رواية انت عمري الفصل الاول1 بقلم امل مصطفي


 رواية انت عمري الفصل الاول1 بقلم امل مصطفي 

في أحد الأحياء الشعبية المتوسطة، تقف فتاة جميلة، رقيقة القلب والروح، تطرق باب المنزل بمرح وهي تدندن.


بحب، فُتح الباب، وقابلتها فتون ببسمة واسعة ارتسمت على ملامحها التي غزتها معالم الشيخوخة عندما علمت هوية الطارق، ليهفُ قلبها قبل أقدامها نحو الباب، تردّ روحها بتصرفات تلك الشقية التي أطلت عليها بوجهها الصبوح الذي يزيل الهم وينعش القلب.


– صباح الورد يا فتون.


ضمّتها الأخيرة بقلب أم وهي تقبّل وجنتها:


– صباح الفل والياسمين على عيون حبيبتي.


بحثت عشق بعينها في المكان وهي تسألها:


– فين بابا ناجي؟


أشارت لها فتون:


– جوه في البلكونة، رفض ياكل من غيرك.


دخلت عشق بابتسامة:


– قلب القلب أنت يا ناجي.


قابلها ناجي بفرحة وترحاب:


– أنتِ القلب والروح يا عشق، ربنا ما يحرمنيش أبداً من دخلتك علينا.


جلست بينهم، وهي ترفع قطعة من الخبز تضعها في طبق الفول أمامها، ثم ترفعها وتضعها في فم فتون وهي تردف:


– ولا يحرمني منكم أبداً يا بابا.


ابتلعت فتون ما في فمها وهي تسألها بقلق:


– برضه رايحة الشغل عنده؟ أنا قلبي مش مطمئن.


كست ملامح عشق الحيرة، وهي تردف وفي داخلها نفس الخوف:


– طب أعمل إيه يا ماما؟ قوليلي. أنا محتاجة مصاريف، وهو الوحيد اللي مرتبه كويس.


نظر ناجي لفتون بحزن، لأنهم يقلقون عليها من تواجدها مع شخص مثل أمير. زاد قلقهم عندما أبلغتهم أكثر من مرة أنها لا تشعر بالارتياح من تصرفاته معها، لكنها دائماً تتصدى له بحدة.


وليس بيدهم حيلة لإنقاذها من بين براثن هذا المستهتر إذا تجاوز حدوده معها، فهم كبار في السن، ومعاشهم بالكاد يكفي الشهر، وإلا لما تركوها تعمل مع ذئب بشري مثل هذا الأمير، وهو اسم على غير مسمى.


فاق على تنهيدة عشق، وهي تسترجع ابتسامتها حتى تخفف عنهم:


– لو حصل منه أي تجاوز تاني، أنا هسيب الشغل من غير تردد، بس عايزاكم دايماً تدعولي، هو ده المهم... دعاؤكم ليا بحسّه زي البلورة السحرية.


---


في مكان راقٍ، في مكتب الأمير، يجلس في كرسيه مثل شيطان يخطط كيف يوقع بها. وهي الوحيدة التي طال تمردها، رغم ضعفها الذي يراه بعيونها، لكنها عفيفة لدرجة الاختناق، مما زاده إصراراً على الفوز بها بطريقة شريرة.


ولم يهدهِ ربه للفوز بها بطريق الحلال، وهو مقتدر، ليغرق أكثر في سيئاته.


أخيراً، ابتسم وهو ينادي على أحد رجاله، الذي فتح الباب بسرعة وهو يتحدث باحترام:


– تحت أمر سيادتك.


– اتصللي بعشق ضروري، ووصّل المكالمة لمكتبي.


– أوامر سعادتك.


---


وصلت عشق المكتب، وهي تقرأ الآيات القرآنية في سرّها كما أوصتها فاتن.


دخلت مكتبها تبحث عن الملف الذي طلبه، في وقت غير مناسب، تشعر أقدامها ثقيلة من الرعب لكنها لم تُظهر ذلك، حتى لا يستغل ضعفها. فهي تعرفه، لا يملك مشاعر، بل يمتلك حجراً بين أضلعه، لكن الحاجة التي ألقت بها على طريقه...


لم تجد الملف في مكانه، تعجبت بشدة، فهي تتذكر أين وضعته جيداً.


