رواية كرسيي لايتسع لسلطانك الفصل الواحد والاربعون41بقلم مريم محمد غريب
في فم الحقيقة _ :
حيّ شعبي عتيق.. الشوارع ضيّقة و البيوت متلاصقة.. يقف "عثمان البحيري" أمام بوابة البيت المهدّم.. عينيه تلمعان بالشك و القلق.. كان قد وصل إلى هذا المكان بناءً على التفاصيل التي حصل عليها من الحارس الشخصي الذي كلّفه بمراقبة والدته "فريال المهدي" ..
الآن.. المسألة بالنسبة له لم تعد مجرد شك.. لكنها البحث عن الحقيقة.. مهما كانت صعبة.. الخطوات الثقيلة تقوده ليقف أمام الباب الخشبي القديم.. عيناه تجوب المكان.. الباب كان متآكلًا.. و الجدران مشقّقة.. و المكان يملؤه سكونٌ غريب ..
يُسمع صوت صرير الباب مع كل حركة و هو يفتحه.. فيشعر بمزيدٍ من التوتر الداخلي و هو يتساءل : ما الذي قد يجلب أمه إلى هنا !؟
يدخل "عثمان" بحذرٍ.. المكان ضيّق للغاية.. يطلّ الباب على فسحةٍ معتمة يتناثر فيها الغبار.. بينما تلتقط أنفاسه رائحة قديمة.. عفن و جدران مليئة بالبقع.. يتقدّم ببطءٍ شديد و هو يحاول أن يتذرّع بمزيدٍ من الصبر من أجل الحقيقة.. الحقيقة التي لا يسعها إلا لها الآن ..
يتوقف أمام باب غرفة موارب.. يشعر بشيء غريب في الجو.. و كأنه اقترب من اكتشاف ما لا يجب أن يعرفه.. يدفع الباب برفقٍ.. فمفاصله تصدر صوتًا خفيفًا.. و عيناه تلتقطان الضوء الضعيف القادم من النافذة المتهالكة في الجهة الأخرى ..
داخل الغرفة يرى سيدة عجوز.. تجلس فوق كرسي خشبي قرب النافذة.. شعرها الأبيض ينسدل على كتفيها بطريقةٍ عشوائية.. و وجهها مغطى بتجاعيدٍ عميقة و كأنها تجسد الزمن نفسه ..
كانت تراقب المكان بنظراتٍ شاردة.. و لكن فجأة يشعر "عثمان" بعيونها القاسية تتجه نحوه.. فتوقف في مكانه ..
لا يعرف من أين واتته مشاعر الغضب ما إن رآها.. لكنه حاول الحفاظ على هدوئه و هو يسألها بلهجةٍ حادة :
-انتي مين ؟
ترفع السيدة رأسها في هدوءٍ و ترد بنبرةٍ باردة :
-اهلا بالبيه الصغير.. عثمان بيه بنفسه جاي لحد عندي !
انا كنت بشيلك على ايديا دول من و انت في اللفة.. ماسبتكش الا بعد ما تمّيت 15 سنة.. معقول مش فاكرني ؟
يظل "عثمان" واقفًا في مكانه.. عينيه تحدقان فيها بحدة.. ملامحه مشدودة.. و الشعور بالخيانة يشتعل في قلبه ..
تسأله إذا كان لا يزال يذكرها !؟
قطعًا قد عرفها الآن.. هذه إذن تكون الخادمة.. تلك التي تسبّبت بإجهاض أمه فيما مضى و عيشها أسوأ فترات حياتها.. بالتأكيد هي نفسها التي زج بها أبيه إلى السجن.. و لو لا كان هو صغيرًا حينها لأنتقم منها أشدّ انتقام جزاء ما فعلته بأمه ..
في ذهنه تتصارع الأفكار.. لكنه يحاول أن يكون متمالكًا لأعصابه حتى النهاية ..
