رواية أنين القلوب الفصل التاسع والعشرون29 بقلم داليا السيد

 

رواية أنين القلوب الفصل التاسع والعشرون بقلم داليا السيد



 
جي
اطمأنت أنه سيخرج براءة فأغمضت عيونها ثم ابتعدت لخارج المحكمة بعدما تركت خطابها مع المحامي، لن تعود لقد انتهى عملها وأدت وعدها، عادت إلى وائل الذي نظر إليها وقال "انتهت المهمة؟" 
هزت رأسها بلا اهتمام بقلبها المتألم وقالت "نعم أريد عمل كما وعدتني" 
كان مندهش من إصرارها وقال "بعد الولادة جي لن تتحملي الآن" 
قالت بإصرار "بل ستدهشك قدرة تحملي فلم أعد جي الضعيفة التي عرفتها، لقد تغيرت كثيرا مؤخرا وأصبحت امرأة أخرى" 
حدق بها بنظرات قلقة ولكنها لم تهتم وسمعته يقول "لا أظن، تلك هي نفس النظرة البريئة التي عرفتها ولم تتغير، ربما الحزن أحاطها ولكن ما زال الحب يلفها" 
أبعدت عيونها وقالت "دكتور أرجوك أنا أريد العمل ولا أريد أي حديث عن الماضي فأنا قررت وضعه خلف ظهري"
هز رأسه وقال "مدام رضوى سيدة عجوز مريضة سرطان طلبت ممرضة خاصة لتقيم معها بأسوان من عائلة كبيرة هناك، عاشت هنا سنوات طويلة والآن تريد أن تعود لبلدها لتمضي بها ما تبقى لها من عمر هل توافقي؟" 
بالتأكيد توافق فهي فرصتها التي تنتظرها، هزت رأسها وقالت "نعم خذني لها، الحقائب بالتاكسي" 
كانت رضوى امرأة مسنة أحاطها الإيمان بنور جميل يريح النفس، أحبتها جي كعادتها فهي ما زالت نفس الفتاة التي تصدق كل الناس وتساعد كل الناس، سافرت معها إلى أسوان ورغم مشقة السفر إلا أنها تحملت وعرفت المرأة بحملها وسعدت كثيرا بها وأحاطتها بما تبقى لديها من حب وحنان 
"صباح الخير، أراك مبتسمة اليوم" 
كانت جي توجه كلماتها لرضوى التي كانت تواجها بوجه مشرق وهي تقول "رأيت زوجي بالمنام وكان يبتسم لي ويخبرني أنك ستنجبين ولد اسمه أحمد" 
تراجعت وهي سعيدة وقالت "أحمد!؟ اسم جميل حقا" 
نظرات الم كانت تعني الكثير وهي تسألها "كنتِ تريدين فتاة؟" 
زالت البسمة من على وجهها للذكرى المؤلمة وقالت رضوى "جي ماذا تخفين؟" 
أخفت عيونها بعيدا عن رضوى وقالت "لا شيء، أنتِ تعرفين كل شيء ولكن هو تمنى فتاة وأنا تمنيتها من أجله" 
ربتت على يدها بحنان وقالت "ما زلتِ تحبينه؟" 
هزت رأسها بالإيجاب فمهما طال الوقت ومضت الأيام، حبه يسكن قلبها ولا يفارقه، أكملت رضوى "لم العذاب والبعاد إذن؟" 
نعم لم العذاب الذي تعيشه بفراقه؟ هي التي اختارت ومع ذلك لم تتراجع، ليس بيدها، عقلها الآن هو المسيطر وهي تستسلم له فقالت "أهون من قربه الذي يؤلمني" 
قالت "لماذا يا ابنتي؟ بالنهاية لابد أن تغفري من أجل ابنك" 
شردت بنظراتها بعيدا، لكل ما كان بينهما من حزن وفرح، ألم وسعادة فأغمضت عيونها لحظة ثم فتحتها وقالت "حتى لو غفرت، لن أعود ومن أجل ابني أيضا كي لا يأتي يوم يسمع والده وهو يعايرني كل مرة بأني ممرضة ابنة السائق، جاسر لن ينسى وأنا لن أغفر" 
لم توافقها رضوى وهي تقول "لا أظن أن بعد ما حدث له سيظل على ما كان، لابد أن تغيره الأحداث والشدائد، عودي له وامنحيه فرصة" 
قالت بألم وهي تذكر مواقفهم معا "فعلت مرة وهو جعلني أندم لذا لا أستطيع تكرار الغفران، لقد فات الأوان، من فضلك انهى الموضوع إذا كنتِ لا تريديني يمكنني أن أذهب و.." 
