
رواية انت عمري الفصل السادس والعشرون26 بقلم امل مصطفي
كان خالد يتصارع مع أحد الحراس حين نادى والده باقي الحرس الذين ركضوا نحوه. نظر خالد لوالده بصدمة، غير مصدّق أنه يأمر بقتل ابنه! لم يفق من ذهوله إلا حين انطلقت رصاصة غادرة نحو صدره.
لكن عامر تدخّل في اللحظة الأخيرة، وضرب حامل السلاح، فأخطأت الرصاصة هدفها. حدث اشتباك عنيف، أدى إلى خروج جميع من في الكباريه ما عدا الحرس، وخالد، وعامر.
كان عامر قد اتصل بأصدقائه قبل الدخول، تحسبًا لأي طارئ، فهو من كان ينقل أخبار شهاب لـخالد، ويعلم جيدًا مدى شرّه.
دخل الجميع، فوجدوا خالد وعامر محاصرين.
قال شهاب بشماتة:
– ورّيني بقى يا حيلة أمك، هتعمل إيه!
هجم عليه خالد بغلّ، وأمسك عنقه، موجّهًا السلاح نحو وجهه:
– هعمل كده!
لكن صوتًا غاضبًا صَدَع في المكان، فالتفت الجميع نحو مصدر الصوت، ليجدوا صاحب الكباريه ورجاله يقفون خلفه، وهو يصرخ في شهاب:
– إيه اللي بيحصل هنا؟! ومين ده؟!
لعن شهاب في سره زوجته وابنه، قبل أن يرد على الرجل بتوتر:
– ده... ده ابني.
قال الرجل بحدة:
– حل مشاكلك بره، وكل الخراب اللي حصل هنا، إنت وابنك هتدفعوا ثمنه.
صرخ خالد غاضبًا:
– أنا مش دافع حاجة! خليه هو يدفع دم قلبه!
رمقه الرجل بنظرة تقييم، لم يجد في عينيه خوفًا بل غضبًا صريحًا، فأراد جسّ نبضه:
– ما فيش حد يتعدى على أملاكي ويخرج سليم... اسمع الكلام، أحسن لك.
رد خالد بثبات:
– خد حقك مني، بس صاحبي مالوش ذنب... خرّجه وأنا معاك.
وافق الرجل على ترك عامر، فطلب خالد منه الخروج.
– اخرج يا عامر، ده حساب بيني وبين الراجل ده.
لكن عامر نظر له بحيرة، لا يريد تركه، وفي الوقت ذاته يخاف على زوجته وابنه، فهما اثنان فقط، في مواجهة عدد كبير من المسلحين. لم يستطع ترك صديقه، وهتف بإصرار:
– لا يا خالد، مش هسيبك!
صرخ فيه خالد بضيق:
– اخرج يا عامر، علشان خاطر ابنك... أنا مش خارج من هنا حي!
رد عامر برفض حاسم، وهجم على أحد الرجال خلفه، ليندلع الاشتباك مجددًا. لكن هذه المرة، وصل أصدقاؤهم الذين كان عامر قد طلبهم مسبقًا.
اندلعت حرب طاحنة، بينما فرّ شهاب هاربًا، تاركًا خلفه ابنه يواجه مصيره. ابنه، الذي نظر له وهو يهرب بنفسه دون أن يلتفت!
ثم دوّى صوت صاحب الكباريه مجددًا وهو يصرخ:
– بس خلاص! خد رجالتك وامشي!
توقف خالد، ينظر له بإشمئزاز، وهو يتمتم في نفسه: "هو خايف على مصلحته... ووالدي مافكرش يخاف على لحمه ودمه!"
خرجوا من المكان، بينما خالد يسند عامر، قائلاً:
– إنت غبي... ما قلتلك ما تخرجش من العربية؟!
أجابه عامر متأففًا:
– أعمل إيه يعني؟ ما كانش ينفع أسيبك.
قال خالد بحدة:
– أفرض كان حصلك حاجة؟! ابنك ومراتك كانوا هيعملوا إيه؟
نظر إليه عامر ساخرًا:
– بتهزر مش كده؟! وأمك وأخواتك يعملوا إيه من غيرك؟
لكن صوت هاني قاطع حديثهم، وقد بدا الذهول على وجهه:
– مش وقت الكلام ده... الباشا عايزنا!
