
رواية انت عمري الفصل الثالث3 بقلم امل مصطفي
الفصل الجديد
صعدت عشق الدرج باكية، فتحت باب الغرفة تبحث عن حقيبة يدها. تناولتها وهي تشعر بالإهانة والقهر من هجومه عليها دون أن يفهم ما حدث. لكنها لم تكن لتغادر قبل أن تبرر لـ روان ما حصل، لذلك توجهت إلى غرفتها، ووقفت خلف الباب تطرقه برفق، تستعطفها:
– روان، أرجوكي، ما تعمليش فيا كده... أنا ما صدقت ألاقي أخت تعوضني عن وحدة السنين اللي فاتت. ننام مع بعض، ونتشارك اليوم كله... أنا ما خنتكيش يا حبيبتي، كنت هاجي كل يوم أشوفك وأرجع على النوم.
تنهدت وهي تكمل:
– ما ينفعش أقعد مع أخوكي في نفس المكان وهو مش قابل وجودي. أنا كنت مضطرة الأيام اللي فاتت، لأني كنت خايفة من أمير يعمل فيا حاجة... أرجوكي، ما تزعليش مني.
لم تتلقَ ردًا. جلست على الأرض جوار الباب تبكي بصمت.
وفجأة، فُتح الباب، فوجدت روان أمامها، تنظر إليها بعينين دامعتين.
جذبت يدها، وقفت عشق بفرحة، ثم احتضنتا بعضهما وهما تبكيان بحرقة.
قالت عشق وهي تعتذر:
– أنا آسفة... مش قصدي أجرحك كده...
ردت روان ببكاء:
– أنا هسامحك، بس بشرط.
سألتها عشق بلهفة:
– إيه هو؟
– إنك تعيشي معايا هنا، وما ترجعيش بيتك.
جاء صوت من خلفهما:
– وهي طبعًا موافقة، بعد ما كان عندي بنت واحدة، بقوا اتنين.
ضحكت الفتاتان بفرحة، غافلتين عن تلك العيون التي كانت تراقبهما بسعادة، ثم تركهم وصعد إلى غرفته.
---
في مكان بعيد... في أحد منازل الصعيد
جلس رجل في العقد الثامن من عمره، يبدو عليه القوة والهيبة، على كرسيه في مجلس الرجال، ينتظر على نار وصول ابنه وأحفاده ليبشّروه بعثورهم على ابنه الغالي، الأقرب إلى قلبه.
ذلك الابن الذي فرّقت بينه وبين والده يد الشيطان منذ سنوات، عندما تمرد على أوامر والده ورفض الزواج من ابنة عمه، كما أراد له، وتركها وهو لا يزال في السنة الثانية من الجامعة. أراد الوالد تزويجه سريعًا خوفًا من أن يخطفه حب فتيات البندر.
لكن إرادة الله كانت فوق كل شيء، فوقع قلب الابن في حب زميلته. فتاة فقيرة، جميلة، مؤدبة، تربّت على يد والدتها بعد وفاة والدها في صغرها.
وفي يوم مشهود، وقف ذلك الابن في وجه والده للمرة الأولى، مدافعًا عن حبه وتمسكه بها. لحظتها، ظهر الوجه المتوحش للوالد، فهدده، ونعته بالعقوق، بل توعّده بالتخلص من "تلك الحية" التي جعلته يكسر كلمته، ويكسر قلب ابنة عمه، التي أحبته منذ الطفولة.
لكن الابن لم يتراجع، بل ازداد تمسكًا بحبيبته، واختفى عن أنظار والده سنوات طويلة. جنّ جنون المنشاوي الكبير، وبحث عنه في كل مكان ليقتص من تلك الفتاة التي خطفته، لكنه لم يجد له أثرًا.
