
رواية قيود الماضي الفصل الثاني2 بقلم شروق مصطفي
وقفت فجأة، وأمسكت كوبًا مملوءًا بالماء، ثم ألقيته في وجهه على أمل أن يفيق من غفلته ويدرك ما يقول. ثم، وقد بلغ الغضب مني مبلغًا، صرخت بأعلى صوتي، وأنا أذرع المكان جيئة وذهابًا، أصرخ فيه:
"أنا يا ابن آدم على ذمة راجل تاني! إنت متخيل بتعمل إيه؟ أنا بحب جوزي، مستحيل أرتبط بمجنون زيك! رجعني حالًا، عايزة أمشي، مشّيني من هنا!"
بلغت الباب، حاولت فتحه، لكن ذراعيه أحاطتا بي فجأة، قبض على كتفيّ بقبضةٍ من حديد، لم أعد معها قادرة على الحراك. حاولت المقاومة، وتلويت بين يديه، ثم شعرت بوخزة في عنقي، أفقدتني الوعي، وغبت عن العالم.
---
مضت أيّام، وقد حبست نفسي داخل الغرفة، أبحث بشتى الطرق عن وسيلة للاتصال بأختي، فهي كل ما تبقى لي في هذه الدنيا، إلى جانب أحمد... زوجي. لم يكن لي أحد سواهما. فقدت أمي منذ زمن، وتوفي والدي بعد عام من زواجي. وكان أحمد العوض، السند، الزوج والصديق والأب في آنٍ واحد.
تملكني الأمل، ففكرت في تفتيش المكان، عساني أجد شيئًا يدلني على مخرج. فتحت الباب، وسرعان ما اكتشفت أنني لست في شقة كما ظننت، بل في قصرٍ فخم، واسع، موحش، يخلو من دفء البيوت. كانت الغرف باردة، صامتة، كأنها تأبى أن تبوح لي بسرّ. دخلت غرفة تلو الأخرى، أفتّش بعينيّ المرتجفتين، لكنني لم أجد أحدًا.
وإذ بي ألمح نافذة في نهاية الرواق، خفق قلبي أملاً. وقفت أمامها لأتبيّن موقعي، علّني أرى ما يساعدني على الهرب. لكن الخارج بدا غريبًا، مكان لم أرَه من قبل، مرتفع بشكلٍ مرعب، ولو فكرت في القفز... سأسقط إلى حتفي.
فجأة، أحسست به من خلفي. أمسك بي بقوة، ثم احتضنني بعنف. ارتعبت، ودفعت نفسي بعيدًا عنه في هلع. كيف يجرؤ على لمس امرأة ليست له؟! صرخت فيه بانفعال:
إياك تلمسني بإيدك القذرة! ما أسمحلكش! أنا ملك غيرك، هقطع إيدك لو اتمدت عليّ، فاهم؟!
لكنّه لم يُعر كلامي اهتمامًا، أمسك بي من جديد، ودفعني بعنف إلى الحائط، ثم قال بصوتٍ خالٍ من الرحمة
أنا سكت لك كتير... انسي حياتك القديمة، ما فيش غيري، فاهمة؟! إنتِ طلّقتي، هو ما وثقش فيكي، صدّق شوية صور وكلام ورماكي. أنا اللي اشتريتك، فاهمة؟ ومع شوية شهور، هتكتبي على اسمي.
كانت كلماته كسكينٍ يمزّق قلبي. تركني بعدها وغادر، بينما أنا واقفة أردد في داخلي:
لا... لا يمكن! مش ممكن يكون عمل كده!"
ثم صرخت بجنون:
إنت كدّاب! أحمد مستحيل يطلقني، هو بيحبني! إنت بتضحك عليا! رجعني بيتي! أنا بكرهك! وعمري ما هكون ليك!
تعبت من كثرة الصراخ، وهو على حاله... بارد، كأنّ شيئًا لم يكن. كل ما يريده أن يمتلكني. اقترب مجددًا، ومدّ يده بالهاتف، قائلًا:
خدي... كلمي أختك، وانتي تتأكدي من كلامي.
مددت يدي المرتجفة، أمسكت الهاتف، وطلبت رقم أختي. وما إن سمعت صوتها حتى هرعت بالكلمات:
هند! الحقيني! أنا مخطوفة ومش عارفة أنا فين!
لكنّ ردها جاء كصفعة على وجهي:
نور! إيه اللي عملتيه في أحمد ده؟ وخطف إيه؟ إنتِ بتبرري عملتك السودة! عمومًا، أحمد بعت ورقة طلاقك بجد... مش عارفة إزاي عملتي كده فيه!
شهقت، ثم صرخت:
إيه بتقوليه ده؟! إنتِ مش فاهمة..
لكنها لم تمهلني فرصة للكلام، إذ خطف الهاتف من يدي وأغلق الخط. بعدها بدقائق، وصلتني رسالته، وكانت كلماتها كالجمر على جلدي. جلست أضرب وجهي بيديّ، وأردد باكية:
ليه؟! ليه عملت كده؟! خليتهم يبعدوا عني؟! ليه؟! عملت إيه؟! أنطق!!
استدار مبتعدًا، وببرود لا يُطاق، قال:
لما تهدي هقولك... ريّحي أعصابك وفكّري كويس في حياتنا مع بعض.
لم أكن أصدق ذلك الكم من الجمود في صوته. عدت بخطى متثاقلة إلى غرفتي، أغلقت الباب بإحكام، وضعت خلفه كرسيًا ضخمًا يحميني... ولو وهمًا. لكن رأسي كان يموج بالأفكار، قلبي يعتصره الخوف، والسؤال ذاته يتردد داخلي:
ماذا فعل
مرّت الأيام وأنا أتجنّب لقائه قدر المستطاع. بالكاد كنت أتناول الطعام، فقط لأبقى على قيد الحياة. حزني نحت ملامحي، وهزلت حتى لم أعد أعرفني. أنا التي كانت توصف بالجمال الأوروبي، أصبحت الآن ظلًا لإنسانة منهكة، أرهقها الحزن، وأغرقها الأسى
ثم قررت. لا بد من المواجهة. لا يمكنني أن أظل في هذا السكون أكثر. توجهت نحو مكتبه، وقلبي يقرع كجرس إنذار. رفعت يدي لأطرق الباب، لكنني توقفت فجأة...
سمعت صوته. كان يتحدث إلى شخصٍ ما، بنبرة واثقة، حاسمة:
"لا تقلق، هي معايا، مش هتعمل أي مشكلة وقت التسليم. هبيعها لك، دي تستاهل ملايين. سلام... وأبلغني بموعد التسليم.
تجمدت في مكاني.
توقف الزمن.
ضربات قلبي دوّت في أذني.
سيبيعني؟
غابت عني أنفاسي، وتيبست أطرافي. لم يعد شيء فيّ قادرًا على الفهم أو التقبّل. أنا لست سلعة. لست شيئًا يُباع ويُشترى!
همست بصوت خافت مرتعش:
يعني إيه؟! خطفني... فصلني عن أهلي، عن جوزي، عن أختي... ودلوقتي... هيبيعني؟!
كنت أرتجف، مزيج من الغضب والرعب والخذلان. لكن أمرًا واحدًا أصبح يقينًا داخلي...
يجب أن أهرب... قبل فوات الأوان.
يتبع