رواية انت عمري الفصل الرابع والعشرون24 بقلم امل مصطفي


 رواية انت عمري الفصل الرابع والعشرون24 بقلم امل مصطفي

ناولها الجد ما في جيبه، وهو يسألها بصوتٍ متهدج:
– دول إيه يا زينب؟

تناولت من يد جدها تلك اللفافة، وفتحتها بفضول. حدّقت فيما بين يديها بعينين متسعتين، وفاهٍ مفتوح، إذ لم ترَ ربع هذا المال من قبل، ولا حتى حلمت أن تمسكه بيديها. تمتمت وهي ما زالت تحت تأثير الصدمة:
– دي فلوس يا جدي؟!

سألها بلهفة، يتمنى أن يجد رحمةً ترفع عن حبيبته وابنته الوحيدة الضغط المتزايد، فهو رجلٌ كبير في السن، خارت قواه، وأصبح كل الحمل عليها. لم تعد تستطيع توفير قوت يومهم، وتكاثرت الديون على كاهلهم، ما كان يكسِره.
قال بصوت خافت:
– يعني نقضي ونسد فلوس البقال... ونجيب شوية أكل للبيت.

قالت دون أن ترفع عينيها عن المال:
– فلوس كتير يا جدي... مبلغ عمري ما شفته قبل كده!

تناول الجد الأموال منها، وبدأ يعدها. ثم صدم، وهو يتمتم:
– إيه ده؟! خمسة آلاف جنيه؟! مش ممكن!

ثم بكى بحرقة، ورفع كفيه للسماء:
– ألف حمد وألف شكر لك يا رب... أنا مش مصدق! يعني نقدر ندفع الإيجار المتأخر، ونجيب شوية حاجات نبيعها ونعيش منها. يا كريم يا رب، فضلك مالوش أول من آخر... ألف حمد وألف شكر ليك يا رب!

---

وصل أدهم أمام شركته، التي تزورها "عشق" للمرة الأولى.

قالت بانبهار، وهي تحدق في المبنى:
– دي شركتك؟!

ضغط على أناملها الساكنة بين كفيه، وهو يهمس:
– وشركتك... كل حاجة ملكي، تبقى ملك حبيبي.

تمتمت بخشوع:
– ما شاء الله يا أدهم... جميلة جدًا. ربنا يباركلك فيها.

دخل أدهم بطَلّته الرجولية التي لا تليق إلا به. تسير "عشق" بجواره، تنظر إلى أرجاء الشركة بإعجابٍ شديد؛ تصميمها يدل على الرقيّ والذوق.

وقف السكرتير باحترامٍ شديد، يحاول إخفاء ذهوله من وجه أدهم المشرق، وتلك التي يسحبها معه بحب. قال بتقدير:
– حمد لله على سلامة معاليك.
رد أدهم بهدوء:
– الله يسلمك يا أحمد. عايز اتنين عصير ليمون، وممنوع أي اتصالات، ولا حد يدخل علينا.
أومأ السكرتير، وقال بجدية:
– أكيد، طبعًا... علم وينفذ.

دخلت "عشق" المكتب، دارت حول نفسها كطفلة، وابتسامة تعلو ملامحها. كان المكتب فخمًا، يعكس شخصية صاحبه من فخامة وشياكة وقوة.

اقترب منها بحب، وسألها:
– عجبك؟
التفتت نحوه بفرحة:
– جميل جدًا... بيعكس شخصيتك من القوة والغموض. أنا فرحانة أوي، دي أول مرة أزور مكتبك.

ثم، وعلى غير العادة، اقتربت منه، مدت يدها نحو جاكيت بدلته، وهي تقترب منه بدلال:
– أنا بعشق أي مكان تكون فيه روحك... بس مش بحب الغموض اللي في عيونك.

كان أدهم يتأمل ملامحها بعشقٍ واضح. تاقت نفسه لها، يريدها بشدة. همس بصوتٍ مبحوح:
– أنا كتاب مفتوح قدام حبيبي... فين الغموض ده؟ اللي يشوف ضعفي قدام عيونك، مش يصدق إن ده أدهم!

