
رواية انت عمري الفصل السابع عشر17 بقلم امل مصطفي
وقفت أمام هذين المتوحشين بأقدام مرتعشة، تلعن غباء تصرفها، لكنها كانت مضطرة لإنقاذ حياة تلك الفتاة التي لا تعلم من ألقاها في طريق جدها. لذلك، لا بد لها من التحدث.
هتفت بحذر:
– أنا عارفة مين خطف عشق.
فهم فهد من كلماتها أن للجد يدًا في الأمر، وأن الأمر لن يمر مرور الكرام. لذا سألها بحذر حتى لا تفزع أكثر:
– وإنتي عرفتي منين؟
أجابت بدموع تنساب على وجهها:
– عشان جدي هو اللي ساعد الراجل اللي خطفها.
هجم عليها أدهم بغضب، لقد تدمّر و تألم كثيرًا في الأيام الماضية بسببهم.
بينما هي تشاهدت على روحها من هجومه ونظرته القاتمة، لكنها لم تتوقع ما حدث بعدها، فقد وقف فهد بينهم كسدٍّ منيع، وهو يهتف بلهفة:
– إلّا دي يا أدهم! إلّا دي!
لاحظ خطأ ما تفوَّه به، فعاد وعدّل كلماته:
– هي مالهاش ذنب... دي جاية تساعدنا.
نظر فهد إليها باطمئنان، مشجعًا إياها على إكمال حديثها:
– تعرفي تحددي مكانها؟
ابتلعت ريقها بصعوبة وهي تسرد عليهما ما حدث قبل أن تتمكن من الهرب من منزلهم...
فلاش باك
عاد والد ماسة إلى زوجته وهو يقول بقلق:
– أبويا شكله عامل مصيبة كبيرة، وناوي يوقعنا كلنا في الرجلين.
تحدثت الأم بخوف:
– ربنا يستر... وبعدين البنت اللي حيلتنا ممكن تروح فيها!
وقف إبراهيم أمام ابنته وزوجته، قائلاً:
– في حاجة مش طبيعية بتحصل، وأنا مش عارف أتصرف. علشان كده لازم تخرجي من هنا يا ماسة وتروحي بعيد عن يد جدك. أنا كلمت عمّك وهو هيستقبلك.
ناولها حقيبة بها بعض المال:
– دول أنا محتفظ بيهم علشانك... كلها فلوس حلال، ما دخلش فيها جنيه من فلوس جدك.
بكت ماسة وهي تنظر لهما بحيرة وارتباك:
– بس يا بابا... أنا مش هعرف أتصرف لوحدي! أنا عمري ما خرجت برة هنا!
اقترب والدها منها، يضم وجهها بين يديه ويشجعها:
– إنتي ذكية وتقدري تتصرفي... المهم تهربي قبل ما أذى جدك يطول الكل. أنا اتحملت القرف ده كله علشان أحميكي إنتي وأمك منه.
– ما فيش غير مكان واحد ممكن أخرجك منه، الممر اللي جدك عامله لما بيهرب منه الآثار اللي مخبيها تحت البيت.
– متخافيش، المكان مش مسكون زي ما بتسمعي... دي كلها تخاريف علشان يبعدوا بيها اللصوص.
احتضنت أمها وبكتا معًا:
– خلي بالك من نفسك يا قلب أمك... ولو في نصيب نتقابل من تاني.
نزل إبراهيم وخلفه ابنته على مسافة قريبة، فسمع والده يتحدث بعصبية:
– يلا يا بهايم، منك ليه؟ شيلوا التبن ده وحطوا العربية مكانه وغطوها بيه. وإنت، هات جلاليب تناسب حجمهم وخليهم يشتغلوا في الأرض!
دخل عليه إبراهيم متسائلًا بدهشة:
– مين دول يا بوي؟ وإزاي تقعدهم بينا؟
رد عليه والده بغضب:
– مالكش صالح بأي حاجة هنا، لو باجي على عمرك!
رن هاتف الجد، فتح الخط وتحدث بقوة:
– أنا ما رحتش لحد، هو اللي جه لحد عندي وطلب مساعدتي. وبعدين أنا كنت أعرفه منين؟ مش الباشا الكبير هو اللي عرفني عليه!
