رواية بك احيا الفصل الثالث عشر13 الرابع عشر14 بقلم ناهد خالد


 رواية بك احيا الفصل الثالث عشر13 الرابع عشر14 بقلم ناهد خالد
حظ عاثر" 

 الأيام تمر، حتى وإن بقينا نحن في نفس مكاننا دون خطوة زائدة، الأيام تسير ولا تنتظر أحد، عقارب الساعة لن تتوقف لأجل أحد، وتقلبات الزمن لا تخضع لأحد، ولا تشفق بأحد، ولا تحدث وفقًا لرغبة أحد، فصدق من قال "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن" 

ديسمبر لعام ٢٠١٨...

ثلاثة أعوام كاملةً مروا.. ثلاثة أعوام تغير بهم الكثير، ولنسرد أهم ما تغير في حياة ابطالنا..

"خديجة"

تخرجت من المرحلة الثانوية بمجموع سبعون بالمئة فقط وقد كانت شعبة علمي علوم فخسرت حلمها في الالتحاق بأحد الكليات الطبية كما كانت تحلم دومًا، وشعرت أنها تائهة ولم يعد يفرق معها تحديدًا بأي كلية تلتحق حتى أنها باتت تفكر في ألا تلتحق بأي كلية وتكتفي بتعليمها الثانوية.. فقد استُهلكت بحق، ما حدث معها في تلك الثلاث سنوات كان كفيلاً بهدم رجل فما بالك بأنثى ضعيفة، هشة، صغيرة السن مثلها! ماحدث معها يفوق احتمال كل البشر، يكفي معانتها النفسية، وصمودها للآن لا يدل سوى على مدى قوتها حتى وإن لم تعلم هذا، يدل على أنها كالشجرة ذات الجذر المتعمق لن تقدر أي رياح عاتية على كسرها. 

وقفت أمام المرآة تلف حجابها الأسود حريصة ألا تُظهر خصلة واحدة من شعرها، وبعدما انتهت عدلت كنزتها السوداء كحال تنورتها وتأكدت أنها تغطي أردافها فهي تعلم أن ثيابها باتت تضيق عليها مع تغير جسدها وبروز منحنياته ولكن ما باليد حيلة فهي لن تقدر على جلب تنورة جديدة حتى، نظرت لذاتها في المرآة بعدما توقفت عن تفقد ذاتها واصبحت تتفقد وجهها فقط.. عيناها الواسعة السوداء كعين المها المحيطة بأهدابها الكثيفة، حاجبيها المنمقان، وأنفها متوسط الحجم وبهِ استقامة، شفتيها التي لم تميل للغلظه بل بدت طبيعية تمامًا، وبشرتها الخمرية، بدت فتاة عادية ليس بها ما يجذب، بالعكس مع ارهاقها وتعبها والهالات السوداء القليلة التي زينت اعلى عيناها وشحوب بشرتها لحد ما، كل هذا جعلها ترى ذاتها اقل من أي فتاة عادية، لوت فمها بمرارة وهي تسير بكفها على وجنتها وتغمغم:

_ يعني لا مال ولاجمال ولا حتى حظ حلو في الدنيا!

صمتت قليلاً قبل أن تستوعب ما قالته فغمغمت مرة أخرى بضيق من ذاتها:

_ استغفر الله العظيم ايه الي بقوله ده بس، الحمد لله على كل حال.

عادت تنظر لتنورتها وهي تستدير لتصبح بجنب وعوجت رأسها لتنظر لأسفل ظهرها فضيقت ما بين حاجبيها بضيق وهي تقول:

_ برضو ضيقة، البلوزة مش مغطية وقصرت هي كمان. 

عادت تقف كما كانت معتدلة وفكت حجابها لتلفه بوضع يجعل معظم الحجاب خلف ظهرها ولكن طوله لم يصل للطول الذي أرادته، تفحصت ذاتها مرة أخرى لتجد الوضع لم يتحسن، فنفخت بانزعاج وهي تقول:

_ يوووه بقى! اعمل ايه تاني! ايش حال ماكنت باكل طقة اه وعشرة لأ! نفسي افهم بس جسمي ده بيتخن من الهوا! ياربي اعمل ايه بقى معنديش حل تاني والله، هنزل بقى وربنا يسامحني، على ما اقدر اجيب جيبه تانيه اوسع او فستان.

التقطت حقيبتها واتجهت لخارج الغرفة لتجد شقيقها "مصطفى" يجلس فوق الأرضية ويضع كتبه أمامه منحنيًا يذاكر دروسه، فهو في المرحلة الاعدادية، ابتسمت بحنو وهي تتجه نحوه متسائلة:

_ ايه يا صاصا الي مقعدك كده بس؟ ضهرك هيوجعك.

رفع رأسه لها وهو يردد ساخرًا:

_ لا حوشي الانترية الي سايبه وقاعد على الأرض.

رمشت باهدابها بحرج من رده، وغمغمت بهدوء:

_ مش قصدي، بس قصدي تدخل على السرير احسن.

طالعها بضيق وهو يعقب:

_ سرير ايه الي اذاكر عليه؟ انا لما بقعد عليه بعوز انام.

لاطفته وهي تقول مبتسمة:

- معلش يا حبيبي ان شاء الله ربنا يفرجها ونجيب كنبه وكرسيين هنا.

رفع جانب فمه ساخرًا وهو يحدقها بعينيهِ البنية مستهزأً:

_ كنتِ عرفتِ تجبيلي الكتب الأول، مش جبتيلي كتابين الشهر الي فات وباقي الكتب كل حصة اروح للمدرسين من غيرهم ويحرجوني.

ادمعت عيناها وقد شعرت بالاختناق من ضغطه عليها وهي تقول:

_ اعمل ايه بس يا مصطفى هو انا بايدي! ما على يدك مرتبي يادوب بيكفي إيجار الشقة والكهربا والماية واكلنا وفلوس دروسك بالعافية.

احتد صوته وهو يخبرها:

_ ما تطلبي من الدكتور ده يزود مرتبك، مانتي بقالك سنة معاه.

هزت رأسها بنفي وهي تجيبه:

_ مينفعش، كفاية الراجل مديني مرتب عمر ماحد كان هيدهولي في اول شغلي كده، مينفعش ابقى بجحة واطلب منه زيادة كمان.

اشاح بيده بضيق وهو يقول بينما عاد للنظر في كتبه:

_ خلاص خلينا كده لحد ما نشحت.

تنفست بعمق وقد احتل الألم والحزن ملامحها قبل أن تنسحب من أمامه بعدما قالت:

_ ربنا كريم وان شاء الله هيسترها معانا ومش هنشحت ولا حاجه، وحاضر هجيبلك الكتب النهاردة.

اتجهت لباب الشقة مغلقة اياه خلفها لتستند على الحائط المجاور له وتساقطت دموعها بعجز وهي تغمغم بتعب:

_ يارب تعبت.. يارب مبقتش عارفة اتحمل ايه ولا ايه.

ظلت هكذا لدقيقة قبل أن تمسح دموعها وتستقيم مكملة سيرها قاصدة عيادة دكتور "كمال شاكر " التي تعمل بها.

________________

وهناك على بُعد بعيد جدًا عن مكان "خديجة" كان يتحدث مع ولده بالهاتف بعدما خرجَ من المنزل كي لا يستمع أحد لهذه المكالمة، حاول استمالته وهو يقول برجاء:

_ بكفياك بُعد يا باهر، مكفكش سنتين ونص يا ولدي؟ مهمل بوك وخوك وامك ليه كل ده؟ الي حُصل حُصل وعدى عليه زمن ارچع بجى.

