رواية انت عمري الفصل التاسع9 بقلم امل مصطفي


 رواية انت عمري الفصل التاسع9 بقلم امل مصطفي

في مكانٍ آخر...
كان مراد لا يترك "روان" لحظة منذ الشهور الماضية، بل أصبح كظلها، لا يفارقها إلا عند دخولها لجلسات الأشعة أو العمليات. كان يموت حرفيًا من الخوف كلما تألمت، ويشعر بألمها كأنّه يعيشه.

لم تتخيّل "روان" أنّ للحبّ هذا الشكل، تلك النظرة في عيونه كانت تخفف أوجاعها. اقترابه منها لحظة بكائها، وضمّه ليدها بين كفّيه، كان ينزع عنها كلّ الخوف والقلق.

أما "غادة"، فكانت تشعر أخيرًا بالراحة والطمأنينة على أولادها. حب مراد لروان كان واضحًا كوضوح الشمس، وكذلك أدهم، الذي لم يكن نصيبه منها بأقلّ حظًا، لذلك ظلّت تسجد لله شكرًا، ترجوه أن يديم الفرح في قلوب أبنائها.

---

في المساء...

استيقظ أدهم على طرقاتٍ خافتة على باب الغرفة. نادت "عشق" بنعاس:

– مين؟
ردّت الخادمة:
– أنا يا ست عشق، سيدي الكبير بيقول بيستناكم علشان العشاء.
– حاضر، ثواني ونازلين.

التفتت إلى أدهم بخجل، وسألته:
– ننزل ولا نكمل نوم؟
نظر إليها وهو يتأمّل هيئتها بشغف، وتمتم:
– بالنسبالي أنا... عايز حاجات كتير.

وقبل أن تفهم قصده، كان قد احتواها بين ذراعيه، وهمس بشوق:
– خلّيكِ في حضني شويّة، لأني مسافر الفجر.

رفع يده ليميل شعرها إلى كتفها، واقترب ليقبّل عنقها بلطف، فأغمضت عينيها. كانت تعيش معه مشاعر جديدة لم تعرفها من قبل. لكن قبل أن يتعمّق أكثر، أبعدها وهو يزفر بقوة، محاولًا السيطرة على نفسه، وقال بأنفاسٍ متقطعة:

– يلا ننزل... لو طولت مش ضامن نفسي، ومش هسيبك غير وإنتي مراتي!

قامت بتوتر، وارتدت عباءة سماوية وحجابًا بدرجة أفتح، فأصبحت كالملاك، يتناسب اللون مع عينيها تمامًا. شعر بالغيرة، فقد كانت تخطف الأنفاس، رغم أن عباءتها طويلة وواسعة، لكنها لافتة جدًا، فسألها بضيق:

– هو مافيش غير العباءة دي؟

نظرت لنفسها في المرآة ثم إليه وسألته:
– لو مش عاجباك أغيّرها؟

هتف بصدق:
– عاجباني جدًا... بس مش حابب حد غيري يشوفك بيها.

أومأت بهدوء:
– حاضر، ثواني وأغيّرها.

دخلت وغيرت عباءتها، ثم خرجت إليه. وحين أطلّت عليه، استغفر في سرّه:
(أعمل إيه أنا؟ الوقت مش مناسب! أنتي منوّرة، مش محتاجة تلبسي فاتح أصلاً!)

تمتمت "عشق" بحيرة:
– مفيش غيرهم يا وقت!

جذبها من يدها وتحرّك خارج الغرفة وهو يتمتم:
– ربنا يستر، ويعدّي اليوم ده على خير، بدل ما أرتكب جناية! وبدل ما حبل الود يتصل بينك وبين أهلك، أولّع فيه وأخفيه!

لم تفهم مقصده، ففضّلت الصمت وتحركت جواره.

نزل وهو يحتضن يدها بين يديه، جميلة تخطف القلوب. الجميع كان يتأملها، ما جعلها تشعر بالخجل، أما هو، فشعر بغيرة قاتلة، ولعن نفسه لأنه أتى بها وسط هذا العدد من الرجال.

هتف الجد بلهفة:
– تعالي يا جلب جدّك، تعالي جاري!

جلست بجواره، وأدهم بجانبها.
قال فهد:
– جهّزت لك نصيبك من ورث أبوكي، شوفي عايزة كيف.