يقول "عثمان" بصوتٍ حاد و هو يتحرك خطوةً للأمام :
-حنان المعلّاوي.. دلوقتي بس عرفتك.. اسمعيني كويس.. عايزك منغير حرف زيادة او حرف اقل تقوليلي.. فريال هانم جت لك ليه ؟
تنظر له "حنان" ببرودٍ.. و كأنها لا تهتم بما يقوله :
-اللي بتدور عليه مش هاتلاقيه هنا.. سايب نفسك للأسئلة دي.. و هاتنتهي زي كل اللي قبلك.. مش هاتقدر تعمل حاجة حتى لو عرفت !
يغضب "عثمان" بشدة.. يقترب خطوةً أخرى مغمغمًا عبر أسنانه المطبقة :
-انا مش جاي احكي معاكي و نتصاحب.. مهما كان التمن. انا جاي اخد الحقيقة منك.
تبتسم الأخيرة ابتسامةٍ حزينة.. ثم تقف ببطءٍ.. أقدامها تتكسر من الضعف بينما تتّسع عيناها بشكل غريبٍ.. كأنها تتأمل في شيء غير مرئي :
-انت مش جاهز للحقيقة دي.. صدقني.. لو عرفت… هايبقى صعب عليك تعيش بعدها !!
ينقبض قلبه.. ثم يتنفس بعمقٍ و قد تأكد حدسه بوجود كارثة قامت كلًا من أمه و شقيقته بالتعتّيم عليها وراء ظهره ..
يرد "عثمان" بصوتٍ خافت و لكنه مليئ بالسلطة :
-سيبك من جو الأفلام و المسلسلات ده و تعالي معايا سكة احسن لك.. اذا كنتي تعرفي حاجة… قوليها دلوقتي.. بدل ما تندمي.. قوليلي كل حاجة دلوقتي !!
تتأمل"حنان" فيه لبرهةٍ.. ثم تنزل بصرها إلى الأرض.. و هي تتنهد و كأنها تخشى الخروج عن صمتها..لا لشيء سوى إنها تشفق عليه بالفعل ...
-هاتكره نفسك ! .. تمتمت كأنما تنكأ جرحًا بالكاد قد اندمل
تبتسم ابتسامةٍ مريرة.. تغلق عينيها للحظة و كأنها تتنهد :
-كل واحد ليه سر ممكن يعيش يتعذب العمر كله و يقدر يتحمله لوحده.. و انت اكيد عندك سر عايش بيه لوحدك.. مش ناقصك تعرف اسرار غيرك.. السر اللي بتضغط عليا عشان تعرفه.. يا ريت لو تقدر تعيش من غيره احسن !
يتنهد "عثمان" و يقول بحدّة عاقدًا حاجبيه في صرامةٍ :
-السر ده مش هيفضل سرّ لحد ما اعرفه.. و لو لسا خايفة على روحك.. و على ولادك و أحفادك.. هاتقوليلي فريال هانم كانت عندك ليه.. و كتبت لك شيك بعشرة مليون ليه ؟ .. مش هاكرر سؤالي تاني.. فكري في اجابتك كويس عشان حياتك كلها رهن كلمة واحدة تقوليها ..
السيدة تلتزم الصمت.. و عينيها تشعّان بندمٍ حقيقي.. بينما "عثمان" يظل واقفًا في مواجهة هذه المرأة التي تحمل في وجهها لمحاتٍ من الحقائق التي تنذر بتبديد كل شكوكه ...
أومأت له قائلة بصوتٍ أدنى للهمس :
-هقولك.. و الله يعينك ..
الهواء في الغرفة يزداد ثقلاً.. و كل كلمة كانت تخرج من فم السيدة تاليًا.. كان لها صدى مدمّر في قلب "عثمان".. الذي شعر و كأن حياته قد تحوّلت إلى جحيمٍ ..
