
رواية قيود الماضي الفصل الثالث3 بقلم شروق مصطفي
سمعتُ بأذني أنه سيبيعني لشخصٍ آخر. ارتعد كياني، وتسارعت دقات قلبي في ذعرٍ لا يُوصف. حدّثتُ نفسي:
يعني إيه؟ هو خطفني وقطعني عن أهلي وجوزي وأختي عشان أتباع كمان؟ يا لهوي!
شعرتُ بصدمةٍ كادت تُفقدني توازني. لا... لا يمكنني السكوت، عليّ أن أتصرف فورًا.
طرقتُ الباب بخفة ثم دخلت. كان جالسًا أمام شاشة الحاسوب المحمول، غارقًا في التركيز، لم يلتفت إليّ بل أشار بإصبعه قائلاً:
تعالي يا نور، اقعدي... هخلص حاجة بس.
ترددتُ لحظة. لو هاجمته الآن أو رفعت صوتي، قد يغادر ويتركني، ولن أخرج بشيء. فكّرت أن أسايره، أتحدث بهدوء، ربما أتمكن من معرفة السبب الحقيقي لما فعله بي. كيف طلقني؟ وكيف أبعدني عن كل من أحب؟
أيعقل أن يكون مجرّد قواد يتاجر في الأعضاء البشرية؟ هل أنا على وشك أن أُباع؟
قلتُ بصوتٍ خافت:
ممكن تحكيلي عن اللي عملته؟ وأعرف مصيري إيه معاك؟ أنا تقريبًا حياتي اتدمرت... معنديش حاجة تانية أخسرها.
رأيت على وجهه ابتسامةً صفراء ترتسم ببطء، ثم بدأ يحكي، وكأنه يتلذذ بكل كلمة.
أخبرني أنه حصل على رقمي، واخترق هاتفي، ثم أنشأ محادثات وهمية، واستخرج صوري الشخصية، فبركها مع صور رجال، بل وصنع مقطع فيديو بصوتي.
قال إن الأمر لم يستغرق طويلًا، فبمجرد أن أرسل كل ذلك إلى زوجي، ومع كون هاتفي في المنزل لحظة اختطافي، تأكد زوجي من خيانتي المزعومة وطلّقني في الحال.
استمعتُ له وأنا أكاد أختنق من الغيظ والقهر. كيف يصدّق زوجي كل هذا؟ كيف لم يحاول حتى أن يبحث عني؟
بلعت ريقي بمرارة، وسألته:
وانت مبسوط؟ انتصرت صح؟ أخدتني في الآخر وفوزت بيا؟ وإيه تاني؟ مستني إيه دلوقتي؟ إيه الخطوة الجاية؟
وقبل أن يجيب، باغتني ألمٌ حاد في صدري، نغزة قوية عند القلب، انعكست على وجهي بتعابير ألم شديدة.
لاحظ حالتي، فنهض بسرعة. بدأتُ أتشنج بعنف، وملامحه اتسمت بالذعر، لم يعرف كيف يتصرف.
دعوتُ الله من أعماقي أن يخلّصني من هذا الجحيم قبل أن يُباع جسدي، وأغمضتُ عيني... لم أشعر بعدها بشيء.
حين فتحتُ عيني ببطء، وجدتُ نفسي في غرفةٍ تبدو كمستشفى. كان المحلول معلقًا بجانبي، وفجأة دخل رجل يرتدي زيّ الأطباء. لاحظتُ تصرفه الغريب، إذ أغلق الباب خلفه واقترب مني بهدوء.
كان يبدو عربيًا، لا أجنبيًا، مما أثار داخلي خليطًا من الخوف والفضول.
لكن المفاجأة كانت في أنه يتحدث باللهجة المصرية، والأغرب أنه نطق اسمي. لم أُظهر اهتمامًا في البداية، كنتُ فقط سعيدة بوجود مصري في هذا المكان الغريب.
وقبل أن أتحدث، بادرني هو بالكلام:
أنا عارف هتقولي إيه... أنا جاي عشان أساعدك يا نور، وأعرف عنك كل حاجة، وإنك جاية غصب عنك، بعد ما اتأكدنا بطريقتنا. دلوقتي أنتي عايزة ترجعي لأهلك.
شعرتُ بالذهول. من هؤلاء؟ كيف عرفوا عني كل هذا؟ قلتُ بدهشة:
إنتو مين أصلًا؟ وليه قفلت الباب ده؟
رد بنبرةٍ حاسمة:
إحنا اللي هنساعدك ترجعي بلدك... بس عايزين منك خدمة صغيرة... لبلدك برضه هتساعدينا.
بصي يا نور، عشان مفيش وقت... القاسم من أقوى رجال المخابرات، كان من أعلى الكفاءات، خصوصًا في الاختراق والهاكرز. قدر يدخل أي جهاز ويخترقه بدقة مرعبة. لكنه استغل ده مش لصالح البلد، الطمع عماه، فضل مصالحه الشخصية، وباع ضميره، واخترق ملفات سرية خطيرة جداً.
وبالنسبة ليكي، كنا شاكين إنك معاه. المطلوب منك ميكروفيلم صغير... تسلميه، وبعدها هنساعدك ترجعي لأهلك. فاهماني يا نور؟ أنتي أملنا الوحيد دلوقتي.
كنتُ أستمع إليه وأنا في حالة من الصدمة التامة. هل دخلتُ دون أن أدري إلى دوامة تجس.س؟
جاس.وس؟! القاسم؟! الكلام تجمّد في حلقي. اكتفيت بهزّ رأسي موافقة، والدموع تغمر وجهي من هول ما سمعت.
