رواية في قبضة الشيخ عثمان الفصل السادس6بقلم سمية رشاد



رواية في قبضة الشيخ عثمان
 الفصل السادس6
بقلم سمية رشاد




قابلته بخطوات مترددة ممزوجة بالخجل وهي تتذكر عبارتها التي لا تعلم إلى الآن كيف واتتها الجرأة لتقذفها بوجهه، فلم تكن تتصور بأسوأ أحلامها أن تحدث أحدًا بهذه الطريقة فكيف إن كان هذا الشخص هو ذاته من يجعل الارتباك يغلف قلبها كلما تقابلت نظراته مع خاصتها ولكن ألا يستحق بعدما تواقح معها؟!

ابتسم بقلبه ابتسامة حاول إخفاؤها بكل قوته وهو يعلم سبب خطواتها الخجلة، رفعت أنظارها إليه بتساؤل عن سبب دعوته لها فعبس بنظراته قبل أن يقول ممثلًا عدم رغبته في النظر إليها
- استعدِ للخروج فلدينا نزهة ليلية اليوم كي لا تقولين أني شحيح.

توسعت أعينها على آخرهما وهي تطالعه بصدمة وكأنه قد خرج عن الملة ليضم حاجبيه باندهاش يسألها 
- ماذا حدث أألجمتكِ المفاجأة إلى هذه الدرجة؟

لتنقلب تعابير وجهها إلى الضيق الشديد وهي تجيبه باندفاع
- أحقًا تسأل؟! كيف تكون هكذا؟! كيف ترضى لأهل بيتك الخروج بل وتطلب مني فعل معصية كهذه!

لو كانت النظرات تقتل لكانت نظراته أوقعتها أرضًا في الحال، فهي لم تتهمه بالفساد فقط بل وتحدثه بطريقة لم يحاوره بها والده يومًا، كاد أن يتفوه بما سيندم عليه لاحقًا إلا أنه تمالك أعصابه وكور قبضته بغضب ثم انصرف من أمامها دون أن يقول شيء

شعرت بغضبها يشتعل من هذا المنافق كما تراه الآن فصاحت بعلو
- لماذا تنصرف هكذا دون أن تجيبني.
- حينما تتعلمين التحدث بأدب سأجيبك.

لتتبدل نظراتها في ثانية واحدة إلى الندم الشديد بعد الغضب الذي لم يمر عليه ثواني وكأنها تلبسها الجان، فمن يراها يشعر أنها تعاني من انفصام في الشخصية أو شيء كهذا ولكن المؤكد أنها ليست طبيعية، فكيف يتصرف الإنسان بالضدين معًا في الوقت ذاته؟! ولكن ألا يحق لها بعد كل ما عانته أن تكون هكذا؟ فهي الآن فاقدة الثقة بذاتها وبالمعلومات التي تعلمها من صغرها بل وبوالدها نفسه فكيف يريدها أن تثق به وتكون تبيعًا له بكل ما يأمرها به؟ أليس الخروج محرمًا على النساء إلا في الضرورة القصوى كما أملى عليها والدها كثيرًا فكيف يطلب منها الخروج للتنزه إذا؟!

بغرفة عثمان

جلس على فراشه بهدوء وعقل شارد فيما حدث بالخارج، بالحقيقة هو ليس غاضبًا إلى ذاك الحد الذي أظهره لها ولكنَّه تعمَّد إظهار الغضب إليها كي تتعلم الثقة به، فلا يصح أن تتهمه بالنفاق بكل مرة يعرض عليها شيئًا مخالفًا لأوامر والدها، يرى أن يحاول أولًا وضع الثقة بقلبها كي يستطيع انتزاع الثمرة الضالة من جذورها وغرس أخرى نقية لا يشوبها شائبة

استمع إلى طرقات على باب الغرفة لينهض واقفًا بابتسامة أخبرت عن تفكيره الذي كان يعلم جيدًا أنها ستبادر بصلحه لينفتح الباب على وجهها فأسرعت تقول
- أليس الخروج محرمًا للنساء؟

تنهد بقوة قبل أن يقول بصدر رحب
- كيف يكون محرمًا والنبي كان يخرج برفقة زوجاته ويتسابق معهن ألم تستمعِ إلى سباقه صلى الله عليه وسلم مع السيدة عائشة والألعاب التي كانوا يمضون أوقاتهم بها؟ كثير من الأحاديث وسيرة النبي يوضحون أن النبي كانت زوجاته تخرجن كثيرًا فكيف يكون محرمًا ويفعله النبي صلى الله عليه وسلم؟