جذبها إلى أحضانه أكثر، أراد أن يقبّلها، لكنه توقف فور سماعه طرقًا على الباب. أخذ يدها بلطف، وأجلسها على الأريكة، ثم أمر الطارق بالدخول.

دخل السكرتير وهو يحمل العصير، وضعه أمامهم، وخرج دون أن يرفع عينيه عن الأرض.

رفع أدهم الكأس، وقربه من شفتيها، فتورد وجهها من الخجل.
– أدهم، أنا بعرف أشرب لوحدي.
همس بوله:
– لا... أنا عايز أسقي حبيبي بنفسي.

فتحت شفتيها وتناولت بعض قطرات العصير، ثم أخذت الكأس وشربت من نفس المكان، بحب.

سألها:
– إيه اللي ودّاكِ هناك؟
قصت له ما حدث، وحين أنهت حديثها، قالت:
– والله خالد ما كانش راضي، بس أنا صممت... وطبعًا هو ما يقدرش يرفض ليّا طلب.

خفضت "عشق" وجهها، ثم تمتمت بتردد:
– وكنت عايزة منك طلب...

أدهم، وقد أدرك مقصدها، ابتسم وهو يقول:
– اطلبِي.
– كنت عايزة آخد أخته، وأجيب لها من الفلوس اللي معايا كل حاجة ناقصاها... وأغلى كمان من اللي حماتها عايزاها، علشان بعد الجواز ما تكسرش عينها.

رد أدهم بحب:
– إنتِ معاكي فيزا؟ خدي كل اللي نفسك فيه من بتاعتي... مش بتاعة فهد.
– وليه ما نجيبش من اللي فهد عطاهالي؟ فيها فلوس كتير...
– لأنك مراتي يا عشق، وما حدش غيري يصرف عليكي.

قبلته "عشق" على وجنته، تمتص الضيق الذي غزا صفاء ملامحه، وهمست:
– ربنا ما يحرمنيش منك أبدًا.

جذبها مرةً أخرى، وتاه معها في دوامة عشقهم. حاولت أن تُعدّل من هيئتها، بعد أن بعثر مشاعرها وملابسها، ونظرت له بلومٍ على ما حدث.

لكنه قال بمرح:
– بلاش نظرة عيونك دي... أنا بضعف قدامها! هنسى المكان تاني. أنا مش بكتفي منك، وصراحة... مش ضامن حد يفتح الباب فجأة.

فتحت "عشق" عينيها على مصراعيهما، واعتدلت في جلستها، وهي تهمس:
– أنا مش هاجي معاك هنا تاني.

ضحك أدهم بقوة، وانحنى يقبل جبينها، وهو يقرص أرنبة أنفها بخفة:
– أخلص شوية الشغل دول، ونروح على طول... لأن غادة عاملة حفلة محشي النهارده، وعازمة روان ومراد.

هزت "عشق" رأسها بخجلٍ شديد، وقد أخذ الحياء من وجنتيها كل مأخذ.

---
---

خرج خالد يحمل شقيقته بين ذراعيه، وخلفه والدته وأخواته، بينما وجد عامر في انتظاره عند باب المستشفى.
توقف لحظة، يتأمل وجوده الذي أثار استغرابه، فسأله بصوت متعب:
– "إنت لسه هنا ليه يا عامر؟"

أسرع عامر يفتح باب السيارة، ليضع خالد حمله المتعب، وهو يهتف:
– "دي أوامر ست عشق... ألف سلامة عليها يا أم خالد."

تمتمت فردوس بحمد الله، بينما جلس الجميع داخل السيارة. وضع خالد شقيقته برفق، ثم جلست والدته وأخوه بجوارها، وأخذ معه شقيقه الصغير.

---

حين وصلوا إلى البيت، حمل خالد أخته من جديد، وأدخلها غرفتها. وقف أمامها بصمت خانق، لا يكاد يصدق أنها فعلت بنفسها ما فعلته، دون أن تفكر للحظة واحدة بمن حولها. أما هي، فخفضت وجهها خجلًا، تعلم تمامًا أنه في قمة غضبه، ولولا حبه لها، لأطلق العنان لغضبه المشتعل، منها، ومن نفسه، ومن الدنيا كلها.