اتاه رد الآخر وهو يقول بضيق:

_ الي حُصل مش هين يابوي، ولا هنساه حتى لو بعد عشر سنين، بس الاكيد اني هرچع لبلدي وناسي بس مش دلوجتي، مجادرش صدجني، لما اهدى هرچع.

احتل الحزن ملامح والده وهو يقول:

_ بكيفك يا ولدي، منها لله الي كانت السبب.

قاطعه "باهر" باختناق:

_ الله يرضى عنكَ ماعاوز اسمع سيرتها واصل.

_ خلاص يا ولدي المهم جولي اخبار شغلك ايه يا دكتور!؟

اتاه رده الهادئ وهو يقول:

_ الحمد لله يابوي ماشي زين، وكل يوم بكتسب خبرة.

_ربنا يصلح احوالك يا ولدي يارب، ويحنن جلبك علينا.

على الجهة الاخرى، اتجه للشرفة وهو يستمع لدعوة والده، ليزفر بضيق شاعرًا بالتقيد، فهو من جهة يريد العودة لوالديهِ فلا ذنب لهما فيما حدث وسبب ابتعاده عن البلدة عامان كاملان، وبنفس الوقت لا يشعر ذاته مؤهلاً للعودة أبدًا، ليس الآن على الأقل، ليس وهو يشعر أن ما حدثَ حدثَ بالأمس! اغمض عيناه السوداء الواسعة وهو يضغط على نواجزه بغضب حين عادت له ذكريات عامان ونصف مضت.

__________________

وعند بطلة أخرى......

انتهت من وضع الكحل في عينيها السوداء الضيقة، ورتبت خصلاتها جيدًا اسفل حجابها، والتقطت حقيبتها القماشية بعدما قيمت ما ترتديه في المرآة للمرة الأخيرة باهتمام ليلاقي استحسانها، فقد أرتدت فستان صيفي باللون البني الفاتح لائم بشرتها الخمرية الفاتحة، ولفت حجاب من نفس اللون بهِ نقوش سوداء، نظرت لملامحها بابتسامة فلدومًا ترى ذاتها جميلة، بشفتيها الغليظتان قليلاً باغراء، وانفها المستقيم حتى قرب نهايته فيتسع قليلاً، وحاجبيها الأسودان المنمقان بعناية، ابتسمت لذاتها وهي تردف بعقلها:

- مخبراش كيف البهيم ده ملفتاش نظره.

ضحكت لذاتها بخفوت على سبّها إياه، قبل ان تخرج من الغرفة لكي تذهب لمقصدها، لكنها وجدت والدتها تجلس في بهو المنزل، فقالت بهدوء مقتضب:

_ انا هوصل للحاچ سالم اشوف نتيجة التنسيج "التنسيق".

رفعت عيناها لها من اناء الرز الذي تقوم بتنقية ما بهِ من غبار او حبة فاسدة، وقالت بحدة:

_ وانا جولتلك متروحيش.

قطبت حاجبيها بضيق متسائلة بانزعاج واضح:

_ وه! ليه؟ مالزمن اشوف التنسيج جابلي چامعة ايه؟ ولا هنجم عاد!

وضعت الاناء جانبًا وهي تضع كفيها فوق بعضهما واسندتهما فوق بطنها في حركة شعبية، وهي تردف ساخرةً:

_ لا يا حيلة امك، مهتنجميش، بس مش هتفرج التنسيج اختار ايه، اكده او اكده، مهتتحركيش من الدار، لا هتسافري مصر ولا حتى سكندرية كيف ما بتجولي، ولا في چامعة من أصله بكفياكِ تعليم لحد اكده.

اتسعت عيناها بفزع، وشحب وجهها بعدما استمعت لحديث والدتها الذي لم تتوقعه، وقالت بخفوت:

_ يعني ايه!؟ انتِ مجولتليش اكده جبل "قبل" سابج.

ببرود تام اجابتها مبتسمة بسماجة:

_مكنتش رايدة خوتة دماغ، جولت اجولك في وجتها احسن. 

حركت رأسها نافية بعدم تصديق، وأردفت:

_لاه، مهتحرمنيش من حلمي ياما صُح؟ ده.. ده انا چبت ال٩٦ وهدخل طب اسنان حتى لو بعيدة كيف ما كنت رايدة.. مهتجسيش عليَّ اكده.. انا خابره إنك بتهزِري معاي صُح.. انتِ بتضايجيني عشان بتحبي تشوفيني مضايجة، بس مهتعمليش اكده. 

لم يظهر على ملامحها اي تأثر ولو طفيف! وكأنها لا تستمع إليها، أو أنها جماد لا يشعر! ظلت صامتة حتى انتهت الأخرى فعادت تلتقط اناء الأرز تكمل ما تفعله وهي تقول بقسوة:

_ همي غيري خلاجاتك "ملابسك" معوزاش وچع دماغ. 

انهارت، وتُلفت اعصابها وهي تدرك جدية والدتها، لتسقط حقيبتها أرضًا، وأردفت بنبرة باكية، بينما عيناها احتقنت بالدموع:

_ حرام عليكِ.. انتِ بتعملي معايا اكده ليه؟ ليه مصممة تكسري بخاطري، وتدوسي على جلبي، هو انا مش بتك؟ لما انتِ مهتحبنيش خلفتيني ليه؟ چبتيني عشان تعذبيني وياكِ؟ عملتلك ايه لاجل الجسوة دي كلها؟!! 

رفعت عيناها لها وهي تحدقها بشرر، وكأنها ترى عدوًا أمامها وقالت بسخرية:

_ هه، لو كنت خابرة اني هخلفك انتي مكنتش حملت من أصله، بس نجول ايه، طول عمري حظي فجر "فقر".. واه، عشان تكملي ندب.. اعملي حسابك انا وعمك اتفجنا ان خطوبتك الشهر الچاي. 

جحظت عيناها بفزع، وشهقت بقوة وهي تسألها بضياع:

- خطوبة؟ خطوبة ايه؟ خطوبة مين؟ انا... انا مفهماش حاچة. 

وضحت لها الأمر وهو تقول بملل:

_ خطوبتك يامحروسة، خطوبتك على وِلد عمك. 

دارت عيناها بضياع اكبر، وشردت بنظرها لثواني بصمت كأنها تستوعب ما تتلقاه من صدمات حتى سألتها بتيه:

_ وِلد عمي مين؟ 

ببرود تام كانت تجيبها وهي تحرك حبات الرز في الطبق وتنظر له:

_ ابراهيم. 

تدلى فكها للأسفل بصدمة، وهي لا تستوعب ما تسمعه، لم يُذكر أمامها سلفًا أنَ ابراهيم يريد الزواج منها؟ لم تشعر منهُ بنظرة أو فعل أو حتى شعور يوشي بتفكيره بها! ولكن كل هذا لم يمنعها من الهدوء، بل وابتسم ثغرها ابتسامة بالكاد تُرى كي لا تكشفها والدتها، وتنحنحت بتوتر وهي تسألها بنبرة بدت اكثر هدوءًا:

_ ابراهيم؟ هو... هو يعني الي حدت "كلم" عمي! جاله انه رايدني يعني!؟ 

لوت فمها بضيق وهي تحرك حبات الأرز:

_ وهيفرج "هيفرق" معاكِ؟ 

توترت في وقفتها وهي تعض على شفتيها السفلى بارتباك وقالت:

_ وه! يعني مهيفرجش كيف؟ جولي بس وريحيني. 

رفعت رأسها تحدقها بصمت لثانية كأنها تستشف ملامح وجهها، قبل أن تدرك أنها ارتاحت للفكرة، لكنها لم تهتم وهي تقول بهدوء:

_ مخبراش.. عمك هو الي اتحدت وياي، جالي انه رايد ياخدك لابنه. 