توقف خالد عن المشي، والتفت إليه بنظرة مشككة:
– هو الباشا عرف منين؟!
رد هاني وهو يفتح باب السيارة:
– لما عامر كلم محمود، كنا معاه... وهو اللي طلب مننا نجي نوقف معاكم!
---
عند شهاب...
وقف يطرق باب منزله بعنف، ذلك المنزل الذي يسكن فيه مع بعض فتيات الكباريه. فتحت له فتاة تُدعى حليمة، فدخل وهو يسبّ ويلعن طليقته وابنه، الذي دمّر حياته في دقائق، وجعله يخسر ما جمعه في سنوات!
كان شهاب يعمل قوادًا لعدد من النساء، ويعلم أن صاحب الكباريه لن يتركه قبل أن يعوّض الخسائر... ولذلك كان مضطرًا لتنفيذ كل ما يطلبه للحفاظ على مصلحته.
سألته الفتيات بقلق:
– إنت كويس؟
صاح شهاب بغضب:
– ابن أمه كان هيقتلني... والكباريه اتكسر!
لبلبة قالت بإعجاب:
– أنا مش مصدقة يا شوش إن ده ابنك!
قال شهاب بغيظ:
– ولا أنا مصدق! أنا سايبه حتة عيل عنده 15 سنة، وكنت بروح وأجي عليهم، لحد ما بقى عنده 18... كان عامل زي العصاية، دلوقتي بقى عامل زي الطور... يعدي في الحيط! مش عارف البومة أمه كانت بتأكّله إيه!
ده ضرب الجموسة حلمي اللي كنا بنخوف بيها الزباين!
لبلبة تمطّت بدهشة:
– صراحة يا شوشو، ده غيرك خالص... آه آه، رجولة! رجولة يعني! طوله بعرضه... وحمش كده! لما ميرنا قربت منه، كان عايز يقتلها عليها... النظرة بتاعته... تهوّس!
شهاب صرخ بها:
– مالك يا (...) إنتي وهي؟! هو إنتوا أول مرة تشوفوا رجالة؟! ده انتوا لافينها!
*****
في الفيلا...
كان "أدهم" يتحرك في حديقة الفيلا بضيق واضح. ما إن دخل رجاله حتى وجدوه غارقًا في غضبٍ لا يُخفى.
وقف الجميع أمامه صامتين، وألقى عليهم نظراته الحادة، يتفقد وجوههم واحدًا تلو الآخر. لاحظ الإصابات، لكنها كانت طفيفة لا تُذكر، مما منحه شعورًا بالرضا الداخلي، وإن لم يُظهره.
قال بغضبٍ شديد:
– ممكن أعرف إيه اللي بيحصل من ورايا؟! ها؟ هتشتغلوا بلطجية؟!
انحنى "خالد" برأسه خزيًا وهتف:
– الغلط من عندي يا سعادة الباشا، محدش من الرجالة ليه ذنب... دي كانت مشكلة عائلية، وأنا موافق على أي عقاب تشوفه مناسب.
مرّر "أدهم" عينيه على "خالد"، فرأى أمامه رجلًا مهزومًا نفسيًا لا جسديًا، بداخله شرخ عميق في روحه يستحيل مداواته.
أمر الجميع بالانصراف، ثم التفت إليه وحده بعد أن خلا المكان، وسأله بصوت منخفض:
– إيه اللي خلاك تروح له؟
أجاب "خالد" بألم:
– كنت ببلغه ميعاد كتب كتاب بنته الوحيدة... زي الأغراب، كان عندي أمل إنه يكون اتغير، وحسّ بالأبوة ناحيتنا، بس للأسف... طلب من رجّالته يقتل ابنه!
ثم أردف بصوتٍ مبحوح:
– تخيل حضرتك... أب مشافش ولاده من ١١ سنة، ولما ابنه يروحلُه بدل ما ياخده في حضنه، يأمر رجّالته يضربوه بالنار؟!
أشفق "أدهم" على حاله، وزفر بضيقٍ من ذلك الأب الجاحد، ثم قال بثقة:
– أنت راجل، ومش محتاجه في حاجة. أنت وليّ أمر أختك، وأنا كمان هكون شاهد على عقد جوازها... ولا تزعل.
اتّسعت عينا "خالد" بدهشة ممزوجة بالفرح، ولولا خجله لاحتضنه في تلك اللحظة.
