
رواية انت عمري الفصل الثاني عشر12 بقلم امل مصطفي
تتحرك وهي تتأمل كل شيء حولها بحب وقلب بريء، لكنها ابتعدت دون أن تدري، ولم تعد تعرف أين هي. تلتفت حولها، فوجدت أمامها مجموعة من النساء العاملات في الأرض، يجلسن تحت شجرة كبيرة، وحولهن أطفال أعمارهم مختلفة يلعبون بالكرة التي أتت في اتجاهها. انحنت لتتناولها بابتسامة ساحرة، وتوجهت للأطفال.
وقفت بينهم وما زالت الكرة بيدها.
"ممكن ألعب معاكم؟"
فرح الأطفال، ورحبوا بالفكرة.
بينما ركضت إحدى السيدات نحوهم بخوف على طفلتها من تلك الغريبة. جذبت ابنتها ووجهت حديثها لعشق، تسألها عن هويتها وماذا تريد من أولادهم.
ردّت الأخيرة، التي أخبرتها باسمها بالكامل، مما جعل السيدة تتغير في المعاملة من الحدة إلى اللين.
"أنتِ حفيدة كبيرنا المنشاوي؟ كيف ده؟ إحنا نعرف أحفاده كليتهم."
قالت عشق:
"أنا بنت ابنه محمود."
ردّت السيدة بحفاوة:
"يا مرحب يا مرحب! اتفضلي معانا، نضيفك."
تحركت عشق جوارها، وتناولت منها ابنتها، شكرتها وجلست معهم. كانت تتوسطها سيدة عجوز، فسألتها:
"أكيد أنتِ بنت مراته الثانية اللي كسر كلام الكبير بسببها؟ لأن محمود وست نعمة مخلفوش بسببها."
أكدت عشق كلامها، وهي تكمل:
"أنا برضه بنت ماما نعمة."
وسألتها السيدة مرة أخرى:
"وأنتِ كيف الجمر كده لأمك؟"
قالت عشق:
"أه يا جدة، أنا شبه ماما الله يرحمها."
السيدة العجوز بصدق:
"أبوكِ الله يرحمه كان زينة شباب البلد، ما بيتكبر على حد، طيب وحنين على الكل، حتى العمال اللي بيشتغلوا عنده في الأرض كان ينزل يوقف وسطهم ويساعدهم."
شعرت عشق بفخر شديد من سيرة والدها، الذي أخذت جزءًا كبيرًا من حبه وحنانه. وزاد فرحتها من سماع الحكايات التي قصّت لها العجوز عن الكثير من أخبار البلد في زمن والدها، حتى تلك الحادثة الشنيعة.
مر الوقت بسرعة، وبدأت الشمس تغيب.
جاء الأطفال إليها يطلبون منها مشاركتهم اللعب. قامت وركضت بينهم، وضحكتها المرحّة ترن من شدة السعادة.
نظرت عشق إلى كبيرهم وسألته عن مكان بيع الحلويات. ناولته المال ليشتري لكل الأطفال، وهي معهم فرحة الصغار.
وسأل كل شخص ماذا يريد حتى يأتي به، ثم تركهم وذهب.
بينما رنّ هاتف عشق برقم نعمة، التي تحدثت بخوف:
"أنتِ فين يا عشق؟ لحد الوقت مش جُلتِ؟ مش هتتأخري؟"
ردّت عشق:
"والله يا ماما، توهت ومش عارفة أنا فين. ثواني هسأل."
توجهت إلى تلك العجوز تسألها عن اسم المكان.
تحدثت العجوز وأرسلت لها السلام:
"جولي ليها، أم الغوالي بتسلم عليكي."
قالت عشق:
"وهي كمان بتسلم عليكي يا جدة."
ردّت العجوز:
"حاضر يا ماما، هستناكِ."
بعد مرور ربع ساعة، توقف أمامها فهد، ونزل من سيارته وألقى السلام على الجميع.
وعندما فتحت عشق الباب، وجدت نظرته تغيرت من القوة إلى شيء آخر، ليس حبًا، وإنما حيرة. عندما التفتت إلى مكان نظرته، وجدت فتاة تقريبا في سنها أو أكبر بسنة، تنظر له بحب وحزن في نفس الوقت.
ركبت السيارة وأغلقت الباب.
فاق فهد من حالة التيه التي تصيبه كلما رآها. ركب سيارته وابتعد بها.