قال بصوت متهدج، يكاد يخنقه الألم:
– "ليه كده يا ندى؟ عملتِ كده ليه؟ إيه اللي حصل معاكي يستاهل كل ده؟ عايزة تموتي كافرة؟!
ليه تخسري دنيتك وآخرتك... وتكسريني من بعدك؟ ليه مفكرتيش فيّا... ولا في أمك؟"

واصل بكلمات ممزقة:
– "إحنا بنعمل المستحيل علشان نجيبلك حاجتك... جيت على نفسي ورفضت الارتباط رغم إصرار أمي، وسني بيكبر يوم ورا التاني، وكل ده كنت بفكر فيك وبس.
كنت عايز أسترِك وأطمن عليكي... كنت أهم عندي من نفسي. الناس تسألني: هتتجوز إمتى؟ وتيجي صورتك قدامي... أقول لأ، أوعي تضعفي، دي بنتي الوحيدة، دور على نفسك بعدها..."

ابتلع غصة مريرة في حلقه وهو يكمل:
– "وإخواتك الصغيرين؟ أقول لأ... ندى أهم.
هم رجالة، وفي يوم هيكبروا ويشيلوا معاكِ المسؤولية.
بس إنتي؟ كنتِ كل همي.
إزاي تدوري على نفسك وتسيبي أمك وإخواتك اللي ميعرفوش غيرك؟ وبعد كل ده... عايزة تحرقي قلبي؟
ده جزائي يا ندى؟
عمري ما هنسى اللي عملتيه... ولا عمري هسامحك على وجع قلبي لما حسيت إنك هتروحي مني."

ثم استدار وخرج من الغرفة، تاركًا المنزل كله، كأن الهم أثقل قلبه، وفي عينيه أول دمعة ضعف تظهر.
لأول مرة يشعر بالفشل... بأنه لم يكن الأخ الجيد الذي يستطيع حماية شقيقاته من صفعات الحياة.

---

وقفت فردوس خلف الباب تستمع إلى كلماته، كأن كل كلمة سكين يقطع في روحها. سالت دموعها حزنًا عليه، وعلى حاله، وهي الأم الضعيفة العاجزة التي لا تملك شيئًا.

دخلت إلى ندى التي كانت تبكي بحرقة، وقالت لها بعتاب مؤلم:
– "عجبك كده؟ حال أخوكي؟
أخوك بيتعب ومش مقصر معانا... مصروف بيت، ومدارس، وشوار، بيعمل كل اللي يقدر عليه.
بيستخسر في نفسه هدومه، ولا حتى بيقعد على القهوة مع أصحابه، علشان يوفر فلوس الأقساط بتاعتك.
حتى لو مش قادر يكمل جهازك، بس كفاية إنه بيتعب.
بيشيل همنا لوحده، واحد غيره كان شاف نفسه، وقال وأنا مالي، ما أبوك عايش وهو المسؤول... بدل ما هو ماشي صايع ورا الحريم!"

لم تعد ندى تتحمل، فهي تعلم تمامًا ما يتحمله أخوها. صاحت ببكاء:
– "أنا آسفة يا ماما، والله غصب عني...
أنتِ عارفة أنا بحبه قد إيه، بس بحب أخويا خالد أكتر من أي حاجة في الدنيا.
قولي له يسامحني، علشان خاطري... لحظة شيطان ومش هتتكرر، بس بلاش يزعل مني."

---

في صباح يوم جديد، نزلت سناء من البيت بملامح أكثر إشراقًا وجمالًا، كأن المال الذي أرسلته عشق أزال عن وجهها ملامح التعب والإرهاق.

صدق من قال: "الدَّين همٌّ في الليل، ومذلّة في النهار."