قد تكون كلمات عابرة من "أدهم"، لكنها بالنسبة لـ"خالد" كانت جبر خاطر عظيم، ومَعروفًا طوّق عنقه إلى آخر العمر، وسندًا حقيقيًا أزاح عنه شعور الوحدة والخذلان.
قال بصوتٍ متلجلج:
– وجود حضرتك شرف كبير لينا... أنا فرحتي بكلامك أكبر بكتير من فرحتي بجواز أختي!
ابتسم له "أدهم" وشاوره بيده:
– طيب يلا روح، وانسَ كل اللي حصل... أنت دلوقتي أخ وأب في نفس الوقت. لازم دايمًا تبان قوي ومتماسك، حتى لو جواك منهار.
********
في المساء...
دخل "أدهم" غرفته يبحث عنها بعينيه، وما إن رآها تخرج من غرفة الملابس، حتى هتف بعشق:
– ها، حبيبي، خلّصت لبس ولا لسه؟
ابتسمت بحيرة وسألته:
– عايزة أعرف رايحين فين، علشان أشوف لبسي مناسب للمكان ولا لأ؟
رد عليها بهيام:
– حبيبي، المكان هو اللي يليق بيها، مش العكس... شوفي اللي يعجبك، وأنا هستناكي تحت في المكتب.
وبعد لحظات، نزلت وهي ترتدي فستانًا أزرق، وحجابًا أبيض، بدت معه كفراشة ناعمة، تمشي على أطراف الضوء.
أطلق "أدهم" صفارة إعجاب، وهتف بانبهار:
– إيه الجمال ده كله؟! وبتقولي مش عارفة يناسب المكان ولا لأ؟! ده حبيبي آية في الجمال والرقة!
ضحكت بحب، وردّت عليه:
– وأنا مِهِمِّنيش غير عيونك...
أخذ يدها بلطف، وانحنى ليقبّلها برقة تليق بها، ثم وضعت يدها على ذراعه بحنان، وسارت معه إلى الخارج.
فتح لها باب السيارة، وبعد أن جلست، اتجه هو إلى مقعد القيادة، وانطلقا معًا.
بعد وقتٍ قصير، توقف أمام كافيه في مكان هادئ بعيد عن الزحام، نزل وأسرع ليفتح لها الباب، وسألها وهو ينحني نحوها:
– إيه رأيك في المكان؟
لم ترفع عينيها، واكتفت بالهمس:
– أي مكان أنت فيه يعجبني من غير كلام... كفاية إنه اختيارك.
وقبل أن يرد، جاء النادل ليقودهما إلى الطاولة. جلسا معًا، وطلب "أدهم" الطعام لها على ذوقه، كعادته، يعرف ما تحب قبل أن تنطق.
*******
عاد "خالد" إلى منزله بملامح تحمل الهم والوجع، كأن السنين أثقلت كاهله فجأة. بدا كشيخٍ أنهكته الخيبات، لا يصدق أن والده حاول قتله... دون أن يرمش له جفن!
فهمت "فردوس" حزن ابنها من هيئته، وقرأت في ملامحه ما لم يُنطق. عرفت أن "شهاب " ما زال يحمل جبروتًا وقسوة قلبٍ لم يلين. اقتربت منه تواسيه، دون أن تعلم تفاصيل ما حدث، وهمست بصوتٍ مملوء بالعطف:
– معلش يا حبيبي... أنت عملت اللي عليك، وهو حر! كفاية إنه خسر ابن زيه، فخر وشرف لأي أهل.
خرج صوت "خالد" حزينًا، متألمًا، وهو يهتف:
– تفتكري ليه بيكرهني كده؟! أنا ما شفتش في عيونه لمحة حب أو حنان... ليه؟!
أطرقت "فردوس" رأسها بحزن، ثم تمتمت:
– أبوك طول عمره قلبه قاسي و جاحد... ومش مصدق إنك ابنه!
رفع "خالد" عينيه بصدمة من مغزى كلمات والدته، تلك الكلمات التي يسمعها لأول مرة، وسألها بذهول:
– قصدك إيه؟!
أجابت وهي تتهرب من نظراته:
– فاكر إني خنته...
تأملها بتعجب، وهتف بمرارة:
– إيه اللي يخليه يحط في دماغه فكرة زي دي؟!
