
رواية بك احيا الفصل الثالث والعشرون23 والرابع والعشرون24 بقلم ناهد خالد
"تسلل مشاعر"
"الحقيقة أن المشاعر لا تأتينا دفعة واحدة، بل تتسلل إلينا رويدًا رويدًا دون شعور منا، ولا نشعر بها إلا بعد أن تتمكن منا تمامًا، ويصبح الهرب منها مستحيلاً"
تأفأف بنزق وهو يراها تتجنبه منذُ أخبرها عن رأيه في فستانها، أليست هي من سألته عن رأيه؟ لم تعقب فقط شهقة غير مصدقة خرجت من فاهها قبل أن تحدقه بنظرة نارية وتنسحب، ومن وقتها ونظراتها الحانقة لا تتركه، كلما نظر إليها يجدها تنظر له بغيظ وحنق واضحان، وفي مرة منهما انفلتت ضحكة من فاهه أثر نظرتها التي بدت طفولية حانقة، وكأنه أخذ منها الحلوى! استغل انفرادها أخيرًا بعد نصف ساعة تتجول من هنا لهناك، واتجه لها حين رآها تقف أمام طاولة المشروبات لترتشف قليلاً من العصير، فاتجه لها ووقف خلفها يقول:
_ هتفضلي ترميني بالنظرات كده كتير؟!
لم تلتفت له وهي تجيبه بنبرة فاترة:
_ نظرات ايه، أنا جيت جنبك.
رفع حاجبه باستنكار وهو يردد كلمتها بتقليد:
_ أنا جيت جنبك! نظراتك باينة على فكرة، واضح إنك اتضايقتي من رأيي بس أنتِ الي سألتيني.
التفت له وقد تملكها الغيظ وهي تهتف بنبرة نزق:
_ طلبت رأيك عشان فكرت إنك هتقول رأي كويس، لكن لو كنت اعرف رأيك ده عمري ما كنت هطلبه، ثم في زوق في ابداء الرأي، في طريقة لطيفة توصلي بيها رأيك مش بالطريقة السخيفة الي قولتها دي.
شعر بأنه قد أخطأ في طريقة ابداءه لرأيه لها، ربما تجاوز قليلاً، وليس له حق في أن يبدي رأيًا سخيفًا هكذا، فما كان عليهِ سوى أن يقول كلمة جيدة حتى وإن كان نفاقًا، فما دخله هو إن كان الفستان صغيرًا أو واسعًا ومهرتلاً! وهذا ما جعله يقول بهدوء:
_ معاكِ حق، سوري مقصدتش اضايقك كده، وعمومًا مادام لبستي الفستان يبقى عاجبك، مش مهم رأي الناس فيه.
رفعت رأسها بكِبر وهي تقول بأنفة:
_ عاجبني طبعًا، ومش مهتمة برأي حد.
ابتسم بهدوء وهو يخبرها:
_ كويس، ده الصح.
نظرت حولها بمتابعة زائفة لأحداث الحفل قبل أن تعود له بنظراتها وهي تسأله بصوتٍ خافتٍ:
_ هو.. هو بجد وحش؟
نظر لها وهو يتصنع الغباء وسألها:
_ هو مين؟
زفرت بضيق موضحة:
_ الفستان.. أصل يعني عمر ما حد قالي على حاجة لبساها وحشة، دايمًا بينبهروا بلبسي.
قلب شفتيهِ بدون اهتمام وهو يعقب:
_ مقولتش انه كفستان وحش، هو زوقيًا لطيف، لكن اخلاقيًا مش قد كده.
_ على فكرة أنتِ بتعك!
رددتها بتنبيه وأعين متسعة فكلما شعرت بقوله شيئًا جيدًا يفاجئها بحديث اكثر انعدامًا للذوق، ابتسم لها ببرود مُصرًا على رأيه:
_ مقولتش حاجة غلط، انا بس بوضحلك، يعني أنتِ مش شايفة انه أوفر! يعني قصير زيادة عن اللزوم،هو مداري ايه أصلاً.
لالا لايمكنها الصمت عن تبجحه هذا اكثر، نهرته للمرة التي لا تعلم عددها وهي ترمقه بنظرات حارقة مقرنة بقول حاد:
_ Watch your language, please, ثم أنا مش هسمحلك تتكلم بالطريقة دي عني.
_ لا إله إلا الله مش أنتِ الي مُصره تعرفي رأيي!
جعدت ملامحها باشمئزاز وهي تقول:
_ لأ، بجد مش عاوزه اعرف، تعرف تسكت بقى.
رفع منكبيهِ بلامبالاة وقال:
_ سهلة، اديني سكت.
واستمر الصمت لعدة دقائق بالفعل، حتى قطعته هي للمرة الثالثة وهي تسأله بضيق:
_ يعني لو عملتله extension "توصيل" هيكون حلو؟
كبت ضحكته بصعوبة وهو يجيبها بجدية:
_ هيكون برفيكتو.
رفعت حاجبيها المنمقان وهي تردد:
_ برفيكتو دي الي هي perfect؟ "ممتاز"
اومئ مبتسمًا، وبنظرة سريعة على فستانها اخبرها:
_ ومتنسيش تعملي كتف تاني عشان شكلهم نسيوا يعملوه.
وانهى جملته وذهب من أمامها منسحبًا من الحفل بأكمله، تاركًا إياها تطالعه بنظرات مندهشة غير مصدقة لطريقته معها! متى رفعت الحدود بينهما ليتعامل بأريحيه هكذا!؟
ولكن أريحيه راقت لها...!!
___________________
اليوم التالي.. عصرًا..
