
رواية انت عمري الفصل التاسع عشر19 بقلم امل مصطفي
همست سلسبيل بحنان، وهي تربت على يد ماسة:
"بُكرة تكوني معاه، وتكسبي حبه ووده. أصل ما فيش راجل يقدر يرفض حب كده. "
ظلوا يغنون ويرقصون حتى جاءهم طلب الرجال للعودة إلى المنزل.
---
بعد أسبوع من تلك الأحداث، في فيلا أدهم، استقبلتهم غادة بترحاب:
"حمد لله على سلامتكم يا حبايبي، وحشتوني جدًا. "
احتضنتها عشق بحب:
"حبيبتي يا ماما، وحشتيني والله، إنتِ ويارو، أخبارك يا قلبي؟ "
اقتربت يارو بسرعة، تحتضنها بحب:
"وحشتيني، وحشتيني يا عشق. "
كان أدهم يراقب المشهد، وقد غمره شعور بالرضا. زوجة تحب والدته وتعشق أخته، ما الذي يمكن أن يتمناه أكثر من ذلك؟
قال مازحًا:
"أحمم، أنا موجود معاها على فكرة. "
اتسعت ابتسامتها وهي تردف بحنان:
"قلبي، إنت وحشتني. "
احتضنها أدهم وقبّل جبينها:
"وأنتِ أكتر يا أمي. "
نظرت إليه والدته بفرحة كبيرة ورضا، فقد أنار وجهه السعادة والراحة. كم تمنت أن تراه زوجًا وأبًا، وقد فقدت الأمل في هذا حتى ظهرت عشق، لتقلب كل موازينه وتجعله هائمًا في ملكوتها دون مجهود.
نظر لأخته وتحدث بعتاب:
"إنتِ يا زئردة، من إمتى لكِ حضن غير أدهم؟ "
تركت عشق وتوجهت لأحضان أخيها وهي تتحدث:
"هتفضل طول عمرك السند والأمان الوحيد بعد ربنا. "
سمع صوت مراد الذي يتخلله الغيرة:
"وأنا إيه؟ خيال؟ "
رمقه أدهم بتهديد:
"وأنت مين؟ أنت أصلاً مالكش دعوة بأختي. "
لم ترد روان أن تحزنه بعد كم الحب والغرام الذي يغدقها به، لذلك أرادت جبر كسره بكلماتها الحنونة:
"أنت جوزي وحبيبي، مكانتك كبيرة في قلبي، بس ما فيش حد ممكن ياخد مكانة الأب. "
احتضنها أكثر وقبّلها، ثم جذب مراد أيضًا لحضنه:
"أنتم الاتنين حتة مني، وما فيش حد ياخد غلاوتكم عندي في قلبي. "
تأملته عشق بهيام على حنانه واهتمامه الذي يشمل كل عائلته:
"ربنا يخليك لينا كلنا، وتفضل سندنا. "
ابتعد مراد وجذب غادة مكانه، ووقفت عشق في حضن أدهم بينهم، وأخذ مراد صورة سيلفي لهم الخمسة، أجمل وأروع صورة تجمع بين الصداقة والأخوة والحب والألفة.
---
بعد مرور أسبوع من رجوع أدهم، تحدث بسخرية:
"مش فاهم، عايز تعمل فرحك مع فهد؟ إزاي تعمل الفرح بعيد عن هنا؟ "
رد مراد بإصرار:
"ما ليش دعوة، أنا كده كده ما ليش غيركم، ما يهمنيش إن حد يحضره، ومش هاستنى شهر كمان. "
أكمل بإعجاب:
"بعدين جو الأفراح عندهم عجبني أكتر من المنظرة اللي في أفراحنا، وهاحضر الفرح بجلابية كمان، تجديد، وهناك الناس بتتجمع بحب وتعاون، بيكون في بساطة في الموضوع. "
قال أدهم:
"خلاص، اعرض الموضوع على فهد، وأنت خد رأي روان وماما. "
رد مراد بثقة:
"أنا واثق إن روان موافقة، بس ماما من واحد في حجمك وشكلك، غريبة شوية، يعني مش مبلوعة. "
رفع أدهم حاجبه:
"غريبة خفة الدم دي، وبعدين أقول لها إيه؟ غادة ولا يا مدام؟ "
رد مراد وهو يستعد للهروب من أمامه:
"أنا بقول لها غادة عادي. "
دخل مراد برأسه بعدم تصديق عندما قذف أدهم منفضة السجائر تجاهه، لكنها كسرت في الحائط.