بينهم شغل، وطلب مني المساعدة، وأنا بنفذ أوامر الباشا. وبعدين، يجلك من إيه؟ مصلحتي ومصلحته واحد... أنا عايز أكسرهم وأنتقم لابني، وهو عايز يكسره.
البلد هنا مقلوبة... بس على مين؟ إحنا خلاص دفناها كده.
– دوري انتهى،
ابعت نصيبي
لا رجالته... ما ينفعش تخرج اليومين دول، لحد ما فهد يهدى أو يعرف إن ما فيش فايدة!
انصدم إبراهيم مما سمع:
– إنت عملت إيه يا بوي؟! عايز تفتح بحور دم تاني ليه؟ وعلشان إيه؟
– علشان آخد حق ابني، طالما ما فيش عندي رجالة تأخده!
صرخ إبراهيم:
– ابنك مين؟! ابنك المغتصب اللي مات في السجن من سوء عمله؟!
– فهد هيخرب البلد كلها و يمحي عليتنا من الوجود! ذنبهم إيه الحريم والأطفال؟! أنا لازم أبلغ فهد علشان يلحق بنت عمه!
أشار الجد لرجال "السلاموني" بلا تردد:
– خذوه!
اتسعت عينا إبراهيم في ذهول:
– إيه ده يا بوي؟! حتى ابنك مش باقي عليه؟! يا بوي، ارحمنا من شرك، وخاف على باقي ولادك!
أمرهم الجد:
– اربطوه و حطوه جوه العربية و غطوها تاني... لحد ما نخلص من الوضع ده.
استجاب الرجال لأوامره.
ارتعبت ماسة عندما سمعت ورأت ما يحدث. خرجت مسرعة، وهي تعرف من تقصد...
---
عادت من ذاكرتها وتحدثت ببكاء:
– ده كل اللي حصل والله...
صرخ أدهم برعب:
– يلا يا فهد، ما فيش وقت!
في ثوانٍ معدودة، تجهز كل رجال العائلة والحرس.
وقفت تشعر بالضياع، لا تعرف ماذا تفعل بعد أن هربت من منزلها.
توقف فهد أمامها:
– أنا هخلي حد يوصلك عند خالتك، متخافيش... ما فيش حد يقدر يأذيكي.
ثم تركها وابتعد، وهو يهتف:
– زين، ابعت القوات و الرجالة... خرج إبراهيم، وهات الرجالة اللي هناك، اربطهم لحد ما نرجع!
– ماشي... بس أنا جيت أطمئن على عشق.
توجه الجميع إلى المقابر، وكلما اقتربوا، كلما شعر أدهم بأن نبضات قلبه تقل من شدة خوفه من خسارتها.
توقف أمام المقابر.
قال فهد بقوة بين الرجال:
– ما فيش حد توفى في البلد من فترة، معنى كده إنها تكون جديدة. كله يدور، ولما حد يوصل ينادي!
تحرك الجميع، ومع كثرة العدد، أصبح الأمر أسهل.
أما أدهم، فقد كان يتحرك على نبضات قلبه وأقدام ثقيلة. لا يعلم ما ينتظره. فهي غائبة منذ ثلاث أيام...
هل ما زالت حية تُرزق، أم فارقت تلك الحياة القاسية التي لا تناسب ملاكًا مثلها؟
توقف أمام أحد القبور، ومرر يده على بابه بحنان، تحدث إليها بصوت مرتجف:
– أنا متأكد إنك هنا... قلبي بيقولي إنك موجودة هنا، بس خايف لما أفتح يكون الموت خطفك مني... مش عارف أعمل إيه... دليني!
كان فهد يتابعه بعين صقر، يعلم حالته جيدًا وما يمر به. وعندما وجده يقف بتلك الحيرة والرعب، علم أنها في ذلك القبر.
تحرك نحوه بسرعة، وأشار لأحد الرجال الذي يحمل فأسًا:
– تعال معايا!
قال فهد بثبات:
– هي دي يا أدهم... ده أجدد أسمنت موجود. حاسب علشان نكسر الباب.