أجابت بهدوء:
– ماجيت هنا علشان مال، أنا كل اللي بتمناه العيلة بس. مش عايزة ورث، عايزاك إنت وعمامي... عايزة دفء وحماية وبس. الفلوس آخر همي، بتدبّر بأي حاجة.

رفض الجد بشدة وقال بإصرار:
– بس ده حقك، ومافيش حد يكسر كلمتي يا بنت محمود!

تنهدت محاولة كسب رضاه:
– خلاص يا جدي، لو مصمم... ممكن نعمل مشغل يفتح بيوت للناس اللي محتاجة. والمكسب نكفّل بيه أُسر اليتامى والمحتاجين، ودي تبقى صدقة جارية على روح بابا وأخواتي، أو نعمل مستوصف لعلاج غير المقتدرين. لكن أنا مش هاخد فلوس.

انبهر الجد بتفكيرها غير المتوقع، وقال بفخر:
– نعمل كل اللي نفسك فيه، بس ورثك زي ما هو، مش هتيجي ناحيته. ونسمي المستوصف باسم ابني وأحفادي.

أُعجب أدهم بالفكرة وقال:
– وأنا عايز أشارك، سواء في ده أو ده.

أما فهد، الصخرة التي يُهاب حضورها، فتحدث بفخر حقيقي:
– يا عشق، أنا فخور بيكِ. كنت خايف يكون تفكيرك زي بنات البندر، اللي بيحبوا المظاهر ويجروا ورا شهوة المال. أكيد مش كلهم كده، بس الأغلبية... والحمد لله إنك طلعتِ إنسانة. وجودك شرف لأي مكان تدخليه.

ردّت بابتسامة امتنان:
– دي شهادة أعتز بيها يا أبيه.

تدخلت "قمر" بفضول:
– ممكن تحكي لنا عرفتي البشمهندس أدهم إزاي؟

نظرت "عشق" وأدهم لبعضهما وابتسما بتلك البسمة الحنونة التي تعيدهم لأول لقاء رغم صعوبته، وبدأت بسرد ما حدث ذلك اليوم...
استمع الجميع باهتمام.

– في ناس بتجري ورايا علشان تأذيني، وهو خلّصني منهم.

قاطع كلامها صوت مروان المتعجّب:

– يجروا وراكي ليه؟

– بعد وفاة بابا، الراجل صاحب المحل سحبه مني، لأني كنت صغيرة ومش هعرف أديره. بس اتصرّف في البضاعة، وعطاني حقها.
ومع مرور الوقت، الفلوس خلصت، والمعاش كان بالكاد يكفي مع الإيجار والدراسة، فاضطريت أخرج أشتغل علشان أقدر أتكفل بنفسي. كنت بشتغل بعد الكلية.

نظر الجميع لبعضهم بخزي، فهم أصحاب ملايين، وابنتهم تعمل حتى تحصل على قوت يومها.

لم تلاحظ تأثرهم بكلامها وهي تكمل:

– اشتغلت سكرتيرة في مكتب استيراد وتصدير، بس صاحب الشغل كانت عينه زايغة.
حاول بكل الطرق إنه يقرب مني، وأنا كنت بصد بعنف.
حاولت كتير وأنا شغالة معاه أشوف شغل في مكان تاني، بس للأسف مرتبه كان مغري.
اتاريه عامل كده علشان يجذب البنات ويستغل احتياجهم. وأنا كنت مضطرة أتحمّل، علشان المرتب كان كويس، وفي نفس الوقت مش مأثر على الكلية.

وفي يوم، اتصل بيا الساعة بليل، عايز ملفات مهمة بتاعة مزاد.
اعتذرت، ووصفت له مكانها، غضب، واتحجّج إنه مش لاقيها، ولو ما رُحتش، أعتبر نفسي مرفودة.
بصراحة، أنا ماكنتش حمل أخسر الشغل ده.

المهم، قال إنه عايز يرجّعها في الوقت ده، وأنا الصبح بكون في الكلية.
أونكل ناجي وطنط فتون خافوا عليا وقالوا: "سيبي الشغل أحسن."
فهمتهم إن المرتب ما أقدرش أعوّضه.

روحت وجبت الملفات، بس طريقته وضّحت ليّا الوضع، وإنه مش عايز الملف... كان ليه غرض تاني، ومجهّز كل حاجة، ورجّالته كانوا واقفين برّه لأي طارئ.
لقيته قريب مني، ونظرته مش مريحة.
سحبت تمثال نحاس كان على مكتبه، وضربته على راسه.
صفيت دمه، وخرجت بهدوء علشان رجّالته ما يشكوش في حاجة.
بلغتهم إنه مش عايز إزعاج، بصّوا لبعض، وطبعًا استغربوا، بس أنا مثّلت الدور كويس، خوفت لو حسّ بحاجة يمسكني لحد ما يفوق.