وبعد سنوات، ظهر الابن مجددًا، ومعه طفلته، جاء يستعطف والده، يطلب منه السماح، ويترجاه أن يسمح له بالعيش معهم ليكبر طفلته في كنف أهلها. لكن الأب، وقد أعماه الشيطان، رفض أن ينكسر أمام أبنائه بالموافقة على عودة "الابن العاق"، فطرده شر طردة، رغم محاولات زوجة ابنه الأولى في تليين قلبه، وقبول فكرة وجود "ضُرة" تحت سقف واحد، فهي عادة متأصلة في عائلتهم.
عاد الابن مكسورًا، محبطًا، ومرت سنوات أخرى، حتى مرض الجد واشتد عليه الحنين. طلب من أبنائه البحث عن أخيهم الأصغر وإعادته إليه، كي يرى وجهه قبل أن يفارق الحياة.
ها هو الآن يجلس ينتظر، ويتشبث بخيوط الأمل، وكلما عادوا دون نتيجة، انكسر قلبه أكثر.
عاد من بحر ذكرياته على وقع خطوات ابنه الأكبر يدخل.
ملامحه كانت شاحبة لا تبشر بخير، وازداد قلق المنشاوي حين هتف ابنه بحزن:
– عرفنا طريقه أخيرًا يا بوي...
هتف المنشاوي بفرح، وتهللت أساريره:
– فين يا ولدي؟ وكيفه؟ وكيف عياله؟
نكس الابن رأسه وقال بصوت موجوع:
– مات يا بوي... هو وعياله.
صرخ الأب بغضب:
– جبر يلمك، ويلم لسانك العفِش! ده مين اللي مات؟ غور من جدامي!
ثم وجه كلامه لحفيده الأكبر:
– جول إن أبوك بيكذب، يا فهد. إنت الوحيد اللي حاسس بجدك ونار قلبه.
اقترب فهد منه، بوجع لا يقل عن وجع جده، فـ محمود لم يكن مجرد عم، بل صديق وحبيب. جثا أمامه، وأمسك بيده، وقال بصوت مرتجف:
– اتأكدت بنفسي يا جدي... عمي مات، هو ومراته وصغاره، في حادثة ميكروباص من خمس سنين.
لم يتحمل المنشاوي فكرة فقدان ابنه وأحفاده، فأمسك صدره وهو يصرخ بقوة:
– وِلْدِي!
---
في فيلا أدهم
في الصباح، قامت عشق تتوضأ لتصلي الضحى، ثم هزّت روان برفق:
– روان...
فتحت روان عينيها بكسل، وردّت:
– إيه مالك يا عشق؟
قالت عشق بحذر:
– بصي يا حبيبتي... أنا هروح البيت.
قاطعتها روان بحزن:
– مش إحنا اتفقنا خلاص؟
– آه يا حبيبتي، خلاص... بس لازم أجيب هدومي وكتبي، أنا بقالي فترة مش بروح الكلية، وممكن أترفد.
وافقت روان وقالت:
– خلاص يا حبيبتي، بس خلي السواق معاكي. طيب، هطلب من ماما غادة تجيبلك الفطار لحد ما ترجعي.
– ماشي يا حبي... مش هتأخر.
خرجت عشق، فوجدت غادة وأدهم يتناولان طعام الإفطار.
ألقت التحية بأدب:
– صباح الخير.
ردّت غادة بابتسامة:
– صباح الخير يا حبيبتي، رايحة فين كده؟
– بعد إذنك... أنا هروح أجيب حاجتي من البيت، لأني غبت عن الكلية كتير، وخايفة أترفد.
رفع أدهم عينيه نحوها، فوجدها تخفض رأسها.
حدّث نفسه:
"ليه باعده عيونك عني؟ أنا اتعودت عليهم. كأني عايش عمري بيهم. من أول مرة شفتهم، وأنا قريب منك... زي ضوء الشمس اللي نور عتمة حياتي. ومش بعرف أبدأ يومي من غيرهم."
هتف بقوة:
– محدش يقدر يرفدك وأنا موجود!
رفعت عشق عينيها إليه، تنظر بدهشة من طريقته. بالأمس فقط كان يطردها، والآن يعرض حمايته؟!