كانت تشعر أنها تتنفس أخيرًا بعد سنوات من الاختناق، تنزل درجات السلم بخفة كأنها فراشة لا تحمل للدنيا همًا.
وهمها الأكبر الآن هو الإيجار المتراكم، والذي جعلها تحت رحمة صاحب المنزل، شوقي، الذي يتلاعب على وتر "الحلال" ليخفف عنها الحمل، ويمنّ عليها براحته مقابل زواج لا تريده.

لكن اليوم... حان وقت فك القيود.

توقفت أمام محل شوقي، الذي كان واقفًا بلهفة، يستقبلها بترحاب خاص، يخصها به دونًا عن غيرها.
كان يراها زوجة مثالية، بأخلاقها، وجمالها الذي لم تؤثر عليه الظروف الصعبة، وبقوتها التي لم تهزمها الحياة بعد وفاة زوجها، بل قاومت وحاربت لتحمي بناتها من الشوارع والذئاب البشرية.

قال وهو يبتسم:
– "أهلاً أهلاً بست الستات اللي ما فيش زيها في الشارع كله."

نفخت سناء بضيق من كلماته المتكررة، نعم، تراه يشتاق إليها، لكنه رجل لن تسمح له بالاقتراب من حياتها.
بعد وفاة زوجها، كرّست عمرها لبناتها الثلاث ووالدها فقط.

قالت بضيق:
– "إزيك يا حج شوقي؟"

ردّ وهو يتغزل:
– "أنا بخير لما بشوف طلتك يا ست البنات."

نهرته بحدّة:
– "وبعدين معاك يا حج شوقي؟ حاسب على كلامك معايا... أنا ماليش في اللون ده، وأنت عارف."

هتف برجاء:
– "عارف يا أم البنات... قصدي شريف، صعبان عليّ تعبك، عايز أقعدك و... ستّك، وكل طلباتك أوامر بدل بهدلتك عند الناس في المشغل."

قاطعته بحدّة، تقطع عليه حديثه:
– "أنا جاية أدفع الإيجار اللي علينا."
ثم أخرجت من حقيبتها مبلغ ألفين جنيه، ومدّت يدها نحوه:
– "هات الشيكات."

نظر شوقي للمبلغ بصدمة، فقد فشل مخططه في الضغط عليها لتقبل الزواج به، أو تزويج ابنتها لابنه.
الآن، لا حجة له ليرفض المال، فقال بضيق:
– "جبتي الفلوس دي كلها منين يا ست سناء؟"

نظرت له بتحدٍ:
– "من عند ربنا يا حج شوقي... أظن مالكش دعوة جبتهم منين. المهم الإيجار يتدفع. يلا هات الشيكات... أصلي مش فاضية."

أخرج الشيكات من الخزنة على مضض، تناولتها منه بفرحة:
– "عدّ فلوسك قبل ما أمشي، وتأكد."

تمتم بصدق:
– "البيت أمان يا أم زينب... طول عمرك أمينة، والمال يزيد معاكي مش يقل."

تركته سناء وهي تشعر براحة لم تذقها منذ وقت طويل، وتوجهت إلى السوبر ماركت الصغير، حيث يجلس صاحبه "محسن"، يراجع نفسه في قرار يريد اتخاذه.
كان ينوي أن يطلب منها جزءًا من الدين، لكنّه تراجع، يصبر نفسه بأنها تسعى على أيتام، وتسد ما تستطيع.

دخلت عليه بابتسامة، فوجدته شاردًا.
قالت بهدوء:
– "صباح الخير على عيونك يا راجل يا طيب."

وقف محسن يردّ بترحاب:
– "صباح النور يا بنتي."

وقفت أمامه قائلة:
– "كنت عايزة أعرف حسابي يا راجل يا طيب."

ردّ بابتسامة طيبة:
– "مافيش فرق يا أم البنات."

قالت شاكرة:
– "كتر خيرك يا عمي محسن، كفاية صبرك علينا... وأنا عارفة إن ظروفك مش ماشيه."

فتح دفتر الديون، ثم ناولها ورقة بمبلغ خمس مئة جنيه.
أخرجت المبلغ من محفظتها، ومدّته إليه:
– "اتفضل يا عمي محسن."