خرجت أجري بأقصى سرعة، بس لقيتهم ورايا.
فضلت أجري لحد ما لاقيت نفسي واقعة قدام عربيات الحرس بتاعة أدهم.
ودي كانت أول مقابلة بينا، ومن يومها وإحنا مع بعض.

شعر أولاد أعمامها بالغضب، وتمنوا لو يخلعوا عيونه وقلبه.
أما الجد، فكان شعوره مختلفًا.
غزاه ألم شديد في قلبه، وشعر كأن روحه تُسحب منه.
قام وطلب من عشق أن تأتي خلفه إلى غرفته.

دلفت خلفه وأغلقت الباب، وقبل أن تتحرّك، كان قد جذبها في حضنه وظل يبكي بحزن وتأنيب ضمير، فلو سامح ابنه على فعلته، ما حدث كل ذلك.
ظل يعتذر منها حتى تسامحه، لأنه قصّر في حق ابنه وحقها.

لم تتحمّل انهياره وهو بهذا السن، لذلك هتفت بدموع:

– كل ده نصيب يا جدي، أنت مالكش ذنب فيه، صدقني.

– هو برفضه، لا ليّا، إيه اللي حصل؟ اتجوّز عادي، عندنا الراجل يتجوّز واحدة واتنين.
كنت خايف تاخده مني، وهددته بحرمانه من الميراث.
مافيش حاجة خلّيته يفرّط فيها، لحد تهديدي إني أدور عليها وأقتلها، خلاه يبعد عن عيوني، وساب كل حاجة، لأني خُفت عليها.
ما عدتش عرفت طريقه، خفت تأخده مني، ضيّعته بإيدي.
جاه وطلب السماح لما عرف إنها حامل، وتحايل عليا يرجع علشان ولده يتربّى وسطنا، ووعدني إنه يعدل بينها وبين نعمة، بس الشيطان كان واقف قدامي.
هددت تاني بقتلها.
جالي لما ولدت، وكان نفس ردّي.
ودي كانت آخر مرة أشوف ولدي... اختفى من يومها.
كان حريص جدًا، بعت ناس وراه علشان أعرف مكانه، بس كل مرة يختفي كأنه فص ملح وداب.

وتقولي ماليش يد؟!
إزاي؟ ده أنا دم ابني ومراته وولاده على إيدي ليوم الدين.
كأن ربنا انتقم مني على ظلمي لابني ومراته، لأني كنت فعلًا ناوي أذيها، لأنها سحرت لابني وخلّته يعصاني.
وهو الأقرب لقلبي.
جالي يا منشاوي: مش أنت رافض ولدك وأحفادك؟ أنا خدتهم منك... موت بحسرتك عليهم.

قالت عشق بعقل وهدوء:

– أنت مؤمن يا جدي، وعارف إن كل شيء نصيب.
وأنت كنت مجرد سبب في حكمة ربنا وتدبيره.
ربنا اسمه "الحق"... استغفر كتير يا جدي على سوء ظنك بيه.
وأنا الحمد لله راضية بنصيبي، وبعد الضيق فرج، وربنا فرّجها بزوج مافيش زيه في الكون، وعيلة كبيرة وجميلة، وأنا حبيتكُم قوي.
اهدأ، واستغفر ربنا، وادعيله بالرحمة.
*********

---

عرض فهد على أدهم أن يخرجا لرؤية إسطبلات الخيل،
لكنه رفض، وعلت وجهه نظرة قلق وهو يقول:
– "لا... عايز أطّمن على عشق الأول."

فهد طمأنه وهو يربت على كتفه:
– "ما تقلقش، بس جدي متألم من اللي حصل معاها، وإحنا موجودين على وش الدنيا. تعال نمشي شوية، ولما نرجع يكونوا اتصافوا."

ذهبا إلى الإسطبل، واختار كلٌّ منهما حصانًا. تسابقا، وتبادلا الحديث حول الأعمال.
أخذ كلٌّ منهما فكرة عن عمل الآخر، وبرغم قِصر الوقت، شعر كلاهما بألفة تقرّب بينهما.
يشتركان في الشخصية القوية، والذكاء، والهيبة.