تنهدت تنهيدة متألمة كأنها تعيد فتح جرحٍ قديم، وبدأت تسرد له ما حدث لأول مرة، بصوت متهدج:
– كنت بحب واحد... وهو كان بيعشقني، على قده، آه، بس راجل جدع، وعنده ضمير، وابن حلال، وكل الناس كانت بتحبه.
أبوك كان بيغير منه قوي، لأنه محبوب من الكل.
ولما أبوك طلب إيدي قبله، أنا رفضت، لأن طول عمره شمال، والناس كلها عارفة إنه ماشي في أي حاجة تجيب فلوس.
سكتت للحظة، ثم تابعت:
– لما وافقت على "أيمن"، أبوك اتجنن... إزاي أرفضه وأوافق على واحد زيه؟ وقلب الدنيا.
تالت يوم من الخطوبة، منه لله، أبوك حط لأيمن حشيش في شنطته، وبلغ عنه...
اتقبض عليه، و معرفتش أطلعه، لأنه كان محتاج محامي كبير وفلوس كتير، وإمكاناتنا ما كانتش تسمح.
رمشت بعينين دامعتين، وأكملت:
– بعد أسبوع، جالي أبوك، وهو شمتان فيه، وعرض عليا الجواز!
اتخانقت معاه و طردته... خرج من عندي وشوه سمعتي، وقال إني كنت ماشية معاه في الحرام!
بكت بحرقة، كأنها تعيش الذكرى من جديد:
– أبويا ما تحملش كلام الناس... ومات
. الجاحد مصبرش علينا لما نفوق، وجه طلب إيدي من أمي، ووافقت علشان تلمّ لسان الناس... ما إحنا بقينا اتنين ستات من غير راجل!
وفعلًا، اتجوزنا... جوازة ندم! ضرب، وإهانة، وقلة أدب، لأن دايمًا كنت برفض قربه مني.
حياتي معاه كلها كانت غصب في غصب... ما كرهتش حد في حياتي قدّه!
مسحت دموعها بكفها المرتعش، وتابعت:
– وبعد ست شهور من جوازنا، خرج "أيمن"...
معرفش إزاي، ولا مين ساعده. أنا ما شفتوش من يوم ما اتقبض عليه.
جه عند "أم زينهم"، وقالها إنه مسافر، ومش راجع هنا تاني، بس نفسه يشوفني مرة أخيرة... من غير ما أعرف، علشان ما يسببليش مشاكل... هو كان عارف جبروت أبوك.
شهقت وهي تسترجع تلك اللحظة:
– يومها، "أم زينهم" جت خبطت عليا، طلبت مساعدتي في تقوير الكوسة، وفعلاً رحت...
عملت الشاي، وقعدنا نتكلم ونحكي وإحنا بنشتغل.
ثم قالت، وهي تغمض عينيها بألم:
– أتاري "أيمن" واقف ورا باب أوضتها اللي قدامي... وأنا معرفش!
قعدت معاها ربع ساعة، وبعدين روحت شقتي...
---
عند أدهم
هتف بتشجيع:
– تعالي نرقص!
تحدثت بخجل:
– لا... اتكسف. أنا حاجة غريبة بين الناس دي... شوف لبسي ولبسهم، حاسة إن الكل بيتفرج عليا!
جذب يدها وهو يقف بإصرار:
– طبعًا ملاك زيك لازم يكون محط أنظار الجميع. إنتِ الشمس اللي بيستمدوا منها ضوءهم، وهم مجرد نجوم.
ابتسمت له بحب، ووقفت أمامه. جذبها بحنان إلى صدره، وتحرك معها على أنغام الموسيقى الهادئة.
على طاولة أخرى
تحدث أحدهم بذهول:
– مش مصدق عيوني... ده حلم ولا علم؟ معقول اللي بيرقص قدامنا ده أدهم الشهاوي؟!
رد عليه آخر:
– والله ولا أنا! ده عمره ما وافق على حفلات، ولا كلم حريم، ولا رقص... أول مرة أشوفه كده.
قال ثالث:
– يا ابني دي أكيد مراته. أنا سمعت إنه اتجوز من كام شهر.
رمقتهم أخرى باستخفاف:
– أنا شايفة إنها مش من مستواه... شايف لبسها!