جلست فوق أحد كراسي شقتها الصغيرة، ممسكة بالهاتف بيدها وعلى شاشته أحد الأرقام التي تتردد في الاتصال بصاحبها، مرت أيام ولم يفكر هو في الاتصال بها، وهذا ما دفعها لأخذ هذه الخطوة، فيبدو أنه لن يقبل على مهاتفتها، فلتفعل هي، ربما لديه عذر ما، ربما مشغول بعمله ومسؤولياته، وأخذت تعدد الأعذار له حتى وجدت إصبعها يضغط زر الاتصال عليهِ، وبالفعل اتاها جرس الانتظار وقلبها ينتفض مع كل دقة، تشعر بالتوتر، والخجل في آنٍ واحدٍ، لكنها تعود لتذكر ذاتها بأنه زوجها، فلا حرج إن بادرت هي مرة.
أتاها صوته الخشن وهو يجيب على الهاتف:
_ السلام عليكم، مين؟
صوته اربكها ووترها أكثر، ولكنها استجمعت نفسها وهي تجيبه بصوتها الهادئ الرقيق:
_ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أنا.. أنا فريال يا إبراهيم، كيفك ياواد عمي؟
اتاها رده المقتضب:
_ بخير، كيفك أنتِ؟
انفرج ثغرها بابتسامة وقد شعرت بقرب تبادل الأحاديث بينهما كما خططت وأجابته:
_ بخير، أنا جولت اكلمك اطمنك عليَّ، اكيد مشغول، باهر الله يكرمه لجالي شجة جدام شجته طوالي، وطول اليوم بيطمن عليَّ ويسألني إن كنت رايدة حاجة.
استمعت لهمهمة خافتة صدرت من الجهة الأخرى، فشجعتها على الحديث أكثر، فأكملت وهي تقول:
_ الدراسة هتبدأ من اول السبوع، يعني كلها يومين وهنزل الجامعة، حاسة إني خايفة بس باهر جالي إن ده طبيعي وشو...
قاطعها صوته حين قال باستعجال:
_ طيب يا فريال مضطر اجفل عشان مشغول، هبجى اكلمك، سلام.
واغلق الهاتف قبل أن ترد تحيته، امتعضت ملامحها، وانتابها الحزن لدقائق بعدما وضعت الهاتف جانبًا وشردت بفكرها في طريقته معها، ولكن سرعان ما حاولت اقناع ذاتها بحقائق باطلة، وهي تبرر له بأنه بالتأكيد لديه عمل هام وسيعاود مهاتفها، فلا دعي لأن تحزن..
__________________
ضحكت بخفة وهي تستمع لحكاوي "رنا" عن جارتها التي تتشاجر معها يوميًا تقريبًا، والأولى لا تقصر في افحام الأخرى بردودها، وكل يوم تسرد على مسامع "خديجة" ما حدث، ومهما نصحتها لا تستمع لها، فأصحبت تسمع وتضحك وفقط، استمعا لصوت "مراد" الذي دلف للمطعم للتو وهو يلقي التحية عليهما بابتسامته الساحرة التي تجعل عيناه تلمع:
_ مساء الخير يا بنات.
وكانت "خديجة" هي أول من اجابته بلهفة حاولت اخفاءها:
_ مساء النور، اتأخرت ليه؟ ده أنا فكرتك هتاخد النهاردة اجازة.
ولم تخفي لهفتها عنه، فاتسعت ابتسامته، وازدادت لمعة عيناه وهو يجيبها:
_ هاخد اجازة بمزاجي عشان يتخصملي يومين! لا كان عندي مشوار بس قولت اخلصه الأول.
اومأت برأسها وقد شعرت بتسرعها في السؤال فعادت لِمَ تفعله، واتجه هو لتبديل ملابسه والبدء في عمله، ولم يمر الأمر مرور الكرام بالنسبة ل "رنا" التي عقبت بمرح وهي تنكز "خديجة" في ذراعها:
_ هي ايه العبارة! مالك ملهوفة كده في سؤالك له!؟
رفعت "خديجة" أنظارها لها بتوتر طفيف، لكنها ردت بثبات:
_ لهفة ايه! انا كنت بسأله عادي، بلاش خيالك يسرح يا رنا.
لم تقتنع "رنا" بحديثها لكنها لم تشاء أن تطول في الأمر فقالت:
_ بكره كله يبان، ياخبر النهاردة بفلوس.
_يوه، هتبدأي سخافة مش نقصاكِ.
أردفت بها "خديجة" وهي تبتعد للجهة الاخرى، فضحكت "رنا" بخفوت والتزمت الصمت، دقائق وخرج "مراد" بعدما بدل ثيابه، ووقف أمامها يسألهما وعيناه على خديجة تحديدًا:
_ ها في طلبات؟
ردت "رنا" هذه المرة:
_ اه في طلبين بنجهزهم اهو.
لم يعقب على حديثها سوى بهمهمة بسيطة وهو يتابع" خديجة" في الخفاء بعيناه، كعادته في الأسبوع المنصرم، ربما تقاربا من بعضهما قليلاً، لكن هذا القليل لا يكفيه، لذا سيحاول التقرب أكثر، ولكنه يجهل الطريقة للآن، انتبه على سؤال "رنا" ل "خديجة" :
_ مقولتيش الراجل الي اسمه البغل ده كلمك تاني؟
التفت لها "خديجة" بحاجبين منعقدين وهي تسألها بعدم فهم:
_ بغل؟ تقصدي مين؟
أشاحت "رنا" بذراعها وهي تقول:
_ الراجل ده الي زين اتخانق معاه عشان مراته الي ضربها.
