رواية كرسيي لايتسع لسلطانك الفصل الاربعون40بقلم مريم محمد غريب
_ صمت الإنكسار _ :
الهواء يمرّ من نوافذ السيارة المفتوحة.. يحمل معه نسيمًا حارًا.. لكن الجو داخل السيارة مشحونٌ بالتوتر.. "مالك" يقود بهدوء.. لكن عينيه لا تكفّان عن لمس "ملك" بنظراته الجريئة بين الفنية و الأخرى.. "ملك" التي تشعر بهالةٍ من الرهبة تلتف حولها ..
تجلس إلى جانبه.. يدها متشابكة على حجرها.. ملامح وجهها تحمل مزيجاً من التوتر و الخوف.. لكن هناك أيضاً شيء غريب في عينيها.. ربما فضول أو رغبة خفيّة.. نظراتها تتنقل بينه و بين الطريق.. كل ثانية تحمل المزيد من القلق.. لكن ذهنها مشغولٌ بشيء واحد: تهديده لها !
و هو الشيء الوحيد الذي دفعها للتخلّف عن مدوامة يومها الدراسي.. لتهرب معه في نزهةٍ إلى وسط المدينة ...
-مالك ! .. خرج صوتها بعد طول صمتٍ.. و تابعت بترددٍ :
-هو.. هو انت هتأخرني ؟ انا لازم ارجع المدرسة قبل معاد الخروج.. هالة هاتيجي تاخدني انا و سليم.
يرد "مالك" بصوتٍ هادئ.. لكنه يحمل داخل كلماته شيئًا مظلمًا :
-اهدي شوية يا ملك.. انا لسا شايفك من 10 دقايق يعني مالحقناش نعمل أي حاجة.. و بعدين لسا بدري.. قدامنا 4 ساعات على الأقل لما المدرسة تخلّص.
حاولت أن تقول بشيءٍ من الريبة :
-ما انت مش متخيّل ازاي انا خايفة.. مش عارفة اذا كان اللي بعمله ده صح ..
يدير "مالك" عينيه نحوها بنظرةٍ ذات طابع قاسٍ.. ثم يقول بصوتٍ منخفض و جاد :
-ملك.. المفروض اني خارج مع بنت ذكية.. مش عايز اسمع تردد تاني.. انتي فاهمة ؟ انا قلتلك مرة و مرتين… مش عايزة تثقي فيا ننهي اللي بينا ده و من قبل ما يبدأ كمان.
كلماته كانت كالرصاص في صمت السيارة على إثر ما تفوّه به.. كلمات ثقيلة و مباشرة.. تتنهد "ملك" بصعوبةٍ.. تحاول أن تهدئ من نفسها.. لكنها لا تستطيع منع قلبها من الخفقان السريع ..
و تجد نفسها مرتبكة بشكلٍ كامل.. بين رغبتها في إرضائه و بين خوفها من تصرفاته.. هي تعرف جيدًا بأن "مالك" مختلفٌ عن أيّ شخص قابلته من قبل.. شخص ملييء بالغموض.. و الشجاعة التي يحملها في قراراته تجذبها رغم كل شيء.. لكنه في نفس الوقت لا يترك لها مجالًا للهروب من بعض المواقف.. ربما لا يرى حرجًا في تصرفاته.. و لكن غريزتها تخبرها منذ إلتقيا قبل ثلث ساعة تقريبًا.. بأن هناك شيئًا مختلفًا تمامًا فيه.. هو لا يكتفي بالكلام فحسب… هو يحاول شيئًا أكبر !!
-مالك.. انا خايفة !
و كأنه لا يعرف هذا !؟
يزفر "مالك" مطوّلًا و هو يوقف السيارة فجأة على جانب الطريق في مكانٍ منعزل.. الجو في السيارة يتحول إلى شيء أكثر حميمية.. أكثر سكونًا و قلقًا في آنٍ.. الهواء يعصف بالجو في الخارج.. و "ملك" تشعر كما لو أن قلبها على وشك الخروج من صدرها ..
بنظرةٍ مشتعلة.. يلتفت إليها "مالك" و يقترب منها بمسافةٍ ضئيلة.. لكنه يظل ثابتًا في مكانه.. ثم يقول بهدوءٍ :
-خايفة ؟ انا ماظهرتش في حياتك عشان اخوّفك.. ملك.. انا هنا عشان اكون الحقيقة… مرايتك.. الجاذبية فيكي مش عاديّة.. لازم تقبليها.
يتحدث بنبرةٍ لاذعة و مخملية في نفس الوقت.. لكن هناك شيئًا خطيرًا في حديثه.. كأنما يتسلل إلى أعماقها تدريجيًا.. يركز في عينيها.. يراقب ردة فعلها بعنايةٍ.. و تحاول "ملك" السيطرة على مخاوفها من جديد.. لكن وجوده بالقرب منها يجعلها تشعر بضيقٍ في التنفس ..
بصوتٍ متحشرج.. تقول "ملك" بتوترٍ واضح :
-بس انا مش حاسة اني مرتاحة.. انت كلامك حلو و انا موافقة عليه.. بس مشّيني من هنا يا مالك.. المكان ده مخيف.. مافيش حد حوالينا !
يبتسم "مالك" ابتسامةٍ ضيّقة.. ثم يدنو إليها بشكلٍ مفاجئ.. يمد يده ليلمس خصلات شعرها الشقراء برقةٍ.. لكنه يضغط على خصلة أمامية بعنفٍ مُباغت.. جعلها تشعر بصدمةٍ خفيفة ..
أحسّت بالقشعريرة في جسدها و بدأت عيناها في التحديق فيه باتساعٍ أكبر.. و كأنها ترى فيه شيئًا مظلمًا يتسلل إلى داخلها.. كانت تدرك بأنها الآن على وشك تجاوز حاجز الخوف.. لكن هل ستكون قادرة على مواجهة ما بعده ؟
تسمعه يردد بلهجةٍ خافتة :
-انتي مش عايزة تعترفي بيه صح ؟ لكن انتي حاساه.. الشعور اللي جواكي.. انا حاسس بيه من هنا.. من جوا قلبك.. حاسس بيه في كل لحظة و انتي قريبة مني ..
كلماته تحمل قوى لا يُستهان بها.. كفيلة بتكسير كل أدرعتها الواقية ..
يتحرك نحوها أكثر.. يضع يده الثانية على فخذها بشكلٍ غير متوقع.. و بطريقة تزعجها.. لكنها تجعله يقرأ توتر جسدها بشكلٍ واضح ..
تشعر "ملك" بدمائها تتجمّد.. و بأفكارها تتناثر على الأرض.. إنها تعيش صراعًا داخليًا هائلًا.. بين غريزتها التي تدفعها للابتعاد عنه.. و بين قوة جذبه التي تشعر بها بمرور الدقائق و الثوانِ ..