اقترب الرجل حتى يكسره، لكن أدهم صرخ برفض:
– استنى يا غبي! كده ممكن تأذيها!
أشار له فهد بالتوقف، ثم مد يده لخالد:
– هات الخنجر ده يا خالد!
وقف أدهم من جانب، وفهد من الجانب الآخر، يحاولان فتح الباب دون تكسيره حتى لا تُصاب بأذى.
فتح الباب، وهو يشعر بضيق في صدره، ثم وجدها تجلس في وضع الجنين...
قفز داخل القبر بسرعة، وضمها إلى صدره بجنون.
وضع يده عند شفتيها ليتحسس أنفاسها، فوجدها بالكاد تُذكر، ووجهها قد قارب على اللون الأزرق.
لم يعد يحتمل كبت مشاعره أكثر، فهتف بوجع:
– لا يا عشق... أوعي تسيبي قلبي! مش حمل فراقك... أرجوكي، تمسكي بالحياة عشاني!
هزها بحنان:
– عشق! ردي عليا... أنا هنا يا حبيبتي، فوقي!
لم يجد ردًا، كأنها فارقت الحياة. صرخ:
– محمد! تعال شوف فيها إيه!
وقف محمد عند باب القبر يريد إخراجها حتى يدخل إلى صدرها هواء نقي، مد يده لأدهم:
– هاتها... لأزم تخرج من الخنقة دي علشان أكشف عليها!
لكن أدهم رفض:
– لا! ابعد عنها... أنا هطلعها، أخرجها الأول ثم اتبعها!
ما زال متمسكًا بها، ثم رفعها بين يديه وهو ما زال يحتضنها.
استدعى محمد المسعفين الذين تم تجهيزهم مسبقًا منذ علموا بوجودها في المقابر.
جاء إليه المسعفون لأخذها منه...
---
صرخ أدهم بجنون، وهو يزيح الجميع من حولها:
– ابعدوا عنها! ما حدش يلمسها!
وقف فهد بثبات، يحاول تهدئته وهو يرى ملامح الهياج ترتسم على وجهه:
– اهدى يا أدهم، لازم يخدوها! محتاجة تنفس صناعي، ولازم تتحط على الجهاز!
دون تفكير، حملها أدهم بين ذراعيه المرتجفتين، لا يعلم كيف يقف على قدميه حتى الآن، لكن احتياجها له هو ما منحه القوة لتلك اللحظة. ركب جوارها في سيارة الإسعاف التي تحركت بسرعة، تتبعها أعين ممتلئة بالرجاء.
---
في المستشفى
تولى محمد وأحد زملائه الكشف على "عشق"، ثم تنفّس محمد بارتياح وهو يقول:
– نبضها ضعيف جدًا، بس الحمد لله... خير.
تابع بعد لحظة:
– جسمها ما اتعرضش لأي انتهاك أو عنف، بس باين إنها بقالها كذا يوم من غير أكل، والمكان اللي كانت فيه مرعب... النفس ماكانش كويس عليها.
اجتمعت العائلة كلها في ردهة المستشفى، تترقّب بفزع تفاصيل حالتها. خرج محمد وزميله، فهتف الجميع بلهفة:
– خير يا محمد؟
ابتسم بحزن، وأردف:
– حاليًا، كلنا نصلي ونحمد ربنا إنها لسه على قيد الحياة.
ردد الجميع بصوت واحد:
– الحمد لله.
أكمل محمد، بنبرة جادة:
– في الطبيعي، هتكون محتاجة رعاية لمدة أسبوع على الأقل. جسمها كان منهك بسبب قلة الأكل والأكسجين، واتعرضت لضغط نفسي شديد، وده محتاج متابعة لما تفوق. بس حاليًا، هي تعتبر مستقرة... الحمد لله.
هتفت نعمة بقلب يعتصره الألم:
– أنا عايزة أشوف بنتي، يا محمد!
فرد بحنان:
– حاضر، يا أمي... ثواني بس. أول ما أدهم يخرج، هدخلك، لأن كتر النفس غلط عليها دلوقتي.