اختفت الراحة من ملامحها، وقطبت جبينها بعدم فهم متسائلة:

_ يعني ايه؟ مش هو الي رايدني؟ 

_ مهتفرجش معايا، كفاية عمك رايدك، حتى لو هو مرايدش، مهيجدرش يجول لابوه لاه "لا" . 

طفرت الدموع من عينيها بعدما أدركت عدم رغبته بها، وتحطمت آمالها، وعادت بائسة كما كانت تمامًا، وهي تدرك أنها لم تنجح في لفت نظره يومًا، فقالت بنبرة مختنقة:

_ وانا مهتجوزوش ياما مادام مش رايدني. 

انهت حديثها واتجهت لغرفتها ودموعها تسبقها، وضعت "سرية" الطبق بحدة فوق الأريكة وهي تنهض بملامح غاضبة بشدة، تلحق بها وهي تهتف بصوتٍ عالٍ:

- بجى بجولك الراجل مهيجدرش يجول لابوه لاه، وانتِ هتجوليلي انا لاه، ده انا كنت اجطم رجبتك.

دلفت للغرفه لتلتف لها "فريال" باكية وقد أُرهقت اعصابها وقالت بقهر:

_ معوزاش، مهتجوزش انا دلوجتي...واه بجولك لاه والي كيفك فيه اعمليه. 

اقتربت منها "سرية" خطوة واحدة وهبطت على وجنتها بكفها بعنف جعلها ترتد للخلف بضعف، ولم ترحمها حين رفعت وجهها لها تحاول الحديث، لتنالها صفعة أخرى ادمت جانب شفتيها، أجهشت في البكاء أكثر مرتدة للخلف بخوف تلقائي، لتعود "سرية" تجذبها من ذراعها بقوة لاوية ذراعها خلف ظهرها، مرددة بملامح جامدة ظهرت بها قسوتها المعتادة وبنبرة جامدة قالت بتحذير:

_ الله في سماه يوم ما تفكري تعصيني وتخرجي عن طوعي لأكون جتلاكِ وشاربة من دمك. 

هزت رأسها باصرار نافية الانصياع، وهي تهتف من بين شهقاتها:

_ماهتجوزوش ياما حتى لو جتلتيني ماهتجوزوش.

صفعة أخرى أعنف سقطت على وجنتها الملتهبة من كم ما لاقت من صفعات ووالدتها تهتف بنبرتها القاسية:

_ هتتجوزيه ورجلك فوج رجبتك، معندناش بنات تجول رأيها في جواز.. وإن كنتِ أنتِ عبيطة ومعرفاش مصلحتك يبجى كلامك ملهوش عازه عِندي.

صرخت في وجهها وهي تقول بقهر:

_ ماريدنيش! هو ماريدنيش ومغصوب على جوازه مني.

قطبت "سرية" حاجبيها باعتراض بعدما تركت ذراعها منفضة اياه:

_مخبولة اياك! مفيش راجل بيتجبر على جوازة، انا مجولتش انه مجبور، جولت معرفاش اذا كان هو الي طالب ولا عمك، وحتى لو عمك هو متربي مهيجفش في وشه كيفك يا عديمة الرباية، وليه هيبجى مش رايدك؟ عفشة ولا ناجصة ايد! ومادام عمك كلمني اكيد هو موافج. 

هزت رأسها بيأس وهي لا تهتم لحديث والدتها الأخير، وبدموعها التي تغرق وجنتيها قالت:

_ يبجى جال اهي جوازه والسلام، يعني برضو ماريدنيش انا! ماريدش فريال ياما، وطول حياتنا سوا عمري ماهشوف في عينه نظرة حلوة ليَّ.

اقتربت خطوة منها ممسكة ذراعها بحدة أخافت الأخرى وهي تهتف بحدة:

_ بت أنتِ كلام فاضي معوزاش، كلامك ده ملوش عازة عندي، الي ليكِ ان الراجل موافج على الجوزاة ان شا الله يفشفش عضمك بعدها مليش صالح، وإن سمعت صوتك ولا كلمة لأ نطجتيها هجطع خبرك.

نفضتها عنها دافعة اياها للخلف بقوة أسقطتها أرضًا ولم تعبأ لها وهي تخرج من الغرفة مغلقة الباب خلقها بقوة.

ضمت ركبتيها لصدرها وهي تردد بنبرة مختنقة من بين شهقات بكاءها:

_ حرام عليكِ، ليه غاوية تعذبيني وتحرجي جلبي، هعيش ازاي وياه وانا خابره انه مجابلنيش، هعيش ازاي وياه وانا حبه معشش في جلبي.. جلبي الي مش هيلاجي نظرة منه ترضيه.

هزت رأسها بقهر على حالتها ووضعها وهي تجهش في بكاء عنيف، عاجزة عن الرفض، ومقيدة عن التصرف، كالبهيمة التي تساق للذبح، فلا تملك قرارًا في يدها ينقذها من مصيرها الغابر.

___________________

وقف بجسده المعضل والذي اكتسب بنيان اقوى مع مرور الثلاث سنوات ومواظبته على ممارسة رياضاته المفضلة، حتى ذقنه نمت اكثر فأصبحت لحية اثقل من السابق لكنها ليست بالثقيلة فهي فقط مهذبة ووسط بين اللحية الخفيفة والاخرى، واضعًا كفه في جيب بنطاله القماشي الأسود، وواقفـاً بشموخ كعادته فاردًا ظهره، وكفه الأخرى ينفس لفافة التبغ من بين أصابعه، اخرج دخانها من فمه، وعقله شاردًا بعيدًا، هناك... بها، "فتاته الصغيرة" التي يصر القدر على ابعادها عنهُ بكل السُبل، فالرجل الذي كلفه بالبحث عنها توفى في حادث سيارة قبل أن يكمل بحثه، وقبل انقضاء الشهر ونصف الذي حددهم له "مراد"، وهذا جعله يكلف رجل اخر، بحث من اول وجديد على قائمة من يدعون "محمود الدالي" في سوهاج، والبحث ثم تصفية الأسماء اخذ خمسة أشهر كاملين، وبعدها ابلغه بالبشارة وانه وجد الشخص المعني، واخبره بعنوانه، ليركض "مراد" على الفور الي سوهاج رغم تخطى الساعة الثانية صباحًا لكنه لم يهتم، وحين وصل أخيرًا لمنزلها حدث ما لم يتوقعه.. 

منذُ عامان ونصف... 

اوقف سيارته مصدرة صريرًا عاليًا كالعادة يدل على مدى سرعته، ترجل من السيارة بقميصه الغير مرتب وخصلات شعره المبعثرة، مظهره دل بوضوح على مدى استعجاله، فلقد كان يستعد للنوم حين جاءه الخبر، فنهض مسرعًا وارتدى ما جاء أمامه دون اهتمام، فقط يهتم بان يصل لها، وصوله كان مع بداية انكشاف ضوء النهار وانجلاء الليل، فقد وصل بعد الفجر بقليل، وقف ينظر لباب المنزل بقلب آلمه من كثرة دقاته، لا يعلم ماذا سيفعل حين يراها! وماذا ستكون ردة فعلها؟ هل يجب عليهِ معاقبتها لابتعادها عنه؟ أم احتضانها لسد شوقه!؟ حقًا ليس لديهِ أدنى فكرة عن كيفية اللقاء، لكنه متحمس جدًا له، تحرك تجاه الباب وخطواته مترددة، تارة يتقدم وتارة يتأخر، يزدرد ريقه بتوتر كبير، لم يشعر بأيًا من هذا من قبل، لم يعش كل هذه المشاعر المتوترة سلفًا، وصل أمام الباب ليأخذ نفسًا عميقًا وهو يقرر طرقه، رفع قبضته وكاد يطرق الباب لكنه توقف حين ضرب بعقله شيء.. ماذا سيقول لمن يفتح أيًا كان؟ إن سأله ماذا يريد ماذا سيخبره؟ وإن كانت هي ماذا سيقول لها؟ وماذا ستفعل أن أخبرها بهويته؟ هل ستتقبله؟ أم ستصرخ طالبة الآمان من غيره؟ أم ستقذفه بعدة كلمات قاسية وربما تسبّه وتطلب منه الرحيل وألا يعترض طريقها مرة أخرى؟ ولأن "مراد" ذكي علمَ انه من الغباء ما سيفعله الآن، بل لربما يتسبب بتعقيد الأمر بينهما اكثر... ملسَ بكفه على الباب وهو يطالعه بقهر، حبيبته خلفه ولا يقدر على رؤيتها! من بحث عنها سبعة اعوام ونصف تقبع خلف هذا الباب اللعين ولا يستطع تخطيه! يالسخرية القدر! 
واثناء وقوفه كان احدهم يمر فظنه قد طرقَ الباب ولم يجد اجابه، فوقف وهو يخبره:

_ يابو عمه، محدش اهنه. 