توجهت نحو باب مكتبه، طرقته بهدوء حتى أذن لها بالدخول.


تحدثت بصوت منخفض:


– مساء الخير، باشمهندس أمير.


أردف ببرود، وهو ينظر للشاشة أمامه دون أن يعيرها اهتماماً:


– مساء النور، فين الملف؟


فركت يدها بتوتر، وهي تردف:


– أنا كنت حطاه في الرف التاني بمكتبي، بس حالياً مش موجود.


وقف بغضب، وهو يتحدث بصوت مرتفع، جعلها تأخذ خطوة للخلف:


– إنتِ بتستعبطي؟ ملف صفقة مهم زي دي بملايين، مش عارفة هو فين؟


غشيت الدموع عيني عشق من الخوف أن يزج بها في السجن:


– والله أنا برتب كل حاجة في مكانها، وأنا روّحت ومتأكدة من كل حاجة، بس هدور تاني، يمكن أنا ماخدتش بالي... أصل حضرتك صحيتني وجبتني على ملا وشي.


اقترب منها بخطوات مدروسة بثّت الرعب في قلبها، وهو يمرر عيونه فوقها بطريقة جعلت جسدها يقشعر.


تحولت لهجته من العصبية للين، وهو يردف:


– أنا غبي؟ حد يفزع ملاك زيك من النوم؟ اللي زيك يصحى بطريقة جميلة وناعمة زيك كده...


كان يتحدث وهو يقترب منها، وهي تعود للخلف، وضربات قلبها في تزايد مستمر، حتى وجدت نفسها بينه وبين مكتبه، حاولت الابتعاد لكنه حاصرها، وهو يقترب منها وأنفاسه الكريهة تلفح وجهها. أغمضت بعينها باشمئزاز.


اتسعت عيناها عندما هتف:


– مش عايزك تخافي، أنا هدلعك، بس إنتِ حنّي... والملف موجود.


رفع إحدى يديه يمررها فوقها، لكنها حملت التمثال النحاسي القابع فوق مكتبه، وضربته فجأة على رأسه بقوة لا تعلم من أين أتتها، ثم خرجت من باب المكتب بسرعة قبل أن يراها رجاله.


---


تركض بفزع، وهي تتلفت حولها بحثاً عن أي شخص يمد لها يد المساعدة!


وجدت نفسها فجأة أمام سيارة مسرعة، خرجت منها صرخة مرعبة، وهي تغمض عينها وتنطق الشهادة...


سمعت فرامل قوية وصدمة خفيفة أوقعتها، وهي تتألم من قدمها!


بينما أدهم يجلس في السيارة يتابع أعماله على اللابتوب، عندما توقفت السيارة فجأة!


رفع عينيه عن الجهاز، وهو يسأل أحد رجاله:


– في إيه يا هاني؟


رد هاني باعتذار:


– آسف يا باشا، في بنت ظهرت فجأة قدام عربية خالد.


سأله باهتمام:


– حصلها حاجة؟


فتح باب السيارة حتى يلقي نظرة، وهو يرد بعدم معرفة شكل الإصابة:


– خبطة بسيطة، هنزل أطمن عليها.


نزل خالد وهاني، وكان صوت هاني الأسرع عندما سألها وهو يقترب منها:


– إنتِ كويسة؟


كانت تمسد قدمها وهي تبكي في صمت، لترد على سؤاله:


– رجلي بتوجعني.


نزل أدهم يسأل هاني:


– هي كويسة؟


التف حوله جميع رجاله بشكل دائرة خوفاً عليه، بأن يكون ما حدث مجرد كمين لسيدهم.


اعتدل هاني باحترام، وهو يرد:


– شكلها إصابة خفيفة يا باشا، ممكن حضرتك ترجع العربية وخالد يتصرف...


تحدث أدهم، وهو يستعد للركوب مرة أخرى:


– هاتها العربية ووديها مستشفى في طريقنا نطمئن عليها.


انصاع هاني لأوامره، واقترب منها لكي يحملها!


هتفت برفض عندما وجدته يقترب منها:


– لا لا أرجوك، ما تلمسنيش، أنا هقف لوحدي.


توقف أدهم من نبرة الخوف في صوتها، وألقى عليها نظرة أخرى، وجدها تتألم وهي تحاول الوقوف.