رد عليها:
– المشكلة مش في لبسها، المشكلة إنها قدرت توقع واحد زي ده. كان حلم كل البنات والستات اللي حواليه.
تحدثت الأخرى بغيرة:
– وأنا كنت منهم! وكل مرة أحاول أقرب منه، يبص لي من فوق لتحت كأني حشرة ويمشي!
لما يقعد، نروح نسلم عليه ونبارك له.
عند أدهم
تعلقت عيناها بعينيه، وهمست:
– أنا بعشقك، ومش مصدقة لحد دلوقتي إني مراتك.
ضمها بغرام:
– وأنا كمان بعشقك، يا عمر أدهم الجميل. وبالنسبة لإثبات إنك مراتي...
حملها ودار بها، فهتفت بخجل وهي تتمسك به:
– أدهم... الناس يا حبيبي!
هتف بغرام:
– أنا نفسي أصرخ بحبك قدام العالم كله من السعادة اللي عايشها في وجودك، واللي حاسس بيها دلوقتي.
أنا كنت قبلك فاقد الحياة. عايز كل الناس تشوف الملكة الجبارة... اللي قدرت تحتل قلعة أدهم الشهاوي من غير سلاح ولا جنود!
خلتني أستسلم في وقت قياسي، وبدل ما أحزن على احتلالها... رفعت الراية البيضاء، وأنا في منتهى السعادة والرضا.
تاهت في معسول كلماته لدرجة أنهم لم يلحظوا انتهاء الأغنية.
لكن نظرات من حولها جعلتها تفوق، فهتفت:
– الأغنية خلصت... والناس بتتفرج علينا!
قال بحب:
– انسي الناس والدنيا لما نكون مع بعض.
همس بابتسامة جذابة:
– بحبك...
قالت وهي تبادله نظرة شغوفة:
– وأنا كمان بحبك.
صفّق الجميع لهم، وكادت تفقد وعيها من شدة الخجل. لم يرحم ضعفها، بل قبّل جبينها، وأخذها وعادا إلى الطاولة.
---
عودة إلى خالد
الذي يستمع لحديث أمه بعقل مشتت، وهي تكمل:
– لاقيت أبوك راجع بغضب... شدني من شعري وضربني من غير ما يسأل ولا يعرف في إيه!
فضل يضرب فيا، وهو بيكرر كلمتين: "خاينة وقذرة"...
ومن شدة الوجع، بقيت أستنجد بالجيران وأنا بدعي عليه.
– لحد ما جت أم زينهم تسأله بيعمل كده ليه؟ وقالت له: "حرام عليك ضربك المستمر ليها!"
سبّها وقال لها: "إنتي فاتحة بيتك للوساخة!"
– غضبت، وقالت له: "أيمن أرجل وأشرف منك. على الأقل مش بياخد حاجة بتاعت حد، وطلب يشوفها من غير ما هي تعرف، لأنه بيفهم في الأصول".
– وقتها حسيت إن قلبي بيبكي على أيمن... حسيت إني خاينة لأيمن، مش لأبوك.
أيمن كان جاي يودعني من غير ما أعرف.
– عرفت بعدين إن واحد من رجالة أبوك شاف أيمن وهو طالع، فكر إنه جاي عندي، فاتصل بأبوك، ولما طلع وراه لاقاه داخل شقة أم زينهم.
وبعدها جت أخدتني، ولما روحت شقتي، هو خرج بعدي.
كل ده أنا ماكنتش أعرف عنه حاجة غير بعدها بفترة.
– يأذن السميع... إن بعد أسبوعين طلعت حامل.
ولما عرف، جن جنونه، وفضل يضرب فيا علشان يموت الجنين، بس ربنا أقوى من أي شيء.
الجنين منزلش، وفضلت في المستشفى شهر، ما جاش ولا مرة بص عليا.
– ورغم كرهي ليه، ولأي حاجة منه، حتى أنفاسه وقربه ليا... بس مقدرتش أكرهك.
بقيت خايفة عليك من أذاه.
ربنا جعلك عوض ليا، وسندي في الحياة.
قام خالد يضمها إلى صدره بحزن على حالها، لا يعلم أَيواسيها أم يواسي نفسه على حظه العاثر، الذي جعله ابنًا لذلك الأب.
قبّل رأسها، وتعهد أن يعوضها كل ما عانت مع قاسي القلب من أجلهم.