قاطعتها المرأة "هل أنت مجنونة؟ بالطبع أريدك، أنا لم يعد لي سواكِ، حسنا لن أتحدث بالأمر مرة اخرى طالما يضايقك، لكن لا تذهبي" هزت رأسها 
عرفت من الجرائد بزواج لي لي وتابعت الأمر واستأذنت في السفر حاولت بكل الطرق إخفاء بطنها التي ظهرت عليها معالم الحمل واستمرت حتى رأت الحفل ورأت لي لي، كانت تبكي من سعادتها بها ورأته من خلف الأشجار 
تغيرت ملامحه قليلا بسبب الحزن الذي يكسو عيونه ولكن ما زال على وسامته وأناقته التي أخذت قلبها، كم اشتاقت إليه وإلى أحضانه؟ تحرك جنينها وكأنه يخبرها بوجوده 
نظرت لبطنها ومررت يدها عليها بحنان وقالت "نعم هو والدك حبيبي لم ولن أحب سواه، سامحني لأني حرمتك منه" 
استدار جاسر تجاهها ولكنها كانت قد اختفت ورحلت قبل أن يصل لمكانها ويستنشق عطرها  
ومرت الأيام ووضعت ابنها أحمد الذي نطقت ملامحه بملاح والده من أول يوم، فرحت رضوى جدا بأحمد الصغير فهي لم ترزق بأولاد من الأساس فارتبطت به جدا ولم تعد تستغنى عنه ولا عن وجوده 
ظلت جي مع رضوى وصحيح أنها كانت تنبض بالألم ولكن إيمانها كان أقوى وأفعال الخير التي تؤديها أكثر من أنفاسها وأعادت لجي نفسها الطيبة ونست ندى وقسوتها معها ولم تعد تفكر إلا في أحمد ورضوى ورغم أنها تعرفت على الكثير من الشخصيات الهامة في المدينة النائية إلا أنها كانت تتحرك في إطار أنها ممرضة رغم أن رضوى لم تعد تعتبرها كذلك بل مثل ابنتها التي لم ترزق بها وشاركت مع أهل المدينة في كثير من المناسبات والأعياد والمجاملات 
"يوسف عبادي اتصل وسيأتي اليوم" 
نظرت جي لرضوى وردت "وماذا؟" 
كانت تعلم أنه رجل أعمال معروف بالمدينة، كان يعتبر نفسه صديق لزوج رضوى رغم فارق السن ومنذ أن رأى جي حتى أصبح أكثر قربا منهم أو منها بالأخص
قالت رضوى "لقد تحدث معي مرة أخرى عنكِ" 
حاولت إخفاء نظراتها بعيدا وقالت "وأنا أخبرت حضرتك قراري؛ أنا لن أتزوج سأعيش لابني فقط، من فضلك أخبريه" 
سمعته يقول "ولم لا نعيش سويا له" 
رحلت عيونها له وتأملته؛ شاب في نفس عمر جاسر ولكن أين هو من وسامة جاسر، قوامه، رجولته أو شخصيته، نهضت وقالت "أهلا يوسف بيه تفضل" 
حدق فيها بعيونه السوداء والتي دائما كانت تحمل الإعجاب بل والحب الذي تدركه لكن لا يمكنها أن تبادله إياه، قال "تهربين أم ماذا؟" 
أخفضت عيونها وقالت بأدب "لم أعتاد على الهروب، أنا أمامك ولم أذهب لأي مكان" 