استغرب موقفها، ولماذا لا تريد أن يساعدها؟ فضوله جعله يوجّه كلماته إليها:


– إنتِ بتتألمي، ما فيش حاجة لو حد منهم رفعك لحد العربية؟


رفعت وجهها بغضب حتى تعنّفه من رؤيته أن حَمل غريب لها شيء هين، لكن غضبها تلاشى، وتوقف كل شيء حولها عندما طالعت ملامحه...


(هنعرف بعدين سبب تأملها له، وده ضد تربيتها وأخلاقها.)


صمتت وظلت تتأمل معالمه بلا وعي، قطع تأملها صوته وهو يتحدث بحدة:


– يلا، مش هنقضي اليوم هنا؟


أخفضت رأسها من حدته معها، وسندت على السيارة، وهي تتمتم:


– مالوش لزوم، أنا كويسة، وبعدين أنا الغلطانة لأني كنت بجري من غير ما أبص قدامي!


بدأت تتحرك بتعب، سمعت صوتاً تكرهه بشدة:


– البنت هناك أهي، يلا نجيبها؟


شعرت بالخوف، تركت جميع الحضور، وتحركت دون وعي خلف أدهم فقط، تحتمي بجسده منهم.


لم يعلّق.


بينما توجه رجاله بأجسادهم نحو الصوت، بعد أن كادوا يركبوا السيارات، صنعوا دائرة حول سيدهم.


تحدث هاني بقوة:


– أنتم مين وعايزين إيه؟


أشار أحد الرجال إلى عشق، وهو يردف:


– إحنا عايزين البنت دي!


طريقتهم لم تعجب هاني، الذي تحدث بغضب:


– إحنا مش عاجبينك؟


ارتفعت أمامهم أكثر من ثمانية أسلحة، وتحدث أحدهم بخوف:


– أصلها سرقت الباشا بتاعنا! وعايزين نسلمها للبوليس...


خرجت عشق برأسها من خلف أدهم:


– إنت كداب! أنا مش حرامية، الباشا بتاعك هو الزبالة، وإنتم عارفين...


هتف أدهم، وهو يوجه لها نظرة:


– طب ليه خارجة في وقت متأخر لوحدك؟ وتجري بالطريقة اللي كانت هتضيع عمرك؟


ردت بدموع، خوفاً من أن يسلمها لهم:


– أنا شغالة سكرتيرة عنده، وهو اتصل بيا بحجة إنه مش لاقي ملف محتاجه ضروري في مناقصة بكرة ولازم يتراجع النهاردة.

لما اعتذرت لأن الوقت متأخر، هدّدني بالفصل، وأنا محتاجة الشغل ده، فجيت أجيب الملف.

طلع شخص مش كويس، ومش عايز الملف ولا حاجة، كان بيضحك عليّا عشان... عشان!


فهم أدهم ما تقصده، لكنه حثّها على إكمال كلامها:


– وبعدين إيه حصل؟


– ضربته بتمثال... وجريت! ولو حضرتك مش مصدق، ممكن تيجي معايا تشوف دماغه المفتوحة!


يعلم جيداً خبث الحريم عندما يردن الوصول لرجل، لكنه لن يتركها حتى يتأكد من صدق كلماتها، لذلك:


تحدث بتهديد لهؤلاء الرجال:


– ترجعوا شغلكم على رجليكم، ولا تحبوا ترجعوا على نقالة؟


نظر الرجال لبعضهم، ثم انسحبوا في صمت

********

---


عند أمير


وقف جوار الطبيب الذي يضمد جرحه، وعندما دخل عليه رجاله دونها، صرخ عليهم بغضب وهو يبعد الطبيب عنه بعنف، وسأل رجاله عن مكان تواجدها، وزاد غضبه عندما صرح أحدهم بعدم مقدرتهم على الرجوع بها.


– يعني إيه معرفتوش تجيبوها؟ هي ملحقتش تبعد!


لكن ردّ أحد رجاله كان له صدمة، عندما أردف بتلعثم:


– إحنا شوفناها بس ماقدرناش نجبها!!


صرخ أمير بغضب جحيمي:


– حتة بنت مش قادرين عليها؟ ليه مشغل معايا شوية بهايم؟؟


نظر رجاله لبعضهم، وتحدث كبيرهم:


– لا يا باشا، كان معاها ٣ عربيات مليانة بودي جارد ومسلحين، ورفضوا ناخذها...