تمالك نفسه قبل أن يلتفت لذلك الرجل، وعقد حاجبيهِ سائلاً اياه باستغراب:

_ اومال فين اهل البيت؟ مش ده بيت الحاج محمود الدالي، ابو سارة. 

اومئ له وهو يقول:

_ ايوه، هو بيته.. بس هنجول ايه محدش خابر الي حوصل. 

اتجه ناحيته حتى وقف امامه فسأله باستغراب:

_ انا مش فاهم، يعني هم فين ولا في ايه؟ 

ضيق الرجل عيناه بشك يسأله:

_ وانت تعرفهم منين؟ 

بهدوء اجابه:

_ معرفة قديمة.. المهم هم فين؟؟ 

قالها وهو يخرج بعض العملات الورقية من جيبه واعطاها للرجل، التقطهم سريعُا بابتهاج واجابه:

_ هجولك.. مخابرش اي المشكلة الي حصلت بين الحاج محمود وعيلته، بس احنا في يوم سمعنا زعيج من داره وصريخ وبعدها بيوم كان واخد عياله وعفشه "فرشه" وساب البلد، الحديت ده من اسبوعين أكده من وجتها محدش شافه واصل. 

نظر للجهة الاخرى وهو يطلق ضحكة ساخرة، حقًا! هل ظلت هنا سبعة أعوام ومن اسبوعين فقط قررت الرحيل! يالحظه العاثر! حرك رأسه بائسًا، وملامح السخرية بدت تنجلي ويحل محلها كل معاني الألم، التفت للرجل بوجه جامد تحول في ثانية استطاع فيها مداراة مشاعره، قبل أن يسأله بنبرة اثارت ذعر الآخر:

_ بقى انتَ مش عارف السبب؟ 

توتر الرجل واذدرد ريقه قبل أن يقول بلجلجة:

_ والله يا استاذ... يعني.. هو بصراحة كل الي عارفه حاجه ممكن متفيدكش. 

احتدت نظرته اكثر وهو يقول بقوة:

_ملكش دعوة تفدني ولا لأ، انطق. 

اومئ برأسه سريعًا وهو يقول بخوف:

_ استهدى بالله ياستاذ هتتزربن "هتتعصب" ليه بس، هجولك.. هم من ييجي كام شهر اكده بعد ما مرته ماتت.. 

قاطعه "مراد" بصدمة وهو يسأله:

_ دينا ماتت؟ 

تعجب الرجل من قوله اسمها دون القاب، فالفارق العمري بينهم كبير، لكنه لم يهتم كثيرًا وهو يسرد بشغف:

- ايوه، من ييجي كام شهر.. من بعدها والبت بتها مخابرينش اي الي جرالها، زي ماتكون عجلها من الصدمة فوت. 

ارتجف قلبه بقلق وهو يشعر بشيء سيء اصابها، ومن عدة اشهر! إذًا حين شعر بقلبه يؤلمه بتلك الطريقة التي انبأته انها ليست بخير!، ولكن مهلاً ما له هذا الحقير يتحدث عنها هكذا! امسكه من تلابيب جلبابه بغضب وهو يهدر بهِ:

_ اتكلم بادب يا راجل انتَ، ولم لسانك اي عقلها فوت دي! 

اسرع الرجل يحاول جذب نفسه من قبضة الآخر وهو يقول بتوتر:

_ وه! مجصديش يااستاذ والله، خلاص مهجولش كلمة عفشة. 

تركه بملامح واجمة، واعين تنبعث منها شرارات الغضب، ليزدرد الرجل ريقه وهو يكمل:

_ احنا بجينا نسمع صراخها كتير وكان محمود في الكام شهر الي فاتوا بيتدلى لمصر كتير ولاني صاحبه من زمان سألته في مرة، فجالي انه هيخلي دكتور نفساوي من مصر يشوف بته، وجالي ان الي هي فيه دِه عشان كانت متعلجه بامها هبابة "شوية"، فموتها تعبها اكده، و بعد اليوم اياه الي جولتلك عليه بكام شهر، شوفت محمود وهو هيعزل، وجتها استغربت، وسالته على فين، جالي انه هيتدلى على مصر عشان يكمل علاج بته وان المشوار بعيد عليه فهيجعد في مصر، بس يدوب خلصنا حديتنا ومشي شوية سمعت "مصطفى" ولده بيتكلم مع واحد صاحبه بيجوله انه مهيعاودش أهنه تاني واصل، وهيبجوا في مصر، وجاله ان ابوي اتعارك مع عمتي وعمي عشان اكده مهيرجعش اهنه.. ده كل الي خابره والله.

عاد من ذكرياته حين شعر بلسعة اللفافة لأصبعيهِ فانتبه من شروده وهو يزفر بحنق، يتذكر كيف مضى بعدها شهر كامل بائسًا، فاقدًا الشغف، كانت اكثر فتره ظهر فيها عصبيًا وغاضبًا معظم الوقت، حتى انه ذات مرة رفع صوته على والدته من سوء مزاجه، ولكن بعدها ذكرَ نفسه انه وعد ذاته ألا ييأس، فعاد يبحث عن اقارب ذلك الرجل "والدها" وسرعًا ما توصل لعائلته التي تسكن في نفس البلدة ولكنه لم يستفيد من الأمر فحين ذهب لعمها متحججًا أن والده له دين لمحمود وجاء هو ليقضيه مكانه، اخبره الآخر ان شقيقة ترك البلدة منذ مدة، وحين طلب عنوانه الجديد، اقسم له انه لا يعرفه وقد تعمد شقيقه هذا لخلاف حدثَ بينهما، فلم يخبره بمحل سكنه، بل لم يهاتفه من وقتها حتى رغم مرور شهر ونصف، وانه قد ذهب من هنا مقررًا عدم العودة، ووقتها دارت الدنيا بهِ مرة أخرى، ولم يعد يدرك للقائها سبيلاً، وظل لثلاثة اشهر بعدها متوقفًا عن البحث لم ييأس، ولكنه لم يجد طريقه يصل بها إليها، حتى قرر إعادة ما فعله بسوهاج، فكلف شخص برجاله بالبحث عن اي عقد إيجار او شراء منزل وُثق في الشهر العقاري باسم والدها في نفس التوقيت الذي اخبره عنه ذلك الجار بذهابهم، ولأن القاهرة اكبر بكثير.. ولأن البحث بين ملفات الشهر العقاري ليس سهلاً، اخذ الأمر للأن ثلاث سنوات ولم يتوصلوا لشيء بعد....