قالت رضوى لتهدأ من حدة الموقف "تفضل يوسف، اجلس هنا بجواري" 
ظلت عيونه عالقة بجي للحظة ثم أبعدها لرضوى وقال "ماما رضوى كيف حالك اليوم؟" 
ابتسمت له رضوى بصدق فهي حقا تحبه، قالت "الحمد لله" 
عاد إليها وقال "جي هل أخبرتك ماما رضوى بطلبي؟" 
هزت رأسها بالموافقة وقالت "نعم وأعتقد أن حضرتك سمعت ردي" 
تحرك ووقف أمامها وقال "سيكون أحمد ابني وسأكون والده أعدك بذلك فقط وافقي جي، أنا معجب بكِ وأريدك زوجة لي، من فضلك فكري جيدا" 
ابتعدت وقالت "لا داعي للتفكير لأنه لن يغير قراري، أنا لا أفكر بالزواج" 
لم يتراجع ونظراته مليئة بالرجاء وقال "هل هناك رجل آخر؟" 
نظرت بغضب وقالت "يوسف بيه أنا لا أسمح لك" 
أسرع يقول "إذن لماذا الرفض؟" 
اختنقت الكلمات بجوفها وتألم قلبها لأنه مغلق على حب واحد، حب حياتها كلها ولن يكون هناك سواه، تماسكت وقالت وهي تزيد البعد "لأنني لا أريد، اكتفيت بما عشت ولا أريد إلا ابني فقط فمن فضلك لا تضغط عليّ أكثر من ذلك" 
أخفض رأسه وقال "حسنا ولكن أنا لن ايأس سأظل على أمل أن يلين قلبك" 
نظراتها له كانت فارغة بلا أي معاني ولم تعد ترغب بأي حديث بذلك الأمر ومع ذلك احتفظت بما داخلها وقالت "ماذا تحب أن تتناول؟" 
ادرك أنها تغير الموضوع فاستسلم واتجه لرضوى وجلس أمامها وقال "لا شيء تعالى اجلسي كي نتحدث عن المشفى"
ومرت سنة على أحمد وبعد عيد ميلاده الأول كانت رضوى تودع الحياة بين يدي جي وقالت "جي آن الأوان لأن أذهب" 
قالت بحزن ودموع على المرأة التي أحبتها وعلى والدها وكاظم "أنتِ أيضا ستتركينني مثلهم؟" 
قالت المرأة بألم "تمنيت ألا أفعل ولكن ليس بيدي، لقد انتهى الأجل، اسمعيني جيد يا ابنتي؛ تعلمين أن ليس لي أحد، أنتِ أصبحت كل من لي أنتِ وأحمد لذا أنا تركت له كل ما أملك كتبته باسمك لن أطلب منكِ أن تعودي لزوجك أو توافقي على يوسف ولكن عودي للحياة ولا تتركيها أنتِ أقوى من أن تهربي أكثر من ذلك، عودي وابدئي من جديد أريدك أن تكملي المشفى الذي يشارك فيه يوسف وتخصصي فيه قسم لعلاج الفقراء بالمجان باسمي، أنا اتفقت معه على ذلك وباقي المشفى للأغنياء لتنفقي من هذا على ذاك، عديني أن تفعلي يا جي، عديني" 
بالطبع هزت رأسها موافقة من بين الدموع وقالت "بالطبع أعدك كما وعدت عمي كاظم من قبل" 
ورحلت المرأة تاركة لها ذكريات قليلة ولكنها جميلة ومؤلمة في ذات الوقت... 