---
جلس أدهم إلى جوارها، يضمها إلى صدره، لم يفلت يدها لحظة، ولم يسمح لأحد بالاقتراب منها. مرّ أسبوع كامل من الوجع والحزن، والجميع يترقّب إفاقتها.
طوال تلك الأيام، كان محمد يعطيها أدوية مهدئة تساعدها على النوم، بالإضافة إلى المحاليل التي كانت تُعلّق لها باستمرار لتعويض ما فقده جسدها من تغذية.
دخل محمد كعادته على أدهم، الذي ظل جالسًا في نفس المكان، يمسك بكفّيها داخل راحتيه. ابتسم وهو يرى حجم عشقه لزوجته، وكأنه لم يغادر المستشفى منذ لحظة دخولها.
قال ليطمئنه:
– على فكرة، هي كويسة... أنا بس بديها مهدئ علشان جسمها محتاج يرتاح، والمحلول هيساعد أكتر من الأكل دلوقتي.
رد أدهم، دون أن يرفع رأسه عن يدها:
– بكرة... لو سبتها قبل ما تفوق، هخرج أقتلهم كلهم، واحد ورا التاني، بإيدي.
تنهد، ثم تابع:
– بس عارف إنها ممكن ما تسامحنيش... علشان كده مش عايز أسيبها، طول ما أنا شايفها، بهدى... لحد ما تفوق، وساعتها أشوف هرجع حقها إزاي.
ابتسم محمد وهو يربت على كتفه:
– وعلي إيه؟ الطيب أحسن... خليك جنبها.
ثم أجرى الكشف سريعًا، وتركهما في خلوتهما، يخرج وهو يهمس بدعاء صادق في قلبه:
– يا رب يعدّي الأمر على خير.
---
---
في منزل المنشاوي
تحدثت نعمة بحزن وهي تنظر نحو الفراغ:
– يعني كان فيها إيه لو سابني أقعد جنب بنتي أطمِّن عليها؟
ردّت غادة محاولة تهدئتها:
– معلش يا أم عشق، ابني غيرته وحشة، وعايز هو اللي يفضل جنبها.
هزّت نعمة رأسها بأسى:
– أنا ما قلتش حاجة، بس حتى كنت فضلت أقعد في الأوضة اللي جنبها علشان أرتاح.
تدخلت سلفتها "حميدة" قائلة:
– مش محمد بيطمنك عليها كل يوم؟ وقال خلاص، هانت، كلها بكرة أو بعده وتخرج بالسلامة.
---
كان أدهم يقبّل يدها برفق، وعيناه تتوسلان الحياة وهي لا تزال راقدة بين يديه، وهمس بوجع:
– الحمد لله على سلامتك، يا عمري. عارفة؟ أنا كنت بموت من الخوف إني أخسرك. قلبي ده ما عرفش الخوف غير من يوم ما ملكتيه. كل مرة أحس إن حياتي ممكن تبقى من غير عشق، قلبي بينتفض بين ضلوعي كأنه بيلفظ آخر أنفاسه.
تنهد بحرقة:
– الوجع صعب قوي... لو كان جرى لك حاجة، كنت لحقتك. صدقيني، قلبي من غير وجود أنفاسك في الدنيا... ميت.
ارتجف صوته وهو يكمل:
– أنا بستناكي علشان تلبسي الفستان الأبيض، وتفتحيلي أبواب جنتك... أتمتع بنعيم قربك، يا عشق. عارف إن اللي حصلك هيسيب أثر كبير جواكي، بس أنا مش هستسلم. هفضل معاكي لحد ما تنسي كل حاجة... إلا أدهم. أدهم اللي روحه مرتبطة بروحك... يا روح وقلب أدهم.
فجأة، انتفضت بجسَدها تصرخ برعب، تنادي اسمه بحروف متقطعة مخنوقة:
– أأأ... أدهم!!
ضَمّها بسرعة وهو يقول بلهفة وسعادة:
– أنا هنا، يا حبيبتي... أنا جنبك، يا روحي. اهدَي.
كانت تنتفض بين يديه بقوة، تتحدث بكلمات هستيرية غير مفهومة، لكن قلبه امتلأ سعادة بعودتها إليه.
ضمّها بحنان وهمس بجوار أذنها:
– أنا هنا... أنتي في حضني خلاص.