"عايز تقتل صديق عمرك وجوز أختك المستقبلي يا مجنون؟ "
أغلق الباب بسرعة.
ابتسم أدهم بحب:
"ربنا يديم وجودك في حياتي يا حبيبي، وجودك هو اللي صبرني على خسارة أحمد، الله يرحمه. "
********-
في منزل إبراهيم
دخل إبراهيم المنزل بخطى متثاقلة، وقد ارتسمت على وجهه ملامح الإحباط بعد رفض فهد دعوته. ركضت ماسة نحوه، تستقبله بلهفة:
"خير يا بابا؟ قال إيه؟"
شعر بالحزن من أجل ابنته، فقد رأى في وجهها لهفةً وقلقًا. تنهد قائلاً:
"معلش يا حبيبتي، اعتذر، قال مش فاضي."
كبتت دموعها، وتركت ما بيدها، ثم قالت بمرارة:
"آه، طبعًا، أكيد واحد زيه مش هيكون فاضي."
ثم وجهت نظرها لوالدتها:
"خلاص يا ماما، تعالي نعين الأكل ده، وأنا هطلع أنام شوية."
اقترب منها والدها، ضم وجهها بين يديه بحنان:
"حبيبتي، فهد من الرجالة الشديدة اللي مش بيعترفوا بالمشاعر والحاجات دي، اللي ممكن تلاقيها عند باقي الشباب. يعني مش هتلاقيه ملهوف على خطيبته أو يزورها كتير ويخرج معاها أو يحبها في التليفون. فهد راجل بحق، حياته ووضعه أجبره يكون كده. أبوه وأعمامه موجودين، بس حاطين كل الحمل عليه، وما فيش حاجة ممكن تحصل من غير إذنه. علشان كده، مش هتلاقي عنده اللي بتحلمي بيه. آه، هتلاقي السند والاحترام، لأنه كويس جدًا مع أهله، بس مش هتلاقي الحب والرومانسية اللي بتحلمي بيها."
رغم أنه فرحان إن بنته بقت زوجة لراجل بمعنى الكلمة، اسمه بس بيخرس الناس، لكنه كأب كان نفسه تاخد حد من ولاد أعمامه، ممكن تلاقي عندهم اللي تتمنيه.
ماسة، بإحساس مختنق:
"هو نصيبي، وأنا راضية بيه، ما تقلقش عليا."
قبلها من جبينها وتركها تصعد.
---
في منزل المنشاوي
هتف الجد بسؤال:
"ليه يا فهد رفضت عزومة الغداء؟"
تحدث فهد بحدة:
"يا جدي، أنا ما ليش في الجو ده، ومش لسه صغير علشان أشيل زيارة وأروح عند أهل خطيبتي وأقعد أحكي في مواضيع. أنا مش كده، وأنت عارف."
نظر له الجد وشعر بالحزن، فهو من صنع منه ذلك الجبل الذي يرى الاعتراف بالمشاعر عارًا، وأن الرجل يجب أن يكون مثل الصخر. ولكنه أيضًا يكون عطوفًا وكريمًا مع أهل بيته، أما من بالخارج، فلا يجب أن يروا غير القوة فقط، حتى يهابه الجميع. ليس بالظلم، بل القوة مع العدل والحكمة. وهذا خلق منه رجلًا بمعنى الكلمة، يجمع بين كل الصفات الجيدة.
لكنه ظلمه بتعليمه عدم إظهار مشاعره أو الاعتراف بها، حتى لا يكون نسخة أخرى من عمه محمود، الذي كان دائم الخوف والقلق عليه، لأنه أطيب وأحن أولاده. مشاعره هي التي تتحكم به، وهذا جعله دائم الخوف عليه من كيد النساء.