ضحكت وهي تهز رأسها بعدم تصديق مرددة:
_ تقصدي الوحش! بقى بغل امتى؟ بس تصدقي لايق عليه فعلاً.
_ هو اتعرضلك؟
خرج هذا السؤال من "مراد" الذي لم يعنيه مزاحهما بهذا الشأن، فقط توحشت عيناه وهو يرجح احتمالية تعرض ذلك الأبله لها، وربما نظرته هذه لم يستطع اخفاءها، فسرت رعشة غريبة بجسدها أثرها، شعرت لوهلة بأنها تعلم هذه النظرة الداكنة، المنذره بشر قادم، تذكرها بشيء ما، شيء يتعلق بالماضي، كتلك النظرة التي لطالما رأتها في عيني "مراد" حين تشكو له من ضرب والدتها أو شقيقتها لها، نفس النظرة ونفس لون العينان الذي دكن الآن، هل كل هذا صدفة! هل بالفعل مجرد صدفة تربط بين الشخصيتين، أم هناك شيء أقوى بكثير يربطهما!
حاولت تجاهل الصوت الذي يصرخ بداخلها بأشياء إن صدقتها لفرت هاربة الآن، أو سقطت مغشى عليها، واجابته بنبرة مهتزة قليلاً:
_ مش بالضبط.. هو بس وقفني من يومين كده وسألني عنك، عاوز يعرف معلومات يعني أنتَ مين ومنين وكده، بس قولتله إني معرفش حاجة، فمصدقنيش وفضل يهددني إني لو مجاوبتوش على اسئلته بدل ما هيكون تاره معاه هو بس هيكون معايا أنا كمان، بس أنا قولتله إني معرفش حاجه عشان اقولهاله أصلاً، فقالي يبقى أنتِ الي اخترتي وسابني ومشي.
ضغط على أسنانه بقوة كادت تطحنها قبل أن يسألها بحذر:
_ اتعرضلك تاني؟
نفت برأسها وهي تجيبه:
_ لأ، مشوفتوش من يومها، بس مراته جاتلي امبارح وحذرتني منه، قالتلي كمان احذرك منه عشان هو اكيد مش هيخلي الي حصل يعدي بالساهل، كونك بهدلته قدام المنطقة كلها وقليت منه ده مش هيعديه، وسكوته مش خير أبدًا، حتى قالتلي أنه ردها.
_ ردها؟ ازاي؟ ماهو طلقها بالتلاتة قدام الكل!
شرحت له بهدوء:
_ ماهو الطلاق بالتلاتة في المرة الواحدة بيعد طلقة واحدة وحقه يردها في أي وقت.
ضرب الطاولة بيده بغيظ وهو يردد:
_ ابن الك**، ماشي هيروح مني فين.
تركت ما بيدها واتجهت له حتى أصبحت أمامه فسألته بضيق واضح:
_ وأنتَ مالك بالموضوع؟ لحد هنا وكفاية ميخصكش الي يحصل بعد كده، الراجل ده شراني ومحدش يقدره، وأنتَ مش مضطر تعك نفسك معاه.
بداخله انشرح لشعوره بخوفها وقلقها عليه، ولكن غضبه من ذلك الأحمق جعله يعاندها وهو يقول:
- الست اتحامت فيَّ، وكنت فاكر إني خلصتها منه، لكن قولتيلي انه ردها واكيد ده غصب عنها، وغير كده بقى تعرضه ليكِ مش هعديه على خير.
رفرفت بأهدابها توترًا من جملته الأخيره وحاولت الثبات أمام نظرات عيناه التي تربكها وهي تقول:
_ إذا كان على الست فهي الي قالتلي خليه يبعد عن طريقه، وإن كان عليَّ فهو ماتعرضليش ولا حاجة هو سألني عليك ومن بعدها مشفتوش.
لم يهمه مبرراتها ولم يعنيه ما قالته بأكمله، لكنه قرر تمرير الأمر الآن وهو يقول:
- خلصتوا الطلبات؟
وهي بفطنتها أدركت تهربه من الحديث لعدم اقتناعه، فلوت فمها بضيق وهي تنسحب مبتعده لتكمل عملها..
توحشت نظراته وهو يشيح بوجهه للناحية الأخرى، يقسم أنه سيذيق ذلك الوحش أشد عذاب إن لمحه يمر من أمام المطعم حتى..
__________
_خلاص يا هاجر كفاية.
هتف بها "دياب" بضيق بعدما سأم من كمية الأوراق التي قام بإمضاءها، ابتسمت له "هاجر" بلطف وهي تخبره:
_ خلاص يا دياب باشا باقي خمس ورقات بس.
وبالفعل بعد ثانية واحدة كانا انتهيا من امضاء الورق، فاسترخى "دياب" على كرسيه، ورتبت "هاجر" الأوراق بعناية تحت نظراته المتفحصه لها، وفجأه وجد ذاته يسألها:
_ أنتِ عمرك ما فكرتي تتجوزي يا هاجر؟
رمت نظرة سريعه له قبل أن تعود لِمَ تفعله وبضحكة ساخرة أجابته:
_ اتجوز واسيبك يا باشا!
_ لا بتكلم جد.
انتهت مما تفعله فوقفت باستقامه تجيبه بجدية:
_ شغلنا مينفعش يكونلك فيه نقطة ضعف، وأنا ربنا كرمني إني مليش عيلة، يعني مليش حد اخاف عليه، او يتلوي دراعي بيه، اقوم انا بقى اجيب نقطة ضعفي بنفسي! بعدين الي بيشتغلوا شغلتنا دي ميجيش معاهم الجواز سِكه.