كان يعتقد بأنه يعرف كل شيء عن عائلته.. كان يعتقد بأنه عرفهم جيدًا من دواخلهم كما خارجهم.. لكن الآن.. اكتشف بأنه كان يعيش في ظلال كذبة كبيرة.. و أنه كان جزءً من هذه الكذبة دون أن يعرف ..
تنتهي الأخيرة من سرد كافة التفاصيل عليه و تصمت أخيرًا.. لكن الصوات بداخل "عثمان" لا تصمت أبدًا ..
استغرق وقتًا طويلًا حتى استعاد شيئًا من توزانه.. بدأ يخطو نحو الباب.. ثم يتوقف للحظة و يقول بمرارةٍ قبل أن يغادر :
-ماتفكريش ان كل حاجة هاتبقى عادية من بعد اللحظة دي.. الحقيقة اللي انا عرفتها دي.. مش هاتخليكي تنامي من انهاردة !
يخرج "عثمان" من البيت وقد اهتزّت كل ملامحه.. كل خطوة يخطوها في هذا المكان تشعره و كأن الأرض تتخلّى عنه.. يتركه.. يترك الحيّ العشوائي كله وراءه.. لكن الحقيقة التي اكتشفها ستظل تلاحقه للأبد ...
**
الغرفة مغلقة تمامًا ..
الستائر مسدلة بإحكامٍ.. يكتنف الفضاء ضباب من الهدوء العميق الذي يعكس حالة "ملك" النفسية المحطّمة ..
في السرير.. "ملك" ممدة أسفل الغطاء.. عيونها فارغة.. ضبابية.. وجهها شاحبٌ و شفتاها مشدودتان و كأنها تحاول كبح كل ما يعتمل بداخلها من ألمٍ.. جسدها الخائر ينبض بالوجع و لكنها لا تقوى على تحريكه.. كما لو أن شيئا ما في أعماقها قد انهار فجأة ..
منذ الحادثة في السيارة.. هي في حالة من الفراغ التام.. دموعها جفّت.. و لكن قلبها غرقٌ في أنهارًا من البؤس ..
___________________
خارج الغرفة.. يجلس مترأسًا طاولة الغداء.. على يمينه جلست "هالة" تهتم بصغيرهما "سليم" " ..
كانت منشغلة به لدرجة لم تلحظ ما يمرّ به "فادي" من أفكارٌ عاصفة.. من ملامح وجهه يظهر القلق الشديد.. لم يُعد يستطيع تجاهل أن شيئًا ما ليس على ما يرام مع شقيقته.. لم يكن يعتقد أنها ستتأثر هكذا ما إن تنتقل للعيش معه.. منذ اليوم الأول و هو يعلم في قرارة نفسه بأنها ليست سعيدة هنا.. و لكنه تأمل في إنها لو انخرطت بالأجواء الدراسية ستتخطى حاجز الرهبة منه و من التغيير ..
لكن هذا لم يحدث على ما يبدو.. كانت حالتها تزداد سوءً بالآونة الأخيرة.. و خاصةً منذ البارحة.. لم يراها مطلقًا.. لا ريب في أنها تُعاني بُعد أختهما و زوجها.. الرجل الذي ربّاها ..
شاء أم أبى.. يعرف "فادي" بأن شقيقته الصغيرة تحب "عثمان البحيري" و ترى فيه الأب الذي فقدته.. المعضلة هنا هي أنه لن يستطيع تحمّل معاناتها.. هو بالأصل لم يقدم لها شيئًا طوال حياته.. بل "عثمان" هو الذي اعتنى بها و اعتبرها ابنةً له منذ خُلقت ..
و العبء الأكبر الآن يكمن في حساسيتها التي تجعله يشعر بالذنب ..