اتجه لمكتبه وجلس فوقه بارهاق، مغمضًا عيناه بتعب من ذكرياته، يشعر بذاته يركض في سباق لا ينتهي ولا تظهر نقطة نهايته، عشر سنوات للآن ولم يجدها، لو كان يبحث عن إبرة في كومة قش لوجدها منذ زمن! 

فتح عيناه سريعًا حين استمع لتلك الرنة المميزة التي خصصها لذلك الرجل المسؤول عن البحث عنها، التقط الهاتف مجيبًا على المكالمة وهو يتمنى لو يسمع خبرًا جديدًا يسعده:

_ ايوه يا نبيل. 

اجابه "نبيل" سريعًا بنبرة فرِحة:

_ لقيناهم يا باشا، عرفنا مكانهم خلاص عيلة فيها كل الاسماء الي حضرتك قولتها بالاعمار كمان. 

انتفض واقفًا وملامح وجهه ظهر عليها عدم تصديق واضحًا قبل أن تلمع عيناه بالدموع وهو يسأله بلهفة لم يحاول مدارتها:

_ بجد! لقيتهم بجد؟ لقيتهم فين؟ متأكد إن هم؟ 

اتاه الرد على الجهة الأخرى وهو يقول:

_ والله لقيناهم.. العقد باسم محمود الدالي، وساكن في الشقة بنت وولد، خديجة ومصطفى، ده الي عرفته لما سألت الراجل بتاع السوبر ماركت الي قدامهم، قال ان بنت الراجل وأخوها هم الي عايشين في الشقة بعد موت ابوهم من سنة، وانهم من الصعيد اصلاً.. وقال كمان ان البنت شغالة سكرتيرة عند دكتور نفسي.. كان فاكر اني عريس عشان كده قالي كل المعلومات دي وانا فضلت مفهمه اني فعلا عريس عشان اخد منه معلومات، لحد مابالصدفه وانا واقف قالي اهي نزلت اهي، لفيت لقيت بنت طالعه من باب العمارة، عملت نفسي عارفها واستأذنت منه وخرجت ومشيت وراها من غير ماتاخد بالها لحد ما عرفت العيادة الي شغاله فيها. 

بهرولة كان يلتقط مفاتيح سيارته فقط حتى لم يهتم بسترته، وهو يركض للخارج بانفاس متسارعة، وعقله يردد.. لن اضيع اثرها مرة أخرى، حتى انه لم يهتم ب السكرتيرة الخاصة بهِ التي كانت على وشك دق باب المكتب، واصطدم بها بقوة اوقعتها ارضًا ولم يبالي وهي تطالع ركضه باندهاش فمنذُ متى وربّ عملها يركض هكذا بهرجلة!؟ والاندهاش كان نصيب كل من بالشركة وهم يروه يهرول بهذه الطريقه بل ولا يرتدي سترته كالعادة! 

استقل المصعد الكهربائي وهو يهتف لنبيل، بتحذير:

_ متفارقش مكانك، ولو جيت ملقتهاش يا نبيل هاخد روحك. 

واغلق الهاتف وانفاسه مسموعة كمن يركض في سباق، وكل ما يفكر بهِ حاليًا أن يلحقها قبل أن تضيع منه مرة أخرى، وهذه المرة ستكون القاضية بالنسبة له.... 


بك احيا 
ناهد خالد 
الفصل الرابع عشر 

"سخرية الحياة! "
"وكيف ما ننتظر لقاءه عمرًا حين نلقاه نجد ذاتًا نتراجع! هل هذه سخرية الحياة التي يتحدثون عنها!؟ أم إنها لعبتها البغيضة في مفاجئتنا دومًا؟!"

عدلَ من جلسته حين رأى أبيهِ مُقبلاً عليهِ، فجلس معتدلاً بعد أن كان يتسطح على ظهره، ابتسم له "منصور" وهو يجلس أمامه قبل أن يقول:

_ كيفك يا ابراهيم؟ 

اجلى حنجرته وهو يجيبه بصوته الأجش:

_ الحمد لله يابوي. 

سأله بعدها بوضوح:

- مجولتليش رأيك في بت عمتك المره الي فاتت ما سألتك سكت ومتكلمتش. 

رفع منكبيهِ ببرود وهو يقول:

_ وانت خدت سكوتي موافجة، وكلمت عمتي، هتسألني تاني ليه بجى. 

ابتسم له "منصور" بنفس بروده معقبًا:

_ مهم بيجولوا السكوت علامة الرضا، بعدين عمتك حبيبتك معجول هتكون مرايدش بتها؟ 

وبوقاحته المعهودة كان يجيبه وهو يجز على نواجزه:

_ السكوت علامة الرضا! ليه؟ بت انا اياك عشان اختشي اجول رأيي، بعدين اي علاجة حبي لعمتي اني اتجوز بتها! انا هتجوزها هي ولا بتها! 

رفع "منصور" حاجبيهِ بنزق وهو يحذره:

_ اتحدت زين وياي، بعدين لو مرايدهاش جولي مهغصبكش على جوازك منيها، البت متتعايبش عشان تتجوز واحد مش رايدها، ودي بت خيتي "اختي"، يعني كيف بتي مهجبلش انك تعاملها من غير نفس وتحس نفسك مجبور عليها. 

تأفأف بنزق وهو يجيبه بلامبالاة:

_ مفرجاش... 

تمتم هامسًا لذاته:

_ كده او اكده مطايجش صنفهم. 

_ بتجول ايه؟ 

تسائل بها "منصور" بعدما فشلَ في سماع ما قاله همسًا، ليرفع "ابراهيم" صوته قائلاً بهدوء:

_ مجولتش.. مخابرش ليه مستعجل على جوازي، ده انا لسه يدوب عشرين سنة، متشوف باهر الأول! مش هو الاكبر بردك؟ ده جرب على ال٢٦ سنة. 

تلونت معالم "منصور" بالحزن وهو يجيبه مهمومًا:

_ باهر! باهر من بعد الي حوصل مليش ادخل في حياته، حتى لو عملت اكده هو مهيسمعليش، رغم انه بيتحدت وياي بس انا خابر انه شايل ومعبي مني ومنا كلنا. 

ذم شفتيهِ بأسف مصطنع سريعًا ما انحدر وهو يقول بسخرية:

_ الموضوع مماستهلش كل ده! حكاية وخلصت.. بس باهر اخوي اكده يعمل من الحبة جبة. 

حدقه والده بنظرة غاضبه وأردف بضيق من لامبالاته وسخريته:

_لاه هو بس البعيد معندوش دم، وهو مش كيفك. 

أشاح بوجهه بلامبالاة وبالطبع لم يقتنع بحديث والده، فهو مازال يرى "باهر" قد اعطى الموضوع اكبر من حجمه! وبالنهاية لا الموضوع ولا باهر يخصونه في شيء، لذا انهى الجِدال وهو يقول:

_ خلاص يابوي ملياش صالح، انا هجوم اروح اطل على المصنع. 

اعترض والده وهو يسأله:

_ هو انتَ موركش غير مصنع العلف؟ فيه حدانا شغل تاني، روح طل على المجزر ولا المزرعة. 

تأفأف وهو يلتقط مفتاح سيارته وهاتفه، وقال:

_ يوه يابوي، جولتلك محبش انا شغل المزرعه ولا المجزر، خليني انا في المصنع بفهم فيه وبعرف امشي شغله كيف، وغير اكده شغله كتير ومحدش هيعرف يديره غيري، ولما بيبجى في شغل كتير في المجزر في الاعياد والمناسبات بروح. 

هز "منصور" رأسه بيأس وأردف:

_ بكيفك مهجادلش معاك، المهم جهز نفسك خطوبتك انتَ وبت عمتك بعد شهر. 

ابتلع امتعاضه وردد بتساؤل ساخرٍ:

_ والفرح امتى يا حاج؟ عشان بس الحج اعزم الناس. 