غمغمت بصوتٍ مختنق.. تحاول أن تبتعد عنه :
-ممكن… لو سمحت… أبعد شوية !!
تتشكّل ابتسامة أخرى على ثغره.. ابتسامة تتسم بالغموض.. نظراته لا تغادر وجهها.. كما لو كان يقرأ أفكارها.. و يعلم بأن خوفها لا يُشكل حاجزًا أمام رغباته ..
دون أن يتوقف عن التحديق بها.. يمرر أصابعه على جلد فخذها بلطفٍ صعودًا إلى حافة مريولها القصير.. تجفل "ملك" و تبتعد عنه فورًا كمن لدغته الأفعى.. لكنها لا تستطيع أن تمنع نفسها من ملاحظة الدفء الذي خلّفته لمساته على جلدها ..
يرمقها "مالك" بنظرةٍ حادة قائلًا بلهجة التهديد ذاتها :
-انتي مش هاتقدري تقاوميني.. جرّبي..و انا هاخلّيكي تعرفي معنى السيطرة الحقيقية.
تشعر "ملك" بأن قلبها يغرق في حنجرتها.. عيناها تتّسع و هي تتنفس بسرعة.. في البداية كانت تحاول أن تُبقي المسافة بينهما.. أن تحافظ على الحذر.. لكنها تجد نفسها الآن في حالة عميقة من الارتباك ..
يديها تمسكان المقعد بحركةٍ عصبية.. و عقلها يدور بسرعةٍ.. يحاول أن يجد مخرجًا.. لكن لم يُعد هناك أي طريق للهرب ..
يقترب "مالك" من جديد.. و يجذب ذقنها برفقٍ و لكن بعزم.. يجبرها على مواجهته.. يقترب حتى صارت أنفاسه تلامس بشرتها.. تشعر بنوعٍ من التوتر العميق يغزو جسدها ..
و يتضخم قلبها في صدرها بينما يقول بصوتٍ هامس.. و هو ينزل قليلاً حتى أصبح قريبًا جدًا من أذنها :
-فاهمك.. و عارف انك مش قادرة تفرقي بين الخوف و الجرأة.. بين السيطرة و الحرية.. لو سيبتي نفسك هاتتعلمي.. احسن ما تسمعي و ماتفهميش !
تتنفس بصعوبة.. عينيها مليئة بالدموع و الحيرة.. الصراع بداخلها على أشده.. تحاول أن تكون قوية.. إلا إن شيئًا ما بداخلها يجعلها تستسلم قليلًا للقبضة التي يمتلكها على قلبها.. هي تخشى أن تكون مجرد لعبة في يديه.. لكنها في نفس الوقت تجد نفسها تتمسك بتلك العلاقة الملتبسة التي تجمع بين الرغبة و الخوف ..
-مالك… انا مش عايزة كده… مش هقدر ...
لكن "مالك" يضحك بصوتٍ خافت.. ينزل يده إلى رقبتها بلطفٍ.. ثم يبدأ في تمرير إصبعه على جلدها بحركةٍ بطيئة.. كأنه يكتب على جسدها سطورًا وهمية.. تغلق "ملك" عيناها.. تشعر بأنها تغرق في دوّامة لا تعرف كيف تخرج منها ..
تسمعه فقط و هو يقول بصوتٍ هادئ :
-لو كان ده صح.. ماكنتيش هاتبقي هنا معايا دلوقتي.. انتي تقدري على ده و اكتر.. ملك.. انتي مش جاية عشان تعترضي.. انتي جاية عشان تكتشفي معايا كل حاجة ..
شعرت "ملك" فجأة بغثيانٍ.. شيء داخلها بدأ يتغير.. فهي لا تستطيع استيعاب مشاعرها التي تزداد تعقيدًا.. لا تستطيع أن تتحمل التصرفات الجسدية أو الكلمات اللاذعة التي يرددها.. قلبها يعتصرها.. تحاول دفعه بعيدًا.. لكن شيئًا ما بداخلها يوقفها.. ربما لا تزال خائفة من فقدانه.. أم ماذا ؟
ما الذي تخافه بالضبط ؟
ماذا !!؟؟؟
يلاحظ "مالك" هذا الارتباك الشديد.. و يتنفس بصوتٍ عميق.. و كأنما اكتشف جوهر شخصيتها و صار متأكدًا من أنها لن تقاومه طويلًا ..
قال بصوتٍ منخفض و هو يبتعد عنها قليلاً.. و لكنه ما زال يراقب ردة فعلها عن كثبٍ :
-مش عارف اذا كني هاتستوعبي ده دلوقتي.. لكن الحياة كلها مش زي ما انتي متخيّلة.. لو كنتي مستعدة تعرفي الحقيقة… هاتكوني معايا لآخر الطريق ..
و مد لها يده.. في دعوةٍ إن قبلتها فلن يكون هناك عودة.. عرفت ذلك من عينيه ..
و الآن.. "ملك" التي كانت تحاول أن تدفعه بعيدًا منذ قليل.. تجد نفسها تتراجع شيئًا فشيئًا.. تنغمس في صراعها الداخلي منفّذة ما يُمليه عليها.. بينما هو يدفعها نحو هاوية لم تكن قد توقعتها أبدًا …
**
الأضواء الخافتة في المقهى المفتوح تتلألأ فوق الزجاج اللامع للطاولات.. بينما ضوء الشمس الذهبي يغرق في الأفق بعيدًا عن البحر.. الصوت الخافت للموسيقى يتناغم مع الهمسات التي تدور بين الروّاد ..
في نقطةٍ ما بمدخل المقهى الحجري.. تتوقف "لمى".. الفتاة المراهقة التي كانت مترددة في دخول هذا المكان.. كانت تسير بجانب "مراد" نحو الطاولة التي يجلس عليها "حسين عزام".. الجد الذي لم تعرفه من قبل ..
قلبها ينبض بسرعة.. و الأفكار تدور في رأسها.. تسأل نفسها : هل ستتمكن من تحمل هذا اللقاء ؟ و هل ستستطيع أن تتعامل مع الرجل الذي كان جزءًا من تاريخ عائلتها الغامض ؟
ينتزعها "مراد" من شرودها قائلًا بصوتٍ هادئ.. و هو يمسك يدها بلطفٍ :
-ماتخافيش.. انا معاكي.. و انتي هاتكوني كويسة.. انا هابقى قريب منك و لو حسيتي بأي حاجة مش مريحة انا هكون موجود.
كانت "لمى" تتحاشى النظر إلى "مراد".. حتى و هي ممسكة بيده.. كانت مشاعرها مختلطة.. منها الخوف من المجهول.. و الفضول الذي كانت تحاول إخفاءه.. هي تعرف بأن هذا اللقاء ليس بالأمر السهل.. و لكنها في نفس الوقت شعرت بأنها مجبرة على خوضه لافتراضاتٍ كثيرة ..