يتنهد "فادي" بثقلٍ و قد أرهقه التفكير غير المجدي في إصلاح الأمور.. تلاحظه "هالة" الآن.. فتسأله بصوتٍ خفيض لا يخفي قلقها :
-فادي.. مالك يا حبيبي ؟
ينظر لها "فادي" بعينين ملؤهما الحزن و يقول :
-مش عارف يا هالة.. ملك.. فيها حاجة مش مظبوطة !
هزت "هالة" كتفيها مُبررة بكلمات "ملك" نفسها :
-يمكن عشان تعبانة شوية.. دي مقدرتش تروح المدرسة انهاردة و لسا نايمة في سريرها.
يهز "فادي" رأسه قائلًا :
-لأ.. دي بقالها فترة من ساعة ما جت تقريبًا.. مش طبيعية خالص.. و بعدين انا عندي احساس ان في حاجة حصلت.. مش مجرد تعب.
عبست "هالة" محاولة التخفيف عنه :
-مافيش حاجة يا فادي.. متأفورش المواضيع.. ممكن بس تكون حالة نفسية بتمر بيها.. انت عارف ملك عاطفية اوي و في سن مراهقة.. يعني كل حاجة بتأثر فيها بشكل كبير.
يفكر "فادي" بكلامها.. ثم يقول بتردد :
-مش عارف.. حاسس انها مش كويسة.. و خايف عليها.. انا بفكر لو فضلت على كده هارجعها لسمر.. مقدرش اتسبب لها في أي مشكلة تأثر عليها و انا اساسًا عمري ما كنت موجود جنبها و لا اعرف عنها أي حاجة.. انا طول عمري مأثر مع ملك يا هالة.. خايف اتعامل معاها غلط.. خايف تضيع بسببي !!
تشعر "هالة" بجدية القلق في صوت "فادي".. و تفكر قليلاً قبل أن تقوم لتذهب باتجاه غرفة "ملك" تاركة الصغير في عهدة أبيه و هي تقول بهدوء :
-طيب ماتقلقش.. خلّيها عليا.. انا هاروح اكلمها و اشوف فيها ايه بالظبط.
تدخل "هالة" غرفة "ملك" في هدوءٍ بعد القرع على بابها لمرتان ..
تتوقف عند الباب قليلًا و عينيها تبحثان عن الفتاة.. لتجدها لا تزال في سريرها.. ترقد في الظلام.. و لا يُضيئ الغرفة كلها سوى مصباحًا صغيرًا في الزاوية بجوار النافذة المغلقة ..
تلج "هالة" مقفلة الباب ورائها.. تناديها بحذرٍ :
-ملّوكة.. انتي صاحية يا روحي ؟
و لكن "ملك" لا تلتفت إليها.. نظراتها مسلّطة على النقطة نفسها أمامها.. و كأنها تجتر الذكريات المريرة.. بعد لحظةٍ من الصمت.. تقترب "هالة" بهدوء و تجلس بجانبها على السرير ...
-ملك ! .. نادتها "هالة" مجددًا و هي تلامس كتفها بلطفٍ شديد :
-حبيبتي… انتي كويسة !؟
تبقى "ملك" صامتة.. و لا تنظر إليها.. تظل عيناها غارقة في الفراغ.. و تراقبها "هالة" بعينين مليئتين بالقلق.. فهي باتت تعرف جيدًا بأن "ملك" تمرّ بأزمة ما.. لكن التوتر يزداد مع مرور الوقت.. هذا ليس طبيعيًا كما قال "فادي" ..
تستطرد "هالة" بنفس اللهجة اللطيفة :
-مالك بس يا قلبي ؟ مش بتردي عليا ليه ؟ تعالي نكلم بعض شوية.. لو عندك مشكلة احكيها لي.. انتي مش لوحدك.. انا هنا جنبك ..
فجأة.. تتنهد "ملك" بعمقٍ.. تنزل دمعة واحدة على خدّها.. ثم تلتفت نحو "هالة" و هي تقوم لتجلس قليلًا.. تخفض رأسها.. كان هذا أول انفجار لمشاعرها المكبوتة ...