---
أما ماسه فقد توقفت تتأمل طيفه، وهي تحبس دموعها بقوة لأنها تعشقه. وما تراه الآن هزّ كيانها. تعلم جيدًا أن ارتباطهم أو رؤيته لها من رابع المستحيلات؛ لأن بينهما عداوة.
مجرد رؤية أي امرأة جواره يقتلها حية العجز والضياع. ما تشعر به الآن.
جدها هو سبب عذابها وسواد أيامها. فهو يعتبرهم أعداءه الألداء، ودائمًا يحفر بيده بئرًا ينهي حلم قربها منه.
توجهت إليها سلسبيل:
"إيه يا بنتي؟ بقالك ساعة بكلمك، وقفة كده ليه؟"
فزعت سلسبيل عند رؤية دموعها، لتسألها بقلق:
"إيه حصل؟ بتعيطي ليه كده في الشارع؟"
إرتمت في حضنها وهي تبكي. ظلت تبكي بعض الوقت.
سلسبيل بخوف:
"مالك يا حبيبتي؟ إيه حصل؟ أنا سبتك دقايق بس."
تمتمت من بين شهقاتها:
"شوفت فهد."
شهقت سلسبيل بخوف من سماع حديثها، وتلفّتت حولها، وهي تحذرها:
"تعالي نقعد في مكان لوحدنا. لو حد شاف انهيارك ده هيفهموا غلط، والكلام ها يكتر في البلد."
جلست الفتيات في مكان بعيد هادئ، وسألتها سلسبيل عن ما أوصلها لتلك الحالة، فهي دائمًا تراه وتكون حالتها النفسية فوق السحاب من شدة سعادتها، كأنها ليلة العيد.
"ماذا حدث اليوم لذلك التغيير؟"
قالت ماسه :
"شوفت النهارده معاه واحدة جميلة جدًا ركبت معاه العربية. شكله كان مهتم بيها."
وأنتِ عارفة كل تعامله مع حريم بيته. وأنا عارفةهم كلهم، لكن دي ملامحها أجنبية خالص، وأكيد تبقى خطيبته. ومعنى أنه خطب، يبقى مافيش أمل ليّا معاه."
تأملت سلسبيل حالتها بإشفاق، تريد أن تنتهي معاناتها، ثم قالت:
"بصي يا حبيتي، أنا مش قصدي أضايقك، بس أنتِ كان عندك معاه أمل. إمتى؟ كل حاجة حوليك بتقول إن ده مستحيل."
"ياما قولتلك شليه من حساباتك وعيشي حياتك."
"أنا خايفة عليكي من لحظة انهيارك. لو اتجوز، علشان خاطري وافقي على العريس اللي تقدم."
تعلم ماسه أن كلام ابنة خالتها صحيح، لكن ليس للقلب سلطان. وهتفت مختنقة بدموعها:
"غصب عني، مش بيدي. مش أنا اللي قولت لقلبي حبه دونا عن الناس كلها. قلبي مش ملكي بقى ملكه هو بس، ومش قادرة أشوف نفسي ملك راجل غيره."
"أعمل إيه بس؟ يارب، تعبت والله تعبت."
ربّتت عليها سلسبيل بحب:
"خلاص، اهدي واطلبي من ربنا يجعله من نصيبك."
*******
---
عند فهد وعشق
لم يتحدث منذ أن رآها، فهو يشعر بالإحساس نفسه كلما رآها؛ يكون مشغول الذهن، مشتّت المشاعر، لا يعرف ماذا يحدث.
عندما تقع عيونه عليها، تتحوّل مشاعره لحنان، أو سعادة، أو تمني... لا يعلم؛ لأنه ينكر تلك المشاعر.
ولكن، هناك شيء في نظرتها له دائمًا يجذبه، كأنها تناديه أو تطلب منه القرب.
أخيرًا، استطاع الانتصار على حالته وهو يحدث عشق:
– ليه خرجتِ من غير ما يكون حد مننا معاكي؟
هتفت بأسف:
– أنا فكّرت أخرج شوية، لأني بعشق الأراضي الزراعية جدًا، وبنسى نفسي فيها.
تحدّث بلين:
– بعد كده، لما تحبي تخرجي، يكون معاكي حد مننا.
أخفضت وجهها باعتذار:
– آسفة...
قال فهد، وهو ينظر لها بحنان جديد عليه، وخصّها به:
– أنا خايف عليكي، وعايزك تصبري... لحد ما البلد تعرف إنك بنتنا.
– حاضر يا أبيه.