قابله "منصور" بنفس سخريته وهو يقول:

_ لا ياروح الحاج الفرح مش دلوجتي، انت جولت لساتك معدتش ال٢٠.. الفرح كمان اربع سنين اكده، وعلى ما البت تكمل تعليمها. 

رفع حاجبيهِ اندهاشًا، وهو يردف رافضًا:

_ يعني ايه! ولما هي اجده ايه لازمتها خطوبة دلوجتي!؟ 

وقف "منصور" يواجهه وقال:

_ عشان البت متجدملها عريسين لدلوجتي، وانا مهستناش يتجدملها التالت والرابع، لازمن البلد كلتها تعرف انها محجوزالك، وخطوبتك ليها مهتخلكش لاتتحدت وياها ولا ليك علاجه بيها، علاجتكوا هتبجى كيف دلوجتي فهمت؟ دي خطوبة صوري اكده، لحد مانا اجول خطوبة رسمي وجتها تتعاملوا بعرف المخطوبين وده مهيكونش جبل ٣ سنين. 

سأم الحديث في هذا الموضوع، فهتف وهو يخرج من المنزل:

_ اعمل الي تشوفه يابوي. 

واغلق باب المنزل خلفه، ليتنفس "منصور" بعمق وهو ينظر لأثره وقال:

_ ربنا يهديكِ يا ولدي. 

_________________

خرج من غرفة العمليات التي كان أحد المشرفين على عملية هامة بها، ازال قناع وجهه والقى قفازات يده في الأماكن المخصصة لها، تنفس بتعب وهو يخرج من الباب الرئيسي قاصدًا الاتجاه لغرفته ليستريح بها قليلاً بعد أربع ساعات قضاهم في العملية، استمع لصوت ضوضاء قادم من آخر الطرقة التي يسير بها، ليقطب حاجبيهِ باستغراب وفضول ناحية الصوت، فرأى فتاة ترتدي بنطال من الجينز المهترئ من عند الركبة وهذا ما يُدعى بالموضة! وكنزة بدون اكمام حمراء اللون تجسم جسدها العلوي بضيق فتبرز بياض جسدها، ذو فتحة صدر واسعة لحدًا ما، وخصلاتها البُنية المدرجة أحاطت وجهها الأبيض بعيناها البُنية الفاتحة وحاجبيها المنمقان وثغرها المغري، بدت جميلة لحد لا يمكن تجاهله، رغم قصرها الواضح والذي ابداها اكثر اغراءًا، توقف أمامهما وهو يراها تتشاجر مع ممرض من المستشفى، ليتسائل بصوت مرتفع كي يطغو فوق صوت شجارهما:

_ في ايه؟ ايه الدوشة دي؟ الدور فيه غرف عمليات مينفعش الي بتعملوه ده. 

توقفا عن الشجار، لتلتف له تلك الثائرة تريد الصياح بهِ هو الآخر لكنها ابتلعت ريقها حين رفعت عيناها لتبصر وجهه، حين التفت قابلت جثة بطول فارع وصدر عريض لحد ما، رفعت نظرها لتقابل وجهه الخمري الذي تزينه عيناه السوداء الواسعة، وانفة المستقيم، وخصلات شعره السوداء، مهلاً أنها نفس الملامح التي تفضل دومًا رسمها، انتبهت على صوته حين تنحنح وهو يقول:

_ انتِ معايا يا انسة؟ 

اومأت برأسها وهي تشيح ببصرها بعيدًا عنهُ وقالت بصوتها الرقيق:

_ ايوه.. هو.. الأخ ده بقوله عاوزه ادخل اشوف مامي مش موافق رغم ان امبارح الدكتور المشرف عليها قالي اني ممكن اشوفها بكره. 

قطب حاجبيهِ مستغربًا وهو يقول:

_ لحظة بس، تشوفيها فين؟ هنا الدور كله غرف عمليات. 

التفت له مرة أخرى وأوضحت وهي تشرح بحماس جعله يبتسم لها بلطف:

_ لا مهي مامي تحت في العناية المركزة، وانا كنت تحت والأخ ده برضو كان تحت، بعدين انا وهو اتخانقنا تحت بس قليل الذوق ده سبني وطلع قبل ما نكمل الخناقة، فطلعت وراه. 

كبح ضحكته وهو يتجه بنظره للمرض يسأله بحدة مصطنعة كشفها الممرض فضحك بخفوت:

_ انتَ ازاي تطلع قبل ما تكملوا خناقة؟ مش اصول خناقات دي! 

شهقة ناعمة خرجت منها وهي تلتفت له بعد أن كانت تنظر للممرض بانتصار، لتدرك أنه يستهزأ بها، فحولت ضفة الشجار له وهي تهتف بضيق:

_ الله! أنتَ بتتريق بقى! عيب عليك على فكرة انتَ دكتور ميصحش طريقتك دي.

قالتها وهي تنظر لثوب العمليات الذي يرتديه، والذي اوشى بمهنته، فتحكم "باهر" في ذاته وهو يصطنع الجدية ناظرًا للممرض:

_ هي الزيارة ممنوعة عنها؟

اومئ الممرض وهو يقول ل"باهر":

_ اه، الدكتور مانع الزيارة وده لمصلحتها لانها مكملتش يومين في العناية، ده الي بحاول افهمه للانسة بقالي ساعة. 

ذم "باهر" شفتيهِ بتفهم وهو يشير له بالذهاب، ثم اتجه بنظره لها وهو يحاول الشرح:

_ بصي يا انسة... 

ضيقت ما بين حاجبيها بتأفأف وهي تقول:

_ جاسمين...

_ نعم؟ 

هتف بها بتفاجئ من مقاطعتها له، لتنظر له بملل بمعنى انها لن تعيد كلمتها مرة اخرى، تنحنح باستيعاب حين علمَ أنها أخبرته باسمها، فاكمل بهدوء:

_ بصي يا انسة جاسمين، والدة حضرتك واضح انها حالتها مش مستقرة، وعمومًا أي حد في العناية المركزة مش صح ابدًا يبقى له زيارات، وده لمصلحتها خصوصًا أنها مكملتش يومين في العناية. 

تهدلَ كتفيها بحزن واغرورقت عيناها بالدموع وهي تهمس بنبرة مختنقة:

_ انا بقالي يومين مشوفتهاش.. وانا مش متعودة تغيب عني كده، عاوزة بس اشوفها حتى لو من بعيد. 

تأثر من نبرتها ومعالمها التي لم يليق بها الحزن، ليزفر ببطء وهو يضيق عيناه بينما يقول لها:

_ خلاص، ايه رأيك تشوفيها من ورا الازاز، ينفع؟ 

أشرقت ملامحها مرة أخرى وابتسم ثغرها المطلي بملمع شفاه فقط دون لون، وهو تومئ برأسها قائلة بفرحة:

_ ينفع. 

ابتسم تلقائيًا وهو يشير لها لتسبقه فثارت أمامه بحماس ظهرَ على حركات جسدها كطفل حصلَ أخيرًا على ما أراد، ابتسم هازًا رأسه بعدم تصديق، ترى ما عمر هذه الفتاة هل تجاوزت العشرين حتى!؟ لا يصدق أنها تخطت عمر المراهقة بعد!؟ 

_________________

ترجل من سيارته بأنفاس ذاهبة، يشعر أنه لا يجد في صدره نفسـًا واحدًا لالتقاطه، قلبه يرتعش، وهل تعرف هذا الشعور!؟ من جربه حتمًا سيعرفه، ومن لم يجربه سيجده مبالغًا فيه، لكن على أي حال فالصدق هو ما اقوله ويشعر هو بهِ الآن، رأى الرجل الخاص بهِ يقترب منهُ، فوقف بثبات ينظر إليهِ حتى اقترب الأخير وهو يقول:

- باشا هي في العمارة دي، الدور السادس هتلاقي حضرتك يافطة عليها اسم "كمال مختار" طبيب نفسي. 