-هالة ! .. نطقت "ملك" أخيرًا بصوتٍ منكسر تغلبه الدموع :
-انا تعبانة.. انا.. انا حاسة اني بموت في الدقيقة ألف مرة.. مش قادرة خلاص ..
تجفل "هالة" من توصيف "ملك" المرعب.. و تسألها في الحال :
-مالك يا حبيبتي ؟ قوليلي حاسة بإيه ؟ قوليلي عشان ألحق اتصرف قوليلي يا ملك فيكي ايه ؟؟؟
تغمض "ملك" عينيها بشدةٍ.. و كأنها ترفض مواجهة الحقيقة.. يداها ترتجفان بشكلٍ غير طبيعي.. و حلقها يضيق و هي تقول بصعوبةٍ :
-مش قادرة يا هالة.. مش قادرة اتكلم.. لو قولتلك هاتكرهيني !!
تقترب "هالة" أكثر و تحاوط كتفيها لتشعرها بالدعم و الأمان.. تقول بلطفٍ و لكن بتصميمٍ في نفس الوقت :
-مش هاكرهك يا ملك.. مستحيل.. ايًا كانت المشكلة صدقيني انا اقدر احلها لك.. و بعدين احنا عيلة و انتي اختي الصغيرة.. عايزاكي تقوليلي كا حاجة و اوعدك هاتكون سر بينّا.
تبتلع "مالك" دموعها قليلًا و قد نجحت "هالة" بطمأنتها بعض الشيء.. تنظر لها و تبدأ في الحديث بصوتٍ خافت مهزوز :
-هو.. مالك… هو مالك اللي عمل.. فيا كده… هو اللي اجبرني اعمل حاجات… و انا ماكنتش… ماكنتش قادرة ارفضه ..
تتجمّد "هالة" في مكانها للحظة.. قلبها يكاد يتوقف.. الكلمات التي خرجت من "ملك" كانت بمثابة صاعقة غير متوقعة.. كل ما كانت تظنّه هو أن "ملك" تعاني من شيء عابر.. لكن هذا… هذا شيء أكبر بكثير ...
-مالك ! مين مالك ده !؟؟؟ .. تساءلت "هالة" محاول السيطرة على الغضب في نبرات صوتها
تلوّت ملامح "ملك" و سالت دموعها.. في نفس اللحظة يضرب الإدراك رأس "هالة".. تعرف الآن.. و تذكر أين رأته و قابلته أول مرة ..
زفاف خالها.. "مايا عزام".. العروس.. "مالك عزام".. شقيقها !!!
تتساقط دموع "ملك" بغزارةٍ.. و ملامح وجهها تعكس كرهها لنفسها أكثر من أيّ وقت مضى ..
تستطرد بنبرةٍ متألمة :
-كنت خايفة… خايفة اخسره… ماكنتش عايزة… مش عايزة ابقى لوحدي. هو كان بيقولّي لو مارحتش معاه.. لو ماعملتش اللي هو عايزه… هايبقى دي اخر مرة يكلّمني.. و انا… كنت عايزة احافظ على علاقته بيا… ماكنتش عارفة اقول لأ ..
و مضت تحكي لها ما صنعه بها ..
اعتدائه عليها جسديًا.. كيف أهانها و أذلّها.. كيف جعلها تشعر بالعار و الرخص ..
و أتمّت "ملك" اعترافاتها باكية بحرقةٍ :
-كنت خايفة منه.. و مش عارفة اعمل أي حاجة.. و كان طول الوقت بيهمس في ودني.. بيقولّي كلام.. مش ممكن اسمعها من حد.. انا بكرهه.. انا بكرهه يا هالة بكرهه ..
و يتفاقم وضعها سوءًا.. فتغطي وجهها بيديها مجهشة ببكاءٍ حاد.. و كأنها تحاول أن تخفي العار الذي لطّخت به ..