لم يصدق الرجل ما يرى. كم هو كريم ورحيم رب العالمين بعباده!
كان ينوي أن يطلب ثلاثين أو خمسين جنيهًا فقط... لم يتوقع أبدًا أن تسدد كل دينها دفعة واحدة.

تناول المال بفرحة، ودعا لها بسعة الرزق:
– "ربنا يوسعها عليكي يا بنتي... إنتِ بنت حلال وتستاهلي كل خير."

ابتسمت سناء وهي تقول:
– "الله يعزك يا عمي محسن... خد جهّز اللي في الورقة دي، هأعطيك حسابهم وأنا راجعة."

*****
في فيلا أدهم...

نزلت عشق في الصباح، تتهادى بخفة نحو غرفة الطعام، حيث كانت غادة تتناول فطورها بهدوء. ألقت عليها التحية قائلة:

— صباح الخير يا أمي.

رفعت غادة عينيها نحوها وابتسمت بحنو:

— صباح النور يا حبيبتي، تعالي افطري معايا.

جلست عشق إلى جوارها، ثم تمتمت وهي ترفع كوب العصير:

— أنا هشرب العصير بس.

سألتها بعد لحظة:

— حضرتك هتروحي إمتى عند طنط جيجي؟

أجابت غادة وهي تنظر إلى ساعتها:

— على الساعة عشرة إن شاء الله.

تنهدت عشق بأسف:

— والله يا ماما، لو ماكنش المشوار ده ضروري، كنت جيت مع حضرتك.

تفهمت غادة الوضع، خاصة بعد حديث الأمس، فربتت على يدها وقالت بحنان:

— عارفة يا حبيبتي... ربنا يوفقك يا رب. المهم تخلي بالك من نفسك.

انحنت عشق وطَبعت قبلة على خد والدتها، ثم غادرت متجهة إلى الخارج، حيث وجدت خالد وعامر في انتظارها. ألقت عليهما تحية الصباح، ثم ركبت السيارة وهي تلتفت إلى عامر قائلة:

— خد النهارده إجازة... خالد هو اللي هيسوق.

أومأ عامر باحترام:

— حاضر يا فندم.

جلس خالد خلف المقود، ناظرًا إليها من المرآة منتظرًا وجهتها. قالت ببساطة:

— عايزة أروح محل حلويات.

أجاب:

— حاضر.

تحركت السيارة، وبعد وقت قصير، توقفا أمام أحد المحلات. نزلت عشق يتبعها خالد، فقامت بشراء أنواع مختلفة من الحلويات، ثم دفعت الحساب بينما حمل خالد الأكياس ووضعها في السيارة.

ركبا من جديد، فنظر إليها وسأل:

— هنروح فين؟

أجابت باختصار:

— بيتكم.

رمقها خالد باستغراب:

— بيتنا؟

ابتسمت وهي تؤكد:

— آه، بيتكم. عايزة أطمن على ندى.

رد بإحراج:

— هي الحمد لله بقت بخير.

كانت عشق تدرك جيدًا ما يشعر به، وما يدور في خاطره، فأرادت التخفيف عنه بروحها المرحة:

— أنت بخيل ولا إيه؟ مستخسر فيا كوباية شاي؟!

ضحك خالد سريعًا:

— أبدًا والله، حضرتك تنوري.

أجابته بسخرية لطيفة:

— مش باين يا خالد.

أسرع ليوضح، حتى لا تُساء نواياه:

— والله حضرتك فهمتيني غلط... أنا قصدي إن الحارة مش قد المقام، ولا البيت.

ابتسمت عشق بهدوء:

— مالكش دعوة... أنا رايحة على طنط فردوس وندى، ولما أبقى أجي بيتك اعترض.

ابتسم خالد بامتنان:

— اللي تأمري بيه.

انطلقت السيارة حتى توقفت أمام المنزل. نزل خالد وفتح لها الباب، ثم حمل الحقائب عندما طلبت منه ذلك.