لم يصدر عنها سوى تلك النظرة الشاردة  التي ظلت توجهها إليه وهي تقتنع حقًا بكلامه فشقيقها بل وأبيها قد قص عليها الكثير من الأحاديث التي تدعم كلمات عثمان ليقول الآخر بحذر كي لا يشعرها بالضيق أو الانتقاص من شأن والدها
- مارية.. أريدك أن تعلمي شيئًا..الدين ليس بتلك الصعوبة التي ترينه بها بل هو أيسر بكثير مما تظنين.. فما رأيك بأن تسأليني أولًا في أي حكم اشتبه عليكِ وتضعي ما تعلمتِه جانبًا.. فيبدو أن بعض الأمور قد التبست عليكِ.

أنصتت قليلا وكأنها تقلب كلماته بعقلها قبل أن تومأ إليه موافقة ثم قالت بتردد وخجل
- أمازال عرضك بالخروج ساريًا؟ 

أهداها ابتسامة رقيقة قبل أن يوميء برأسه يصطحبها إلى خارج غرفته لتبتسم بحماس شديد وهي تشعر بأنها بحاجة إلى رؤية العالم الخارجي ومراقبة البشر وتصرفاتهم وسرعان ما تبدل حماسها إلى الضيق وهي تقول
- ولكن لا أعلم ماذا علي أن أرتدي حين خروجي فلا أدري كيف أنسق ملابسي وماذا أرتدي.

ليهز رأسه نافيًا لضيقها قبل أن يقول بحنان
- أولا انفضِ غبار الضيق عن وجههك ولا تجعليه يقترب منكِ مرة ثانية فإن عجزتِ عن فعل ما تحتاجين فما أنا سوى مارد لتحقيق ما تريدينه.

ابتسمت على مقولته التي أعجبتها لتراقبه وهو يدلف إلى غرفتهما لتجده يفتح الخزانة من الجهة الأخرى ويخرج منها فستانًا باللون الطوبي مرفقًا بخمار ونقاب من اللون الأسود، ثم انتقل بخفة إلى أحد الأدراج وانتقل منها جورب وقفازات بذات اللون السابق ليقول بابتسامة وهو يضع دبابيس الرأس أمام أعينها
- هذا كل ما ستحتاجينه.. ارتدِ الفستان هذا وأنا سأساعدك في ارتداء الباقي.. أم تريدين أن أساعدك في ارتداء الفستان أيضًا؟

قال كلمته الأخيرة بمكر لتلتهب وجنتيها باحمرار فضحك بخفة قبل أن يذهب خارج الغرفة لتتبعه نظراتها التي تنطق بالشكر وبعض المشاعر التي لا تعرف ماهيتها والتي بدأت في الظهور على يد ذاك الرجل.

بعد دقائق قليلة خرجت إليه بردائها الذي ينزل قليلًا باتساع رقيق فابتسم على هيئتها الخاطفة للأنفاس بذاك اللون الذي لائم بشرتها قليلًا ليقول
- جذَّابة

ابتسمت بخجل ثم قالت
- هل بإمكانك مساعدتي في ارتداء الخمار والنقاب فلا أعلم كيفية ارتدائهما بطريقة مناسبة

-  بالطبع.. على الرحب

خجلت من نظراته التي يرمقها بها ليتضاعف خجلها وهو يقترب منها ليجذبها أمام المرآة ويبدأ في تثبيت الخمار 

كادت تفقد وعيها من تلك المسافة التي تكاد تكون منعدمة بينهما، فهذه المرة الأولى التي يقترب منها رجل إلى هذه الدرجة ليشعر بخجلها ويحاول إنجاز ما بدأ به سريعًا كي لا يزيد من الضغط عليها مخالفًا لفؤاده الذي يئن رغبة في عدم الانتهاء مما يفعل.

التقط نقاب الوجه ليعقده حول رأسها بهدوء إلى أن انتهى فابتعد ليسمح لها بالنظر إلى هيئتها بالمرآة 

زفرت بقوة فور ابتعاده وكأنه كان يقبض على أنفاسها بين يديه ليتجاهل فعلتها وهو ينظر إلى هيئتها بالمرآة قائلًا بإعجاب
-  أخبريني.. كيف يكون لكِ أن تكونِ بكل هذه الفتنة على الرغم من تلحفك بهذه الثياب الساترة، أيليق بالشمس بعد أن تتوارى خلف القمر أن تكون فاتنة؟ أم أنكِ قمر اختبأ بين ظلام الليل فعجز الليل عن احتواءه ليبدو خاطفًا للأنظار  كهيئتك!