ظلّ يحدّق بها، فخجلت وأخفضت عينيها مجددًا. شعر بنشوة داخلية من رؤيتها خجلى، لا يعلم كيف اقتحمت كل دفاعاته في أيام.
قبّل رأس والدته، وقال في نفسه:
"كده أقدر أبدأ يومي بمزاج عالي."
مر من أمام عشق بصمت، لكنها شعرت بضربات قلبها تتسارع من قربه.
ياااه... وجوده أمامها على أرض الواقع له مذاق مختلف تمامًا عن وجوده في أحلامها.
دخل غرفة أخته، قبّلها كعادته، وتحرك خارجًا.
وجد عشق ما زالت واقفة في مكانها، تنظر إليه بحزن من قسوته.
كم تمنّت أن ترى حنانه، مثلما تراه أمه وأخته! كم تمنّت أن يقبلها كما يقبلهما! بل أرادت أن تصرخ وتقول له:
"أنا ليّ حق فيك... أنت كنت ملكي لثلاث سنوات... وعدتني إنك ليّ أنا وبس... إنك زرعت الحب والحنان في قلبي علشاني..."
لكن كيف تشتكي إليه لوعتها وهو لا ينظر إليها؟
تريد أن تخطفه مرة أخرى لعالم أحلامها. ذلك العالم الذي أغرقها فيه أدهم، بالحب والغرام والنظرات المليئة بالشغف.
لكن الآن؟ أصبح بارد المشاعر.
حُرِمت من الحب طويلًا، وهو وحده من عوّضها... فكيف يتغيّر هكذا؟
قال عقلها:
"انتي مجنونة؟ متخيلة واحد زيه يبصلك؟ واحدة لا ليها أهل، ولا سند، ولا أصل؟ انتي من عالم، وهو من عالم تاني..."
"ده تشوفيه في أحلامك بس، ما تتعشميش في أكتر من كده. فوقي يا عشق... ارحمي نفسك من الأوهام."
تحركت بأقدام مثقلة بالهمّ، ووجدت السائق في انتظارها.
ركبت السيارة بصمت، وانطلقت نحو وجهتها.
*******
في الشركة
رفع أدهم سماعة الهاتف الداخلي وتحدث بنبرة حازمة:
– خلي مدير الحسابات ييجي بعد نص ساعة، واطلبي مراد، عايزه حالًا.
طرق الباب بعد لحظات، ودخل مراد بابتسامة مرحة:
– صباح الخير يا بوص.
رد أدهم دون أن يلتفت:
– صباح النور، عملت إيه في المناقصة؟
قال مراد وهو يجلس بثقة:
– رست علينا زي كل مرة، بس المرة دي الراجل هتجيله جلطة.
هتف أدهم ببرود:
– يستاهل، عشان ما عندوش دم. أنا باكسبها بما يرضي الله.
بقدّم ورق زي الورق، بس الأسعار بتختلف. يقول إني بارشي الناس عشان يزوّروا الورق!
أنا مش ممكن أسكت على اتهام زي ده.
قال مراد بصدق:
– الكل عارف إنك من أنزه رجال الأعمال، وبتراعي ضميرك قبل مصلحتك.
عاد أدهم إلى مقعده وسأله عن عدوه اللدود:
– عملت إيه مع أشرف السلاموني؟
هتف مراد بثقة:
– كل السوق بيخاف منك وبيحسب لك ألف حساب.
بس هو... الانتقام عماه، وبيخبط في أي حاجة عايز يأذيك.
(ثم تغيرت نبرته إلى قلق)
– وأنا خايف المرة دي تصيب، يا صاحبي.
رد أدهم بإيمان قوي:
– سيبها لله، كله نصيب.
هو أنت فاكر إن الحرس ده هو اللي بيحميني؟
أنا جايبهم كده للضرورة، لكن متأكد إن المكتوب مافيش منه هروب.
العُمر في إيد ربنا، مش حد تاني.
صمت للحظات، ثم تابع:
– المهم، عايز أعرف كل خطوة بيخطّيها.