---
في المساء
جلست تحت ضوء القمر في انتظار زين، الذي دلف، وعندما وجدها، توجّه إليها بابتسامة كبيرة:
– مساء الخير...
وأكمل بمرح:
– عمري ما شوفت قمر بيبص على قمر!
ردّت بخجل من مدحه:
– مساء النور يا زين.
– قاعدة كده ليه لوحدك؟
– كنت بستناك.
أنار وجه زين من كلماتها:
– خير؟
ألقَت طَعمها، وهي تردف:
– أنت عارف إنك الوحيد اللي بتعامل معاه براحة، فحبيت آخد رأيك في موضوع قبل ما أعرضه على جدي وفهد... علشان تقولي ينفع ولا لأ.
نظر لها باهتمام:
– أنا معاكي في أي وقت تحتاجي مساعدة.
تحدّثت بهدوء:
– في واحد صاحب أدهم، لما عرف إنه جاي البلد، طلب منه يشوف له عروسة أخلاق وبنت ناس.
أدهم كلّمني أشوف له كام عروسة نعرضهم على صاحبه، هو رجل أعمال كبير، ووحيد أهله، محترم، وبعتلي صورته.
– فأنا رشّحت خلود، وقلت أسألك... إيه رأيك؟ وتفتكر جدي وفهد ممكن يوافقوا؟
شعر زين بغيرة قاتلة، ونار اشتعلت في قلبه تحرق الأخضر واليابس... لا يعلم سببها.
فهي دائمًا محطّ سخريته، ويتلذذ بضيقها، لكن ردّه كان مختلفًا عن تصرّفاته، عندما هتف بضيق:
– نعم!؟ واشمعنى خلود يعني؟!
تحدّثت بهدوء، وهي تراه أمامها مثل الجمرة:
– لأن خلود غير ياسمين وقمر.
خلود ذكية، وعندها طموح، وعاملة حسابها إنها لما تخلص جامعتها، تسافر مصر وتفتح شركة ديكور، وتبني اسم لنفسها. فهي تكون مناسبة له أكتر.
– أما ياسمين وقمر، ماعندهمش استعداد يبعدوا عن البلد.
وعارفة إن قمر لمحمد، وياسمين لمروان.
قلت بنت عمي أولى بيه، ده شاب ما شاء الله، طول بعرض، ورجل أعمال. حتى شوف...
فتحت هاتفها ليري الصور، فكان الشاب مفتول العضلات، بعيون رمادية، وشعر قريب من الذهبي، وسيم بدرجة كبيرة، ولن ترفضه بنات اليوم، اللواتي ينظرن للشكل الخارجي.
ظلّ زين ينظر للهاتف بعض الوقت، ثم تركه وقال بسخرية:
– الهانم عارفة، وموافقة طبعًا بعد ما شافت صورته!
أردفت بسرعة:
– لا طبعًا! أنا ما كلمتش حد غيرك... خفت تحصل مشاكل من غير قصد.
لأول مرة، يتعامل معها بتلك الحدة:
– أولًا، إحنا ما عندناش بنات تخرج برّه.
جدي وفهد مش هيوافقوا.
– تاني حاجة، الهانم دي... حسابها معايا.
ثم تركها وذهب، وشياطين الأرض تلاحقه.
*****
---
في غرفة خلود
تحمل بين يديها صورته وهو يرتدي الزي العسكري، تحدثه كأنه أمامها، تحكي له كل ما يعتلي قلبها ولا تستطيع قوله في أرض الواقع.
كم أنت قاسٍ، زين قلبي! ملكتني، وأنا لا أستطيع حتى كسب معاملتك الجيدة...
تشكو له حزنها من قسوته معها، ثم قفزت خلود بفزع، ووضعت الوسادة على صورته عندما فتح باب غرفتها بقوة.
وقفت حين وجدته أمامها، ينظر لها بغضب واضح.
تحدثت بتوتر من وجوده معها في غرفتها، في هذا الوقت، وبتلك الطريقة غير الحضارية:
زين، في حاجة؟
قبض على ذراعها بقوة آلمتها، وهو يتحدث بغضب:
بقت الهانم بتفكر تدخل كلية وتقعد في مصر وتفتح شركة! علشان طموحها عالي وأكبر من حياتنا؟
ردت عليه بخوف من غضبه:
وفيها إيه؟ أكيد بتعلم، مش علشان أقعد في البيت.