وقفت تنتظره لتسير خلفه، إذ لا تعرف شقتهم في أي طابق. دخل خالد أولًا، ثم طرق الباب.

قابلته والدته بفزع، وقد تفاجأت بعودته في غير ميعاده، فهتفت برعب:

— حبيبي، خير؟! أوعى يكون الباشا بتاعك رفدك علشان وديت مراته المستشفى؟!

غمز لها بتحذير كي لا تُحرجه أكثر أمام عشق، وقال:

— لا يا أمي... وسّعي بس، اتفضلي يا عشق هانم.

دخلت عشق، وسلمت على فردوس التي كانت تتلفت حولها بإحراج، غير مصدقة أن "ابنة القصور" تزور منزلهم المتواضع.

قالت فردوس بترحيب مرتبك:

— أهلًا وسهلًا... اتفضلي.

ثم رتبت الوسائد على الكنبة لتجلس الضيفة الكريمة، التي قالت بتلقائية:

— هي ندى لسه نايمة؟ أنا مردتش أفطر، وقلت أفطر معاكم.

ردت فردوس بترحاب يملؤه الخجل:

— انتي تشرفينا في أي وقت... هو إحنا نطول ناس عزيزة وغالية زيك تتنازل وتفطر معانا؟ ثواني أصحيها.

توجهت إلى غرفة ابنتها بتوتر، ثم نادت عليها:

— قومي يا بت، الهانم اللي أخوكي بيشتغل عندها جايه بنفسها تطمن عليكي... فوقي بسرعة.

فتحت ندى عينيها بتعب، وهي تتألم من جرحها، وتمتمت بعدم فهم:

— هانم مين؟

هتفت فردوس بعجلة:

— مش وقته خالص! يلا، أنا هدخل أجهز الفطار على ما أنتي تجهزي نفسك... كفاية كسفتينا قدامها، وبيتنا كده!
*****

عند عشق وخالد

قالت عشق وهي تنظر إلى خالد بجدية:

– أنا عايزاك تكلم خطيب أختك وتطلب منه يجهّز هو ومامته، علشان نروح نجيب حاجة لندى النهاردة.

كاد خالد يردّ، حين خرجت ندى من الغرفة. فبادرتها عشق بابتسامة حنونة، وهي تهتف:

– حمد الله على السلامة يا ندى، كده تخضّينا عليكي! ده خالد كان هيجنن عليكِ.

ردّت ندى بإحراج:

– لحظة شيطان... والحمد لله، اتعلّمت منها كتير.

وضعت عشق يدها على كتف ندى بحنان، وقالت:

– الحمد لله إنها عدّت على خير. أوعدك إنها تكون آخر الأحزان.

قاطعتها فردوس بنبرة تأنيب:

– إنت واقف كده ليه يا خالد؟ روح هات فول وطعمية!

خرج خالد لينفذ طلب أمه، وما زال لا يستوعب ما يحدث... عشق في منزلهم؟! وستتناول معهم الفول والطعمية؟!

أعدّت فردوس وندى فطورًا مصريًّا بسيطًا، ووضعوه على الطاولة الصغيرة. رفض خالد في البداية أن تشاركهم عشق، لكنها أصرت، فجلسوا جميعًا يتناولون الطعام.

هتفت فردوس بترحاب حار:

– أهلاً وسهلاً، يا بنت الأصول. زيارتك دي فوق راسنا! نورتينا ونوّرتي الحارة كلها.

ابتسمت عشق بلطف:

– منورة بأهلها يا طنط، وربنا ما يحرمني من جمعتكم أبدًا.

ثم وجهت فردوس حديثها لخالد:

– على فكرة، خطيب أختك جه، وكان متضايق جدًا عليها، وقال إنه ماكنش يعرف باللي حصل، وكان نفسه يشوفها ويطمن عليها، بس أختك رفضت تقابله.

وأضافت وهي تنظر إلى خالد:

– آه يا خالد، ما تنساش تتصل بيه بعد الفطار علشان نلحق نبدأ اليوم بدري.