اومئ برأسه بشرود يخبره وعيناه تنظر للعمارة التي أشار إليها، كأنه يقنع عقله أن من ركضَ ورائها عشر سنوات تقبع هنا! يفصله بينها عدة خطوات، ومصعد كهربائي فقط!؟ رباه وكيف له أن يصدق بسهولة؟:

_ خلاص روح انتَ، وبرضو متسحبش رجالتك من عند بيتها، سيبهم يمكن نحتاجلهم هناك. 

اومئ الرجل برأسه، وهو يخبره بانصياع:

_اوامر ياباشا، بالاذن أنا يا كبير. 

علَ صوته وهو يخبره للمرة الأخيرة قبل أن ينسحب من أمامه متجهًا للعمارة:

_ كلم طارق. 

وهذه الجملة معناها "مكافأة نقدية كبيرة" جعلت الرجل يهلل من خلفه بفرحه:

_ ربنا ما يحرمنا منك ياباشا، خيرك سابق والله. 

لم يهتم بأيًا من هذه الثرثرة وهو يقرر ترك قدماه لتهرول لها، إن وقف حتى يستوعب عقله فلن يستوعب، وإن انتظر أن يستعد فلن يستعد، ربما سيأتي عليهِ عشرة أعوام أخرى هنا قبل أن يفعل! لذا قرر ترك كل هذا جانبًا والركض فقط ناحيتها... 

وأثناء صعوده في المصعد، أخذ عقله يدور كدوران عقرب الساعة، دون توقف، يتسائل هل سيعرفها حينما يراها؟ أم عشر سنوات نجحوا في تغيير ملامحها؟! يقولون أن الشخص مهما كبر يظل يحمل طيف من ملامح طفولته، وهو لم ينسى ملامحها يومًا إذًا سيجد بها شيئًا يخبره أنها خديجة، أم أن قلبه سيتعرف عليها أولاً كما يفعل دومًا!؟ وهي هل ستعرفه؟ هل ستشك حتى بأنها رأت هذه الملامح سلفًا!؟ لا يعلم، وعقله متخبط في الحيرة، وبين ترجيح رأي وآخر، ورغم حماسه لاللقاء إلا أنه يريد الفرار بعيدًا من كثرة خوفه منه، وياللعبث "مراد وهدان" يخاف من شيئًا!!؟ ولكن دومًا كان أي شيء يرتبط "بخديجة" غير.. 

خرج من المصعد ليرى اللافته أمامه، اذردر ريقه بتوتر بالغ حتى تحركت تفاحة آدم لديهِ بوضوح، رفرف بأهدابه أكثر من مرة، وقبض على كفه عدة مرات يقبضه ويبسطه، يشجع قدماه على التحرك لكنها لا تفعل، وعقله بات يتخيل أبشع السناريوهات عن ردة فعلها، كأن تطرده، أو تصرخ بوجهه ملقية اللوم عليهِ في خسارة شقيقتها، أو تظهر بغضها له وتطلب منه الرحيل للأبد وألا يريها وجه ثانيًة! وكل هذه التخيلات البغيضة ثبتت قدماه في الأرض أكثر، حتى أن أول خطوة فعلها أنه عاد للخلف بدلاً من التقدم! احتقنت عيناه بالدموع وهو يلتف عائدًا وهرول للمصعد.. وبدلاً من أن يهرول إليها هرولَ منها وتبًا لسخرية الحياة!!! 

________________

مسحت دموعها حين استمعت لصوته يحدثها برفق:

_ كفاية كده بقى، بقالنا كتير هنا وانا قولتلك خمس دقايق بس. 

اومأت برأسها وهي تلتف له ليري عيناها المحمرتان، وأنفها الذي لم يبدو أفضل حالاً، فوجد ذاته يواسيها بتلقائية:

_ صدقيني هتكون بخير ان شاء الله، ادعي ربنا بس واتماسكِ. 

مسحت عيناها جيدًا وهي تردف بنبرة خافتة وعيناها تطالع الأرضية بتأثر بحالة والدتها:

_ ان شاء الله. 

سألها بفضول:

_ هو محدش معاكِ؟ 

نفت برأسها مجيبة:

_ لأ، بابي مسافر بره في شغل، اصله عامل بيزنس خاص بيه في ايطاليا ومن اكبر ال business men  "رجال الاعمال" هناك، عشان كده للاسف ميقدرش ينزل فجأة كده من غير ما يرتب أموره والي حصل لماما حصل فجأة، بس ان شاء الله هينزل خلال يومين... سوري شكلي رغيت كتير كالعادة. 

قالت الأخيرة بحرج وهي تعيد خصلات شعرها المتهدلة خلف أذنها، ليبتسم لها بود وهو حقًا يشعر بالتسيلة من حديثها:

_ لا ابدًا بالعكس، رغيك مش ممل خالص ده مسلي، يلا نخرج بقى قبل ما نتقفش هنا واترزع حتة مخالفة القوانين تنقص نص مرتبي. 

ضحكت وهي تخرج مجاورة له:

_ لا وعلى ايه، الطيب احسن، انتَ برضو عملت معايا معروف عمري ماهنساه. 

ضيق ما بين حاجبيهِ بضيق مصطنع وهو يشيح بيده معترضًا:

_ لا مانا مش لسه هستنى اشوفك تنسيه ولا لأ، انا احب أخد رد معروفي وقتي لو سمحتِ. 

ابتسمت باتساع على مرحه، وقالت وهي تنظر له بينما يسيران:

_ ارده ازاي طيب؟ 

رفع كتفيهِ بغضب مصطنع قائلاً بشفاه مذمومه:

_ لو مهتمة كنتِ عرفتي لوحدك. 

ضحكة عالية خرجت منها فجأة جعلته يتوقف محله وينظر لها بدهشة، وهي وضعت كفها على فمها سريعًا مدركة ان ضحكتها كانت اعلى من اللازم، وجدته ينظر حوله ليجد البعض يطالعهما باستغراب، فأي مجذوب هذا يطلق ضحكة عالية كهذه في مستشفى؟! رفع كفيهِ معتذرًا وهو يقول:

_ اسفين يا جماعة، هي بس اتصدمت من حالة والدتها فده رد فعل انعكاسي مش اكتر. 

استمع إلى أحد السيدات تقول بشفقة:

_ ربنا يلطف بيكِ يابنتي. 

هز رأسه بحزن وهو يشير لها بالتحرك، ضغطت على أسنانها بضيق قبل أن تهمس له وهي تناظره بنظرات طفولية غاضبة:

_ بقى بتطلعني مجنونة! طب والله ما ردالك حاجه، هه.. 

انهت حديثها وهي تتركه وتهرول بخطواتها الغاضبة للخارج، ليضحك بخفوت وهو يهمس لذاته متعجبًا:

_ ايه البت دي!؟ 

انتبه لأحد يهتف باسمه فتركه وتحرك ليتابع عمله، وعقله طوال اليوم لم ينفك عن تذكرها والابتسام تلقائيًا! 

_____________________

وضعت كوب الشاي الساخن أمام عمها الذي فتح ذراعه لها وهو يأمرها بلطف:

_ تعالي جاري اهنه. 

جلست جواره وهي تحاول أن تبدو جيدة، رغم تورم عيناها من البكاء، ألا أنها تحاول مداراة هذا، فإن فعلت العكس ربما سيكون اليوم أشد ما تلقاه من والدتها التي تحدقها بحدة، استمعت لعمها يسألها بعد أن أحاط كتفيها بذراعه:

_ جرى ايه لعينك؟ مورمة أكده ليه؟ 

وقبل أن تجيب سبقتها "سرية" بأسف مصطنع أتقنته:

_ مخبرينش ياخوي، من وجت ما صحيت وهي أكده. 