تحدث بجنون:
ومين يسيب سيادتك تنفذي اللي في دماغك؟ ده أنا أقطم رقبتك! ومافيش تعليم! وعريس الغفلة، اللي عشق جايباه... أقتله لو فكر بس يبصلك!
وأكمل بصراخ:
فاهمة ولا لأ؟!
خلود (وهي لا تفهم عن ماذا يتحدث، هزت رأسها):
حاضر... حاضر.
هتف بتحذير:
لو عشق كلمتك، ترفضي العريس، وإلا هيكون رد فعلي صعب على الكل.
خلود (بذهول من رد فعله الحاد، والذي لا تعلم سببه، وعن أي عريس يتحدث... اتسعت عيناها عندما تذكرت كلمات عشق):
تحولت من عصفور مبتل يرتعش من الخوف، إلى قطة شرسة تحافظ على ما تبقى من كرامتها التي سُلبت في حبه، وتحدثت بقوة:
خارجيًا، أولًا، أنت مالكش كلمة عليّا! بابا وأخويا الكلمة كلمتهم، وأنا موافقة على أي قرار ياخدوه.
رمقها بسخرية واستهزاء:
إنتِ قد كلامك ده؟
ردت، وقد هربت منها قوتها الوهمية:
لو سمحت يا زين، ماينفعش وجودك في أوضتي. لو حد شافك تحصل مشكلة كبيرة.
رمقها بنظرة طويلة، ثم تركها وخرج بعنف.
جلست على طرف الفراش، تضع يدها على قلبها، تسترد روحها التي سُلبت من تلك المحادثة الغريبة.
---
تبسمت عشق بعد أن تركها زين، فتحت تليفونها وتصفحت الصور، فلم تجد صور خلود التي وضعتها على هاتفه عن قصد حتى ترى رد فعله.
طيب، ما إحنا بنحب أهو وبنغير كمان... طب ليه معذّب البنت معاك؟
---
دخل زين غرفته وهو يشعر بالضيق، ظل يدور حول نفسه ولا يعرف ما به.
ماذا حدث له عندما علم بفكرة ارتباطها برجل غريب؟
أليست تلك خلود التي كان يتمتع بمضايقتها ويُظهر بها كل العيوب؟
ماذا حدث الآن؟
لم يعلم بوجود تلك المشاعر تجاهها إلا عندما شعر بضياعها!
لم يتوقع أن تتحول كل تلك المشاعر إلى غيرة وغضب من فكرة امتلاك آخر لها.
وقف ينظر لنفسه بصدمة، لا يصدق حالته... إنه يختنق، دماؤه كلها ثائرة:
أنا لازم أوقف المهزلة دي... بكرة، قبل ما تضيع مني.
طب تفتكر ممكن توافق؟ وإنت دايمًا بتسخر منها وبتضايقها؟
رد على نفسه بغضب:
ماليش فيه! مش هتكون لغيري، حتى لو غصب عنها!
إحنا ماعندناش بنات تقول رأيها في موضوع الجواز ده، حتى لو اتعلمت وضحكت على نفسها وافتكرت إن ليها شخصية برضه!
*******
---
بعد صعود زين، ظلّت على نفس وضعها، شاردة في أدهم، تحدثه في خيالها:
وحشتني قوي... نفسي أملّي عيني منك، رغم إن صورتك محفورة جوا قلبي.
أنا اتخلقت علشان أحبك وبس... لا، أنا بعشقك!
تفتكر ليا جزء جواك؟ ولو بسيط؟
قطع حديثها مع نفسها صوت فهد، وهو يقول:
مساء الخير يا عشق.
عشق (بابتسامة):
مساء النور يا أبيه.
جلس جوارها وسألها بفضول لا يعلم سببه:
للدرجة دي بتحبيه؟
تورّد وجهها من شدة الخجل، وخفضت عينيها.
كان فخورًا بحيائها، وتواضعها، وزهدها الواضح في متاع الحياة، وإلا ما كانت لترفض إرثًا بهذا الحجم.
ورغم أنه لم يعرفها إلا منذ يومين، إلا أنه أحبها مثل قمر، أو أكثر، لأنه كان الأقرب لعمّه محمود، وشبع من حبه وحنانه، ويرى أن الأوان قد آن لتعويض ابنته.
لذلك، هي الوحيدة التي لها دلال عليه، ويسمح لها بالتحدث معه دون تكلّف، وتُنفَّذ أوامرها فورًا.
التفتت له وتحدثت بحماس:
أقولك سر؟... مافيش حد يعرفه، ولا حتى أدهم!