أضاف "مراد" يحثّها و يدعمها :
-خدي الموضوع ببساطة يا حبيبتي.. ده مجرد جدك.. هو اكيد هايكون Nice معاكي.
بينما يتقدمان بخطوات ثابتة نحو الطاولة التي يجلس عليها "حسين عزام" كانت "لمى" تشعر بأن الثقل يزداد عليها مع كل خطوة.. طاولته كانت تتسع لفردان.. محاذية لسور يطلّ على البحر مباشرةً ..
رصدته عيناها.. فاختلجت أنفاسها و هي تنظر إليه بامعانٍ.. كان يبدو في منتصف الستينيات.. لكن الملامح الصارمة على وجهه جعلت عمره يبدو أكبر ..
وقفت خلف "مراد" بينما يتقدّم ليصافح الرجل الأكبر سنًا :
-حسين بيه.. مساء الخير.
يرد "حسين" عليه دون أن يشيح نظراته عن حفيدته :
-مساء النور.. اهلًا يا مراد.. ازيك ؟
-انا بخير الحمدلله.. جيت و معايا لمى زي ما اتفقنا.. هاسيبها لك تقعد معاها براحتك و لما تخلصوا هي هاتكلمني هارجع اخدها ..
و استدار نحو ابنته الروحية مكملًا بابتسامة مطمئِنة :
-انا هروح اعمل مشوار صغير قريب من هنا.. خلّي بالك من نفسك.. لو احتاجتي حاجة موبايلك معاكي.. كلّميني.
كان "مراد" يعرف بأن هذه اللحظة يجب أن تمرّ بعيدًا عن التدخل المباشر منه.. حتى يعطي الفرصة لـ "حسين" كي يتكلم مع حفيدته بحرّية.. كان يشعر بأن هذه اللحظة ستكون حاسمة ..
لم ترد "لمى" عليه.. بل كانت تتأمل في وجه جدها الذي بدأ بدوره لم يرفع نظره عنها.. هناك شيء غريب في عينيه.. شيئًا بين الحزن و الندم.. و كأن السنوات التي مرّت أثرت فيه بطريقة لم يتوقعها ..
تركهما "مراد" و ابتعد مغادرًا.. ليجلس "حسين" مستقيماً على الطاولة.. محاولًا استعادة توازنه و هو يلاحظ الارتباك الذي يظهر على وجه "لمى".. دعاها لتجلس بلطفٍ :
-اقعدي !
لم تطيعه في الحال.. كأنما تود أن اترسل له رسالةٍ بأنها أبدًا لن تفعل.. و لا يجب أن ينتظر منها أيّ طاعة.. إذا لم تريد هي شيء.. فلن يحدث ..
جلست "لمى" بتباطؤ قبالته.. و ساد الصمت بينهما للحظاتٍ.. قطعه "حسين" بعتةً بصوتٍ منخفض.. فيه من التردد :
-انتي لسا مستغربة.. صح ؟
نظرت "لمى" إليه محاولة إخفاء مشاعرها.. لكن نبرة صوته جعلتها تشعر بشيء يشبه الخوف.. هو جدها.. و لكن كان يوجد فجوة عميقة بينها و بينه.. لم تعرفه.. و لم تعرف عن قصته شيئًا سوى إنه كان غائبًا عن حياة أبيها و حياتهم لسنواتٍ طويلة ..
جاوبته بتحفظٍ و ملامح وجهها متجمّدة :
-انا مش عارفة اقولك ايه.. بجد.. مافيش حاجة واضحة ليا.. انا ماعرفش عنك حاجات كتير.. ازاي… يعني… ليه كنت بعيد ؟
يشعر "حسين" بالضغط عليه بسبب كلماتها.. تنهد و حاول أن يجمع أفكاره مجددًا.. فهو يعلم بأن هذا اللقاء لن يكون سهلاً ...
-اللي حصل زمان كان بعيد عن إرادتي ! .. قالها "حسين" محاولًا تبرير تصرفاته بالماضي.. و تابع :
-كل حاجة اتغيرت فجأة.. انا مش بقول ان ده كان صح… لكن الحياة ساعات بتفرض علينا اختيارات و احنا مش دايمًا بنقدر نتحكم في النتايج.
بقيت صامتة لبعض الوقت.. تُحاول أن تستوعب كلماته.. كانت تشعر بالارتباك.. و عقلها ملييء بالأسئلة التي لم تجد إجابة لها ..
لكن شيئًا ما في طريقة حديثه جعلها تشعر بشيء من التردد ...
يستطرد "حسين" محاولًا أن يتقرّب إليها أكثر :
-انا عارف انك متحفظة و مشحونة ضدّي دلوقتي.. و يمكن مش قادرة تفهمي.. عارف ان مافيش حاجة في الدنيا ممكن تعوّض اللي فات.. بس انا مش جاي عشان اطلب منك حاجة.. انا جاي عشان يكون عندي فرصة اني اكون جزء من حياتك.
تجهمت ملامحها و هي لا ترد عليه بنفس اللهجة المتحفظة :
-انت كنت غايب عننا.. زمان كان في فرصة تكون جزء من حياتنا.. ليه ماحاولتش تتواصل معانا ؟ ليه ماكنتش موجود لما كنا بنعدي بأوقات صعبة ؟
يهز "حسين" رأسه و كأن كلماتها تُشعره بألمٍ قديم.. عينيه تنخفضان للحظة.. ثم يرفعهما مرةً أخرى و الحزن يظهر أكثر على ملامحه ..
قال بصوتٍ متحشرج وهو يغمض عينيه :
-انا حاولت.. صدقيني بس ايمان امك كانت دايمًا تمنعني.. كنت بحاول اتواصل معاكي.. لكن كانت دايمًا ترفض… كانت بتخاف من انك تتأثري.. كانت دايمًا شايفه اني ممكن اكون جد مش كويس ليكي.. زي ما كنت اب مش كويس لابوكي.. و انا ماقدرتش اغير رأيها.. بس انا في الحقيقة كنت عايز اكون موجود.. مش عايز ابقى غريب عنك.. مش عايزك تحسّي اني بعيد عنك.
تشعر "لمى" بشيءٍ غريب في قلبها.. مزيج من التوتر و الفضول.. لم تكن تعرف الحقيقة كاملة.. كانت سمعت دائمًا عن الصراع بين "إيمان" و "حسين" بسببها.. لكنها لم تكن تعلم تفاصيل ذلك الخلاف ..
تقول "لمى" بصوتٍ منخفض.. و هي ما زالت تُحاول فهمه :
-كنتَ عايز تكون معانا ؟ طيب ليه ماتصلتش ؟ ليه ماجتش ؟ حتى لو كانت مامي مش موافقة ؟
تصدر عنه نهدة محمّلة بحزنٍ عميق.. و فجأة يُظهر تراجعًا في ملامحه.. كأن الذكريات الثقيلة بدأت تعود إلى عقله ..