لو كان الخجل رصاصات تقتل لكانت بين الأموات الآن ولكنه خجل سمج يأبى الانفكاك عنها بهذه اللحظة وأمام ذاك الذي يتفنن بتعذيبها بكلماته.

ابتعد عنها قليلًا بعدما شعر بقرب نفاذ طاقتها عن التحمل فتوجه خارجًا وهو يقول
- سأكون بانتظارك أمام البيت أرتدي حذائي فذاك الحذاء العصري يجعلني أمضي عدة ساعات بارتداءه أما أنت فأمامك عدة أحذية انتقِ ما يناسبك من أي اللونين الأبيض أو الأسود فكلاهما سيليق برداءك 

أومأت إليه بإيجاب لتنتقل بنظراتها إلى المرآة وسرعان ما ابتهج قلبها بسعادة وعيناها تقع على حسنها، لم تكن تعلم أن هيئتها ستكون بهذا البهاء فهي تذكر المرة التي خرجت بها من بيت أبيها حينما اضطر الآخر للذهاب بها إلى المشفى وحالتها المزرية بل المخيفة التي كانت عليها فإن قارنت بين تلك وهذه فحتمًا لن يكون هناك وجه مقارنة واحد.

انتقلت بأنظارها إلى الأحذية لتقيس أول ما وقعت عينيها عليه فوجدته واسعًا بعض الشيء، ارتدت الآخر الأبيض لتجده مناسبًا لقدمها فابتسمت بسعادة وخرجت إليه وهي تنتظر تعليقه على الحذاء بقدميها كطفل ينتظر ردة فعل والده على شيء جديد فعله للمرة الأولى.

شعرت بالإجباط حينما وجدته لم يلتفت إلى قدميها بل وأمسك يدها اليمنى برفق ونزل بها إلى الأسفل، ظلت صامتة مثله إلى أن اقتربا من إنهاء السلم لتجده يقترب من أذنيها هامسًا
- الحذاء جمَّلته قدماكِ

اتسعت ابتسامتها  من خلف نقابها فشعر بها ولكنه صمت حينما اقترب من والده ليجلسا برفقته عدة دقائق قبل أن يأخذها وهو يعد قلبه سرًا بأنه سيكون يومًا لن ينساه كلاهما.

بعد ساعتان من وجودهما بالخارج جلست مارية أمام عثمان في أحد المطاعم وعيناها لا تكف عن النظر ومطالعة كل ما حولها، ابتسم عثمان لأجل سعادتها بحنان، يشعر أن العالم بأكمله يبتسم إليه عبر ابتسامتها هذه، غرق عقله في تذكر جميع الأحداث التي أبهجت أفئدتهما في الساعتين السابقتين مرورًا بالأرجوحة الصغيرة التي كانا يلتصقان ببعضهما بها من فرط ضيقها فكان يشعر بأنها ستفقد وعيها من فرط خجلها إلى أن وصل عقله إلى المركب الصغير الذي رافقته به وسعادتها وهي تنظر إلى الماء يحاوطهما من جميع الجهات، فاق من شروده على النادل يضع الطعام على مائدتهما بينما الأخرى تراقبه بحماس وعيناها تحدق في كل ما يقدم إليهما بانبهار وبالأخص تلك الحركات التي  يفعلها النادل بمهارة باستخدام النيران كي يجذب انتباه الزبائن إليه.

كل شيء كان يسير بينهما على أكمل وجه بل لو كانت السعادة تتحدث لكانت صرخت بهما ضيقًا من فرط انتهاكهم لها واستعمالها كثيرًا في وقت قليل، فاق عثمان من شروده بذكريات اليوم على صوتها الرقيق الذي ارتفع قليلًا وهي تقول للنادل بخوف 
- انتبه.. ستحترق

لينظر إليها النادل بابتسامة مجاملة أخبرتها أنه يعلم ما يفعل لتتنهد براحة بينما تلك النظرة لم يبتلعها عثمان بل حدجها بغلظة قبل أن يشير للنادل بالانصراف وشفتاه تتحدث بعنف لم تعهده عليه
- انصرف.. مللنا من هذا العرض

ليشعر النادل بالحرج قبل أن يأخذ معداته ويطيع أمره بينما عثمان راوده شعور بالذنب على إحراجه له، فهو يعلم جيدًا أن الآخر ما فعل هذا الأمر إلا لمتطلبات عمله، ولكن أيرغمه العمل أيضًا أن ينظر لامرأته بتلك النظرة التي تشعل النيران بصدره وتعجلها تتشبث بكل ما يشم رائحتها!