هزّ خالد رأسه وقال:

– هو حضرتك عارفة مامته طلبة أوضة نوم بكام؟ فوق الـ 15 ألف جنيه، ورافضة تختار حاجة أقل! هي قصدها تعجزنا علشان تفركش الخطوبة.

هتفت عشق بنفي :

– إيه؟! 15 ألف؟! لا طبعًا! ندى هي واحدة بس، ولازم يجيبلها أحسن حاجة.

تمتم خالد بأسف:

– هو حضرتك عارفة أنا بقبض كام؟

لم يعجب عشق نبرة الانكسار في صوته، فقالت بتشجيع:

– بعدين معاك يا خالد! اسمع الكلام من غير ما تتعبني.

وقف خالد باحترام:

– آسف يا فندم.

ثم تركهم وخرج ليبلغ سيد وأمه.

جلست عشق، و جذبت ندى لتجلس بجوارها، وسألتها بحنان:

– نفسك في إيه؟

نظرت ندى إلى أمها بخجل، ثم أعادت نظرها لعشق قائلة برضا:

– أنا أبيه خالد يجيبلي على قد ما يقدر... وهم لو مش عايزين يصبروا، أنا مش هضغط على أخويا وأزعله.

فاجأها سؤال عشق الصريح:

– بتحبيه؟

أحمرت وجنتا ندى، و فركت يديها بخجل:

– جدًا...

تدخلت فردوس في الحديث، تمدح خطيب ابنتها:

– صراحة الواد يتحب، أدب وأخلاق، وجدع. بس أمه قوية، وشايفة إنه كتير على بنتي. وبنت أختها أولى بيه. ماسكة و دانه زن، وبتقول إحنا مش هنقدر نشوّر، وهيفضل مربوط جنبنا لحد ما يكبر. وفعلاً، الشقة ما شاء الله كبيرة، ومحتاجة ناس معاهم فلوس. ومع كل ده، هو مش بيسأل في كلامها، وده بيزود غضبها علينا. وكل فترة، تعمل معانا مشكلة من وراه.

رفعت عشق عينيها، فوجدت خالد يقف بجوار الباب. سألته:

– إيه يا خالد؟ هنمشي ولا لسه مش جاهزين؟

ردّ بنفي:

– زمانه في الطريق.

أشارت عشق إلى والدته وهي تهتف بحماس:

– يلا يا طنط، أنتي وندى.

خجلت فردوس مما يحدث، وقالت بحجّة:

– لا يا حبيبتي، مش هينفع أجي معاكم. الولاد لما يرجعوا من المدرسة، هيروحوا فين؟!

ضحكت عشق:

– لازم تفرحي بحاجة بنتك! أنتي لسه واقفة يا ندى؟!

نظرت ندى لأخيها الكبير، وقالت عشق ممازحة:

– هو يقدر يقول حاجة؟! أرفده على طول!

ضحك خالد:

– يلا يا بنتي خلّصينا، مش عايز أترفد! سيبي المفتاح مع الجيران يا أمي.

---

بعد خروج الجميع، مدت عشق يدها إلى خالد، وناولته بطاقة الفيزا:

– خليها معاك... كل حاجة تعجب ندى، هاتها، ملكش دعوة بالأسعار. مش عايزة أفكرك، إحنا هنخلص كل شوارها النهاردة، واللي هي تختاره ييجي من غير تفكير.

لم يكن خالد يصدق ما يحدث، وتساءل في نفسه: "يا ترى، إيه الخير اللي عملته وخلى ربنا يرضى عني بالشكل ده؟!"

منذ أن عرف عشق، لم يرَ فيها سوى أخت ثانية. لم ينسَ أول مرة رآها، مختبئة خلف حائط منزلهم القديم، خائفة وبريئة. وعد نفسه حينها أن يحميها كما يحمي ندى.

تمتم بحب:

– أنا مش مصدق إن في ناس زيك لسه عايشين وسطينا... بتلاقي سعادتك في إسعاد الناس. ربنا يخليكي... حقيقي، كان يوم ما شوفتك، أجمل يوم في عمري. يا أحن وأطيب أخت في الدنيا.