قال بنبرة يُسيطر عليها الألم :
-انا عارف اني كنت غلطان.. و ماحستش بده اكتر غير لما راح مني سيف.. ابوكي… انتي حتة منه جزء منه.. و منّي.. مش عارف لو كنتي تقدري تحسّي بالألم اللي جوايا… انك تكوني حتة من ابني اللي فقدته.. في كلام كتير لسا عايز أقوله ليكي عشان تفهميني اكتر.. بس مش وقته.. جايز لما تكبري شوية كمان تقدري تستوعبيني ..
كانت "لمى" تراقب ملامح وجهه المُتألمة.. و كأن الزمن كان يمرّ ببطءٍ في تلك اللحظة.. ألمه كان واضحًا.. و كل كلمة كان ينطق بها كانت تُعبّر عن سنواتٍ من الندم و الوجع ..
يُضيف بصوتٍ خافت.. و هو ينظر إليها بنظرة تحمل مزيجًا من الأسف و الحنين :
-لما راح سيف.. حسيت اني فقدت جزء كبير من روحي… ممكن في وقتها ماحستش.. لكن لما بدأت استوعب اللي حصل قلبي وجعني اوي.. و فوقت.. عشت فترة صعبة جدًا و كرهت نفسي.. و اول ما طلعت منها كان عندي امل انك تكوني فرصة ليا عشان ارجع.. و عشان اعوضك عن كل حاجة ضاعت.. انتي مش بس حفيدتي.. انتي حتة من ابوكي… و مني.
تتنفس بعمقٍ و كأنها تُحاول استيعاب كلماته.. كان يتحدث عن "سيف".. أبيها الذي لم تره قط.. إذ مات قبل أن تعي معنى الحياة أو أيّ شيء .. ربما أخبرها عن تاريخ مؤلم جمع بينهما بطريقةٍ غير مباشرة.. و رغم إنها لم تكن قد اختبرت تلك العلاقة أو غيرها مع "سيف".. إلا إنها كانت تستطيع أن تشعر بحجم الفجوة التي خلّفها غياب جدّها عن حياة أبيها.. ثم حياتها هي ..
يواصل "حسين" حديثه مائلًا قليلًا نحوها كأن قلبه يُجبره على الاقتراب :
-انا عارف انك متضايقة مني.. و مش هقدر ارجع الزمن.. بس لو كنتي هاتسمحيلي.. عايز اكون موجود في حياتك.. مش عشان اعيّشك في الماضي.. لكن عشان نبني حاجة مع بعض.. انتِ مش لوحدك في الدنيا دي.. و أنا مش هاخلّيكي تحسي انك لوحدك.. لو في فرصة.. عايز اكون فيها معاكي !
تصمت "لمى".. لا تدري ماذا تقول.. الكلمات التي سمعتها كانت ثقيلة.. لكنها كانت تلمس شيئًا في أعماقها.. رغم كل التوتر الذي شعرت به.. و رغم إنها لم تكن تعرفه بما فيه الكفاية.. إلا أن هناك شيء في قلبها كان يُشعرها بالشفقة عليه ..
تحدّثت بصوتٍ هادئ.. و كأنها تُحاول السيطرة على مشاعرها :
-مش عارفة ايه اللي ممكن يحصل بعد كده.. بس… مش هقدر انسى كل اللي فات.
ينظر إليها في صمتٍ.. ثم ينحني قليلاً إلى الأمام و كأنما يحاول أن يقترب أكثر من قلبها.. كان يريد أن يمنحها الأمل في شيء جديد.. رغم كل الصعاب ..
قال بهمسات ضعيفة :
-انا مش هقولكِ ان كل حاجة هاتتغير.. بس هاوعدك اني هابذل نفسي و كل ما املك عشان اعوضك عن غياب ابوكي و غيابي.. لو سمحتي لي اكون جزء من حياتك.. و لو صغير !
بينما كانت "لمى" تتأمل كلماته.. كان قلبها يمر بحالة من الانقسام.. بين الرغبة في تصديق الرجل الذي أمامها.. و الخوف من أن تتوّرط في خيبةٍ جديدة ...
**
الجو في البيت كان هادئًا.. لكن داخل "ملك" كانت العاصفة مستمرة ..
أعادها إلى المدرسة.. ثم عادت إلى المنزل برفقة زوجة أخيها و ابنها "سليم".. عادت.. لكن لم يتُعد كما كانت ..
بعد الموقف الثقيل الذي عاشته مع "مالك".. تركت قلبها هناك في سيارته.. و كل جزء فيها كان يصرخ.. لم تعد قادرة على تحمل أيّة مشاعر أخرى.. كل شيء كان يضغط عليها في نفس الوقت.. يطعنها من الداخل ..
خطواتها كانت ثقيلة.. و كأن قدميها لا تحملانها.. ركضت إلى غرفتها بسرعة.. كأنها تريد أن تختفي من العالم كله.. لم تشعر إلا بعينيها المليئتين بالدموع التي كانت تشتعل حرقة في داخلها ..
الجدران حولها كانت تراقبها.. كل شيء في المكان بدا و كأنه يضغط عليها أكثر ..
في داخلها كان الصراع في أشدّه ...
-ليه ؟ ليه عمل كده ؟ .. كانت تلك هي الكلمات الوحيدة التي دارت في عقلها طوال منذ أن تركته
لكنها لم تجد جوابًا ..
أغلقت باب الغرفة وراءها.. ثم تراجعت إلى أقصى الزاوية.. حيث جثمت على الأرض.. و احتضنت ساقيها بقوةٍ.. كانت تتمنى لو تختفي.. لو يبتلعها المكان كله.. لكن الذكريات كانت تلاحقها بشراسة ..
كيف كان "مالك" ينظر إليها.. كيف كان كلامه يخترق أعماقها.. و كيف كان يعاملها و كأنها مجرد شيء يمكن أن يمتلكه.. يعصره ثم يتخلّى عنه ..
أغمضت عينيها لحظة.. و حاولت أن تتنفس.. لكن الهواء أصبح ضاغطًا.. و كأن صدرها لا يستطيع أن يستوعب هذا الكمّ من الألم الذي تشعر به ..
كانت دموعها تتساقط بغزارة.. بشكلٍ متسلسل كما لو كانت أنهارًا تحاول التحرر.. لا تستطيع أن تُوقفها.. كانت تبكي.. لكن لا أحد كان يرى ذلك.. فهي لا تريد أن يراها أحد بهذا الضعف.. بهشاشتها.. كانت تشعر بأن حياتها قد تمزّقت تمامًا.. كيف كان بإمكان شخص أن يكسرها بهذه الطريقة ؟ كانت تشعر بأن كرامتها قد تحطّمت.. و أن كل جزء منها قد انكسر.. كانت تتمنى لو تستطيع أن تمحو تلك اللحظات.. لكن الذاكرة كانت تلتصق بها كما لو أنها جروح عميقة لا تشفى أبدًا ..