أقامت المشفى التي طلبتها رضوى مع يوسف الذي اعتبرها فرصة ليتقرب بها منها ولكنها أوقفت كل محاولاته وربما أدرك في النهاية أن قلبها مشغول بسواه ولكنه لم ينجح في اكتشاف ذلك الرجل الذي ملك مشاعرها وكيانها كله وإنما خمن أنه ربما يكون والد أحمد إلى أن حكت له في النهاية وتأكد من حبها لجاسر ففقد الأمل في أن ينال قلبها واكتفى بأن يكونا أصدقاء ..
انطلق معها في إقامة المشفى وانشاء قسم المجان وترك لها إدارة كل شيء لما رآه بها من ذكائها وحسن إدارتها وربما إدارتها لأملاك جاسر تلك الفترة جعلها تتعلم فتولت هي كل شيء واختارت لقسم المجان أجهزة أفضل من أي مشفى خاص وافتتحته وأخذتها الأيام واستسلم يوسف للصداقة التي كانت تمنحه وجودها في حياته ولم يعد يأتي كثيرا لانشغاله بالسياسة فهو مندوب بالبرلمان في أسوان فكان يتابعها بالتليفون وكلما اشتاق إليها يأتي ليراها بحجة متابعة العمل 
مر الزمن سنة واثنان وأصبحت المشفى اثنان وفي الجديدة نفس القسم المجان وباسم رضوى أيضا وأصبح اسمها بين الجميع كالجوهرة في طيبتها وأخلاقها مع الجميع سواء العاملين أو المرضى أو الاطباء 
"مدام جولي المعدات الجديدة وصلت ألن تلقي عليها نظرة؟" 
لفت وجهها للموظف الإداري الذي يتحدث معها وقالت "بلى سأراها ولكن هل طلبت دكتور سعد لأمير الصغير؟" 
أجاب الرجل باحترام "نعم يا فندم وهو بالطريق" 
قالت "تمام هيا دعنا نذهب و.." 
فجأة سمعت صراخ امرأة تدخل المشفى على السرير المتنقل فقالت "ما هذا؟" 
قال الدكتور الذي كان يقف بجوارها منتظرا إياها "أعتقد أنها حالة ولادة" 
ولكن ما أن اقترب رجال الإسعاف حتى رأت لي لي فانقبض قلبها وانطلق شلال الذكريات وانفتح باب الألم وحاولت الذكريات إيقافها ولكنها لم تهتم وانطلقت إليها، ما زالت الصديقة الوحيدة لها والأخت التي لم تنالها، لن تتركها فهي أختها ولم تفكر أن جاسر ربما يكون معها .. 
انطلق إلى المطار وركب الطائرة وقلبه ينبض بالخوف على أخته فهي ابنته وعائلته كلها، تذكر عندما أخبرته أنها حامل وكم كانت سعيدة لأنها كانت تنتظر سنتان إلى أن شاء الله وقتها تذكر هو الآخر عندما عرف أن جي حامل، وقتها لم يعرف ماذا يقول أو يفعل 
كاد يطير من الفرحة والسعادة ولكن زالت الفرحة وانقضت السعادة، ترى أين هي؟ وما هو مصير طفلهم؟ إذا كانت قد أنجبته فهو الآن في الثانية أو ربما سنتان ونصف أو ثلاثة لم يعد يعلم ولم يعد يعد الأيام، ليته يراها ويضمها لأحضانه، مهما مرت الأيام ما زال حبها يسكن قلبه لم يقل قيراط واحد ولكن إلى متى سيظل الحلم حلم دون أن يتحول لواقع 
وصل إلى المشفى بأقصى قوة وأخبره الاستقبال بمكانها فأسرع إلى المصعد وما أن فتح بابه حتى اندفع خارجا منه بكل قوة دون أن يهتم بمن أمامه فاصطدم بجسد واستدار ليرى بمن اصطدم وتوقف وتوقفت واختفى الجميع من حولهم والتقت العيون وتعالت الأنفاس وتساقطت الذكريات وتعالت صيحات القلوب فرحة باللقاء... 


تعليقات



<>