بكت في حضنه:
– سامحني يا حبيبي... كان نفسي يكون ليكم أب غيره، بس النصيب حكم، وإحنا ما لناش يد فيه.
***
عند أدهم
جلس على طاولته بصحبة عشق، يتبادلان نظرات غرامية هادئة، قبل أن يقطَع هذا الجو صوتٌ متطفل:
– "مساء الخير يا أدهم باشا."
رفع أدهم عينيه ببرود، ليجد أمامه رجلين من صغار رجال الأعمال، يكبرانه سنًا، لكنه يفوقهم مكانةً ونفوذًا.
– "مساء النور، خير؟"
ابتسم الأول قائلاً:
– "إحنا مبسوطين إننا شوفنا سعادتك."
وأضاف الثاني:
– "حبينا نمسي على سيادتك."
لكن قبل أن يُجيب، أشارت فتاة كانت برفقتهم إلى عشق، قائلة بفضول:
– "هي دي صاحبتك؟"
نظر إليها أدهم بنظرة اشمئزاز، وردّ بحزم:
– "أنا ما بصاحبش، يا مدام... دي مراتي."
بادلَه الرجلان التهنئة سريعًا:
– "ألف مبروك يا فندم."
ردّ عليهم ببرود:
– "ممكن نقعد في هدوء شوية؟"
اعتذر الجميع على الفور، وغادروا الطاولة بعد تمنياتهم له بأمسية طيبة. لكن تلك الفتاة لم تُخْفِ ضيقها، وهمست في سرها بسخط:
– "قليل الذوق وبارد... يستاهل واحدة عرّة زي دي."
---
بعد مرور يومين
في إحدى الحارات الشعبية، وقف خالد أمام منزله بتوتر ظاهر. اليوم سيحضر أدهم كتبَ كتاب شقيقته... لم يكن يصدق ما يحدث. رجل مثل أدهم، الذي لم يكن يقبل حضور مثل هذه المناسبات حتى في أرقى القاعات، سيحضر اليوم في حيّ شعبي، وبكل رضا!
قطع أفكاره صوت سيد، خطيب أخته، وهو يقول بمزاح:
– "مالك يا ابن الأصول؟ المفروض أنا اللي أبقى متوتر، دي ليلة كتب كتابي، مش إنت!"
التفت له خالد بدهشة:
– "أنت بجد مش عارف سبب توتري؟ لما واحد زي أدهم الشهاوي يتنازل ويتعطف ويحضر كتب كتاب أختي، اللي أبوها رفض يحضره؟ دي حاجة كبيرة."
أكمل بنبرة إعجاب:
– "الناس دي نفوذها أقوى من وزير الخارجية نفسه."
هزّ سيد رأسه متفهمًا:
– "فاهم وعارف ومقدّر، بس إهدى."
وصلت السيارات الفارهة، ونزل منها أدهم، وهو يُمسك بيد عشق ويُساعدها على النزول. التفّ حوله رجاله بمنظر مهيب لفت أنظار الجميع، حتى سيدة، والدة العروس، لم تخفِ انبهارها.
– "ده شكله حاجة كبيرة خالص!" قالتها بدهشة.
أجابتها فردوس، أم خالد، بفخر:
– "طبعًا، ده الباشا بتاع خالد... راجل واصل خالص."
تمتمت سيدة بسعادة:
– "باين... باين."
التفت أدهم إلى رجاله وقال بصرامة:
– "أنتم جايين تحضروا كتب كتاب أخت صاحبكم. يعني انطلقوا براحتكم... مش محتاج حد يحرسني."
اقترب منه خالد وقال بفخر:
– "شرفتني يا أدهم بيه... ده شرف ليا وللحارة كلها وجود معاليك بينا."
– "اتفضل حضرتك معايا."
عشق اقتربت وهمست:
– "أنا داخلة عند ندى."
فرد أدهم برفض:
– "لا، استني... أوصلك."
تحرك بجوارها حتى أدخلها، ولما اطمأن عليها، خرج مع خالد إلى الصوان، حيث كان العريس والمأذون في انتظارهما.
أشار خالد قائلاً:
– "اتفضل حضرتك."
تساءل أدهم:
– "اتفضل فين؟"
ثم أكمل:
– "شرف ليا إنك تكون ولي أختك... ماحدش يستاهل المكان ده غيرك. أنت اللي ربيت وكبّرت."