هز رأسه باقتناع تام وهو يقول:
_ معاكِ حق، أنا اقتنعت.
ضحكت بمرح وهي تعقب:
_ كويس، همشي أنا بقى.
_ متنسيش تروح تستلمي عربون الصفقة الجديدة بكره من بورسعيد.
_ مش ناسية متقلقش، سلام.
هز رأسه دون إجابة وتابعها حتى خرجت تمامًا، فردد باقتناع:
_ ميجيش معانا الجواز سِكة..
______________
انتهت من عملها وبدلت القميص الخاص بالعمل بقميصها الخاص، واتجهت للخروج وهي تودع "رنا" على باب المطعم، وما إن ذهبت الأخيرة وكادت هي أن تتحرك لوجهتها حتى استمعت لصوت خطوات خلفها، فالتفت فجأة حتى كاد يصطدم بها حين توقف على بُعد سنتيمترات معدودة، شهقت بخضة وهي ترتد للوراء مرددة:
_ ايه ده؟ أنتَ ورايا بتعمل ايه؟
أجابها بهدوء تام:
_ جاي اوصلك.
اتسع بؤبؤ عيناها بعدم تصديق لاجابته، يصلها! لأين؟ وهذا ما عبرت عنه وهي تسأله باستغراب:
_ توصلني ايه؟ ده أنا بيتي في اخر الشارع!
رفع حاجبيهِ بمرح وهو يعقب:
_ أنتِ قولتيها اهو آخر الشارع مش أوله، هو آخر الشارع ده قريب!
ضحكت بعدم تصديق وهي تقول:
_ أنتَ بتهزر يا زين؟ يلا امشي ميصحش وقفتنا كده.
في كل مرة تذكر فيها اسمه المستعار يتصدع شيئًا بداخله، في كل مرة تنطق فيها باسم "زين" يتمنى لو تنتهي هذه المسرحية السخيفة ويستمع لاسمه بدلاً عنه، يتمنى لو يغمض عينيهِ ويفتحها ليجدها تعرف حقيقتها، والأهم تتقبله، ليس سهلاً أن تحتل مكانة لدى حبيبك بشخصية مستعارة، ليس سهلاً أن تتقبل كل مشاعره برحابة صدر وأنتَ تعلم أنها ليست موجهها لشخصك بل لشخص وهمي ليس له وجود، حتى وإن كان كل الأمر يتعلق بكنية زائفة وهوية مؤلفة..
حاول تغاضي كل مشاعره السلبية الآن وهو يقول بجدية:
_ مش مطمن للراجل ده، خليني اوصلك اضمن.
هزت رأسها ببساطة وهي تخبره:
_ على فكرة هو بقاله يومين مقربليش، فاعتقد انه مش ناوي يقربلي تاني، والا مكانش صبر يومين يعني.
رفع منكبيهِ بجهل:
_ مش عارف بس مش مرتاح.
ابتسمت بحب لخوفه الصادق عليها، وكم امتنت لِمَ شعرت بهِ في هذه اللحظة، كونها مهمة لأحدهم، كون أحدهم يخاف عليها، مشاعر فقدت حلاوتها منذُ زمن، وكم راقها أن تشعر بها الآن، قالت بهدوء:
_ بجد شكرًا على اهتمامك ده، بس بجد مفيش داعي توصلني، اتفضل يلا.
زفر بضيق وهو يشعر بعدم الراحة حقًا، وقلما يخيب شعوره هذا، لكنه رأى الاصرار في عيناها ففضل الانسحاب:
_ ماشي، قولي رقمك بقى عشان اطمن عليكِ لما تروحي.
قالها بعدما فتح هاتفه وضغط رقمين الصفر والواحد، ثم رفع رأسه لها يسألها:
_ ٠١٠،ولا ٠١١..
رفعت حاجبيها بعدم تصديق لجرأته، ولم تجيبه، لتسمعه يزفر بضيق وهو يخبرها:
_ يلا يا بنتي.
هزت رأسها بعدم تصديق لأفعاله وقالت:
_ بجد مش طبيعي... اكتب..
قالتها وقد قررت أن تعطيه رقمها حقًا! لشعورها أنها ستحتاجه، وتتمنى أن يخيب هذا الشعور.
انتهى من تدوين رقمها فاغلق الهاتف وأشار لها بتوديع:
_ يلا مع السلامة.
_ مع السلامة.
رددتها بهدوء والتفت ذاهبه في طريقها والابتسامة لم تفارق وجهها، بينما هو أشار لأحد الرجال المختبئين بالشارع ليأتي له فورًا، فأخبره:
_ تروح وراها وتطمن أنها دخلت بيتها، ومتمشيش من هناك سامع.
اومئ برأسه وانتظر قليلاً ثم انطلق يلاحقها دون أن تنتبه.
زفر انفاسه بقوة متمنيًا أن تكون بخير دومًا وألا يصيبها مكروه حتى وإن كان خدشًا صغيرًا، فخدشًا بها يصيبه هو بجرح غائر ينزف دون توقف..
________
صوت دقات عالية فوق باب شقته جعلته يتنفض من فراشه بعدما استيقظ من نومه العميق، نظر للساعه ليجدها الثانية صباحًا، فتمتم بقلق وهو يركض للباب:
_ استر يارب.
وصل للباب ففتحه فورًا بثياب نومه وعينيهِ النصف مفتوحة، فوجد حارس العمارة أمامه:
_ في ايه يا عم عبده؟
_ الحق يابيه الست قريبتك في دخانه جامده اوي طالع من مطبخ شقتها، وبقالي عشر دقايق اخبط عليها مبتردش.