كانت تحاول أن تتمالك نفسها.. لكنها لا تستطيع.. أفكارها تتسارع.. تتداخل.. تتشتت.. تساؤلاتها لا تجد إجابة.. لماذا فعل ذلك ؟ لماذا لم يُظهر أيّ احترام لها ؟ حتى كإنسانة ؟ لماذا جعلها تشعر بأنها أقل من أيّ شيء ؟ لماذا جعلها تتمنّى لو كانت لا تعيش هذه اللحظة ؟
كانت تتذكر كيف كان يضغط عليها بكلماته.. و بنظراته.. و كيف كانت محاصرة في قبضته.. لا تستطيع أن تفر من تحت تلك السلطة الماجنة.. في اللحظة التي كانت تشعر فيها بأن لا أحد يمكنه أن يحترمها.. حتى نفسها.. كان هو يظهر في ذهنها كوحش يطاردها بابتسامةٍ مريعة ..
بينما هي هناك.. في الزاوية.. تبكي على الأرض.. يبدأ ذهنها بالتفكير في كل تفاصيل تلك اللحظة ..
كيف سيطر عليها.. كيف استغل ضعفها و أجبرها على فعل أشياء صادمة لم تتخيّلها أو تسمع بها قط.. و كيف جعلها تشعر بأن حياتها قد أضحت ملكًا له لا لها ..
لم تستطع تحريك يديها.. كانت لا تزال تحت تأثير الصدمة.. كانت تشعر بأن جسمها مشلولٌ من الداخل.. لكن عقلها كان يصرخ.. كيف لها أن تتجاهل ما حدث ؟ كيف لها أن تتجاوز تلك اللحظة المذلّة التي جعلتها تشعر بأنها لا تساوي شيئًا ؟ كان كل شيء حولها مظلمًا.. حتى نور الغرفة يبدو بعيدًا.. كما لو أنه جزء من عالمٍ آخر ..
ملكت مشاعر الانكسار تمامًا.. شعرت و كأنها لا شيء.. كل كرامتها سُلبت منها.. و عينيها اللتين كانتا تبحثان عن مخرج.. لم تجد إلا الدموع.. التي كانت تخرج منها بلا توقف ..
-ليه ؟ ليــه ؟ .. كررت ذات السؤال مجددًا
لكنها مرةً أخرى لم تجد جوابًا ..
-ملك !!
انتفضت "ملك" بعنفٍ ما إن سمعت صوت "هالة" ..
رفعت وجهها المغطى بالدموع و نظرت إليها.. لتفزع "هالة" من رؤيتها على تلك الحال و تسألها فورًا :
-ملك.. في ايه ؟ ايه اللي حصل ؟ بتعيطي ليه ؟ فيكي ايـه يا ملك ؟؟؟
كانت "هالة" بادئ الأمر في المطبخ حين لاحظت دخول "ملك" إلى غرفتها بسرعة و بوهنٍ شديد.. و هي تحاول إخفاء وجهها عن الأنظار.. شعرت بشيءٍ غريب في تصرفاتها.. كان واضحًا بأن شيئًا ما قد أصابها.. و كانت عيناها مليئة بالدموع ..
لذا فقد شعرت "هالة" بقلقٍ عميق.. و أرادت أن تعرف ما الذي يحدث معها ..
تركت ما في يدها.. و ذهبت لتتفقّدها على الفور.. لكنها لم تتخيّل أن تراها في وضعٍ مزرِ كهذا ..
- ملك ؟ حبيبتي... انتي كويسة ؟ اكلم فادي يجيب دكتور ؟؟
ترفع "ملك" رأسها بسرعة.. و تحاول تجفيف دموعها بأسرع ما يمكن.. كانت تحاول بشدة أن تسيطر على نفسها الآن.. أن تُخفي الألم الذي يغمرها.. لكن عينيها كانت تعكس تمامًا ما تمرّ به.. جسدها كان مُتصلبًا.. ويدها كانت ترتجف من شدة الانفعال الداخلي ...
-انا... كويسة يا هالة.. مافيش حاجة !!
قالت متصنعة ابتسامة محطّمة و هي تتجنّب النظر في عينيّ "هالة" ..
تراقبها "هالة" لبضع لحظاتٍ.. تلاحظ الكم الهائل من الكذب في كلماتها.. و لكنها لا تضغط عليها.. "هالة" تشعر بأن هناك شيء عميق يكمن خلف الموقف.. و ربما كان الألم أكبر من أن تحمله "ملك" في تلك اللحظة ..
تقترب منها بهدوء.. و تحاول التخفيف عنها هي تضع يدها على كتفها برفقٍ.. ترّبت عليها و كأنها تخبرها بأنها ليست وحدها ..
خاطبتها "هالة" بصوتٍ دافئ و حاني :
-مافيش حاجة في الدنيا تستحق انك تعاني لوحدك.. لو محتاجة تتكلمي.. انا موجودة.
تشعر "ملك" بمزيدٍ من الضغط.. لكنها تصمد و تُبعد يد "هالة" عن كتفها بأقصى ما استطاعت من لطفٍ.. حتى لا تُظهر ضعفها أكثر ..
تتنهد.. ثم تحاول أن تسيطر على نفسها قائلة :
-انا مش عايزة اتكلم دلوقتي.. هالة.. كله تمام.. صدقيني.. انا هابقى كويسة !
و لكن "هالة" تلاحظ التوتر في عينيها.. و لا تستطيع أن تُخفي قلقها.. لكنها تقرر ألا تُجبرها على الحديث.. بدلاً من ذلك.. تجلس بجانبها فوق الأرض الرخامية.. و تظل لفترةٍ قصيرة في صمتٍ مطبق و هي تُراقب "ملك" بعنايةٍ ..
كانت "هالة" دائمًا ترى "ملك" على إنها الفتاة المرحة و القوية.. لكن اليوم كان هناك شيء غريب في عينيها.. شيء لا يمكن أن يمر مرور الكرام ..
بعد لحظاتٍ من الصمت.. تهمس "هالة" بهدوء :
-انا هاسيبك لو مش عايزة تتكلمي.. لكن انا موجودة.. لو احتاجتي اي حاجة حتى لو كنتي مش عايزة تفضفضي.. بس مش هاتكوني لوحدك.
تلتفت "ملك" إليها بسرعة.. ثم تبتسم ابتسامةٍ ضئيلة.. و تحاول إخفاء بقايا الدموع في عينيها.. تنهدت بصوتٍ خافت.. ثم خفضت رأسها من جديد ..
قالت بصوتٍ مبحوح و هي تشعر بالضيق :
-شكرًا يا هالة.. بجد شكرًا.. انا عارفة انك دايمًا جنبي !