يتسارع نبض "هالة" بشدة.. لكنها تحاول أن تظل هادئة من أجل "ملك".. تقول محاولة تهدئتها بصوتٍ أكثر صرامة :
-اهدي.. اهدي يا ملك.. اسمعيني.. دي مش غلطتك.. هو اللي غلط.. الحيوان.. هو اللي استغل ضعفك.. مافيش حد طبيعي يقدر يحط بنت زيك في الموقف ده.. انا عارفة انك مصدومة.. عارفة انك مجروحة.. بس انا معاكي.. انا مش هاسيبك و هانعالج اللي حصل سوا.. اهدي ..
تبكي "ملك" بحرقةٍ.. رأسها بين يديها.. كما لو إنها تتمنى أن تختفي من هذا العالم.. تلف "هالة" ذراعيها حولها بحنوٍ شديد.. لكن قلبها يغلي من الغضب ..
تقول بصوتٍ هادئ لا يخفي ما تشعر به من ألمٍ و حزنٍ على الفتاة الصغيرة :
-انا هاتصرف.. بس يا حبيبتي.. عايزاكي تبقي اقوى من كده.. اهم حاجة دلوقتي بطلي عياط عشان هانخرج.. لازم اخدك للدكتور.. لازم اطمن عليكي و نعالج أي حاجة حصلت.. بس.. اهدي.. انا مش هاسيب حقك يضيع.. مش هاسيبه و هاتشوفي.. هانعدي اللي حصل مع بعض.. و ان شاء الله هاتبقي كويسة.. هاتبقي كويسة يا ملك ..
و بينما كانت "هالة" تحاول أن تطمئن "ملك".. إلا إن مشاعر الغضب تتصاعد في قلبها تجاه "مالك".. هي تعرف بأن "ملك" لا تستحق هذا.. و أنها أرق من أن يتم تدميرها و سحق براءتها بهذه الطريقة الشاذّة.. و أنها أيضًا كانت فقط ضحية لمشاعرها وؤضعفها في مواجهة شخص استغل ذلك بكل قسوة و مجون ..
تأخذ "هالة" عهدًا في قلبها بأنها لن تدع "مالك" يفلت بفعلته.. لن تدع هذا يمر مرور الكرام ...
**
يصل "عثمان البحيري" إلى القصر بعد عودته من منزل "حنان".. وصيفة أمه الخائنة ..
قلبه ينبض بسرعة شديدة.. عقله يشتعل بالأسئلة.. و عيناه مملوءتان بالدموع المخبأة خلف جفنٍ متأجج بالغضب.. لا يهمه ما يحدث حوله.. خطواته سريعة.. و رأسه مشدود إلى الأمام.. دون أن يفكر في أيّ شيء آخر غير الوصول إلى أمه ليواجهها بالحقيقة التي اكتشفها ..
يدخل "عثمان" على الفور إلى غرفة "فريال" دون أن يطرق الباب.. يدفع الباب بعنفٍ.. ليجدها أمامه مباشرةً.. ترتدي رداء الاستحمام.. شعرها مُبلل ومربوط إلى الوراء.. عيناها تلمعان ببريقٍ عفوي حين تراه.. لكن سرعان ما تختفي الابتسامة من وجهها ..
يقف على بعد خطواتٍ منها.. عيناه ملؤهما الغضب.. وجهه متجهّم و كأنما يشعّ حرارة.. كأنما صاعقة ضربته للتو ..