لازم عيونا تكون دايمًا عليه، ده غدار، ومش عارف الخبطة ممكن تيجي إزاي.
سمعت إنه دخل مع ناس شمال في تجارة الآثار... والناس دي مالهاش كبير ولا عزيز.
---
عند ناجي وفتون
كان الطَرق على الباب يشبه الطَبل.
نهض ناجي بفرحة غامرة:
– مش ممكن! دي طريقة عشق!
فتح الباب ليجدها أمامه بطلتها الطفولية المرحة.
– إزيك يا أونكل؟ وإزي "المُزّة" بتاعتك؟
ضحك ناجي بسعادة:
– وحشتيني يا حبيبة الأونكل.
والمُزّة جوه، عايزة حد يصالحها، وانتي أكتر حد عارف الطريقة.
غمزت له بشقاوة:
– بس كده؟! ده أنا هاصالحها وأدلعها كمان، أنا عندي كام فتون؟!
كانت فتون تمثل الحزن، رغم قلبها الذي صاخب بالفرح لرؤيتها:
– بقالك كام يوم بعيدة ومش بتسألي، أنا زعلانة منك أوي.
احتضنتها عشق بحنان:
– غصب عني يا قلبي.
ضربتها فتون على ظهرها بحنان وهي تعانقها:
– ماعنتيش تبعدي كده، فاهمة؟
جلست عشق إلى جوارها، وهي تُقبّل وجنتها:
– هو لو ماكنش أمير... الله يجحمه، كنت بعدت؟!
سألها ناجي باهتمام:
– احكي، إيه اللي حصل يومها؟ ومين اللي أخدك عنده؟
قصّت عليهم كل ما جرى لها منذ مغادرتها المنزل حتى عودتها الآن.
وضعت فتون يدها على يد عشق بحزن:
– حبيبتي يا بنتي... حظك إننا ناس كبار ومش قادرين نحميكي.
انحنت عشق تُقبّل يدها:
– كفاية حبكم وحنانكم عليا... من غير تمن.
ثم سألت بحيرة:
– هو فيه حد مكنش عنده عم ولا خال، ولا أولاد عم، ولا قرايب من أي نوع... زَيّي كده؟
قال ناجي وهو يتنهّد:
– الدنيا فيها كل حاجة.
يعني حد يصدق إننا عندنا أولاد تعبنا في تربيتهم، علّمناهم وكبّرناهم، وفي النهاية... كل واحد سابنا، وشاف حياته.
حتى أحفادنا ما نعرفش شكلهم!
ولولا ربنا عوّضنا بيكي، كان زمانا بنكلم نفسنا من الوحدة.
شرد كلٌّ منهم في حزنه وأوجاعه.
قالت فتون بقلب موجوع:
– يعني أنتي هتعيشي هناك؟
ردت عشق بحيرة:
– مش عارفة... إيه رأي حضرتك؟
قال ناجي بهدوء:
– لو ربنا جعلك سبب في شفاها، فدي حاجة كويسة، وماينفعش تتخلي عنها.
أنتي قولتي إنها بقالها سنين مقاطعة العالم الخارجي ورجعت عشانك، وده معناه إن في بينكم رابط رباني، وإنها بتحبك وبتِرتاح معاكي.
توكّلي على الله، وربنا يجعله في ميزان حسناتك...
بس أوعي تنسينا.
هتفت عشق بلهفة:
– أنساكم إزاي؟ أنتم أهلي الوحيدين في الدنيا دي.
وبعدين، أنا هازوركم، وهاكلمكم كل يوم.
***"""******
---
في الصعيد...
جلس الجميع في حالة حزن عميق على الجد، الذي انهار فجأة بعد أن كان جبلًا شامخًا ينهل منه الجميع القوة والشموخ.
في الجانب الآخر، انهارت ابنة عمه حين علمت بخبر وفاته، رغم أنها لم تره منذ سنوات طويلة، ولا حتى سمعت صوته، لكنها كانت تعيش على أمل رؤيته وعودة "الطائر المهاجر" لعشه يومًا ما... لتنهار بعدها كل أحلامها.