تمتم لنفسه بصوت مسموع:


– دول مين؟ وإيه علاقتها بيهم؟!


رفع عينه لرجاله وتحدث بأمر:


– روحوا استنوا عند البيت، البنت دي لازم تكون عندي... ما عاش ولا كان اللي تمد إيدها عليا!!


---


عند عشق


رفعت عيونها عندما سمعت صوت أدهم وهو يعرض عليها أن يقوم بتوصيلها:


– تحبي أوصلك؟


نظرت له بتوتر:


– لا، شكرًا... أنا هركب تاكسي.


ردّ عليها بلا مبالاة:


– براحتك، ثم وجّه كلماته لحارسه:


– هاني، وقف لها تاكسي.


أوقف لها تاكسي. رجعت عشق على استحياء إلى أدهم، وانحنت على شباك سيارته:


– أحمم... هو ينفع حضرتك تمشي ورايا لحد ما أوصل البيت؟ خايفة يكون حد هناك...


نادى بصوت قوي:


– خالد!


رد خالد باحترام:


– أوامرك يا باشا.


طلب منه أن يتبع التاكسي بسيارته حتى يطمئن على سلامتها:


– اتبع التاكسي لحد ما توصل.


– أوامرك يا باشا.


تحركت أمام خالد، وركبت التاكسي الذي تحرك بها حتى وصل أمام حي شعبي. نزلت عشق وصعدت إلى شقتها...


ظل خالد ينتظر حتى تصعد، وعندما اختفت من أمام ناظره دار بسيارته ليغادر، لكنه توقف فجأة عندما رأى انعكاس صورتها في مرآة السيارة، وهي تركض خارج المنزل وتتوارى خلف الحائط. نزل بعدها ثلاثة رجال يقفون تحت المنزل...


قام بالاتصال على أدهم الذي رد بسرعة:


– خير يا خالد؟


– أنا وصلت البنت لحد البيت وتأكدت إنها طلعت، وأنا ماشي شُفتها نازلة تجري وبتتداري خلف البيت، ونزل بعدها تلات رجال، وقفوا تحت البيت، شكلهم ما شافوهاش وبيستنّوها...


أتاه صوت سيده الحازم:


– طيب، هاتها الفيلا.


توتر خالد من مجادلة سيده، لكنه مضطر:


– بس يا باشا... البنت شكلها مش سهل توافق إنها تمشي معايا.


أتاه صوت أدهم بالأمر:


– اتصرف... أهم حاجة ماحدش يقدر يلمسها!!


نزل خالد، والتف حول المنزل، سمعها وهي تحدث نفسها:


– يظهر إن هبات النهارده في الشارع؟!


انتفضت بفزع من صوته الرجولي خلفها، وهو يردف:


– وأنا مرضاش أسيبك في الشارع!!


شهقت عشق بفزع:


– إنت مين؟!


– أنا خالد، اللي كنت مع الباشا... هو طلب مني آخدك على الفيلا عنده.


رفعت حاجبها باستهجان وهي ما زالت تحدث نفسها بغلب:


– أعمل إيه يا رب؟! أخلص من عفريت، يطلعلي جني...


ضحك على عبسها الطفولي وقال:


– متخافيش... الباشا بتاعنا محترم، وما بيعملش حاجة تغضب ربنا!!


نظرت له كأنها تريد التأكد من صدق كلماته، عندما تحدثت:


– لما هو محترم، إزاي يقبل يدخل بيته واحدة غريبة وهو عايش لوحده؟!


– الباشا مش عايش لوحده... معاه والدته.


عشق بسعادة:


– بجد؟! طب احلف كده!!


ابتسم لها مطمئنًا:


– والله...


تحدثت ببراءة:


– أنا هاعتبرك أخ ليا وأصدقك، بس لو حصلي حاجة، مش مسامحاك وهاشتكي لربنا؟!


ابتسم لها بحنان:


– أولًا، أنا يشرفني إنك تكوني أختي... ثانيًا، متخافيش من الباشا بتاعنا، مش ممكن يأذيكي!!


تحركت جواره، وهو يحدث نفسه:


– معقول لسه في بنات بالبراءة دي؟! أنا اتعقدت من اللي شوفته...