رفعت عينيها المرتجفتين نحوه، تتأكد من وجوده، ثم انفجرت في بكاء شديد.
كان بكاؤها كفيضان حزن ظل حبيسًا في صدرها طيلة تلك الأيام، فأشعره بالعجز والضعف الذي خنق روحه.
رغم قوته ونفوذه، لم يستطع حماية الإنسانة الوحيدة التي يجب عليه حمايتها.
دلف محمد إلى الغرفة مع إحدى الممرضات على صوت صراخها، فوجد أدهم يضمّها ويهدهدها، بينما هي تبكي بحرقة.
أشار إلى الممرضة لتجهّز حقنة مهدّئة، لكن أدهم أشار له بالرفض، وتركها تُخرج ما بداخلها من خوف، بينما كان يُمسِّد جسدها بحنان، في انتظار أن تهدأ.
---
مر وقت ليس بالقليل، حتى تراخت بين ذراعيه، ممسكة بملابسه بقوة، وكأنها تتشبّث بأمانه.
لم يرغب في تجديد عذابها بالسؤال عمّا حدث، لكنه كان يحترق شوقًا لمعرفة كل لحظة مرت عليها في بعده.
كأنها شعرت به، تمتمت بتعب، وعيناها الحمراوان مغرورقتان بالدموع:
– أنا كنت خايفة قوي يا أدهم... صحيت لاقيت نفسي في مكان ضلمة، ناديتك كتير وما رديتش. قريت قرآن، وطلبت من ربنا يدلك عليّ علشان تخرجني. الوقت طال... فضلت أحسس حواليا يمكن ألاقي مخرج...
ارتجف جسدها من جديد، وزادت دموعها، ثم تقطعت كلماتها وهي تتابع:
– لاقيت... لاقيت عضم بشر... وجمجمة...
ثم انهارت مرة أخرى من البكاء، وجسدها في حالة يرثى لها.
شاركها دموعها، وهو يهتف لها بكلمات عذبة يهمس بها قرب أذنها، يطمئنها:
– وحشتيني قوي يا عشق... وحشني صوتك، ملامحك... انسِ كل حاجة، أنتي هنا... في حضني.
شعرت بشيء دافئ ينساب على عنقها، فابتعدت تنظر إليه، لتجده يبكي... دموعه تسيل بصمت.
مدّت يدها بلهفة تمسح دموعه، وقالت بحزن:
– حبيبي، ليه تبكي؟
ابتسم من بين دموعه، وقبّل أناملها التي تمسح وجنته:
– مين في الكون يستحق دموعي دي غيرك، يا عشق؟ مين تاني يستاهل يشوف دموعي وضعفي... غيرك، يا قلبي؟
مدّت أناملها تمسك بوجهه بحنو، وقالت بصدق:
– حتى أنا ماستهلش دموعك دي... أوعى دموعك تنزل علشان أي حد.
جذبها لصدره بقوة، وقال بصوت مختنق:
– أنتي مش أي حد... أنتي أنا.
وضعت رأسها على صدره براحة، وهمست بهدوء:
– قريت آية الكرسي خمس مرات... علشان ربنا يحميني من الخوف والوهم اللي كانوا ماسكيني. وفعلاً، هديت... وفضلت أستناك.
هتف بوجع:
– آسف... لأني اتأخرت عليكي. سامحي تقصيري في حقك.
******
---
في المستشفى – غرفة عشق
ما إن انتشر خبر إفاقتها، حتى استعد الجميع للذهاب إلى المستشفى. دخلوا بوجوه يملؤها الفرح، يسبقهم الشوق والاطمئنان.
وحين فُتح الباب، وتزاحموا عليه، حاول أدهم أن يعتدل في جلسته ليستقبلهم، لكنها أبت ابتعاده. التصقت به كجلده، وكأن الأمان والحماية لا يسكنان إلا بين ذراعيه. ظلت في حضنه، لم ترفع عينيها عن صدره، لم تُسلّم على أحد، ولا حتى ردّت سلامهم. هو أمانها الوحيد، رغم الحبّ الذي كان واضحًا في عيون الجميع، إلا أنها انكمشت أكثر في أحضانه، كأنها لا تعرفهم.