الآن فقدته إلى الأبد، ولا يوجد أي أمل في رجوعه. لقد حُرِمَت منه في حياته، وحتى في مماته، حُرِمَت من وداعه.
ضاع شبابها في انتظاره؛ فقد رفضت طلب عمها بتطليقها منه، ورفضت كل عروض الزواج التي أتتها بعد أن تركها ابنه، وأصرّت ألا تكون لغيره، وظلّت تعيش على حلم رجوعه.
الآن... لماذا تعيش؟ لم يعد لديها سبب.
أشفق على حالها كل من في المنزل من سلفات وأحفاد... فالكل يحبها.
أما في الأسفل، حيث الرجال...
تحدث أحدهم بقلق:
– "حالته إيه؟ الوقت؟"
أجاب محمد، والحزن يكسو وجهه:
– "بوادر جلطة... بس ربنا يعدّيها على خير. أهم حاجة ميتعرضش لأي زعل علشان تعدّي."
قال فهد، ووجعه ظاهر على جده:
– "طب قولي إزاي؟! لمجرد إنه يفوق هيتكلم تاني في الموضوع؟ أنا عارف إنه روحه كانت في عمك محمود بالذات، وبعد كل السنين دي، يلاقيه ميت هو وولاده؟ مش سهلة عليه!"
تابع محمد:
– "بقانا ٣ سنين بندوّر... وهو متوفي من ٥ سنين."
التفت إلى أخيه قائلًا:
– "عايزك تاخد إجازة كام يوم، إنت ومؤمن، وتنزلوا مصر. ماترجعوش غير لما تعرفوا كل كبيرة وصغيرة. يمكن يكون تشابه أسماء، ويمكن عمك في مكان تاني.
نسأل مرة واتنين لحد ما نتأكد إن اللي ماتوا في الحادثة دي هم فعلًا."
---
عند "عشق"...
جلست في الحديقة هي وروان، تشاهدان فيلمًا كوميديًا على اللابتوب. ضحكت روان بصوت مرتفع.
تيبست أقدام هذا المتيّم بعشقها حين تعرّف قلبه قبل أذنه على صوتها الذي اشتاقه. حرّك رأسه تجاه الصوت، وعندما وقعت عيناه على ملامحها، شعر بأنفاسه تُسحب من جسده، وضربات قلبه تتوقف.
ظل يتأمل معذبته... فقد اكتوى قلبه بنار الفراق، وقتله شوق رؤيتها. منذ تلك الحادثة وهي رفضت العالم، لم ترحم قلبه، بل حكمت عليه بالإعدام.
رفع هاتفه، والتقط لها أكثر من صورة دون أن تراه. ظل يتأملها، لا يدري كم مضى من الوقت وهو يقف بهذا الشكل، ناسيًا الزمان والمكان في وجودها.
قال لنفسه:
– "هتفضل كده؟ روح سلّم عليها واملَ عيونك منها عن قرب."
تحركت أقدامه نحوها، مشتاقًا، متعبًا من طول الفراق.
تعجبت "عشق" من وجود شخص غريب في تلك المنطقة المحرمة حتى على الحرس، وسألت روان:
– "مين الشاب اللي جاي علينا ده؟"
رفعت روان عينيها عن الجهاز أمامها، وتعجبت من نظراته المسلطة عليها:
– "ده مراد، صديق أدهم... طول عمره معانا هنا، بس أنا مشوفتوش من زمان."
اقترب منهما وتحدث بفرحة شديدة لم يستطع إخفاءها:
– "الحمد لله على السلامة يا آنسة روان، نورتي الدنيا كلها."
ردّت عليه بابتسامة مجاملة:
– "الله يسلمك يا بشمهندس مراد... هو أنا كنت مسافرة؟"
تحدث بحب صادق:
– "طبعًا! لما تحرمينا من طلتك دي ٣ سنين، كأنك كنتي مهاجرة! والله، كل حاجة النهاردة ليها شكل ولون تاني...