---

---


في فيلا أدهم


صعد إلى غرفة والدته وطرق على الباب بأدب، ثم دلف إلى الداخل. وجدها تجلس وفي يدها كتاب.


– مساء الخير يا أمي، ممكن تنزلي معايا شوية؟


ردّت باستفهام:


– خير يا حبيبي؟


– أصل في بنت كانت في مشكلة، وجبتها معايا لحد ما أخلص لها مشكلتها، وكنت حابب تكوني موجودة لما تيجي عشان تبقي مطمئنة...


ثم أكمل بتوضيح:


– هتقعد معانا يومين بس!!


لم تصدق غادة أذنها، ابنها سوف يأتي ببنت إلى منزله، ذلك المنزل الذي حرّمه على كل جنس حواء! حتى صديقات أخته الوحيدة كان يرفض بصرامة تواجدهن هنا؛ كانوا يتقابلون فقط في النادي والحفلات خارج المنزل.


أنزلت قدميها من الفراش، تُخفي حالة الصدمة التي تلبّستها من حديثه، وهي تردف:


– لو إنت شايف إن مافيش مشكلة، خلاص... ثواني وأحصلك.


انحنى على يدها يقبّلها:


– ربنا يخليكي ليا يا ست الكل.


نزل إلى بهو الفيلا ينتظر خالد.


---


عند خالد


في السيارة، رن هاتف عشق. فتحت الخط:


– السلام عليكم... أيوه يا حبيبتي، أنا بخير، متخافيش عليا!!


اللي كنتي خايفة منه كان هيحصل، بس أنا ضربته وهربت!!


– لا، متخافيش، بس أنا مش راجعة البيت النهاردة، خايفة يكونوا تحت البيت. الحمد لله، ربنا رزقني بواحد كويس وعدني يخلص الموضوع...


– لو سألك، قولي متعرفيش عني حاجة، وغيّري اسمي على التليفون عندك... وأنا هكلمك كل يوم!!


– لا إله إلا الله...


---


دخلت السيارة باب الفيلا، وكان أمامها عدد كبير من الحرس. طُلب منها النزول، لكنها رفضت قبل أن تخرج للقائها إحدى حريم المنزل.


حدثها خالد ببعض اللين:


– يا بنتي، يعني لو عايزين نأذيكي، تاخدي قد إيه في إيدينا؟ يلا ربنا يهديك...


رن جرس الفيلا، فتحت إحدى الخادمات، وأخبرها:


– بلّغي أدهم بيه إن الآنسة عشق معايا.


ثم شاور لعشق حتى تتقدمه، وهو يردف:


– يلا يا عشق، ادخلي.


حدثته برجاء:


– تعال معايا؟؟


رد خالد برفض:


– مش هينفع، أدهم باشا مانع دخول الحرس عشان الحريم.


دخلت ببطء، فوجدت أمامها أدهم ووالدته التي قابلتها بترحاب:


– أهلاً يا بنتي، نورتينا... اتفضلي!


ردّت بخجل وتوتر:


– شكرًا لحضرتك، وآسفة على الإزعاج.


أدهم بهدوء، وهو يطالعها من رأسها حتى أخمص قدميها:


– اقعدي.


جلس على مقربة منها:


– عايز أعرف كل حاجة حصلت من يوم شغلك عند أمير ده، لحد ما قابلتك. ممنوع تخبي أي حاجة عني، لأن لو عرفتها من برّه، حسابك معايا هيكون صعب!


ضغطت والدته على يده حتى يهدأ، فهي ترى الرعب مرتسمًا على ملامح تلك الفتاة.


فركت عشق يدها بخوف من طريقته، لكن ابتسامة غادة المشجّعة جعلتها تبدأ في سرد قصتها مع زير النساء.


استمعت غادة بوجع لما مرّت به، وسألتها:


– ليه ما قولتيش لحد من أهلك؟


ردّت بحزن:


– أنا عايشة لوحدي... ماما وبابا وأخواتي ماتوا في حادثة.


– طيب ما فيش عم أو خال؟


هزّت رأسها نفيًا:


– لا، عمري ما شُفت حد، وبعد ما أهلي ماتوا، ما فيش حد سأل...


وقف أدهم بحزم، ينهي تلك المحادثة:


– خديها يا أمي غرفة الضيوف.