طمأنني على صحتي:
وخلي بالك على نفسك. إحنا لحقناكي في آخر لحظة، كان اشتباه في جلطة. أنا هطلع أفهمه إنك هتيجي الأسبوع الجاي لمتابعة ضرورية لقلبك. وإنتي خلال الأسبوع تكوني معك الأمانة. ولو لاقيتيها قبل ميعادنا، مثّلي إنك تعبانة، وهيجبوكي هنا بالإسعاف... زي المرة دي تمامًا.
غادر بعدها، ثم دخل مرةً أخرى ليطمئن على إنهاء الإجراءات. بعدها، عدت إلى سجني مجددًا.
كلما تذكرت ما سمعت، وزيف هذا الإنسان وحقارته، كرهته أكثر. لم أتحمله يومًا، والآن أصبحت أرغب في قت.له بيدي...
مرّت عدة أيام، لاحظت خلالها اهتمامه المفرط وبروده القا.تل. خرجت من غرفتي لأتمشّى قليلًا. حاولت دخول المكتب، لكنه كان دائمًا مغلقًا إن لم يكن موجودًا.
لم أيأس، فتشت في كل درج، وفي كل ركن، دون جدوى... المكتب كان مليئًا بالتحف والأنتيكات.
عدت لغرفتي... ومرّ اليوم كما الأيام السابقة، بلا أي فائدة.
في اليوم التالي، كان جالسًا في مكتبه. جلست في الريسبشن أترقّب فتح الباب. أخيرًا، فُتح وكان يبدو مستعجلاً. تقدّمت وقلت:
ممكن أستعير كتاب من عندك؟ أتسلى فيه... لأني مليت من القعدة.
نظر إليّ نظرة بدت كأنه يقرأ أفكاري:
بس أنا طالع... معنديش وقت.
ـ هجيبه وأطلع أوضتي على طول، ممكن؟
وافق، لكنني أحسست بعدم ارتياحه. دخلت، وبمجرد خروجه، فتّشت المكان بأكمله بسرعة.
لم أستطع فتح الخزنة. وأثناء انشغالي بها، دخل فجأة، متجهّم الوجه، ووقف واضعًا يده على جانب جسده. ارتبكت، وقلت أول ما جال في خاطري:
آ... أنا عجبني مكتبك، قلت أتفرّج عليه... هشوف كتاب وأخرج أهو.
لم يعلّق، بل بدا شاردًا. التقط أي كتاب من أمامي، وبينما كنت أهمّ بالمغادرة، أمسك بذراعي، منعني من الخروج، وبدأ يتحدث بصوتٍ هادئ ومليء بالعشم:
منشفة دماغك ليه؟ خلينا نقرب من بعض ونتفاهم زي زمان... وتخدي عليّا. أنا لسه بحبك يا نور... طول بعادنا مقدرتش أتخطاه... حاولي تاني.
شعرت بالقرف من لمساته، لم أتحمّل سماع كلماته، نزعتُ يدي من قبضته بعنف، وصرخت:
إياك تلمسني تاني! أنا بقرف منك! ولا يمكن يكون بينا حاجة، لو كنت آخر راجل في الدنيا! مش هدّيلك فرصة... أنا بحب جوزي! فاهم؟! وهخلّص له، وهرجع له، وأفهمه إن كل دا كان كذب... فاهم؟ أهـــه
فجأة هجم عليّ، دفعني بعنف حتى اصطدمت بالحائط بقوة جعلتني أشعر أن ظهري قد تكسّر. كمّم فمي بقوة، وصاح بصوتٍ جهوري:
لو جبتي سيرته... هموّتك في إيدي! هو سابك وباعك... وأنا اللي اشتريتك! هو صدّق كل الكلام عنك، مكنش في حب... لكن أنا اللي بحبك! كل اللي عشتيه وهم... فاهمة؟ ما تقوليش إنك بتحبيه تاني! اسمه ما يجيش على لسانك، وإلا... هقطعهولك!
أغمضتُ عيني بشدة، وصوتُه المرعب يُدوّي في أذني. الدموع انهمرت، وقلبي ينبض كطبول الحرب من شدّة التوتر.
هو كما كان أيام الخطوبة، عصبي، سليط اللسان، عاشقٌ للتملك، أناني لا يعترف بالنقاش أو الصبر... رأيه فقط هو الذي يُنفّذ، ولو كان خطأً.
سمعتُ صوت شيءٍ وقع منه على الأرض. كان الصوت خافتًا، لكنه جعله يبتعد عني. شعرت أنني أستطيع أخيرًا التنفس.
قبل أن أغادر الغرفة، قال:
يلا، امشي من وشي دلوقتي! مش فاضيلك! هخلص حاجة... وبعدين بطريقتي هقدر أرجعك ليا... زي زمان.
ركضت مبتعدة، واختبأت جانبًا. الباب لم يكن مغلقًا بالكامل.
رأيته يلتقط ما سقط منه، حدّق فيه بدقة، ثم وضعه في كيس صغير. وبعد قليل، تلقّى اتصالًا.
سمعتُ أجزاءً من المكالمة، وكان كل ما أفكّر فيه هو صدمتي من رجل خان بلده، وشرفه، وقسمه الذي أقسمه يومًا لحمايتها.
ما كان يجب أن يُسمّى "القاسم"... بل "الخائن" هو الاسم الأليق.
انتبهتُ لصوته وهو يقول لمحدثه:
نتقابل بكرة... سَلّم واستلِم. هي جاهزة... وقدّامي أهي
يتبع