عاد أدهم بعد ساعة، فوجد عشق جالسة بين زوجات أعمامه.
حرّك شفتيه بصمت وهو يهمس:
"وحشتيني."
فتورد وجهها من الخجل.

لاحظ فهد ما حدث، فقال ممازحًا:
– "سيب البنت في حالها."

رد أدهم بغمزة:
– "اللي غيران مننا... يعمل زينا."

ضحك فهد برجولة وقال:
– "أنت رايدني أتقطّع تقطيع يا ولد؟ عندنا العشق عيب!"

لكن قبل أن يرد عليه، سمع أدهم صوت المنشاوي الكبير يناديه، يطلب الحديث معه على انفراد.

وبعد مرور نصف ساعة، استأذن أدهم لأنه سيسافر فجرًا.
وقفت عشق، وتوجهت معه إلى الأعلى في صمت، شاردة الذهن، تفكر:
"على أي وضع ستنتهي قصتهم؟"

---

عند أذان الفجر، قامت عشق لتؤدي فرضها، فوجدت أدهم جالسًا على الفراش.
سألته بقلق:
– "مالك صاحي؟ ليه الوقت؟"

تأملها بحب، وكأنه ينقل مشاعره بعينيه وهمس:
– "هتوحشيني يا عشق... أنا هصلّي الفجر ومسافر."

قالت بخوف:
– "أدهم، أوعى تنساني."

اقترب منها، وحرك أنامله على وجهها بحنان:
– "عمري ما أقدر أنساكي. أنتي النفس اللي بتنفسه، والدم اللي بيجري في وريدي، والقلب اللي بينبض بين ضلوعي."

صلّيا الفجر، وارتدى ملابسه، وهي تنظر له بشوق واضح.
ابتسم وهو يقول:
– "لا... عشق هانم كده خطر! ونظرتك دي ليها معاني كتير، وأنا أضعف من إني أقاومها."

ارتمت على صدره تحتضنه، فرفعها بين ذراعيه وضمها بقوة، وهمس:
– "متخافيش يا حبيبتي... أنا ما صدّقت لاقيتك، ومش ممكن أفرّط فيكي أبدًا."

اقتربت من أذنه وهمست:
– "أنا بحبك."

نظر في عينيها بصدق وقال:
– "وأنا بعشقك."

ثم تركها، يشعر وكأن روحه تُسحب من جسده.
أما هي، فكان قلبها منقبضًا بشكل غريب.

---

نزلت نعمة، فوجدت عشق تجلس شاردة، وعلى وجهها علامات الحزن.

– "مالك يا عشق؟ ليه قاعدة كده؟"

وقفت عشق فجأة، وارتمت في حضنها، وظلت تبكي.
ضمّتها نعمة بكل حب وسعادة؛ لطالما تمنت هذا الشعور، أن يكون لها أبناء يرتمون في حضنها وقت الضعف.
جميع أبناء العائلة يعاملونها كأم، لكن إحساسها الآن مختلف، فهي تحتضن قطعة من عشقها التي رفضت الزواج بعد ترك أدهم لها.

مسحت على ظهرها وسألتها برفق:
– "إيه يا حبيبتي؟ ليه كل ده؟ إيه حصل؟"

ردت عشق ببكاء:
– "أدهم وحشني... وخايفة ينساني."

ضحكت نعمة على طفولتها، وضمّتها أكثر:
– "كل ده علشان سافر؟! بكرة يرجع بالسلامة."

أزالت دموعها بيدها وقالت:
– "وبعدين، مين يقدر ينسى القمر ده؟ الكل حبك من أول يوم!
تخيلي اللي معاكي من شهور... اهدي كده، وادعي له ربنا يرجّعه بالسلامة."

ثم جذبت يدها بحنان وقالت:
– "يلا نشوف، الخدم جهزوا الفطار ولا لسه؟"

---

كان أدهم يجلس في سيارته، شاردًا... يفكر في من ملكت روحه.

"مش قادر... دي وحشتني، وأنا لسه سايبها من ساعتين! إزاي أقدر أتحمل أسبوع؟"

صوت عقله:
– "لا، اجمد! أنت عمرك ما كنت ضعيف، متخليش حاجة زي دي تأثر فيك. خليك عقلاني، متخليش قلبك يتحكم فيك."

وصوت قلبه يرد:
– "برفض! لا... عشق مش زي أي بنت! لو كانت زي فرح، ما كانتش هتسيب ورث بالملايين، وتفكر في الأيتام."