ثم وجّه كلماته لعشق:


– أنا هشوف الموضوع ده، ولو كنتِ صاحبة حق، هجبلك حقك لحد عندك... تصبحي على خير.


---


صعدت مع والدته في صمت، ودخلت الغرفة. كانت كبيرة، باللون الكريمي، ستائر وسجاد رمادي، وأثاث أبيض... غرفة خفيفة على القلب.


بعد مرور بعض الوقت، دق الباب. فتحت عشق، فوجدت أمامها والدة أدهم، ومعها خادمة تحمل الطعام. دخلت، وضعت ما في يدها وخرجت.


مدّت لها غادة بيچامة نوم قطن، وهي تشرح لها نظام الغرفة:


– عندك الحمّام، غيّري هدومك، وكلي الساندويتشات، اشربي العصير، وريّحي جسدك شوية... أدهم هيخلّصك من كل مشاكلك.


– شكراً لحضرتك... تصبحي على خير.

*******

---


في الصباح، ألقى التحية على والدته، ثم جلس جوارها على مائدة الطعام.


– آسف جدًا يا أمي إني حطيت حضرتك في موقف زي ده، بس كنت مضطر... البنت كانت مرعوبة.


تركت ما بيدها، وهي تنظر في عيون ابنها تبحث عن أي شيء جديد قد طرأ عليه، لكن من الواضح أنه مجرد وهم في خيالها، لتردف:


– مافيش إزعاج ولا حاجة، أنا بثق في تصرفاتك، وعارفة إنك ما تعملش غير الأصول، والبنت باين عليها ضعيفة ومكسورة.


هتف بتحذير:


– أرجوكي يا أمي، بلاش طيبة قلبك دي، واحذري منها لحد ما أشوف حكايتها وأتأكد من صدق كلامها. حضرتك عارفة إن البراءة بقت تتغش، وأنا ليا أعداء كتير، ومش ضامن حد. لو دخل قلبك شك في أي تصرف صدر منها، بلّغي الحرس بسرعة، وأنا كمان عطيتهم أوامر.


– ليه كل ده؟ البنت باين عليها الطيبة والحنية!


أدهم بتحذير:


– أمي، أرجوكي...


شعرت بضيقة تعرف سببها جيدًا، لتردف بحنان:


– حاضر يا حبيبي، اللي تشوفه.


وقف واقترب من رأسها يقبّلها وهو يلقي عليها السلام.


خرجت منها تنهيدة متعبة، وهي تتابع سيره للخارج بحزن على فلذات قلبها الذين لم يجدوا الراحة في تلك الحياة القاسية. دعت لهم بصلاح الحال، وأن تجد الفرحة طريقًا لقلوبهم.


---


تململت عشق بابتسامة حانية، تشعر براحة لم تغزوها منذ سنوات. فتحت عينيها بلمعة جميلة، وتحركت بعينيها في السقف والمكان حولها. قفزت فجأة بعدم استيعاب، وجلست تنظر لمظهرها وتلك الغرفة، تسترجع ما مرّت به بخوف.


ضربت جبهتها:


– أخ يا عشق، إنتِ خوفتي ليه كده؟ أمير بعيد عنك... إنتِ في بيت الراجل اللي أنقذك ومامته موجودة، يعني أمان.


وضعت يدها على قلبها وهي تتنهد براحة:


– الحمد لله.


سمعت طرقًا خافتًا على باب الغرفة. عدّلت من هيئتها وتوجّهت خلف الباب تسأل عن هوية الطارق.


أتاها صوت الخادمة:


– الهانم الكبيرة بتبلغ حضرتك إنها في انتظارك على الفطار.


– حاضر، قولي لها ثواني وأكون معاها.


تجهزت عشق للنزول، رتبت غرفتها وارتدت ملابسها، ثم نزلت درجات السلم وهي تبحث بعينيها عن مكان جلوس غادة. رأتها سيدة من الخدم، نادتها:


– اتفضلي معايا.


ابتسمت لها عشق بخجل، وتحركت خلفها حتى غرفة الطعام، فوجدت غادة في انتظارها.


– صباح الخير يا طنط.


غادة بترحاب:


– صباح النور، اتفضلي يا عشق.