قال الجد بهدوء:
"الغفر هو اللي كان ياخد الزيارة ويوصلها قبلك. البنية لسه صغيرة، وأنت عارف، بنات اليومين دول بيحبوا الراجل اللي بيهتم بمشاعرهم، وعايزين يخرجوا ويتدلعوا. الأيام بتتغير يا ولدي، وأنت لو مش مرتاح للموضوع، ممكن تتراجع، علشان لا تظلمها ولا تظلم نفسك، كيف ما عمك ظلم بنت عمه، وعاشت عمرها لا هي متزوجة ولا هي مطلقة."
تضايق فهد من فكرة عرضها على أحد آخر من رجال المنزل، كأنها بضاعة لمن يريدها، لذلك هتف بضيق:
"لا يا جدي، من متى وإحنا نرجع في كلامنا؟ وبعدين ده نسب."
---
في غرفة أدهم وعشق
جلس أدهم بجوار عشق، يتأمل ملامحها الهادئة وهي نائمة، وهمس بكلمات محبة:
"قمر ومن السما نزلي، دي بسم الله ما شاء الله، تشوفها تسمّي وتصلي، علشان أوصافها ملهاش حل. كلام أغانيه كله أقل، دي خير في حياتي جاني، وهل، ومن حظي إنه متشالي."
حرك أنامله برفق على وجنتيها، وتابع:
"كان نفسي تكوني معايا في اليوم ده، وجودك يفرق معايا كتير. مش متخيلة اليوم ده بيكون صعب عليا قد إيه. واثق إنك لو هنا النهاردة، هبقى غير كل سنة. وجودك في حياتي غيرني 180 درجة، كأني ما كنتش عايش من قبلك. بعشقك يا نور حياتي."
انحنى وقبّلها برقة، ثم قام وأخذ شاور، وارتدى ملابسه، وتوجه إلى الخارج.
قابلته غادة وهو يحمل وردة حمراء، ويتوجه مرة أخرى ليصعد إلى غرفته.
تحدثت بابتسامة حب:
"صباح الخير يا عمري."
توجه لها، وانحنى يقبّل يدها:
"صباح النور يا حبيبتي."
نظرت لتلك الوردة بيده، وشعر بالحرج من والدته. شعرت به، فربّتت على كتفه:
"ربنا يهنيك يا حبيبي. ما تتصورش أنا فرحانة قد إيه عشانك. وعشق تستاهل كل حبك. وكل يوم بدعيلك ربنا يديم عليكم السعادة."
قبّل جبينها:
"السعادة هي وجودك معانا يا أمي."
قالت:
"اطلع يا حبيبي، على ما أخلي الدادة تحضر الفطار."
صعد السلم، دخل غرفته، وضع الوردة بجوارها على الوسادة، وتحتها ورقة مكتوب عليها: "صباح الخير على عيون حبيبي."
---
في منزل خالد، الحارس الشخصي لعشق
أتت والدته على حياء، وجلست أمامه على تلك الطاولة الشبه متهالكة، ورددت:
"حبيبي، أختك عايزة فلوس الدروس، ومحمد وكرم عايزين برضه فلوس الدروس."
أكملت بحزن:
"معلش، أنا عارفة إني بتقل عليك. كرم الجزمة بتاعته تقطعت، يعني لو ينفع أجيب له واحدة رخيصة، أصل بتاعته شكلها مش حلو."
ترك الطعام الذي بيده، ونظر لها بضيق، لأنه يشعر بالتقصير في تلبية احتياجات إخوته الصغار، الذين يعتبر هو أباهم وأخيهم الكبير. لقد حمل على عاتقه مسؤوليتهم وهو صغير.
هتف بحزن:
"لسه خمسة أيام على القبض يا أمي، وأنا بسيبلك الفلوس كلها، مش بسيب غير مصروف بسيط في إيدي. أنتِ عارفة أنا لا بروح قهوة، ولا بخرج مع أصحابي، علشان أوفر مصروف البيت."
الأم بحزن على حال ابنها:
"عارفة يا حبيبي، ربنا ينتقم من اللي كان السبب، سابنا حمل عليك لوحدك."
قام وضمها:
"ما تقوليش كده يا أمي. عمرك أنتِ وإخواتي ما كنتم ولا هتكونوا حمل عليا أبدا. بس أنتِ عارفة الحاجات اللي بتجيبها بالقسط لشوار ندى، بيأثر معانا كتير."