تبتسم "هالة" بلطفٍ.. تقف على قدميها و تبتعد ببطءٍ تاركة "ملك" بمفردها.. و مع كل خطوة كانت تبتعد بها.. كانت "ملك" تغرق في عالمها الداخلي أكثر ..
تنفسها كان ثقيلًا.. و دموعها كانت تُجبرها على أن تواجه ما حاولت الهروب منه طوال الدقائق المنصرمة ..
تقف "هالة" عند عتبة بابها و هي تتحدث بلطفٍ :
-انا في المطبخ.. لو احتاجتي اي حاجة تعاليلي.
تظل "ملك" صامتة لفترة بعد مغادرتها.. لكن قلبها يظل مليئًا بالصراع.. بعد لحظاتٍ تقوم من مكانها و تنهار أخيرًا في سريرها ..
و تعود ذكريات تلك اللحظات التي مرّت بها في السيارة مع "مالك".. لحظاتٍ قاسية.. حيث كانت تُحاول الهروب من قبضة يده.. لكنها لم تستطيع.. كيف جعلها تخضع لرغباته و كأنها لا تملك إلا أن تُطيع ؟ كيف أسكتها بكل تلك القوة ؟
ذكريات تلك اللحظات تملأ رأسها.. و دموعها تتساقط من جديد.. لا تستطيع أن تُوقفها ..
و لن تستطيع …
**
بعد تناول الفطور الخفيف بمفردها ..
جلست "فريال" في الشرفة الرحبة الملأى بالورود و الأزهار.. و التي تطل على الحديقة الواسعة المحيطة بالقصر.. أضاءت خيوط الشمس الذهبية الجدران.. فكانت الإضاءة تشع دفئًا على ملامح وجهها الجميلة ..
ملامحها ساكنة.. إنما تخفي خلفها كثيرٌ من التأملات.. كان قلبها مشغولًا بمشاعر و أفكار كثيرة.. فأرادت أن تفتح النقاش مع ابنها "عثمان" الذي كان دائمًا مصدر ثقتها و راحتها ..
عندما وصل "عثمان" ملبيًا استدعاء أمه.. استقبلته بابتسامة هادئة و لكن كانت في عينيها نظرة مليئة بالفضول و القلق ..
بحب عميق في عينيه.. اقترب "عثمان" منها بسرعة.. و طبع قبلة على جبينها.. ثم على يدها كما يفعل دائمًا كعلامة عن الحب و الاحترام ...
-صباح الورد على احلى هانم ! .. قالها "عثمان" و هو يلتقط كرسي ليجلس قبالتها
ابتسمت "فريال" و هي ترد عليه برقةٍ :
-صباح الفل يا حبيبي.. ايه اخبارك ؟
-انا بخير.. طول ما انتي بتتنفسي و جنبي في مكان واحد.. مش عايز حاجة تاني من الدنيا.
-يا بكّاش ..
و ضحكت "فريال" فابتسم "عثمان" كأنما الدنيا بأسرها تضحك و تغني أمامه ...
-المهم انتي كويسة ؟
أومأت له قائلة :
-انا كويسة يا عثمان.. الحمدلله.. لكن في حاجة شاغلة بالي.. بخصوص شمس.. كنت عاوزة اعرف اخبارها منك شخصيًا.. يعني سمعت من الخدم انها بخير.. بس قلت يمكن تطمنّي اكتر.
يبتسم "عثمان" مفكرًا.. هذا ليس بجديد على أمه.. مهما صار في هذه الحياة.. مهما تغيّر البشر فإن "فريال المهدي" لا يمكنها أن تتغيّر.. ستظل هي نفسها.. أكثر القلوب رحمة و عطفًا.. كما توقع.. لم تستطع أن تكره "شمس" مئة بالمئة.. هي أصلًا لا تكرهها.. و هو يعرف.. و الآن تأكد ..
أطلق تنهيدة طويلة قبل أن يجيب.. كأنما في صوته كان يخفى مشاعر من الحيرة :
-آه.. مافيش حاجة تقلق.. انا لسا جاي من عندها و كانت شوية نعسانة و فضلت نايمة.. معاها رحمة ماتقلقيش انا سايبها في البيت بس عشان تاخد بالها منها اليومين دول. و الحمد لله.. كله تمام.
تنتبه "فريال" إلى التوتر الذي كان يطفو على وجهه.. و حرّكت عينيها ببطءٍ نحو السماء الصافية.. كان هناك شيء في حديثه.. في ردوده.. بدا أنه يخفي وراءه شيء أكثر من مجرد ما قاله ..
قالت "فريال" بهدوءٍ و كأنها تختبره :
-في حاجة تانية بخصوص شمس كنت عاوزة اعرفها.. قولّي يا عثمان ليه انت مش موافق على جوازها من رامز ؟ مش فاهمة ليه في اعتراض شديد منك !؟
تفاجأ "عثمان" في البادئ.. لم يتوقع أن تكون أمه على علمٍ بقصة "شمس" مع "رامز".. تساءل من أين عرفت :
-انتي عرفتي القصة دي ازاي ؟
رمقته بابتسامة مائلة و قالت :
-عثمان.. انا بعرف كل حاجة بتدور في القصر ده.. و انا قاعدة هنا في مكاني.
رفع أحد حاجبيه و لم يعلّق.. إنما شعر بتلك اللحظة التي أدرك فيها بأن والدته رغم حكمتها و حبها.. كانت في أحيانٍ كثيرة لا تفهم حجم القلق الذي يشعر به.. ظل صامتًا لدقيقة.. و هو يحاول ترتيب أفكاره.. ثم تحدّث أخيرًا بصوتٍ أقرب إلى الجديّة :
-ماما… انا عارف رامز كويس.. و مش شايفه الشخص اللي شمس تستحقه.. ده بني آدم غير مسؤول و مقدرش آمنه على اختي.
تراقب "فريال" وجهه بتأنٍ.. و عينيها مليئتين بالدهشة من الطريقة التي كان يصف بها "رامز".. كانت تريد أن تفهم أكثر.. و لكن في قلبها كان هناك شعورٌ بأن هذا ربما لم يكن كل شيء ..
قالت بابتسامة هادئة.. لكن بنظرة مليئة بالحكمة :
-لكن يا عثمان… رامز بيحب شمس.. و انت عارف انها بتحبه بردو.. الحياة مش دايمًا بتكون بس عن التوازن بين العيوب والمزايا.. ساعات بنحب شخص رغم كل شيء.. و حتى هو بيحبنا.. و الحب مستحيل يكون مشروط انا و انت عارفين كده كويس.
يزفر "عثمان" نفسًا طويلًا و هو يحاول أن يلتقط أفكاره بطريقةٍ أفضل.. كانت مشاعره متشابكة.. لكن قلبه كان مليئًا بالهموم.. هو فقط أراد حماية "شمس".. في عقله كان يعرف بأن "رامز" لم يكن المثال الكامل للرجل المثالي.. و أيضًا لم يكن يرغب في أن يرى شمس تتألم بسبب هذه العلاقة.. لم ينظر إلى المسألة من زاوية القلب و المشاعر ..