خرجت إحدى الخادمات تحمل صينية عليها طعام، متوجهة لممر صغير، جذب فضول عشق، التي ترجمته بسؤال:


– هو في حد تاني عايش هنا؟


غامت عينها بسحابة من الحزن تمطر وجعًا على قلبها، وهي تردف:


– آه، روان... بنتي الصغيرة.


تعجبت وسألت نفسها: هل هي طفلة صغيرة أم شابة ولا تريد الاختلاط بالغرباء؟ شعرت بغصة في حلقها أن يكون وجودها غير مرغوب فيه، وهي تفرض نفسها على المكان، لذلك سألتها بلهفة:


– هي مكسوفة مني؟ ولا متضايقة من وجودي؟


تحدثت غادة برفض:


– لا أبدًا، هي أصلًا ما تعرفش إنك موجودة، لأنها رافضة الخروج من غرفتها بقالها ثلاث سنوات، ورافضة التعامل نهائي مع أي حد غيري أنا وأخوها، حتى أصحابها رفضت وجودهم جنبها.


زاد فضول عشق لتتعرف على تلك المجروحة، فليس هناك شخص طبيعي يرحب بالعيش وحيدًا إلا لو اكتفى من غدر البشر.


لذلك تحدثت برجاء:


– هو أنا ممكن أدخل عندها بعد الفطار؟


نظرت لها غادة بحيرة، لا تعرف ماذا تقول، هل لو وافقت على طلبها سوف ترحب بها روان التي لم ترَ غريبًا منذ سنوات؟ أم تقدر على غضب أدهم إذا علم أنها كشفت عن كنزه الثمين، وهو أخته الوحيدة؟ فاقت على نداء عشق:


– لو ما ينفعش خلاص، مافيش مشكلة.


– أبدًا، مافيش مشكلة ولا حاجة، بس خايفة رد فعل روان يجرحك، لأنها اتعودت على وحدتها.


عشق بلهفة:


– لا، ما تقلقيش، أنا هتحمّل رد فعلها مهما كان صعب.


ثم أكملت طعامها بلهفة لرؤية تلك الفتاة.


---


عند فتون


جلست أمام طعامها هي وزوجها دون شهية. لقد تعودوا على وجودها حولهم، بمرحها وابتسامتها التي تضمد جراحهم.


تحدث ناجي، والقلق ينهش قلبه أكثر منها:


– كلي يا فتون أي حاجة، علشان علاجك كده غلط عليكي، ولو عشق كانت هنا كان زمانها زعلانة منك.


بكت فتون بحزن، وهي تردف:


– قلبي واجعني عليها. هي عوض ربنا عن جحود ولادنا، هي شمس يومنا، وضحكة أيامنا... إزاي عايزني آكل وأنا مش عارفة هي عاملة إيه دلوقتي ولا مع مين؟


وقف ناجي بحزن، يضمها لصدره وهو يحاول تهدئتها لتجنب ارتفاع الضغط لديها:


– والله هي كويسة، وبعدين مش كلمتك بليل؟ وقالت إن ربنا رزقها بناس كويسين، هيقفوا معاها، ولما تخلص من أمير ده هترجع تاني.


فتون بدموع:


– منه لله، ربنا يخلصنا من الظالم ده.


– يا رب، نجّها... يا رب، احفظها.


ضم كفها بين كفيه وهو يشجعها بابتسامة:


– أيوة كده، ادعيلها، الدعاء بيغير الأقدار وربنا يحفظها لينا. لقينا في قلبها الحب والرحمة لينا أكتر من ولادنا اللي خلفناهم وتعبنا في تربيتهم.


---


عند عشق


تحركت نحو الغرفة التي أشارت عليها غادة. قامت بطرق الباب، ثم فتحته فتحة صغيرة، أطلّت بوجهها الصبوح من خلالها، مثل الأطفال. تحركت عيناها في المكان حتى كانت الصدمة، عندما وجدت أمامها شابة جميلة جالسة على كرسي متحرك. تقابلت العيون في نظرة تعجب من روان، وأخرى حنونة من عشق، التي تحدثت بابتسامة عذبة تلين القلب:


– ممكن أدخل؟


لم تستطع روان السيطرة على نفسها من هيئتها الرائعة. ضحكت وهي تقول:


– على فكرة... إنتِ دخلتي خلاص.