رفع هاتفه، واتصل بصديقه، ليفضفض له عمّا يجول بخاطره ويعكر صفو حياته...
علّه ينتشله من دوامة قلبه، ويدلّه على طريق الصواب.
*****

---

في مستشفى ألمانيا

كان يتابع دكتورة العلاج الطبيعي وهي تقوم بجلسات لروان، التي تألمت كثيرًا؛ فالعلاج الطبيعي كان أشد إيلامًا من العملية التي أجرتها.

قفز مراد بسرعة عندما بكت من الألم، ورفضت إكمال الجلسة:
– كفاية، أنا خلاص تعبت!

اقترب منها يضمها، وهو يردف بعشق وتملُّك:
– هش، خلاص يا قلبي... كفاية، بس بلاش دموع.

وطلب من الطبيبة أن تكتفي بهذا القدر لهذا اليوم. نظرت إلى انهيار روان، فوافقت وخرجت من الغرفة بصمت.

قالت روان ببكاء:
– أنا تعبت يا مراد... مش قادرة والله أكمل، غصب عني، الوجع فوق احتمالي.

حملها مراد بين يديه وتوجّه بها إلى غرفتها:
– خلاص يا قلب مراد، براحتك، ولو مش عايزة تكمّلي، مش هنكمّل. أهم حاجة عندي إنك تكوني مرتاحة.

وضعت رأسها على صدره من التعب، وأغمضت عينيها وهي تشعر بالأمان.

"ماذا فعلتُ حتى يكون مراد نصيبي؟" تساءلت داخلها، وهو نعم الزوج والحبيب الذي يحتويها بحبه وحنانه.
ولو كانت حكمة الله من تلك الحادثة هي ترك وائل لها لتصبح من نصيب مراد، فنِعْمَ تدابير الخالق عزّ وجلّ.
(تحسبه تدميرًا، وهو تدبير).

تحدّثت روحها بحزن على ما فات:
"كنتُ عمياء... إزاي عن العشق اللي في عيونه ليا لوحدي؟"

لقد رأت نظرات الممرضات له؛ فوسامة مراد شرقية، بشرته قمحية، عيناه عسليّتان، جسده رياضي.
هو وأخوها دومًا يهتمّان بصحتهما، ويمارسان رياضات مختلفة، ولم يقتربا من التدخين يومًا.
ورغم جمال الممرضات، لم يهتم بنظراتهن، وكانت عيونه لا ترى سواها.

أجلسها على السرير بهدوء، ودثّرها جيدًا، ثم انحنى وقبّل رأسها.

رنّ هاتفه باسم "أدهم".

غطّاها جيدًا، وقال:
– ارتاحي الوقت، وأنا هخرج أردّ على أدهم وراجع.

هتفت بتعب:
– سلّم عليه كتير... هو وعشق.

---

فتح الخط وهو يردف بسعادة:
– أدهم باشا! فينك يا راجل؟! أنت نسيتنا خلاص؟

أتاه صوت أدهم متعبًا وحزينًا:
– حد ينسى أهله؟ بس مشغول شوية... أنت عارف.

تسلّل القلق إلى قلب مراد، وسأله بلهفة:
– مالك يا أدهم؟ صوتك متغيّر ليه؟ فيك إيه يا صاحبي؟

أجاب أدهم بتنهيدة حارقة:
– تعبان يا صاحبي... ومش عارف آخد قرار.

– بعشقها... وكل ما أقرب منها، أشوف أحمد بينا.
نفسي أكمل حياتي معاها، نفسي أحب وأتحب، وأكوّن أسرة زي الناس الطبيعية...
كل ما أسمع صراخ أحمد ووعدنا ليه، أحسّ إني خاين.

قال مراد بحزن على حال صديقه:
– وبعدين معاك يا أدهم؟!
قولنا عشق غير فرح، وده نصيب.
ولو كان أحمد عايش، كان هو أول واحد يشجعك ويفرح علشانك.

– قلوبنا مش بإيدينا. سيب نفسك يا صاحبي... البنت تستاهل إنك تديها فرصة تانية، وتعيش حياتك.
أوعي تظلمها، هي مالهاش ذنب في أي حاجة.

ثم تذكر ظهور أهلها وسأله باهتمام:
– عملت إيه مع أهلها؟

تنهد أدهم وهو يتذكر ما حدث:
– متخيل تعمل إيه؟!
قابلتهم كأنهم مش غلطانين في حقها، ولو كنت شوفتها... تقول طفلة.
مافيش جوه قلبها حقد ولا كره، قلبها أبيض، حتى ورثها رفضته رغم إنه ملايين!