كلما اقترب أحدهم لاحتضانها، كانت تدفن وجهها في صدره. لم يتضايق أحد من تصرفها، بل عذروها؛ فكلهم يعرفون أن ما مرت به ليس سهلًا.
بدأ الجميع بالمشاركة في الحديث، علّها تندمج معهم وتستعيد شخصيتها المرِحة الحنونة... لكنها بقيت كما هي. تستمع لصوت أنفاسه، وتراقب دقات قلبه القريبة منها، حتى غفت مرة أخرى، وهي تمسك بقميصه بقوة، كأنها تخشى أن يفلت منها الأمان.
تأمل الجميع المشهد. أدركوا أن هذا الرجل هو الوحيد الذي ملك قلبها وروحها. لا أصدقاء، لا أهل، لا أحد له تأثير في وجوده. أما هو، فكان قلبه يرقص طربًا على تعلقها به. تلك الأنامل التي كادت تخترق نسيج قميصه من شدة قبضتها، جعلته يقترب من أذنها وهمس برقة:
— "متخافيش... مش هقوم من جنبك، لو حصل أي حاجة."
تراخت إحدى قبضتيها على قميصه، بينما الأخرى بقيت كما هي... كأنها تتمسك بالحياة ذاتها.
---
في منزل خالة ماسة
جلست ماسة تبكي بصمت، وجوارها ابنة خالتها وصديقتها سلسبيل تحتضنها، تبكي لحزنها.
قالت سلسبيل، وقد اختنق صوتها:
— "بعدين معاكي يا حبيبتي... هتفضلي على الحال ده لحد إمتى؟ بصّي لنفسك في المراية، بقيتي مجرد خيال! راحت فين ضحكتك؟ ده الكل ما كانش يبطّل ضحك في وجودك..."
خرجت كلمات ماسة ممزوجة بالمرارة:
— "كده كل حاجة راحت... مستحيل يبص لي بعد ما جدي دفن بنته حيّة واتفق مع عدوه. جدي دمرني."
أشاحت سلسبيل وجهها، وهي تقول بحزن:
— "منه لله جدك، جواه شر يكفي بلد! أنا مش مصدقة إن أبوكي ابنه... مش أنا بس، كل الناس بتقول كده."
وضعت ماسة يدها على قلبها بألم، وهمست:
— "قلبي هيقف يا سلسبيل، أعمل إيه؟ كل ما أحاول أقرب خطوة... تيجي الظروف تبعدنا آلاف الخطوات!"
قالت سلسبيل بإشفاق:
— "مافيش حاجة تنفع تتعمل يا ماسة، وإنتي عارفة كده. بس ندعي ربنا... لو ليكي خير معاه، يقربه. وهو قادر على كل شيء، ده بيرزق النملة في حضن الحجر."
---
بعد يومين – في المستشفى
استعادت عشق جزءًا من روحها وهدوئها النفسي. استيقظت بفزع على صوت طرق الباب. نظرت حولها ولم تجده، فصرخت باسمه:
— "أدهم! أدهم!"
خرج أدهم من الحمام مسرعًا وهو يرتدي ملابسه:
— "أنا هنا، يا حبيبتي، ماتخافيش."
نزلت من السرير وارتمت في حضنه برعب، فاحتضنها بشدة، حزينًا على حالتها. رفعت عينيها إليه برجاء:
— "ما تبعدش عني تاني."
نظر إليها بشوق، وانحنى ليقبّلها هامسًا:
— "إنتي اللي ماتبعديش عني... أنا كنت بموت في بعدك."
عادت برأسها إلى صدره براحة، فأسندها على الفراش بلطف، ثم ذهب ليفتح الباب.
كانت خلف الباب فتاتان يظهر عليهما الحياء والحرج. ما إن رآهما، حتى اشتعل الغضب في عينيه. همّ بطردهما، لكن أنامل عشق قبضت على كفّه، وقالت بتعب:
— "خليهم يدخلوا... أرجوك."
امتثل لرغبتها حين رأى الرضا في وجهها، وأشار لهما بالدخول. تمتمت ماسة بخجل:
— "آسفة عشان جيت من غير ميعاد... بس حبيت أطّمن عليها."