هتفت بضيق:
"ويا ريت يا حبيبي، عارفة أخلص حاجة. أنا تعبت من حماتها وكبريائها اللي بتتعامل معانا بيه."
يعلم جيدًا ما تتحدث عنه، لأن حماة أخته سليطة اللسان ومتكبرة عليهم ظروفها المادية.
"والله يا أمي، لولا إن البنت بتحبه، وهو راجل وعارف إنه هيحافظ عليها، عمري ما كنت كملت في الخطوبة دي."
نظر في ساعته، ليقف بسرعة، وهو يردف:
"معلش يا أمي، أنا ماشي، لأن كده متأخر."
نظرت له بحنان، وهي تتمنى له الراحة:
"مع السلامة يا ضنايا، ربنا يفتح لك أبواب الرزق، وينجيك."
---
في صباح يومٍ جديد،
استقلت غادة وروان وعشق السيارة، وتحركن في طريقهن إلى الصعيد. كانت الأجواء هادئة حتى قطعتها عشق بنبرة حزينة:
– "أنا مش كنت عايزة أمشي من غير ما أشوف أدهم النهارده... أول مرة أقوم مش ألاقي الوردة، وأرن عليه ما بيردش!"
نظرت إليها غادة بأسف وقالت بلطف:
– "معلش يا حبيبتي، اليوم ده بيكون صعب على أدهم ومراد جدًا، ودايمًا بيعتزلوا الناس فيه."
التفتت عشق إلى والدتها باهتمام وسألت:
– "ليه يا ماما؟"
تنهدت غادة وأجابت:
– "علشان النهاردة ذكرى وفاة أحمد."
شهقت عشق، ووضعت يدها على فمها. تذكّرت الليلة الماضية حين كان يحتضنها، شعورها به كان مختلفًا هذه المرة، وكلماته كانت مشبعة بوجع غريب حين قال بحزن:
فلاش باك
– "كان نفسي ما تسافريش اليومين دول..."
نظرت إليه بحيرة وردّت:
– "بس أعمل إيه؟ ماما نعمة وفهد كلموني أكتر من مرة علشان أقضي معاهم أسبوع الفرح."
ثم هتف بنبرة حب:
– "خلاص يا حبيبي، مش مهم أروح، خليني معاك."
ابتسم وقال بهدوء:
– "لأ يا حبيبتي، أنا كده كده مش هكون فاضي. ماما وروان هيروحوا علشان روان تختار ديكورات الفرح. إن شاء الله أنا ومراد نحصلكم."
نهاية الفلاش باك
خرجت عشق من شرودها فجأة، وصرخت بلهفة:
– "أوقف يا هاني، أوقف!"
توقف السائق فجأة، بينما التفتت عشق إلى غادة قائلة بإصرار:
– "أنا هركب تاكسي وأرجع لأدهم يا ماما."
ابتسمت غادة لها بحنان وقالت:
– "ياريت، يكون أحسن يا حبيبتي. رغم إنه بيرفض الناس كلها في اليوم ده، بس واثقة إنك الوحيدة اللي هيحب وجودها."
هتفت روان بلهفة:
– "وأنا يا ماما؟"
ردّت غادة بحزم:
– "هي هتكون مع جوزها، لكن إنتِ ما ينفعش. فرحك كمان أسبوع."
رفض هاني أن تعود عشق بمفردها، فأوقف لها تاكسيًا، وأرسل معها أحد الحراس الموثوق بهم.
---
في المقابر، وقف أدهم ومراد، تعلو ملامحهما علامات الحزن العميق. رفع أدهم أكمام قميصه، ووضع الزهور، ثم رش الماء حول قبر أحمد ووالديه. لم ينسوه لحظة واحدة، وكانوا دائمًا يزورونه، لكن هذا اليوم تحديدًا، يقضونه بجواره من الصباح حتى المساء، ويغلقون هواتفهم كي لا يلهيهم عنه شيء. لا يزال شعور الذنب يلازمهم، لأنهم لم يكونوا معه وقت رحيله.
كان مراد يوزّع أظرفًا مملوءة بالمال على كل من يقف أمامه من أطفال ونساء ورجال، فقد اعتاد الناس على انتظار هذا اليوم من كل عام، لما فيه من كرم صاحبيه. كان حتى رجال الحراسة يحصلون على شهر إضافي من الراتب في هذا اليوم، صدقةً على روح صديقهم، لعل الله يغفر له بكثرة الدعاء.