_ اشيع اجبلك الحكيم؟ 

سألها "منصور" بلطف، لتجيبه بهدوء:

_ ملوش داعي حطيت جطرة "قطرة" ،وهبجى زينة. 

اومأ برأسه وهو يسألها ثانيًة:

_ جوليلي عرفتي جامعتك ايه؟ 

_ وه! جامعة ايه يا منصور، مش اتفجنا ان خطوبتها هي وولد عمها الشهر الجاي؟ 

للمرة الثانية كانت "سرية" تتدخل في الحديث قبلها، فنظر لها "منصور" باستغراب:

_ به! اي علاجة دي بدي؟ بعدين خطوبتهم انا ماددها ٤ سنين على ماتخلص جمعتها. 

_ صُح ياعمي؟ 

تسائلت بها "فريال" بلهفة وأعين دامعة، لينظر لها "منصور" بحنو مجيبًا بحنانه المعهود:

_ صُح يا جلب عمك، اوعاكِ تكون المخبولة دي هي الي عامله أكده فيكِ! جالتلك مهتكمليش تعليمك صُح؟ 

اومأت برأسها وهي تجهش في البكاء غير قادرة على السيطرة على ذاتها أكثر، فاحتضنها لصدره وهو يهدأها بضيق جلي، جعله ينظر ل"سرية" بحدة وهو يهتف بها غاضبًا:

_ لو زعلتي البت تاني وعهد الله لهنزل عليكِ بالكرباج لحد ما يبانلك صاحب سامعة! مرا سو بصحيح.. 

ابتلعت ريقها وهي تنظر بعيدًا، رغم قوتها إلا أنها تخشى شقيقها حقًا ولا تحبذ أبدًا أن تكن نِدًا له. 

_ يا مركوبة "جزمة" أنتِ حد طايل ضفرها دي!؟ انا جدامك اهو انا ومرتي، ياما اتمنيا ربنا يرزجنا ببت واحدة تعمل للبيت حس بدل البغال الي معاي، بس ادي الله وادي حكمته.. عشان أكده دي بتي مش كيف بتي لاه، ولو جربتيلها تاني متلوميش غير نفسك. 

اومأت برأسها بخنوع مستسلم وداخلها يفور غضبًا من تلك الفتاة التي وضعتها في موقف كهذا.. 

رفع رأس "فريال" عن صدره وهو يمسح دموعها ويخبرها بابتسامة:

_ عشان أكده مرايدش ليكِ البهدلة وطلبتك لابراهيم ولدي.. ولولا الي حُصل كنت خدتك لباهر، بس يالا اهم التنين من دمي وهيحفظوكِ. 

ضغطت "سرية" على شفتيها بغضب وهي تلعن ذاتها، فلولا فعلتها لكانت ابنتها من حظ الابن الأكبر الآن، وها هي من تعض اصابعها من الندم! 

_ همي يالا، جومي نروح شوف جالك جامعة ايه. 

ابتسمت له بسعادة، واقتربت تقبل وجنته بفرح بالغ ثم ابتعدت تركض للداخل لتغير ثيابها، بينما هو يحدق "سرية" بنظرات غاضبة، حتى قال بحدة فجأة:

_ جومي فزي من وشي، مش طايج اشوفك. 

نهضت على الفور ودلفت للداخل تحت نظراته الغير راضية، والذي عبر عنها بتمتمته:

_ عجول فارغة! "عقول" 

___________________

لم يستطع! حقًا لم يستطع؟! لم يستطع الوقوف أمامها ورؤيتها كما تمنى عمرًا! توقع سناريوهات كثيرة لهذا اللقاء إلا أن يركض هاربًا هكذا!؟ ضحكة مستهزأه خرجت منه بينما يجلس في سيارته يراقب العمارة بحزن وحسرة، وأصابعه تنقر فوق المقود، كحاله منذُ خمس ساعات مضوا، حرك رأسه ساخرًا ونظر للمقود وأصابعه تطرق فوقه وهو يحدث ذاته أخيرًا بنبرة مقهورة رغم سخريتها:

_ بقى بعد كل ده مش قادر تواجهها!؟ بعد عشر سنين بتتمنى تعرف طريقها لما يكون بينها وبينك خطوة تجري زي الجبان؟!! 

حول نظره للعمارة وتحدث كأنه يراها:

_ طب اعمل ايه؟ قوليلي أنتِ، انا خايف وقلقان ومتوتر، مش عارف اتصرف ازاي، من كتر خوفي لرد فعلك يبعدك عني اكتر حاسس نفسي متكتف، خايف الاقي رفض تام منك وتقفليها في وشي، خايف اشوف نظرة خوف او عتاب في عينك.. أنتِ ازاي بتعملي فيا كده بجد؟ ازاي يا خديجة؟  انا مراد وهدان الي اجدع شنب يتهزله اجي قدامك واخاف واضعف كدة! اخاف من رد فعلك زي عيل صغير، واتردد من مواجهتك بالشكل ده! 

صمت واغمض عيناه لدقيقة بعجز وعقله الآن لا يهديه للتفكير الصحيح، فقرر أن يراها فقط اليوم ثم سيجلس ويرتب اوراقه قبل اللقاء الثاني. 

وطوال جلوسه في السيارة كان يفكر، فتيات كثيرات تخرجن من العمارة تُرى هل سيعرفها من بينهن؟ بالأعلى كان الوضع سيكون أسهل بكثير لكن الآن بات معقدًا.. 

وضع كفه على قلبه مؤمنًا بهِ وقال:

_ متأكد إنك مش هتغلط فيها. 

وصدق أم لا تصدق فجأة علت دقات قلبه مع خروج إحداهن، فتاة تبحث في حقيبتها عن شيء ما فتوقفت أمام باب العمارة حتى تجده، ترتدي كنزة سوداء وتنورة مماثلة وحجاب لم يختلف عنهم، لم ترفع وجهها بعد لكنه عرفها! حاول ابتلاع ريقه لكنه لم يستطع، لم يتحرك عنقه حتى، عيناه مثبته عليها وهو يضع كفه فوق قلبه يستشعر دقاته المنتفضة، وها هي أطلت بوجهها وهي تتحدث بالهاتف الذي كانت تبحث عنه في حقيبتها الكبيرة، تبًا للحياة التي قست علينا لتفرقنا كل هذا الوقت؟! أم تبًا لي لأنني السبب الرئيسي لحدوث كل هذا؟ عيناها كيف مازالت نفسها؟ واسعتان وبريئتان وبهما لامعة خاصة، عيناها التي يستطيع تمييزها من بين مليون من البشر، ولكن للأسف كل ما تبقى من ملامح طفولتها هي عيناها وبشرتها الخمرية فقط! باقي ملامحها بدت غريبة عليهِ، وهذا ما جعله يلعن... لم يعرف من الملعون تحديدًا لكن عزَ عليهِ أن يستغرب شكل من تمثل له كل شيء هكذا! أن يستغرب شكل ساكنة قلبه، وحبيبته، ورفيقة طفولته، وابنته التي ربها على يده، ابتسم ثغره بحنين وهو يشبع عيناه منها، وللعجب لم يجد الجرأة للترجل والذهاب إليها واحتضانها رغم رغبته في هذا وبشدة!! همس من بين شفتيهِ وقد عرفت دموعه طريقها لوجنتيهِ كالعادة لا تنزل سوى من أجلها هي فقط:

_ خديجة.. 

وكأنه يستشعر حلاوة اسمها مع صورتها لأول مرة منذ عشرة أعوام!  

تعليقات