اتسعت عيناه بذعر وهو يهمس بينهما قدماه ركضت للشقة المقابلة:
_ فريال!
وصل لباب شقتها فدق فوقه بعنف ولم يجد اجابة، فاستعان بالحارس ليضربا الباب سويًا بخطفهما حتى انخلع من مكانه، وهنا خرج دخان كثيف أعماهم عن الرؤية، واوشى بخطورة موقف المسكينة التي بداخل...
_______________
وصلت للبناية الساكنة فيها وصعدت درجاتها بارهاق بعد يوم طويل كالعادة، ولكنها شهقت بصرخة كُتب لها الكتم حين وُضع كف غليظ فوق فمها، مكبلة من الخلف بذراع قوية وكف يمنع خروج صوتها، وجسد بدى قويًا يصطدم بظهرها، كل هذا جعل جسدها ينتفض بقوة ودموعها تهوى بفزع، حاولت التملص أكثر من مرة لكنها لم تنجح، واستمعت لصوته الكريه يهتف بجوار أذنها.....
بك احيا
الفصل الرابع والعشرين "من أنتَ"
وصلت للبناية الساكنة فيها وصعدت درجاتها بارهاق بعد يوم طويل كالعادة، ولكنها شهقت بصرخة كُتب لها الكتم حين وُضع كف غليظ فوق فمها، مكبلة من الخلف بذراع قوية وكف يمنع خروج صوتها، وجسد بدى قويًا يصطدم بظهرها، كل هذا جعل جسدها ينتفض بقوة ودموعها تهوى بفزع، حاولت التملص أكثر من مرة لكنها لم تنجح، واستمعت لصوته الكريه يهتف بجوار أذنها:
_ بقى مراتي جاتلك عشان تحذرك أنتِ والواد ابن ال **** مني مش كده! هي بقى وخدتها جزتها، وجه وقتك تاخدي جزاتك عشان رفضتي تتعاوني معايا ووقفتِ في صف ننوس عين امه.
حاولت التملص وهي تتحرك بلا هواده والذعر تملكها أكثر، ولكن قبضته المحكمة عليها حالت دون ذلك، وفي اللحظة التالية كانت تتلقى عقابها كما أشار منذُ قليل، فوجدت رأسها تُصدم بالحائط المقابل لها بقوة طفيفة جعلتها تشعر بأن رأسها قد رُجت من الداخل، وانتابها دوار طفيف، جعلها تستند على الحائط بضعف بعدما تركها أخيرًا وهو يقول:
_ دي قرصة ودن بسيطة، المرة الجاية صدقيني هتندمي إنك وقفتِ مع واحد وقف في وش الوحش، وهعتبرك عدوتي زيه.
أنهى حديثه ونزل الدرج في ثواني تاركًا إياها وقد تهاوى جسدها أرضًا بتعب بعدما شعرت بسيل خفيف من الدماء يسير فوق جبهتها نزولاً لوجنتها اليمنى، ظلت هكذا لثواني حتى استطاعت أن تشعر بخفة الدوار فنهضت مستندة على الجدار لتصعد بعض الدرجات الفاصلة بينها وبين شقتها، وضعت المفتاح في الباب وفتحته ببطء كي لا توقظ شقيقها في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل ويفزعه مظهرها هكذا، ونجحت في أن تدلف دون ضوضاء، حتى وصلت لحمام الشقة والتقطت علبة الاسعافات الأولية واتجهت بها لغرفتها كي تداوي جرحها.
وقفت أمام المرآة تعقم الجرح وتمسح الدماء المنسدله منه وهي تتأفأف بغيظ محدثة نفسها:
_ أنا ايه دخلني في الموضوع من أصله! حاجه غريبة بجد أنا لا اتكلمت ولا اتنيلت ودخلوني في الموضوع بالعافية.
استمعت لرنين هاتفها فاتجهت له لترى من المتصل، وجدته رقم غير مسجل، وهذا جعلها تحتار هل تجيب أم لا، ولكن ضرب في رأسها أن "زين" قد أخذ رقمها فلّعله هو المتصل! وهذا ما جعلها تفتح الخط مقررة القاء السلام ولكن قبل أن تقول أي شيء، وجدته يندفع كالاعصار وهو يسألها بهياج:
_ ابن ال**** ده كان بيعمل ايه في بيتك؟
ابتلعت ريقها مجفلة من اندفاعه الغير متوقع، وقد خشت نبرة صوته حقًا، فحاولت الرد بهدوء كي لا تخلق مجزرة على وشك الحدوث إن سمع "زين" منها ما لا يرضيه:
_ مفيش حاجه.. هو مجاش أصلاً.
استمعت لصياحه بها مرة أخرى:
_ متكدبيش، أنا متأكد انه كان عندك، هتخلصي وتقولي ولا اروح اسحله من بيته دلوقتي من غير حتى ماعرف عمل ايه.
حسناً هي ترى جانب في شخصيته لم تراه من قبل، ولم تتوقعه! ولكنها كانت محقة حين قررت عدم اخباره بما حدث، فأصرت على قرارها، واجابته ببعض الحقيقة وهي تخبره:
_ تمام، هو فعلاً كان هنا، كان مستنيني على السلم، وأول ما شافني هددني ان دي اخر مره هيحذرني فيها، وقالي انه عارف ان مراته جاتلي هنا، وانها جت تحذرني منه، وقالي لو اتدخلت في الموضوع تاني بأي شكل مش هيحصل كويس.. بس كده، ممكن تهدى بقى!