جلس أدهم إلى جوار القبر، ومعه مراد الذي تحسس القبر وهمس:
– "وحشتني يا حبيبي... وحشتني أوي. يمكن بنضحك، وبنخرج، وبنأكل، بس حزني عليك مش بيقل جوايا، ومافيش حاجة ممكن تنسيني زيارتك."
أكمل أدهم وهو يحدّق في القبر:
– "وحشتني يا صاحبي... وحشتني خروجاتنا، وضحكتك. ما تزعلش مني لأني خلفت وعدي معاك، بس غصب عني. إنت جرّبت الحب قبلي، وعارف قد إيه صعب تتحكم فيه لما يدخل قلبك... سامحني يا أحمد."
---
في منزل صفية، قال إبراهيم بضيق:
– "شكل بنتك حزين يا صفية... مش عارف أعمل إيه، مش قادر أتحمّل حزن بنتي الوحيدة كده!"
نظرت له صفية وهتفت بمرارة:
– "الوضع غريب يا أبو ماسه. عريس خاطبها من شهر ونص، والفرح كمان يومين، ولحد النهاردة لا شافها، ولا كلمها، ولا جه مرة حتى يجبر خاطرها!"
أضافت بنبرة موجوعة:
– "لازم تحزن، ما هي بتشوف أصحابها بيحبوا وبيخرجوا مع عرسانهم، وهي يا ضنايا عايشة كل يوم على أمل إنه ييجي. ومش بتسيب تليفونها، دايمًا ماسكاه... كأنها مش مخطوبة!"
تنهد إبراهيم بيأس:
– "أعمل إيه؟ أنا عرضت عليها نرفض، بس هي أصرت تكمل الارتباط."
ردّت صفية بحيرة:
– "فعلاً، مش قادرة أفهم فيها إيه... حساها غريبة!"
---
عاد في المساء وهو يشعر بالاختناق. دائمًا ما تكون حالته صعبة في هذا اليوم تحديدًا؛ فيعتزل العالم، حتى والدته وأخته. لكنّ الأمر كان مختلفًا هذه المرة... فقد زاد عليه ضيقه من بعدها. كم تمنى أن تكون بجواره، وكم يحتاجها ويحتاج حضنها الدافئ.
قذف بجاكيت بدلته على الكنبة، وصعد الدرج بخطى ثقيلة. لم يكن لديه أي شهية للحياة. فتح باب الغرفة بملل، فارتطمت عيناه بها. كانت تجلس على الفراش تنتظره، يظهر على ملامحها القلق.
لم ينتظر، لم ينبس بحرف، بل ركض نحوها واحتضنها بقوة، كأنه طفل صغير وجد أمه بعد فراق طويل. بكى في حضنها كما لم يبكِ من قبل. شاركته دموعه بصمتٍ مطبق، لم تنطق بكلمة واحدة، بل تركته يفرغ كل ما في قلبه من وجع، مستسلمًا لأحضانها، وكأنها الوطن.
أما هو، فلم يعلم كيف استطاع أن يبكي بهذا الشكل أمامها مرة أخرى. لطالما كان يخفي ضعفه عن الجميع، إلا هي... فقط هي. حتى والدته وشقيقته لم يريا دموعه يومًا، فماذا بها؟ ما سرّ هذه المرأة التي تفقده كل مقاومته على بابها؟
نطق من بين شهقاته، بصوت مرتجف:
– "وحشتيني أوي يا عشق... دي الذكرى السابعة على وفاته، ورغم كده مش قادر أنسى شكل جثته، مش قادر أتحمّل إنه مات وإحنا بعيد عنه. إحساس إنه كان بيتعذب لحد ما مات... بيموتني!
أنا ومراد بنحاول نكمل علشان أهلنا، بس كل يوم من جوانا بنتمنى الموت ونكون معاه..."
لم ترد، فقط ربّتت على ظهره بحنان، تسمعه في صمت، لا تقاطعه، تمنحه الأمان دون كلمات. ظل هكذا وقتًا طويلًا، حتى خفّت شهقاته التي كانت تمزّق قلبها.
