رواية ثمن الصمت
الفصل الاول1
بقلم حنين عقيدات
كان الصمت أثقل من أن يُحتمَل.
تجلس يمنى على حافة سريرها، يداها متشابكتان في حجرها، وعيناها مثبتتان على الفراغ كأنها تبحث فيه عن إجابة لم تُقال بعد. في الخارج، كانت أصوات الضحكات والتهاني تتعالى، والفرح المصطنع يملأ المنزل، لكن قلبها كان يعرف الحقيقة؛ يعرف أن أختها الصغيرة، سلمى، لم تكن تبتسم إلا خوفًا، ولم تكن ترتدي فستانها الأبيض إلا امتثالًا.
مرت يدها على قلبها وكأنها تحاول تهدئة نبضه الهائج، لكنها لم تستطع. نفس المشهد، نفس الألم، يتكرر مرة أخرى أمامها. قبل سنوات، كانت تجلس في المكان نفسه، تسمع التهاني نفسها، لكن العروس حينها كانت والدتها. كانت يمنى صغيرة جدًا لتفهم، لكن نظرات أمها المنكسرة لم تفارق ذاكرتها أبدًا.
اليوم، لم تعد صغيرة. لم تعد غافلة. لكنها لا تزال صامتة.
أحكمت قبضتها على ثوبها وهي تسمع صوت والدها يعلو خارج الغرفة، يطلب من الجميع الاستعداد لمراسم عقد القران. كلماته كانت واضحة، قاطعة، كأنها حكمٌ لا يُرد.
رفعت يمنى رأسها أخيرًا، نظرت إلى وجهها في المرآة، فوجدت عينيها تحملان سؤالًا لم تجد له إجابة: إلى متى؟
نهضت ببطء، وكأنها تخرج من قيد غير مرئي، ثم استدارت نحو الباب. هذه المرة، لن تظل متفرجة. هذه المرة، لن يكون الصمت خيارًا.
وقفت يمنى أمام الباب، تتردد للحظات، تسمع دقات قلبها تتسارع كأنها تحذرها مما هي مقبلة عليه. في الخارج، كان الجميع منشغلين، الزغاريد تعلو، وأصوات التهاني تتداخل مع ضحكات فارغة، لكنها وحدها كانت تسمع أنين سلمى الصامت خلف ابتسامتها المرتجفة.
مدّت يدها إلى المقبض، لكنها لم تحركه بعد. تذكرت كلمات والدتها حين كانت طفلة:
"بعض المعارك لا تكسبها بالقوة، بل بالصبر."
لكنها اليوم لم تعد تؤمن بذلك.
استجمعت أنفاسها، ثم دفعت الباب بقوة. العيون التفتت نحوها فورًا، دهشة مرتسمة على وجوه الجميع، وكأن دخولها المفاجئ كان أكثر غرابة من زواج أختها القسري. والدها، بوقفته الصارمة وهيبته التي لم يجرؤ أحد على كسرها، نظر إليها بعينين ضيقتين، يسأل دون أن ينطق: ماذا تفعلين؟
لكن يمنى لم تهتز.
تقدمت نحو سلمى، أمسكت بيدها الباردة، وشعرت برعشتها الخفيفة. نظرت إلى عريسها، رجل يكبرها بسنوات، لم تجمعهما كلمة من قبل، ولم يكن بحاجة إليها، فالعقد كُتب دون رغبتها، ودون أن يُسأل قلبها.
-"مش هتكملي الجوازة، يا سلمى."
قالتها بهدوء، لكنه هدوء يشبه العاصفة التي تسبق الدمار.
همسات تعالت في المكان، والدها خطا نحوها ببطء، صوته جاء خافتًا لكنه محمل بالغضب المكبوت:
-"انطقي.. إيه اللي بتقولي ده؟"
نظرت إليه يمنى، للمرة الأولى دون خوف، وقالت بصوت ثابت:
-"بقول إن الجوازة دي مش هتتم، وإنكم مش هتدمروا حياة أختي زي ما دمرتوا حياة أمي."
كان الصمت الذي تلا كلماتها مختلفًا. لم يكن الصمت الثقيل الذي عاشته طوال حياتها، بل كان صمت الصدمة، صمت الحقيقة التي قيلت أخيرًا، دون خوف.
ساد الصمت لثوانٍ، لكنه لم يكن صمت استسلام، بل صمت أشبه بهدنة تسبق العاصفة. العيون كلها معلقة بيمنى، بعضها مصدوم، وبعضها مستنكر، بينما كان والدها يحدق بها بوجه جامد، كأن كلماته تتشكل بداخله قبل أن يلقي بها عليها كرصاصة قاتلة.
-"إنتِ اتجننتي؟" قالها بصوت منخفض، لكنه كان أكثر رعبًا من الصراخ.
نظرت إليه يمنى بثبات، يدها لا تزال ممسكة بيد سلمى، التي بدأت دموعها تتجمع في عينيها، لكنها لم تقل شيئًا. كانت دائمًا الأضعف، الأهدأ، الأسهل للانقياد. أما يمنى، فكانت المشكلة، وكانت تعرف ذلك.
-"أنا عقلي في راسي، وعارفة أنا بقول إيه،" قالت بصوت واضح، ثم التفتت إلى الحضور، إلى العريس الذي بدا متفاجئًا لكنه لم يبدُ مكترثًا حقًا، وكأن الأمر كله لا يعنيه بقدر ما يعني إنهاء هذه المراسم بأي شكل.
-"حد سألكِ انتي عارفة إيه؟!" جاء صوت والدها هذه المرة أقوى، عيناه تلمعان بالغضب، لكن يمنى لم تتراجع.
-"محدش محتاج يسألني، لأن الحق واضح،" قالت وهي تشد على يد سلمى، كأنها تنقل إليها قوة كانت تحتاجها، "سلمى مش عايزة الجوازة دي، وأنا مش هسمح إنها تتكرر."
تحركت والدتها أخيرًا، كانت تقف في زاوية الغرفة، ملامحها متوترة، كأنها عالقة بين خوفها من المواجهة وخوفها على ابنتها. نظرت إلى سلمى، التي كانت دموعها قد بدأت تنهمر بصمت، ثم إلى زوجها، ثم أخيرًا إلى يمنى.
-"يا بنتي... اسكتي، الموضوع خلص خلاص..." جاء صوتها مهزوزًا، محاولة أخيرة لإخماد النار قبل أن تشتعل أكثر.
لكن يمنى أدركت أن النار قد اشتعلت بالفعل.
-"لأ، مخلصش،" قالت بحزم، ثم استدارت نحو سلمى، "إنتِ مش عايزة تتجوزيه، صح؟"
ارتجفت شفتا سلمى، نظرت إلى الجميع بعيون غارقة بالدموع، كأنها تبحث عن ملجأ، عن مخرج، ثم أخيرًا همست بصوت بالكاد سُمع:
-"مش عايزة."
كانت كلمتان فقط، لكنهما كانتا كافيتين لتشعل القاعة كلها.