تحسي كده إن الشمس النهاردة قوية بس حنينة، علشان شافتك،
والشجر لونه زاهي عن كل يوم، حتى العصافير النهاردة صوتها مبسوط بوجودك."
شعرت "عشق" برائحة عشق في الأجواء، فقررت الابتعاد:
– "أنا هاروح أجيب حاجة نشربها."
كأن مراد لم يرها إلا الآن، هتف معتذرًا:
– "آسف يا آنسة عشق، ما خدتش بالي."
تعجبت "عشق" من معرفته بها رغم أنها أول مرة تراه، لكنها تجاوزت الفكرة وقالت:
– "مافيش مشكلة... تحب تشرب إيه؟"
رد مراد بلطف:
– "لا شكرًا، أنا داخل... أصل أدهم يغضب عليّا، وأنا مش قدّه، يرجع يعلّقني!"
ضحكت الفتاتان.
رن هاتفه برقم أدهم، رفعه وابتسم:
– "مش قلت ربنا يرحمني!"
فتح الخط وعيناه ما زالت على روان، التي تململت بعدم راحة من نظراته.
– "أيوه يا أدهم... ثواني وأكون قدامك."
التفت إليها بحب:
– "أتمنى أشوفك مرة تانية... بعد إذنكم."
جلست "عشق" مرة أخرى، وهي تريد أن تعرف ما يحدث، وهل تعلم روان بمشاعر هذا العاشق الذي فضحته نظراته من أول وهلة؟
شكله إنسان محترم ومحبوب من أدهم، وإلا ما كانش دخّله البيت.
ردّت روان بشرود:
– "من نظراته وطريقة كلامه... أنا بشوفه لأول مرة كده. هو معانا من زمان، بس عمره ما اتكلم معايا كده قبل كده."
ثم تابعت:
– "أدهم بيثق فيه جدًا... ده صاحبه وأخوه وكاتم أسراره، وأقرب شخص لقلبه."
**********
دخل الفيلا...
بقلب عادت إليه الحياة، رغم علمه بأنها لا تراه، وأنها سابقًا ذبحته باختيارها لغيره، وخوضها تجربة الحب مع آخر.
وهو... من عاش وتمنى أن يكون أول من تدق له نبضات قلبها، وأول من تعرف معه معنى الحب.
لكن هذا هو نصيبه، أن يعيش يتمنى ما ليس له.
فاق على صوت غادة، التي تحدثت بحب:
– "أهلاً بالهارب اللي نسى مامته!"
رد مراد بابتسامة:
– "مين ده اللي يقدر ينساك؟! إنتِ في بالي على طول، بس خلي ابنك يرحمني وألاقي وقت!"
ضحكت غادة:
– "معلش يا حبيبي، ربنا يبعت له اللي تملكه وتمشي وراه وترحمك منه."
أتاه صوت أدهم الغاضب من خلفهم، يؤنب نفسه بسبب تلك المشاعر التي غزت قلبه بوجود "عشق":
– "ما تخلقتش اللي تمتلك أدهم الشهاوي، ولا يجري وراها!
وأنت يلا خلينا نخلّص، وإلا مافيش غدا!"
رد مراد بمرح:
– "لا، كله إلا الغداء!"
ضحكت غادة وقالت:
– "خلاص... افرح بمراد."
هتف مراد نافيًا:
– "أنا مع أدهم على الحلوة والمرة... وده عهد بينا، يعني لو اتجوز، هاتجوز..."
توقّف، وكأن الكلمات لم تكتمل.
ابتسمت غادة بحزن، فهي تعلم تمامًا سبب هذا العهد، الذي جعل ابنها يبتعد عن جميع بنات حواء، وتمتمت بدعاء صادق:
– "ربنا ما يحرِمكم من بعض أبدًا."
---
بعد أسبوع...
قالت "عشق" بتشجيع:
– "إيه رأيك نخرج ونروح النادي؟ نشوف ناس ونغيّر جو... كفاية قعدتك في الفيلا لحد كده."