مراد:
– بالتأكيد! شوفت؟! مش قولتلك؟

قال أدهم بحيرة:
– جدها عايز يعمل لها فرح في البلد علشان الناس تعرف إنهم جوزوا حفيدتهم، وأنا لسه مش قادر آخد الخطوة دي.
وفي نفس الوقت، خايف رفضي يكسرها.

تكلم مراد بسعادة:
– خلاص كده... ماعُدش عندك حجة.

ابتسم أدهم على حماس صديقه:
– أنا مستناك... مش هعمل حاجة من غير وجودكم.
هانت يا صاحبي... كلها أسبوعين ونرجع ونكون مع بعض زي الأول.

أراد أن يوصيه على أمه وأخته، رغم ثقته التامة في رجولة ونخوة صديقه:
– إن شاء الله... أمي وأختي أمانة معاك.
عارف إن روان ممكن تكون زعلانة مني، لأني مزرتهاش في الفترة دي غير كام مرة، بس قولها تسامحني.

تحدّث مراد بهيام:
– دول في عيون قلبي يا أدهم.
روان عمرها ما تزعل منك... أنت مش أخ، أنت كنت ليها أب وأخ.

---

في غرفة نعمة

كانت تتحدث مع صورة زوجها، التي تحتل ركنًا كبيرًا على حائط غرفتها:
– أنا مش زعلانة منك يا محمود.
بعد ما شوفت بنتك، تأكدت إن كان ليك حق تجري وراها، وإن ده غصب عنك.
إذا كنا كلنا اتعلّقنا بيها من يوم واحد، أنا مش قصدي الشكل خالص، رغم إنها تبارك الخالق فيما خلق،
بس أنا أقصد روحها... طيبة قلبها.

– حاسة إني أعرفها من سنين... يمكن لأنك موجود بروحها.

سمعت طرقًا على الباب، فأذنت بالدخول بعد أن مسحت دموعها.
وجدت عشق تقف أمامها بخجل:
– ممكن أنام معاكي النهاردة؟

– طبعًا يا حبيبتي... دي غرفة محمود، يعني غرفتك.

دخلت عشق تتأمل كل شبر بها، وهي تسألها:
– دي غرفة جوازك إنتي وبابا، مش كده؟

مرّت عينا نعمة شوقًا لتلك الأيام، وهي تهتف:
– آه يا حبيبتي...

وقفت عشق أمامها تسألها:
– كنتِ بتحبيه؟

أجابت نعمة بخجل:
– كان حب الطفولة والمراهقة والشباب.

– يااه... كل ده؟!

جلسوا سويًا على الفراش، وبدأت نعمة تقصّ عليها قصة حبها لوالدها:

– كنت بحب أشوفه وهو ماشي بالفرس بتاعه. كنت طفلة صغيرة، معرفش حاجة غيره.
وقتها، كنت تحت رحمة ربنا.

رفعت أناملها على وجنتي عشق:
– إنتِ واخدة حنيته وطيبة قلبه.
كان يهتم بالكل، رغم إنه أصغر إخواته، لكنه كان خدوم جدًا.
مافيش حد يقصده في حاجة ويتأخر عليه أبدًا.

– عمي كان متعلق بيه أكتر من الكل، وكان بيخاف عليه من حنيته الزايدة، علشان محدش يستغله أو يأذيه.

– كل يوم كان بيعدي عليا، بتعلق بيه أكتر.
ولأني كنت لسه طفلة، فهمت اهتمامه وحنيته عليا على إنه حب،
وفضلت أرسم وأتخيل حياتي معاه لما أكبر.

– لما جه يدخل الجامعة، عمي صمّم يكتب كتابه عليا.
كنت أسعد واحدة في الدنيا، رغم إني لسه صغيرة، وماوصلتش سن كتب الكتاب،
بس ده كان منتشر وقتها.
البنت اللي تجيب 18 سنة من غير جواز، يقال عليها "قطر الجواز فاتها".

– لكن عمي حب يربطه بالبلد، خاف عليه من الدنيا الواسعة والبنات الحلوة ياخدوه منّي.

– في سنة تانية جامعة، عمي طلب نعمل الفرح والدخلة، لكن محمود رفض بقوة.
وكانت دي أول مرة يوقف فيها في وش عمي، وأول مسمار في فراقهم. 

تعليقات



<>