---

خرجوا، فوجدوا أم سيد، وبجوارها ابنة أختها، وكأنها جاءت لتُظهر عجزهم أمامها. تحدث خالد بعصبية:

– مامتك قصدها إيه، وهي جايبة بنت خالتك معاها؟!

ردّ سيد بلا مبالاة:

– سيبك منها... أختك في قلبي وعيوني. وكل اللي هي بتعمله ده، ما يفرقش معايا.

يعلم خالد جيدًا أنه لا يرى سوي أخته  ندى ، لكن الموقف ضايقه، فهتف بصدق:

– حبك ليها هو اللي مخليني مستحمل لحد دلوقتي.

رأت عشق التكبر والكره في عيون حماتها وابنة أختها، ونظرت إلى ندى، التي بدا عليها الخوف وثقتها المهزوزة.

فاقت عشق من تفكيرها على سؤال صارخ من السيدة:

– وإنتي مين يا أختي؟!

رفعت عشق رأسها بثقة، وقالت:

– أنا عشق، يا طنط... صديقة ندى.

عند الباب الخارجي، وأمام نظرات متبادلة تحمل كثيرًا من التساؤلات والشك، قالت "سيدة" بسخرية واضحة، وقد كانت تعلم أنهم لا يملكون أقارب أو معارف قريبين:

– أومّال ليه أول مرة أشوفك؟

ابتسمت "عشق" ابتسامة باهتة، ثم جذبت يد "ندي" بلطف، تقودها نحو السيارة، وهي تهتف بلهجة هادئة:

– لأني كنت مسافرة ولسه راجعة من كام يوم بس.

لكن خطواتها توقفت فجأة عندما سمعت نبرة "سيدة" وهي تخاطب خالد، وقد تجمد مكانه من الغضب، بعد أن صاحت دون خجل:

– مش هتنازل عن الأوضة اللي اخترتها!

استدارت "عشق" لها بحدة، ونظرة ثقة تملأ عينيها، قائلة بحزم:

– يا طنط، ندي غالية جدًا عندنا، وكل حاجتها هتخلص النهاردة، وأحسن من طلباتك كمان!

تبادلت "سيدة" وابنة أختها نظرات امتعاض، ولم تخفِ إحداهن شعورها بعدم الارتياح من ثقة "عشق" الزائدة. ثم استقلت "عشق" سيارتها الفاخرة، بينما ركب خالد جوار سيد في سيارته.

وفي الطريق، لم تستطع "سيدة" كتمان فضولها، فسألت باندهاش:

– هي دي عربيتك يا عشق؟

– آه يا طنط.

هتفت بتعجب، وقد اتسعت عيناها:

– باين عليها غالية قوي!

ردّت "عشق" بلامبالاة وهدوء:

– ولا غالية ولا حاجة، دي بمليون ومتين ألف بس.

شهقت "سيدة" غير مصدقة:

– بم كام؟!

أجابت عشق بابتسامة واثقة:

– آه يا طنط، دي عربية الحرس بتاعي، دفع رباعي.

توسعت عينا "سيدة" أكثر، والدهشة تعلو ملامحها:

– هو أنتي عندك حرس كمان؟!

أومأت "عشق" برأسها وهي تقول ببساطة:

– أيوه يا طنط... بس عطيتهم إجازة النهاردة علشان أخرج مع ندي. أصل حضرتك ما تعرفيش غلاوة ندي عندي، دي أختي، ومش ممكن أتأخر عليها أبدًا.

كان لكلمات "عشق" وقع عظيم على قلب "ندي" ووالدتها، شعرا بالفخر، ورأيا بوضوح ملامح القلق ترتسم على وجه "سيدة"، والانزعاج يغزو تعابير ابنة أختها. وهذا وحده كان كفيلًا بأن يمنحهما شعورًا خفيفًا بالراحة.

رنّ هاتف "عشق"، فتحت الخط، وما إن سمعت ما قيل، حتى توقفت فجأة وقالت بدهشة:

– إيه؟ بتقول إيه؟ 


تعليقات



<>