وهل سيهدأ وهو يسمع منها قدومه لها في دارها وتهديده السخيف ذاك! هل سيهدأ وهو يعلم أن أحدهم يطاردها وبث بعض الخوف في نفسها! لا لن يهدأ حتى يلقنه درسًا يجعله يتجنب رؤية ظلها حتى..
_ تمام.
فقط! فقط هذا ما قاله قبل أن يغلق الخط في وجهها! ولكنها لم تهتم كثيرًا وهي تفكر فقط، في سبب انفعاله الزائد هذا! ومن أين علم وجود الوحش في منزلها؟ هل يراقبها؟ ولِمَ يفعل؟ بدت تشعر بتصرفات غير مفهومة من جهته، تصرفات لا تصدر سوى من شخص مهتم! ولِمَ يهتم لها؟ هل تعجبه أم تراوده مشاعر تجاهها؟!
زفرت أنفاسها بقوة وهي تستشعر ارتفاع وجيب قلبها وقالت:
_ وبعدين بقى، بلاش افكر كده ليكون بيتعامل معايا عادي واكون وهمت نفسي على الفاضي.
وهكذا قررت بالفعل كي تنهي افكارها الغريبة التي بدأت تراودها..
-------------------
فتحت عيناها للدنيا مرة أخرى وهي تشعر أنها حقًا قد عادت من الموت، التقطت أنفاسها المختنقة، واعتدلت في نومتها جالسة بعدما أبصرت "باهر" أمامها، نظرت له بتيه في بادئ الأمر حتى تذكرت ذلك الدخان الكثيف الذي قابلها فجأة حين فتحت باب غرفتها، كان كثيفًا لدرجة انها لم ترى أمامها وثواني ووجدت ذاتها غير قادرة على التقاط أنفاسها، شعرت بالاختناق، وكأن أحدهم يطبق على عنقها، مما جعلها تسقط فاقدة للوعي، وهي تشعر بأنها نهايتها..
تساقطت دموعها بخوف حقيقي حين عاد ذلك الشعور ليراودها مرة أخرى، وثواني وكانت تنساق لبكاء قوي أخرجت فيه كافة مشاعرها السلبية، وهو تركها لأنه يعلم حالتها الآن... حتى بدأت تهدأ فهتف برفق:
_ هديتي شوية؟
هزت رأسها بايجاب وهي تمسح دموعها، فسمعته يسألها باستفسار:
_ ايه الي حصل؟
ضمت شفتيها بأسف وهي تكبح بكاءها بينما تخبره:
_ مخبراش.. انا فجأة شميت ريحة دخان، افتكرت اني كنت سايبة الطاسة على النار وفيها زيت بيسخن عشان اجلي بطاطس، جريت افتح الباب لجيت دخانه رهيبة جابلتني معرفتش اوصل للمطبخ اصلاً، واتخنجت فوجعت على الأرض.
هز رأسه بيأس منها وهو يردف:
_ وبعدين يا فريال، انتِ مش ناوية تركزي شوية، من وأنتِ صغيرة وموضوع النسيان ده عندك مش طبيعي، مجرد ما بتنشغلي بحاجة تانية بتنسي الي كنتِ بتعمليه.
- اعمل ايه طيب هو بمزاجي!
_ ما أنتِ كده خطر تقعدي لوحدك.
أردف بجملته التقريريه وهو يفكر في حل لتلك المعضلة، حتى وجده أخيرًا، حين ضربت فكرة ما برأسه، فقال:
_ تحبي تروحي تقعدي مع خديجة؟
رفعت رأسها له على الفور تسأله بلهفة حقيقية:
_ هو ينفع؟
اومئ برأسه وهو يخبرها:
_ ينفع، بس هيكون بعيد شوية عن الجامعة.
- مش مشكلة، بس انا هكون مرتاحة اكتر.
اومئ برأسه متفهمًا، فهو يعلم ارتباطها بخديجة، واشتياقها لها منذُ غابت عنهم، وبالأخير هي فتاة مثلها فسيكون التعامل بينهما اسهل على أي حال، وستستطيع المكوث معها بنفس المنزل:
_ تمام، هكلمها اعرفها واشوف هتقول ايه؟
_ هي ممكن ترفض؟
سألت بها "فريال" بجبين مقطب استغرابًا، واكملت حديثها متسائلة:
_ هي زعلانة مني يا باهر؟ الي حوصل مكنش ليا دخل فيه، بس يمكن زعلانة مني عشان الي أمي سوته!
نفى برأسه وهو يجيبها:
_ لأ، ليه بتقولي كده! خديجة مبتاخدش حد بذنب حد، هي بس يمكن خافت تتواصل معاكِ ليعرفوا، وبقول هعرفها عشان طبيعي اعرفها الأول، اكيد مش هتطبي عليها فجأة كده.
لم تقتنع كليًا بحديثه لكنها قررت تمريره، فأومأت له برأسها بارهاق، فنهض هو قائلاً:
_ هروح انام بقى، وبكره هجيب حد يدهن المطبخ الي باظ ده عشان صحاب الشقة ميكتشوفش الي حصل، تصبحي على خير.
_ وأنتَ من أهل الخير.
رددتها وهي تنهض مغلقة الباب خلفه، ولم تعلم لِمَ لكنها شعرت برغبة ملحة لتحدثه.. هو زوجها، من لم يعاود مهاتفتها كما أخبرها! لكنها لم تهتم الآن، والتمست له ألف عذر، ورغم تخطي الساعة الثانية صباحًا، لكن رغبتها الملحة دفعتها لمهاتفته غير عابئة بالتوقيت، امسكت هاتفها وبتردد طفيف كانت تطلب رقمه، وفي الرنة الأخيرة بعد ان تملكها اليأس كان يجيب مكالمتها، ليشرق وجهها وهي تستمع لصوته، كان واضحًا من نبرته أنه كان نائمًا، فكان أول ما هتفت بهِ:
_ أنا أسفة إني صحيتك.