يرد بجدية وهو يلتقط أنفاسًا فاترة :
-انا مش شايفه يستحقها.. عايز يتجوزها و يتعدل ؟ انا عارف انه بيقول كده دلوقتي.. لكن هو انسان مش مستقر.. مش متأكد من نيّته.. مش ضامن انه هايستقيم بعد ما يتجوز شمس.. مش ضامن انه هايحافظ عليها ..
تشعر أمه بكلامه.. لم تنكر عليه خوفه و حمايته لـ"شمس".. لكن في قلبها كانت هناك معرفة عميقة بأن الحياة لا تعني أن نعيشها في قوالب جاهزة أو أن نُحصر فيها.. الحياة الحقيقية هي التي نعيشها بالاختيار.. حتى لو كان اختيارًا مليئًا بالتحديات ..
قالت "فريال" بحنانٍ و حزم في الوقت نفسه :
-انا عارفة يا عثمان.. انت خايف عليها.. لكن الحياة بتكون اختيارات.. و مش كل اختيار بيكون مريح و لا آمن.. انت لازم تحترم رغبتها.. هي عندها الحق انها تختار.. مهما كانت ظروفها أو مشاعرها.. هي اللي هتعيش حياتها مش انت.
تنهد "عثمان" بسأمٍ.. لكنه كان في قلبه يعلم بأنها على حق.. إلا إنه لا يزال قلقًا.. يخشى أن تتأذى "شمس" في رحلة حب غير مؤكدة.. و لكن "فريال" كانت عارفة بأن الحب يحتاج إلى بعض التضحية.. و إنه لا يجب أبدًا أن تقف المحبة حائلًا بين شخص و آخر في اختياراته ..
بصوتٍ خافت.. لكن محمّل بقوة مشاعرها قالت "فريال" :
-انت لازم تديها المساحة يا عثمان.. خليها تختار.. و لو رامز مش الشخص المناسب وقتها هاتتعلم من تجربتها.. مش هاتندم على حاجة لو هي اختارت بنفسها.
أخذ نفسًا عميقًا و هو يحاول أن يستوعب كلمات والدته.. كان يعلم بأن ما قالته صوابًا.. هو فقط لم يكن مستعدًا بعد لأن يتركها تختار بنفسها.. لكنه في قلبه يعرف بأنه قد حان الوقت ليترك "شمس" تتخذ قراراتها.. و أن عليه أن يكون بجانبها مهما كانت العواقب ..
شعر "عثمان" بضغطٍ من كلماتها.. كانت تحمل في طياتها حكمة لا يمكنه تجاهلها.. لكن قلبه كان يشدّه ليحمي "شمس" من أيّ ألم قد تتعرض له ..
-ممكن تكوني على حق يا ماما ! .. تمتم "عثمان" بصوتٍ خفيض :
-لكن انا مش قادر اتخيل موقفها لو مافيش امان معاه.
ابتسمت "فريال" و أخذت يده بلطفٍ.. كانت تعرف بأن عثمان لا يريد إلا الأفضل لعائلته كلها لا لـ"شمس" فقط.. لكنه في بعض الأحيان كان يحاول أن يحمى الآخرين على حساب راحتهم ...
-بص يا عثمان.. شمس لازم تاخد فرصتها زي اي حد.. احنا مش هانقدر نعيش حياتها نيابة عنها.. خليها تختار براحتها.. و انت لازم تكون جنبها.. حتى لو كانت خياراتها صعبة.
في تلك اللحظة.. عرفت "فريال" بأن النقاش قد انتهى.. كانت قد وضعت كل ما لديها من حكمة بين يديّ "عثمان".. صحيح أنه لم يكن بعد مستعدًا لتقبّل هذه الفكرة بالكامل.. لكنه يعرف في قلبه بأنه لا يستطيع أن يُقيد "شمس" بحبّه الزائد.. و لا خوفه من أن تتأذى ..
و لكن كان عليه أن يثق في اختياراتها.. و إلا فعليه أن يواجه حقيقة فقدانها.. أخته تحب "رامز الأمير".. و الأخير يحبها.. هذا أمر تأكد منه بسهولة.. و لكنه لن يعطيه أخته قبل أن يبرهن عن هذا الحب و بالطريقة التي يختارها ..
فعل ذلك فستكون له "شمس".. لم يفعله.. فلا هو.. و لا أيّ مخلوقٍ سيقنعه بالعدول عن قراره ..
في الوقت الذي تلى حديثهما عن قصة "شمس" و "رامز".. غيّرت "فريال" الحديث ليشمل بقيّة أفراد العائلة.. و قد بشّرها "عثمان" بمولودٍ جديد تحمله "سمر" ..
و كان الخبر في وقته.. إذ بدت "فريال" و كأنها سوف تطير من سعادتها.. و لكن فجأة يقطع صوت الهاتف الجو السعيد الذي يسود الشرفة.. يستلّ "عثمان" هاتفه من جيب سترته و عينيه تُظهران تركيزًا مفاجئًا ما ان نظر في الشاة المضاءة ..
يرد فورًا : آلو.. صباح الخير يا استاذ محيي ..
ثم يلتقط نظرة سريعة نحو "فريال" و هو يستمع في تأملٍ.. و لكن ملامح وجهه تبدأ في التغيير تدريجيًا ..
ترمقه "فريال" بنظراتٍ مهتمة و تراقب وجهه عن كثب.. لم تفقد أيّ تعبير على ملامحه.. و بدأت تشعر بشيء غريب في قلبها.. كان "عثمان" يستمع للمتصل باصغاءٍ يبعث على التوتر ..
و ما لبث أن رفع الهاتف عن أذنه قليلًا.. لينظر إليها مباشرة و هو يبدو أكثر جدية من قبل ..
يقول بصوتٍ هادئ و جاد بينما عينيه تتلاقى مع عيني أمه :
-فريال هانم… أستاذ محيي مدير البنك بيسألني إذا كنتي فعلاً كتبتي شيك بعشرة مليون جنيه لحامله ؟
تتجمّد لحظة.. و تنتقل ملامح وجهها من الاسترخاء إلى التوتر.. رغم محاولتها أن تبدو هادئة.. كانت تعرف بأن هذا السؤال سيأتي يومًا ما.. ان لم يكن باتصالٍ ففي كشوفات الحساب خاصتها بما إنها قد أعطت ابنها توكيلًا كتابيًا يخوّله إدارة و تصريف ممتلكاتها و شؤونها المالية كلها من الألف إلى الياء.. و لكنها لم تكن مستعدة للرد عليه بهذه الطريقة المباشرة ..
تتنحنح "فريال" و تجيبه محاولة أن تبدو طبيعية :
-آه صحيح.. كتبته.