ردّت عشق بابتسامة طيبة:
— "إنتي تشرفي في أي وقت."
ذهب أدهم لإحضار بعض العصير، وقال وهو يخرج:
— "هعمل مكالمة جنب الباب، لو احتجتي حاجة نادي عليّا."
أومأت عشق بابتسامة:
— "حاضر."
وقف أدهم خارج الباب، لا يُخفي ضيقه من وجود ماسة بعد ما حدث من جدّها.
في الداخل، قالت سلسبيل:
— "الحمد لله على سلامتك."
ابتسمت عشق:
— "الله يسلمك."
وانفجرت ماسة في بكاء مرير:
— "أنا آسفة... كل اللي حصلك كان بسبب جدي."
حاولت عشق أن تُبعدها عن دائرة الذنب، وردّت:
— "شوفي بتقولي إيه... جِدّك يعني إنتي ما ليكيش ذنب. بتعيّطي ليه بقى؟"
بكت ماسة أكثر. كانت تدرك تمامًا أنها فقدت كل الطرق المؤدية إلى عشقها، لكنها لا تملك الجرأة على البوح بما يختلج قلبها.
نزلت عشق من الفراش، واحتضنتها:
— "بلاش تعيّطي، أصل أعيط أنا كمان..." ثم ابتسمت وهي تمسح دموعها: "وبعدين أنا بقيت كويسة الحمد لله. آه، لسه حاسة بخوف، بس أدهم مش بيسيبني."
قالت ماسة، وهي تتذكر هجومه عليها:
— "لولا تدخل فهد ونظراته القاتلة، كان قتلني... أنا بخاف منه!"
نظرت لها عشق باستغراب:
— "مين؟ أدهم؟ هو في أحن منه في الدنيا؟!"
ثم سألتها بلطف:
— "اسمك إيه؟"
أجابت ماسة، مشيرة إلى الفتاة التي بجوارها:
— "اسمي ماسة، ودي سلسبيل، بنت خالتي."
ابتسمت عشق بحرارة:
— "تشرفت بمعرفتكم يا بنات... أنا عشق."
******
---
دخل فهد المستشفى، وما إن اقترب من ممر غرفة عشق حتى تعجّب من رؤية أدهم واقفًا خارج الغرفة التي لم يغادرها منذ دخولها، وملامحه تحمل الغضب والضيق معًا.
ضحك فهد وهتف بسخرية على حاله:
– هي طردتك ولا إيه؟! غريبة إنها سابتك تخرج من الغرفة!
رد أدهم بضيق:
– أصل البنت عندها جوه...
رفع فهد حاجبيه باستغراب:
– بنت مين؟
تمتم أدهم بتبرّم:
– اللي عرّفتنا مكان عشق... جوه، وأنا مش مرتاح لها، بس حسّيت إن عشق مرتاحة لوجودها، فسكت.
شرد فهد من مجرد ذكرها... هو لا يعرف حتى الآن حقيقة إحساسه تجاهها.
غمز أدهم ممازحًا وقال:
– إيه يا فهد؟ الصنارة غمزت ولا إيه؟
فهد بعدم اهتمام:
– صنارة إيه! إحنا بينا مشاكل من سنين، من قبل ما تتولد، وده السبب اللي خلا جدّها يعمل كده.
كلمات فهد جذبت فضول أدهم واهتمامه، فسأله:
– إزاي يعني؟
أجاب فهد وهو يسرد الذكريات:
– عمي وباباها كانوا طول عمرهم أصدقاء، قريبين جدًا من بعض. ومامتها وماما نعمة كمان أصحاب. باباها اتعرف على مامتها لما كان بييجي لعمي.
أخذ نفسًا وتابع:
– المهم، عمها إنسان وحش جدًا، وفلاتي، وبتاع ستات. وفي يوم، اغتصب بنت ناس غلابة... كانت صغيرة، وماتت. وبما إن أهلها على قدّ حالهم ومش قادرين ياخدوا حقهم، عمي طمّنهم إنه هيقف معاهم. وفعلاً، اتحرّك من غير ما حد يعرف، وجاب تقرير المستشفى وسبب الوفاة، ورفع عليه قضية.