اتاها صوته الاجش وهو يسألها:
_ في حاچة حوصلت!؟
شعرت انها قد تسرعت حقًا، فكان عليها الإنتظار للصباح حتى! لم يكن عليها الاتصال بمثل هذا الوقت، فقالت بارتباك:
_ لا، خلاص كمل نومك.
انتفصت فجأة على نبرته الهادرة بها وهو يقول:
_ ايه الهزار الماسخ ده! بتتصلي جرب الفجر وبعدين تجولي كمل نومك!
ادمعت عيناها من حديثه وهي بالأساس لا تحتمل أي غضب منه، فيكفي ما عانته منذ قليل، وكي تتجنب غضبه قررت اخباره بالسبب الحقيقي لاتصالها، فقالت بنبرة مختنقة:
_ أنا... أنا الشجة كانت بتولع بيا من شوية، ولولا باهر كسر الباب ودخلي مخبراش كان جرالي ايه، خصوصًا ان اغمى عليا من ريحة الدخان.
وياليتها لم تخبره فبكل برود كان يعقب على حديثها:
_ زين، بتتصلي بيا دلوجتي ليه؟ مش هو لحجك وبجيتي زينة! هسوى ايه اني زيادة!
_ أسفة إني جلجتك.
واغلقت المكالمة، ليس لشيء، سوى لكي تنهار في البكاء، اوجعها رده، جعلها تشعر ان حياتها لا تفرق معاه في شيء، رده الذي لم تتوقع أن يكون قاسيًا هكذا! لجأت له لأنها شعرت أنها تريد طبطبته عليها بشكل او بآخر، شعرت أن مجرد الحديث معه سيبثها الأمان، لانها وللأسف ليس لديها أم كباقي الأمهات تخشى عليها ويهمها أمرها لتحدثها، بالعكس هي موقنة أن رد والدتها كان سيكون أقسى، لهذا لم تحاول محادثتها حتى.. وبين قسوة وأخرى تُدهس هي وسط إناس قاسية قلوبهم كقسوة الحجارة وأشد قسوة.. لم تمر عليهم المشاعر الإنسانية بكافة معانيها..
---------------
دلفت للمطعم بقلب يخفق وجلًا مما على وشك الحدوث، تعلم أن ذلك الهائج في مهاتفته معها أمس حين يرى جرح جبينها والملصق الذي وضعته لتخفيه، ستثور ثائرته، ربما السبب الرئيسي سيكون كونها كذبت عليه ولم تخبره بكل ما حدث، لم تخبره أن ذلك الحقير قد رفع يده عليها مثلاً! هل يجب أن تخشى رد فعله؟ لِمَ؟ هو لا يخصها بشيء! لكنها تفعل!!
بدلت ملابسها وخرجت من الغرفة الخاصة بالتبديل متجهة لمحلها كالسارقة تمامًا، تخشى أن يراها رغم معرفتها لحدوث ذلك بالتأكيد، وقفت تجهز لعملها، كانت مستديرة حين سمعت صوته من خلف ظهرها يهتف بنبرته المميزة:
_ مساء الخير يا خديجة.
ارتفع وجيب قلبها، وشعرت بالدماء تموج في رأسها وهي تجيبه بتوتر دون أن تستدير:
_ مساء النور.
عقد حاجبيهِ باستغراب لعدم استدارتها له، هل هي مشغولة فيما تفعله لهذه الدرجة!؟
_ عاملة ايه دلوقتي؟
وللمرة الثانية كانت تجيبه بنفس الوضعية:
_ الحمد لله.
تحركت بخطواته مجتازًا القطعة الرخامية الكبيرة وقد تأكد بوجود خطب ما بها، وبعدما أصبح خلفها تمامًا كان يسألها:
_ أنتِ بتكلميني بضهرك ليه؟
توترت أكثر حين شعرت بهِ خلفها وسمعت صوته القريب، إذًا لا مفر، هكذا قالت لذاتها وهي تستسلم لتستدير له بثبات واهي:
_ مفيش انا بس كنت....
ارتدت للوراء بأعين متسعة حين رأت نظرته تلك... كانت نظرة سوداوية بحتة، لا يتخللها أدنى شعاع نور، نظرة تعبر عن كثير من الغضب والشر الذي انتباه فور وقعت عيناه على ضمادة جرحها، اصطدام ظهرها بالقطعة الرخامية خلفها هو ما اوقفها...
_________________
استيقظت "هاجر" من نومها على صوت رنين الهاتف، لتتأفأف بنزق فقد انهت عملها صباحًا وكانت تريد النوم حتى المساء دون أن يوقظها أحد، مدت ذراعها تلتقط الهاتف وقد نوت اغلاق المكالمة، لكن سرعان ما أفتر ثغرها عن ابتسامة محبة حين قرأت اسم المتصل والذي لم يكن سوى حرفان "Sh"، اجابت المكالمة وهي تردف بصوتٍ ناعم:
_ صباح الخير.
اتاها الصوت على الجهة الأخرى:
_ صباح الورد على عيون أجمل جوجو... بس احنا بقينا العصر.
اجابته مبتسمة:
_ خلصت شغل الصبح، فنمت محستش بنفسي.
همهمة بسيطة ظهرت منه ثم سمعت صوته يقول بنبرته التي تذوب بها:
_ وحشتيني.