يرفع "عثمان" حاجبًا بدهشة واضحة.. ثم يُعيد وضع الهاتف على أذنه ليستمع إلى المدير.. يبدو أنه في حالة تفكير شديدة و هو يستمع إلى المعلومات التي تأتيه من الطرف الآخر عبر الهاتف.. ثم يعود ليضع الهاتف عن أذنه ثانيةً و هو ينظر إلى "فريال" بتركيزٍ أكثر ..
يقول بجدية و هو يحدد سؤاله :
-المدير بيسألني اذا كان هايصرف الشيك و لا لأ.. انتي عايزاه يتصرف ؟
تبتسم "فريال" ابتسامة صغيرة.. و لكن قلبها بدأ ينبض بشكلٍ أسرع.. يبدو إنها لم تكن تتوقع أن تأتي الأسئلة بهذه السرعة أو بشكلٍ مفاجئ مثل هذا.. و مع ذلك تُحاول أن تكون متمالكة أعصابها قدر الإمكان ..
تقول بابتسامةٍ مفعمة بالثقة :
-آه.. ايوة.. اصرفه.. مافيش مشكلة ..
تأخذ نفسًا عميقًا.. و تتابع بنبرةٍ مريحة و كأنها تُحاول تجاهل تأثير الموقف عليها :
-الشيك ده من مساعدة مني لأسرة محتاجة.. كان ضروري أتكفّل بيهم في الفترة الأخيرة.
يشعر "عثمان" بغرابة.. كلام "فريال" كان منطقيًا.. و لكن المبلغ الضخم الذي يتم صرفه فجأة يجعله يتساءل بشكلٍ أكبر ..
في ذهنه تتراقص العديد من الأسئلة التي لم يجد لها إجابة.. لا يستطيع أن يربط فكرة أن شيكًا بهذه القيمة سيُصرف لمجرد مساعدة أسرة واحدة فقط و أيضًا دفعة واحدة !!؟؟؟
يقول بصوتٍ منخفض.. محاولًا ضبط أعصابه :
-اسرة محتاجة ؟ طيب… منين عرفتي الأسرة دي ؟ مين هما ؟
كانت "فريال" تحاول أن تكون أكثر ثباتًا.. تلمح تلميحات من استغراب في عينيه.. و تشعر بأن الحوار بدأ يخرج عن نطاق السيطرة.. تحاول التهرب من الإجابة المباشرة.. لكن "عثمان" كان قد بدأ يلاحق التفاصيل ..
تجاوبه بتحفظٍ محاولة العودة إلى سيطرتها :
-عرفتهم عن طريق الجمعية الخيرية اللي انت كنت بتدعمها و عرفتني عليها.. انا عارفاهم كويس.. هما محتاجين و انا دايمًا بحاول أساعدهم… دي مش أول مرة أتكفّل بأسرة زي دي ..
تتابع حديثها بلهجةٍ حازمة.. كأنها تحاول إنهاء الموضوع سريعًا :
-انت ليه مستغرب كده ؟ انا كل يوم بتكفل بعائلات محتاجة.. دي مش حاجة غريبة !!
يظل "عثمان" صامتًا للحظاتٍ.. بينما عقله يعكف على التفكير في التفاصيل.. بالفعل هو يعرف بأن والدته كانت دائمًا تهتم بمساعدة الآخرين.. و لكن المبلغ الذي تم صرفه الآن كان أكبر من أيّ شيء قد سمع أنها تبرّعت به دفعةً واحدة و ليس على فترات.. فجأة يتسرّب إليه شكٌ صغير في قلبه.. و لكن في نفس الوقت لم يكن يريد أن يضغط أكثر ..
بتردد يقول لها.. لكنه يحاول التحكم في أعصابه :
-ماما.. ده مبلغ ضخم عشان يتصرف لشخص واحد دفعة واحدة.. انتي عايزة كده بجد ؟
تبتسم "فريال".. لكنها تلاحظ التردد في صوت "عثمان".. كانت تعرف أنه يحتاج وقتًا لتقبّل الفكرة.. لذلك حاولت أن تبقي الأمور هادئة ..
-ايه يا حبيبي.. عارفاك مش بخيل.. مش كل يوم تقدر تساعد ناس زي دي.. انا عارفة انك متفهم.. مش كده ؟
يبتلع "عثمان" ريقه بحذرٍ و هو يحاول أن يفكر في كل شيء بعناية.. لكن في قلبه كان هناك شيء غير مريح.. ربما كانت لديه شكوك حول حجم هذا العمل الخيري.. و لكنه لم يرد أن يزيد الضغط على والدته ..
لحظات من الصمت تمر بينهما.. ثم يقرر "عثمان" أن يتوقف عن الاستفسار بشكلٍ أكبر.. هو يعلم بأن والدته ربما تكون أكثر خبرة في هذه الأمور.. و ربما كانت هي لسنواتٍ طويلة في المكان الصحيح لتأخذ مثل هذه القرارات.. و مع ذلك.. قلبه لا يزال مشغولًا بالأمر ..
يضع الهاتف على أذنه من جديد قائلًا بصوته القوي :
-أستاذ محيي.. اصرف الشيك !!
ترتاح "فريال" من داخلها كثيرًا.. تظن أن الأمر قد مرّ.. تبتسم في وجهه ببساطةٍ ..
يرد "عثمان" الابتسامة لها و هو يغلق الخط مع محدّثه.. يضع الهاتف بجيبه ثانيةً و هو يقول بأريحية :
-اوكي يا ماما.. انا اتأخرت هامشي دلوقتي لان عندي شوية شغل في الشركة.
تظل محافظة على ابتسامتها.. رغم أنها لاحظت القلق الذي يلوح في عينيه.. و لكنها تقبل ذلك بابتسامة هادئة محاولة أن تظل طبيعية قدر المستطاع ...
-تمام يا عثمان.. روح يا حبيبي مع السلامة.
يقف "عثمان" جامعًا متعلّقاته الصغيرة.. ثم يترك الغرفة بسرعة.. في حين أن "فريال" تتابعه بنظراتها ..
هبط "عثمان" إلى الطابق السفلي.. و لكن بدل أن يغادر المنزل.. انحرف بمساره متوجهًا صوب مكتبه.. عاود اخراج هاتفه المحمول.. جلس على كرسيه.. و أخذ نفسًا عميقًا.. ثم أجرى اتصالاً جديدًا بالمدير ...
-عثمان بيه !
رد عليه "عثمان" بجدية شديدة.. صوته يظل هادئًا لكنه حاسم :
-اوقف اجراءات صرف الشيك يا أستاذ محيي.. فورًا !
كانت هذه اللحظة الحاسمة بالنسبة له.. بداخله بات يعلم بأن عليه أن يتحقق أكثر ممّا سمع.. لقد اقترب من معرفة الحقائق فعلًا ! .