تلاحظ أمه التغيير الفجائي في ملامحه.. ليس هذا هو ابنها الذي تركها منذ ساعاتٍ.. فزع قلبها لوهلةٍ و هي تسأله :
-عثمان ! ايه حبيبي في حاجة ؟ شكلك عامل كده ليه ؟
بصوتٍ هادئ.. و لكنه يقطّر غضبًا مكبوتًا.. قال "عثمان" و هو يقترب منها ببطءٍ :
-رفعت.. عمل فيكي كده… صحيح ؟
تتجمّد "فريال" في مكانها.. عيناها تتسعان من الصدمة.. و يتدلى فكها السفلي دون أن تستطيع الرد على الفور.. قلبها يتسارع من الخوف.. و عقلها يرفض التصديق لما تسمعه :
-انت… انت بتقول ايه يا عثمان !؟؟
يقترب "عثمان" أكثر.. يحاول أن يخفف من وقع كلماته.. لكن الغضب يتصاعد بداخله :
-انتي ازاي سكتي كل السنين دي ؟ كنتي عارفة يعني ؟ و لاكنتي حاسة ؟ مش ممكن.. مش ممكن انك فضلتي ساكتة و ماتكلمتيش غير دلوقتي بس !!!!
تتراجع "فريال" خطوةً إلى الوراء.. تصدمها كلماته التي تطعن في شرفها.. في قلبها ..
دموعها تكاد تسقط.. لكنها تحاول أن تتمالك نفسها.. صوتها يرتجف و هي تقول :
-عثمان.. بتكلّمني انا ؟ بتكلم امك ؟ .. انت ازاي ممكن تفكر فيا كده ؟ .. ازاي تفكر اني ممكن اقبل على نفسي كده ؟ .. ازاي يا عثمان ؟؟؟؟
يرتفع صوته تدريجيًا.. و كأن قنبلة انفجرت بداخله.. يتنفس بصعوبةٍ من شدة الغضب و يطالعها بعينين تلتهبان بالأسئلة و أيديه ترتجف :
-طيب… طيب ليه سكتي ؟ ليه طول السنين دي ما قولتيش حاجة ؟ أيـه.. عايزة تفهميني انك نمتي و صحيتي عرفتي ايه اللي كان بيحصلك ؟ و فرضا ده صح.. انتي عرفتي و خبّيتي عليا.. كنتي… كنتي فاكرة ان ده ممكن يعدي؟ كنتي فكراني مش هـاعـــرف !!؟؟؟؟؟
تحاول "فريال" أن تبرر نفسها.. لكن دموعها تنهمر في لحظاتٍ من الضعف.. تتأرجح بين الصمت و الاعتراف و يديها تتشبثان ببعضهما كما لو كانت تحاول إيقاف هذا الانهيار الكبير داخلها :
-كنت خايفة… خايفة على العيلة.. خايفة على سمعتنا… خايفة عليك.. ماكنتش عارفة اعمل ايه.. عثمان.. رفعت.. كان بيخدّرني.. كان بيعمل كده و ابوك عايش.. احلف لك اني ماكنتش بحس بأي حاجة.. و لا كنت عارفة هو بيعمل ايه.. انا متأكدتش غير من فترة.. صدقني يابني.. انا بقولك الحقيقة ..
يتنفس "عثمان" بعمقٍ.. و في عينيه تجتمع صراعاتٍ كثيرة.. يحاول أن يستوعب كل شيء.. لكنه لا يستطيع.. الصوت في حلقه يكاد ينفجر من حنقٍ.. بينما يبتعد عنها مسافة صغيرة.. كأن الأرض تبتعد عن قدميه.. يتلفت حوله بغضب و كأنه يبحث عن مخرجٍ من هذا الكابوس ...
-خايفة !؟ عمّي.. يعني عمّي كان بيعمل كده ؟ و انا.. و انا كنت موجود… كان بيعمل كده في بيتي و بيت ابويا.. كان بيعمل كده و يرجع يبص في وشنا.. يكلمنا.. يضحك معانا.. مش ممكن… مش معقول !!!!
في تلك اللحظة.. تتساقط دموع "فريال" بغزارةٍ على خديها.. تكاد تنهار من الداخل.. و كأن كل قيد كان يمسك قلبها قد تحطّم الآن ..