عمي كان محامي شاطر... واتسجن. وبعد ما قضى سنتين في السجن، اتخانق مع ناس لا بش، وقتلوه.
تنهّد بمرارة وأكمل:
– من يومها، جدّها عايز ياخد تار ابنه مننا. باباها كان طيب، وعكس أبوه. حتى عمها الصغير، باباها سافّره علشان يبعده عن قسوة أبوه، ويجنّبه موضوع التار.
---
بعد مرور نصف ساعة
فتحت عشق الباب وخرجت. وجدتهما أمامها، فانخفضت عيناها وتحركت بوجع بجوار ابنة خالتها، بينما ظل فهد يراقبها وهي تبتعد، بنظرات طويلة.
---
بعد مرور أسبوعين
تحدثت عشق قائلة:
– ماما نعمة، عايزاكي إنتِ وطنط عواطف... ممكن؟
ردّت نعمة بلطف:
– طبعًا يا حبيبتي.
قالت عشق بتوتر:
– بصي يا ماما، وحضرتك يا طنط، أنا كنت عايزة...
وقصّت لهما ما تريده.
قاطعتها عواطف بقلق:
– لا يا عشق! مش ممكن نعمل كده، ده إحنا كلنا نروح في داهية!
عشق بإصرار:
– ماشي يا طنط، والله أنا خدت رأي جدي، وهو موافق.
قالت نعمة بتحفّظ:
– يا حبيبتي، ده أكبر من صلاحياتنا. ومنقدرش والله... إنتِ عارفة، لو في حاجة بإيدينا مش هنتأخر. بس إنتِ ما تعرفيش عاداتنا، واللي ممكن يحصل... الدنيا تتقلب!
نظرت عشق برجاء:
– عشان خاطري يا ماما... إنتِ وطنط يعني، تكسروا بخاطري!
دخل فهد في تلك اللحظة قائلًا بقوة:
– ما عاش ولا كان اللي يكسّر خاطر ست البنات! إنتو بتتعبوها ليه؟
قالت عواطف بتوتر:
– أبدًا يا ضنايا، بس لا أنا ولا مامتك نقدر ننفذ طلبها، وهي مش مصدقة.
تحدث فهد بنبرة حاسمة:
– طلبات عشق أوامر. شوفوا عايزة إيه، واعمِلوه.
سألته نعمة:
– يعني على ضمانتك؟
فهد بثقة:
– طبعًا! أنا عايز بس حد يعترض على حاجة هي عايزاها!
قالت عواطف باستسلام:
– خلاص... لو حد كلّمنا، نقول دي أوامر فهد!
أومأ فهد بثبات:
– أيوه.
ابتسمت عشق بحنان:
– شكرًا جدًا يا أبيه... ما أتحرمش منك أبدًا.
بادلها الابتسامة، ثم تحرك إلى الداخل، دون أن يعلم ما تخطط له تلك الصغيرة... وما تقوم به، لا يستطيع غيرها حتى تخيّله، فضلًا عن تنفيذه. مجرد فكرة قد تكتب نهايته.
---
قامت عشق بالاتصال على أدهم.
ردّ عليها بحب:
– عمري الجميل! وحشتيني.
قالت عشق بحزن:
– باين... علشان كده سايبني من الصبح!
أجاب بسرعة:
– طيب، البسي واستنيني قدام البوابة... ثواني وأكون عندك.
ارتدت ملابسها بسرعة، ونزلت. قالت لها قمر وهي تراها تنزل مُسرعة:
– بالراحة يا بنت! هتقعي! إحنا عايزين الفرح ده يتم بقى.
ابتسمت لها عشق وهي تقبّل وجنتها، ثم أكملت نزولها:
– هيكمل، هيكمل إن شاء الله.
قالت حميدة وهي تنظر إليها:
– والله البيت فيه بنات... بس عشق هي اللي خلت فيه روح.
---
وقفت عشق أمام البوابة، فرأت سيارة كبيرة تتوقف أمامها...
وفجأة، صرخت بقوة، وهي تقفز من الفرحة!