بعد لحظة، رفع عينيه إليها وسأل بذهول:
– "إنتِ رجعتي إزاي؟"
أجابته بنظراتها المليئة بالحب:
– "ماما قالتلي وإحنا في الطريق إن النهارده بيكون أصعب يوم عليك، قلت ما ينفعش أسيبك فيه... أكيد هتكون محتاج وجودي."
ضمّها مجددًا، وهمس بشغف:
– "أنا كنت محتاجك أوي... محتاجك أكتر من أي حد تاني."
مرّرت أناملها بين خصلات شعره، وقالت بلطف:
– "وأنا معاك في أي وقت... إنت أهلي، وكل حبايبي."
ابتعد عنها فجأة، وتذكّر أنه لا يزال بملابس المقابر منذ الصباح. قال معتذرًا:
– "آسف، هدومي مش نضيفة..."
اقتربت منه أكثر، وضمّته بحنان:
– "هدوم إيه اللي بتتكلم عليها؟! ولو أصعب من كده مليون مرة، حضني ده بيتك، يستقبلك في أي وقت وبأي حال."
تأمّل ملامحها بشغف، ثم أسند رأسه إلى صدرها، يستمد منها القوة والراحة.
قامت بتجهيز الحمّام له، وسحبته برقة ليدخله. استجاب لها دون اعتراض، وكأن بين يديها كل الأمان.
نزلت بعدها لتحضّر له وجبة سريعة، عصيرًا وسندويشات خفيفة، ثم صعدت إليه مرة أخرى. كان قد خرج من الحمّام مرتديًا شورتًا وتيشيرت خفيفًا، وجلس على السرير.
اقتربت منه، ووضعت الصينية على قدميه، لكنه هزّ رأسه رافضًا:
– "لا، مش هقدر آكل..."
اقتربت منه بدلال، بنبرة لم تستخدمها من قبل، لكنها تعلم أنها الوحيدة القادرة على التأثير فيه:
– "حبيبي... العصير وسندويتش واحد بس، وحياة حبنا... ولا عشق ملهاش خاطر عندك؟"
أيّ جنون هذا الذي تسأله إياه؟ إن لم يكن من أجلها، فلأجل من؟ هي وحدها من يلقي بتعبه وضعفه في حضنها، وهي أيضًا الوحيدة التي لها سطوة عليه ودلال خاص.
تنهد وهتف باستسلام:
– "حبيبتي، خاطرك غالي... بس غصب عني."
– "وحياة عشق عندك، تشربه..."
مدّ يده وأخذ العصير منها، وقال بنبرة هامسة:
– "أنا ما عنديش أغلى منك يا عشق... وجودك في حياتي نعمة، وهفضل أحمد ربنا عليها لآخر يوم في عمري."
ثم وضع رأسه مرة أخرى على صدرها، يحاول استدعاء النوم علّه يرتاح من الفكر. وظلت هي إلى جواره، تطعمه، وتمنحه الأمان، حتى غفى في أحضانها من جديد.
وفي قلبها، كانت تحمد الله أن غادة تحدّثت معها في هذا الأمر، فلا تدري ماذا كان سيحدث له لو بقي وحيدًا بتلك الحالة...
---
في غرفة ماسة
هتفت سلسبيل بضيق، وهي تلعن فهد داخلها:
– "إنتِ بتعيّطي ليه الوقت؟
شكله مغصوب عليا ! أنا كنت فاكرة لما يخطبني هشوفه وأخرج معاه، ونسهر طول الليل، ونتكلم ونحب بعض...
بس طلع ده كله أوهام! أوهام عايشة فيها لوحدي ومصدقة نفسي!"
قالت سلسبيل بأسى:
– "إحنا عارفين من الأول إنك هتتعبي معاه، بس للأسف... قلبك الغبي هو اللي اختاره واتعلق بيه."
سالت دموعها أكثر، وهي تهتف بألم:
– "أنا وحشة للدرجة دي؟ علشان مش طايقني؟ ولا عايز يشوفني؟
قلبي مجروح أوي منه، ورغم كده... مش قادرة أبطل تفكير فيه!"
ضمتها سلسبيل إلى صدرها، وهي تدعو لها بالراحة، وأن يخفف الله عنها هذا الحزن الذي لا تستحقه.