اكبر عدد من الذكور لترث منها هذه الميزة

وأثناء شروده سمع صوتاً شتت جميع حساباته وأعاده الى الواقع:
-ايش بيك ياقصير ماتبي تلمح بنيتك بعينك ولا تحملها، انظر قد ايش بيها سماحة 
انظرها ورهان ان ما كان سرقت قلبك وعقلك.
قصير: 
-لا ماابي وبعدين وانا ايش اسوي بسماحتها وايش اسوي بالبنت 
كنت اريد صبي لكن هالبنت ارمحي بيها لحالك مالي بيها شان..
 واعملي حسابك انا ابي اتزوج باقرب وقت، راح اتزوج ولادة ذكور

مكاسب:
-لا تبيع العشرة ياإبن العم وتحاسبني علي اللي مابيدي، لا تفرط بمكاسب اللي تتمنالك الرضى ودايره بالها عليك وحطاك بعيونها من يوم اللي الله نشأها وعرفت حالها اتسمت ع إسمك. 
قصير:
-مامنو فايده كتر الحكي يامكاسب خدي بتك وعاودي لخيمتك انتي نفسه والهوا واعر أعليكي وعلى بتك. 

غادرت مكاسب بقلب مفطور فهاهي باتت متأكدة من ان أسواء مخاوفها على وشك التحقق،
 وأن إمرأة أخرى تلوح فى افق حياة زوجها وأن وجع الضرة يقترب. 

وقف امام المرحاض ينتظر خروجها وهو يشعر بالقلق عليها، فهاهي تفرغ مابمعدتها للمرة الثالثة اليوم! 
خرجت أخيراً وسألها يحيى بقلق:

-فريال مالك إنتي حالتك ميتسكتش عليها ولازم اخدك للدكتور دلوقتي حالاً، ومش هسمحلك ترفضي ابداً. 
فريال:
مفيش داعي يايحيى.. انا حامل. 



تعليقات