رد خالد باحترام:
– "حضرتك عزوة وفخر لينا كلنا."
جلس أدهم بجوار المأذون، ووضع يده بيد سيد.
---
عند عشق
دخلت عشق بفرحة وهي تبحث عن ندى. بمجرد أن رأتها، احتضنتها بحب:
– "عروستنا الجميلة... ألف مبروك يا حبيبتي!"
ردّت ندى بسعادة:
– "الله يبارك فيكي."
عشق سلمت على فردوس:
– "مبروك يا طنط فردوس."
فردوس وهي تحتضنها:
– "الله يبارك فيكي، يا أميرة يا بنت الأمراء."
همست عشق لفردوس:
– "اتفضلي، يا طنط... دي هدية ندى. خليها تفتحها بعد ما الناس تمشي."
أخذت فردوس الشنطة، ونظرت داخلها، لتجد علبة قطيفة. فتحتها، لتتفاجأ بطقم ذهب فاخر.
– "إيه ده، يا بنتي؟ كده كتير!"
عشق بابتسامة طيبة:
– "مافيش حاجة تغلى على نُودَه."
– "خلاص، لازم تلبسيها."
– "يا طنط، بعدين لما نكون لوحدنا."
أصرت فردوس:
– "والله أبدًا."
اقتربت من ابنتها وقالت:
– "شوفتي يا ندى هدية عشق؟"
نظرت ندى إلى عشق بإعجاب:
– "شكراً يا عشق... مهما قلت، مش ممكن أديكي حقك."
---
عند وحيد
جلس وحيد يتابع دخول أدهم ومعاملته مع خالد، يتمزق غيظًا في داخله، ويتمتم:
– "داهية تاخد حظنا الهباب! حد يصدق إن باشا زي ده يدخل حارتنا المعفنة دي علشان يحضر كتب كتاب أخت حارس عنده؟! مايسواش تلاتة مليم... زي ما كل البشوات بيبصلنا!"
تابع في نفسه:
– "والله يا خالد، تبقى غبي لو نفذت هدف حفيد السلاموني. لو الباشا بتاعي يعاملني كده، كنت أفديه بروحي!"
وحين ابتعد خالد عن أدهم، اقترب منه وحيد بسرعة، وجذبه من ذراعه على جنب، وهمس بتحذير:
– "عايز تغدر براجل زي ده؟! يا خالد، أول مرة أعرف إنك بالغباء ده! حافظ على النعمة اللي بين إيدك، وحطّه فوق راسك!"
---انفجر خالد بغضب، وهو يزمجر في وجه وحيد:
– "أنت اتجننت؟! إزاي تتكلم كده في مكان زي ده؟! اعمل حسابك، لو روحت في داهية... هشُدّك معايا! وإياك، ثم إياك، تتكلم في الموضوع ده تاني في مكان عام، وإلا هبلّغ حفيد السلاموني إنك بعته لأدهم!"
اتسعت عينا وحيد بصدمة، عاجزًا عن تصديق التغيّر الجذري في شخصية خالد...
الحارة بأكملها كانت تقسم أن هذا الشاب لا يجري في عروقه قطرة واحدة من دم أبيه القذر،
ذلك الرجل سيء السمعة والخلق، الذي لم يسلم منه بيت في الحارة،
بينما والدته كانت على النقيض تمامًا، طيبة القلب، تساعد كل من يحتاج دون مقابل.
– "معقول؟ ظهرت عليه جينات والده الأن ؟!"
قالها في نفسه بأسى، وهو يتراجع خطوة للخلف.
– "هل امتلك فجأة ندالة أبوه وسوء خلقه؟!"
ابتعد وحيد عن المكان، حزينًا على صديقه الذي شعر أنه خسره في لحظة واحدة.
********
في الداخل
اقتربت عشق من ندى، وعلى وجهها ابتسامة حانية، وهمست لها بلطف، بينما تساعدها في ارتداء الهدية تحت أنظار الجميع، في مشهد نسائي دافئ مليء بالمحبة.
فجأة، شقّ المكان صوت طلقٍ ناري، تلاه صراخ مرتعب من الخارج. تجمدت القلوب في أماكنها، ووقع قلب عشق من الخوف، لتهمس بذعر:
– "أدهم...!"