نكّست "روان" رأسها وردّت بحزن:
– "بس أنا مش مستعدة أشوف نظرة شفقة من حد... وقلبي مش حمِل أشوفهم مع بعض."
قالت "عشق" بدهشة:
– "مش ممكن يا روان! لسه بتفكّري فيه بعد كل ده؟!"
نظرت روان بنفي:
– "لا... ماعَدّش ليه وجود في حياتي، بس برضه مش سهل أشوف في عيونهم نظرة شماتة فيا وفي وضعي ده."
احتضنتها "عشق" بكلماتها:
– "حبيبتي... ده نصيب، وكان ممكن يحصل لأي حد فينا. وأنا معاكي، مش هاسيبك، ومش ممكن أسمح لحد يجرحك... استقوي بيا."
ردّت روان بثقة، وقد بدأت تستعيد نفسها:
– "خلاص، لما أدهم يرجع، هاطلب منه أروح النادي."
زادت دقات قلب "عشق" حين سمعت اسمه، لكنها حاولت التماسك:
– "بس بلاش تجيبي سيرتي... أصله مش بيطيقني!"
ضحكت "روان" وقالت ممازحة:
– "أكيد هيعرف إنك إنتِ السبب... أصل أنا بقالي سنين حابسة نفسي!"
شهقت "عشق" من ردها:
– "لا يا أختي، اعتبري إني ماقولتش حاجة! مالو بيتكم؟ جميل أهو... شرح و برَح، ويكفي من الحبايب ألف!"
روان، وهي تضحك ضحكة جبانة:
– "جبانة؟! جبانة بس أعيش!
هو العمر بعزقة؟! ميت مرة جبان أحسن من 'الله يرحمه'."
---
دخلت غادة غرفة الفتيات وسألت:
– "مش هتخرجوا تقعدوا معايا؟ ولا أسيبكم وأخرج؟"
وقفت "عشق" تعدّل ملابسها:
– "لا، خارجين أهو."
بينما هتفت "روان" برفض طفولي:
– "لا يا ماما، أنا عايزة عشق ترسمني... ولا هي فنون جميلة على الفاضي؟"
ردّت "عشق" بثقة:
– "على الفاضي؟! ماشي، قبلت التحدي!"
ضحكت غادة وهي تقول:
– "لا كده أنا وجودي مالوش لازمة، هاطلع أغير وأخرج."
ثم تركتهن.
قالت روان، وهي تنظر لعشق برجاء:
– "بس أنا عايزة أطلع حلوة يا عشق."
أجابتها عشق بحنان:
– "إنتي قمر من غير أي حاجة... جهزي نفسك، وأنا هاروح أجيب حاجتي من الأوضة."
تحركت روان بكرسيها نحو دولابها:
– "ماشي، هستناكي... بس بلاش تتأخري؟"
ركضت "عشق" للخارج بفرحة كبيرة... لقد تعلقت بـ"روان" وتتمنى إسعادها في كل لحظة، حتى تُخرجها من حزنها.
وفجأة...
اصطدمت بشيء صلب... كأنها اصطدمت بجدار.
تراجعت للوراء، لكن يدًا قوية احتضنتها وجذبتها لصدره.
فتحت عينيها ببطء، مهلك للأعصاب...
وجدته أمامها.
بطلّته الجذابة، الخاطفة لأنفاسها.
شردت في وسامته، وظل هو الآخر يتأملها، كأنه ينحت ملامحها في ثنايا قلبه.
فاق الاثنان على صوت والدته، التي لم ترَ "عشق" المختفية خلف جسده:
– "أدهم! مالك واقف ليه كده؟"
ابتعد عنها بغضب، يحاول أن يُخفي تأثيرها عليه، وضعفه أمامها.
هتف بانفعال:
– "إنتي بتجري كده ليه؟! فاكرة نفسك عايشة في زريبة؟! مش تاخدي بالك من تصرفاتك؟! ولا..."