- لمَ تحدثت معه بهذه الطريقة الفظَّة؟! أتحسب كسر الخواطر هيِّنًا؟ 

شعر بالغيظ منها وأراد أن يطولها هي الأخرى بعض من روائح غضبه فهي من بادرت وأبدت قلقها على الآخر ولكنَّه منع نفسه بقوة عن فعل ذلك، فهو يعلم جيدًا أنها ما فعلت ذلك إلا بسبب تلقائيتها التي تجعل قلبه يكاد يجن من أجلها 

راودها الشعور بالغيظ منه هي الأخرى بعدما امتنع عن إجابة سؤالها لتشيح بوجهها إلى الجهة الأخرى في إشارة منها لإعلان غضبها.

رمقها بضيق من انتهاء هذا اليوم السعيد بموقف غليظ يقبض على قلوبهما وكأن السعادة انتصرت في التحرر من أسرهما لها.

بدأ في تناول طعامه بهدوء وعيناه تسترق النظرات بين الدقيقة والأخرى إلى أن ملَّ من الانتظار وأضاف بجدية لم يتعمدها.
- تناولِ طعامك.

تعمدت عدم الاستماع إليه بأول الأمر إلى أن جزّ على مقدمة أسنانة وهو يقول بغضب لم يستطع السيطرة عليه هذه المرة
- لن أكررها ثانيًا
شعرت برائحة غضبه تفوح  من بين كلماته فالتفتت إلى طبق الطعام وبدأت في تناوله برغبة منعدمة وهذا الموقف اليسير ذكرها بما كانت تمر به في بيت أبيها فانقلبت شفتيها رغمًا عنها تمهيدًا لبكاء لم تستطع التحكم به.

- ما بالك
قالها بصوت متخوف من أن يكون صمتها لذاك السبب الذي راود عقله فلم تستمع إليه من فرط تفكيرها في كيفية إحجام صوت بكاءها الذي أوشك على الهروب من قبضة حنجرتها.

شعر بقلبه يتمزق بعدما بدأ التيقن من شكه شيئًا فشيء ليقترب بمقعده قليلًا وعيناه تدور حولهما خوفًا من جذب انتباه أحد إليهم ثم التقط كفيها وضغط عليهما بحنان وصل سريعًا بحركته تلك إلى قلبها البارد فأدفئه وكأنه بقبضته لراحتيها قد سكب حنانه بين عروقها.

خرج صوتها خافتًا بعد حركته التي زادت من انفعالها ليمزق بكاءها قلبه ورغبته في احتوائها بين ضلوعه تتزايد كلما استمع أنينها ليقول بصوت شعَّ منه الندم
- أعتذر مارية.. أعتذر حبيبتي.. أقسم لكِ لم أتعمد كل هذا.. فقط كنت أشعر بالغضب منه لغيرتي عليكِ ليس أكثر من ذلك

شعر باستكانتها استجابة لحديثه فتابع مستغلًا صمتها
- أنت تعلمين أنني لم أتعمد أن أقسو عليك ولكن ماذا أفعل بقلبي الذي هاجمني كذئب مفترس غيرة على مالكته.

على الفور تبدلت مشاعرها السلبية التي كانت تسيطر على حواسها إلى أخرى خجلة مرتبكة، ليشعر هو بهدوئها فضغط على أناملها مرة أخرى قبل أن يقول بحنان
- هيا نتناول الطعام.. فأنا أعلم أن معدتك تضوي جوعًا.

حل بينهما الصمت والسكون قليلًا إلى أن ملأ "الشوكة" الخاصة به بقطعة صغيرة من اللحم المشوي وقدمها من رأسها بإحدى يديه بينما اليد الأخرى يساعد بها نفسه في إيصال الطعام إليها من خلف نقابها.

خجل فطري راودها من حركته تلك لتنظر حولها بحياء قبل أن تلتقط ما قدمه إليها وتقول متمتمة
- حسنًا سأتناوله بمفردي

أومأ إليها مبتسمًا لتدور عيناها تبتعد عن مرمى عيناه بحرج من فعلته ومن تلك المشاعر الي يتزايد حجمها بداخلها يومًا بعد يوم.


                    الفصل السابع من هنا

تعليقات