اتسعت أعين عشق في ذهول، وهي تنكر ما تقوله روان:


– والله أبدًا، دي رقبتي بس.


زاد ضحك روان على طفولتها، وهي تردف:


– خلاص يا ستي، ادخلي كلك، أنا مسامحة.


توجهت لها عشق بخطوات خجولة، مدت يدها وهي تعرف نفسها:


– أنا عشق.


مدت روان يدها براحة غريبة غزتها منذ دخول هذا الملاك عليها:


– اسم جميل زيك يا عشق.


تورّد وجهها من الخجل. ضحكت روان بعدم تصديق:


– إنتِ اتكسفتي؟


تحاول مدارة خجلها، وهي تردف:


– لا أبدًا، أنا كويسة.


روان، وهي تجذب يدها حتى تجلس جوارها:


– وأنا روان. تعالي بقى، قوليلي بتعملي إيه عندنا؟ وإزاي أدهم سمح بوجودك في البيت كده بالسهل؟


لم تفهم عشق مغزى كلمتها، ولِمَ يعترض على وجودها، وهي لم تتعدَّ حدودها:


– أنا جاية أستخبى عندكم من الشيطان.


صدعت ضحكة روان مرة أخرى، وهي تردف:


– الشيطان مرة واحدة؟


– آه والله! وهو فيه مشكلة من وجودي هنا؟


روان بتأكيد:


– آه طبعًا، أدهم مانع صنف حواء من دخول البيت ده، غير الخدم، وبيكونوا كبار في السن وعارفهم. يلا احكي احكي، خلينا نسلّي.


قصّت عشق كل ما حدث معها، وروان تستمع لها وهي تضحك:


– يعني صفيتي دم الراجل؟


عشق برفض:


– ده حيوان، مش راجل، علشان يضحك عليّا. وهو شيطان، عايز يدمّرني.


عندما تأخرت عشق، قلقَت غادة على ابنتها، وتذكرت تحذير أدهم لها، فتوجّهت بأقدام مرتعِبة، تحولت لذهول عندما استمعت لضحكة ابنتها، التي غادرتها منذ سنوات. توقفت جوار الباب، تحاول السيطرة على دقات قلبها التي تعزف فرحًا من رؤية وجه ابنتها، الذي ردت به الدمويّة من خلال تلك الفتحة بالباب.


معقول؟ تلك الغريبة استطاعت فعل ما عجزوا عنه بسنوات، في دقائق معدودة!


فتحت الباب على آخره، وهي ما زالت في حالة صدمة، لا تصدق أنها وافقت على تواجد عشق، وتضحك بهذا الشكل، كأنهم أصدقاء طفولة.


رفعت روان وجهها عند فتح الباب، لتجد ملامح الصدمة على والدتها، فابتسمت لها بحنان، تعلم جيدًا أنها تسببت لهم في العذاب سنوات، دون أن يكون لهم أي يد في ما أصابها.


ضمتها غادة بفرحة، وهي تقبّلها:


– نورتي الدنيا يا قلب مامي.


حاوطت روان خصر والدتها بحب، بينما تتابعهما عيون عشق بدموع، لقد افتقدت حضن والدتها بشدة.


توجّهت لها غادة، تضمها بشكر:


– شكرًا ليكي بجد، أنا مش عارفة أكافئك إزاي على رجوع بنتي للحياة.


خجلت عشق من موقفها، وأردفت:


– مافيش شكر يا طنط، أنا ما عملتش حاجة لكل ده... أنا حبيت روان جدًا.


روان، بحب زُرِع داخلها من أول نظرة لتلك الملاك:


– أنا كمان حبيتك كتير.


ابتسمت غادة بمرح:


– طيب، أسيبكم أنا بقى، مش حابة أكون عذول.


ضحكت الفتاتان، وطال بينهما الحديث، كأنهما تعوّضان سنوات الوحدة. وفي موعد الغداء، رفضت عشق ترك روان، بينما طلبت روان بإلحاح أن تتناول الطعام معها في غرفتها، فوافقت عشق بهذا التمسك.


رحبت غادة بتلك الفكرة حتى تخفف عن ابنتها، لكنها لا تعلم أنها بذلك سوف تحرّك المارد بداخله... 

                   الفصل الثاني من هنا 

تعليقات



<>