و تدرك بأن كل الكلمات التي كانت تحاول أن تبرر بها نفسها.. لا تساوي شيئًا أمام الحفرة التي حفرتها داخل قلب ابنها ..
يتنفس "عثمان" ببطءٍ.. يغلق عينيه للحظة و كأن قلبه على وشك أن ينفجر.. صوته يتغير إلى نبرة حادة مليئة بالوجع.. و في عيناه بريقٌ غاضب من المأساة التي أصابته :
-انا مش عارف اصدق ده… مش عارف اصدق ان عمّي كان بيعمل كده… ليه ؟ .. ليه ؟ و ليه سكتي و ماقولتليش ؟؟؟؟
تسقط "فريال" على الأرض.. تضع يديها على رأسها كما لو كانت تحاول أن تنقذ عقلها من التفكك.. الصدمة تجعل جسدها يرتجف كأنها مكسورة.. عيناها مليئتان بالدموع.. و المشاعر تقتلع قلبها من مكانه و هي تردد من بين نحيبها المرير :
-ماكنتش عارفة… ماكنتش عارفة يا عثمان… انا كنت بحاول اكون قوية عشانك.. كنت عارفة لو قولتلك كل حاجة هاتنهار.. حياتنا كلنا هاتنهار مش حياتي انا بس ..
يتراجع "عثمان" بشكلٍ مفاجئ.. خطواته تبتعد عن أمه كما لو كانت الأرض تحت قدميه قد ابتعدت فجأة.. انفجاره الداخلي بدأ يتسلل منه إلى الخارج.. لا يستطيع تحمل ما يسمع أكثر.. و لا ما يفهمه الآن ..
يلتفت بغضبٍ.. و كأن هناك قوة خارقة تجذب صدره إلى الأسفل.. في لحظة فقدان تام للسيطرة.. يركل قطع الأثاث في الغرفة بعنفٍ.. و يتناثر الزجاج من حوله مع صوته الذي يصرخ في أرجاء الغرفة ..
يهدر بوحشيةٍ.. صوته يخرج من جوفه متسارعًا.. كأن عاصفة هوجاء تهز نفسه :
-رفـعــــــــت.. رفـعـــــــــت.. رفـعــــــــــــت.. رفــعـــــــــــــــــــــــــــــــت ...
تسقط "فريال" على ركبتيها.. و يدها تتمسك بالأرض و كأنها تحاول أن تمنع نفسها من السقوط كليًا.. صراخها يمزّق أعماق الغرفة.. لكنها غير قادرة على إيقافه.. صوتها يخنقها و هي تصرخ في وجه عثمان :
-انا آسفة ! انا آسفة يا عثمان ! ماكنتش عايزة كده.. ماكنتش عايزة ده يحصل.. يارتني مت.. يارتني مت قبل ما كل ده يحصل.. ياريتني مت ...
يختنق صوته بغصّاتٍ مريرة في هذه اللحظة.. يتوقف عن تدمير الجناح و هو يتنفس بعنفٍ.. عينيه تملؤهما الغضب و الخذلان.. يصر على أن يستوعب الواقع الذي كان يرفضه.. فيتحطّم قلبه أمام هذه الحقائق الصادمة ..
ينبعث صوته بحشرجةٍ ضاريّة من صدره :
-رفعت.. رفعت مات.. بس صالح.. لسا عايش !!
لا تسمعه "فريال" جيدًا.. إذ كانت في أقصى حالات انهيارها.. فيندفع "عثمان" خارجًا من الغرفة ..
يترك أمه جالسة على الأرض.. تبكي وسط أنقاضها.. عالمها كله قد انهار.. و صوت عثمان الذي لا يزال يصرخ في ذهنها يجعلها تدرك أخيرًا حقيقة الأمور التي خافت من مواجهتها طوال الفترة الماضية ...