اغمضت عيناها تستشعر حلاوة كلمته مع نبرته التي تدلف لاعماقها دون حاجز:
_ وأنتَ كمان وحشتني اوي.
_ هنتقابل امتى طيب؟ أنا مبقتش متحمل كل البُعد ده، احنا بقالنا ٣ شهور متقابلناش.
بدت نبرته نزِقة، وغير محتمل بُعد أكثر حقًا، مما جعلها تنصاع لرغبته وهي تخبره:
_ خلاص يا حبيبي ايه رأيك نتقابل على ١ بليل كده.
_ تمام، بس متتأخريش عشان مفتاح الشقة ضايع مني على ما اطلع نسخة.
ابتسمت بلطف وهي تخبره:
_ عيوني، يلا بقى سبني اكمل نوم.
استمعت لرده العابث وهو يخبرها:
_ هسيبك طبعًا، عشان تفوقيلي بليل، بقولك بقالنا ٣ شهور متقابلناش!
ضحكت بدلال انثوي ازاد من اشتياقه وهي تقول:
_ خلاص بقى.. فهمت على فكرة، يلا باي.
تنهيدة قوية صدرة منه تبعها بقوله:
_ باي يا حبيبي.
اغلقت الهاتف لتتسطح بظهرها فوق الفراش وابتسامة واسعة تزين ثغرها وهي لا تصدق أنها ستجتمع بهِ أخيراً اليوم بعد ثلاثة أشهر من الاشتياق!
_____________
ابتلعت ريقها بوجل، وهي تتابع نظراته، ذكرتها بأحدهم! وهذا ما جعلها تغمض عيناها لوهلة لتزيل من ذاكرتها شبح تلك النظرات المماثلة التي تأتي لها من ماضي بعيد، وفي أثناء هذا وقبل أن تفتح عيناها كانت تشهق بخضه حين شعرت بأصابعه فوق جبهتها، فتحت عيناها وهي تحاول التراجع بنصف جسدها العلوي قدر الإمكان وتحرك رأسها بعيدًا عن مرمى يده بأعين متسعة، لكنه فاجئها حقًا بخطوته التالية حين أمسك بفكها بقوة ليثبتها وهو يهتف بنبرة خشتها:
_ اثبتِ.
ولا تعلم كيف، لكنها ثبتت! ثبتت محلها كالتمثال تمامًا، وكأن كلمته اعطت الأمر لجسدها فورًا دون الرجوع لها.
خفتت انفاسها، بل في الثانية التالية كانت تحبس نفسها تمامًا، حين كان بهذا القرب، الفاصل بين وجهه ووجهها لا يتعدى العشر سنتيمترات! حتى كادت تشعر بقرب ملامسة أنفه لأنفها.
يتملكه طاقة غضب إن أذن لها بالخروج ستحرقها هي أولاً، فقط لانها كذبت عليهِ بالأمس حيال حقيقة ما حدث، لم تخبره أن ذلك اللعين قد ضربها، لو أخبرته لضاعف ما تلقاه على يده أمس، وهذا ما يشعره بضرورة زيارة أخرى له! بأصبعيهِ كان يزيل اللاصق الطبي الذي وضعته برفق ليتفحص جرحها، يعلم اهمالها جيدًا فأراد أن يطمئن على حالة الجرح لعلّه يستدعى رؤية طبيب، أزال اللاصق لتتجعد ملامحها قليلاً أثر نزعه، وظهر جرحها الذي لم يكن يستدعي رؤية طبيب لكنه لم يكن هين أيضًا فقد تورم المكان حول جرحها، ولم يأخذ الجرح مكانًا هينًا، حبس أنفاسه الحارقة في صدره وهو يسألها بخبرة:
- خبطك في الحيطة؟
اتسعت عيناها ذهولاً فكيف تبين الأمر! تجاهلت ذهولها وهي تحاول شرح الأمر له:
_ هو مكانش...
ابتلعت باقي حديثها بشهقة حين تحرك كفه القابض على فكها ليقبض على كتفها بقوة آلمتها وهو يردد محذرًا:
_ خديجة!
وجدت ذاتها تومئ برأسها وقد خشت شره! خشت ما تراه في عينيهِ وقوته المباغته التي بدأ في استخدامها عليها! زفرة حارقة خرجت منهُ اصطدمت بوجهها قبل أن يسألها ثانيًة:
_ عمل ايه تاني؟
هزت رأسها بسرعة وهي تخبره بصدق:
- معملش والله...
ثبت نظراته لنظراتها للحظات استشف فيها صدقها، ليخفف قبضته من عليها وتحتل عيناه نظرات غامضة، قبل أن يربط بكفه على كتفها برفق وهو يخبرها:
- اهدي.
وقد قالها بعد أن أصبحت أنفاسها متسارعة من كثرة الضغط الذي وضعها بهِ، رفع كفه الممسك باللاصق الطبي ووضعه على جبينها باهتمام ورفق، قبل أن يرحمها أخيرًا ويبتعد..!!!
سُلطت نظراتها على ظهره بينما يسير مبتعدًا، نظراته وقربه وحديثه واهتمامه، كل ما حدث منذُ قليل جعل شكها يبلغ العنان فوجدت ذاتها تقترب خطوتان قبل أن تهتف بصوت مرتفع بهِ اهتزاز واضح:
- مرااد..
والزلة قد أتت منهُ حين توقفت خطواته عن السير وتجمد محله، لتتسع عيناها بفزع، ويغمض هو عيناه لاعنًا ذاته من بين أسنانه.. فكيف له أن يخطأ خطأ كهذا؟! هل كشف عن ذاته للتو بغبائه!!!!