رواية وانصهر الجليد الفصل الثالث عشر13 والرابع عشر14 بقلم شروق مصطفي


 رواية وانصهر الجليد الجزء الثاني2 جمر الجليد الفصل الثالث عشر13 والرابع عشر14 بقلم شروق مصطفي

في عربية ماشية ورانا
التفتت مي بسرعة خلفها، قلبها يدق بقوة، لكن لم يكن هناك أحد. عقدت حاجبيها وهتفت بضيق وهي تتلفت حولها مرة أخرى، لكن الشارع كان هادئًا تمامًا. زفرت بضيق وقالت وهي تهز رأسها:

"انتي بتهيألك يا بنتي، مفيش حد... يلا يلا بينا قبل ما نفضل واقفين هنا زي الهُبَل!"

سارت بخطوات مترددة، لكن شعورًا غريبًا ظل يلازمها...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انتقلت سيلا إلى المنزل الخاص بعاصم، حيث أقامت سابقًا عندما كانت بعيدة عن خطر المافيا. كان معها طاقم تمريض مقيم لاستكمال علاجها الكيميائي، ولم يخلُ الأمر من بعض المرح بينهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كانت تائهة، تفكر به تارة ثم تحاول نفض الفكرة عن ذهنها، ثم تعود لتلوم نفسها. لم تكن تعلم إن كانت قد أخطأت في الماضي أم لا، أو إن كانت قادرة على مسامحته والبدء معه من جديد. هل ما زالت تكنّ له مشاعر؟ لم تجد إجابة. استمرت في التفكير حتى غلبها النوم.

في اليوم التالي تأكدت أمل من شكوكها بشأن الرجل الذي كان يجلس يوميًا في الريسبشن بنفس الوضعية، ممسكًا بمجلة، دون أن يبدو أنه ينتظر دوره في الكشف أو أنه برفقة أحد. كان يغادر دومًا قبل رحيلهم بعشر دقائق.

"مي، يا مي!"

لم تكن مي منتبهة لها، فقد كانت مركزة على بعض الأوراق التي أمامها، تراجعها بتمعّن.

"إيه؟ في إيه؟"

أشارت أمل بعينيها نحو الرجل الجالس:

"خدي بالك من الراجل اللي قاعد هناك."

نظرت مي بتهكم وقالت:

"وماله ده كمان؟ سيبي الناس في حالها يا بنتي!"

همست أمل:

"كل يوم بشوفه قاعد هنا، ويمشي قبل ما نمشي بعشر دقايق. والله أنا شاكه فيه. يمكن هو نفس الشخص اللي كان ماشي ورانا بالعربية من يومين."

كشرت مي ونظرت إليها بملل:

"والله إنتِ بتخرفي يا أمل! فيها إيه يعني؟ راجل قاعد لوحده، يمكن مستني حالة دخلت عند الدكتور. ركزي في شغلك بس!"

نظرت أمل إليها بإهمال وتركتها، لكن شيئًا ما داخل مي جعلها تلقي نظرة أخرى. شعرت بانقباض غريب، ولم تهدأ دقات قلبها وهي تنظر إليه. ويا ليتها لم تفعل، فقد تفاجأت بـ...
 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ظلّت سيلا تتململ في نومها، تهمس لمن يحاول إيقاظها: 
سيبني شوية، يا حبيبي... هاصحى أخد العلاج، عاوزه أنام دلوقتي.

سمعت الأخرى كلمة "حبيبي" و"علاج"، فاتسعت عيناها وفتحت فمها بصدمة مما سمعت:

"هو فيها 'حبيبي' كمان؟! طيب والله لأوريكي يا سيلا لما تصحي!"

ذهبت وأحضرت كوب ماء، ثم نثرت بعض القطرات على وجه النائمة أمامها:

"قال حبيبي قال! قومي بقى!"

هبت سيلا من نومها فزعة، مصحوبة بشهقة عالية، تمسح وجهها من قطرات الماء التي سقطت عليها، بينما سمعت ضحكات مكتومة بجانبها.

كانت همسة تقهقه بصوت مكتوم، ثم قالت:

"يلا بقى، كل ده نوم! لازم أرش مية عليكي يعني؟ كل يوم نومك تقيل بالشكل ده!"

نظرت سيلا حولها بتفاجؤ، غير مستوعبة بعد، ثم نظرت إلى همسة بتعجب:

"إيه ده؟ أنا فين؟ همسة! إنتِ إيه اللي جابك هنا؟ وإيه اللي جابني في بيتنا؟!"

تفاجأت همسة من كلامها ونظرت إليها ببلاهة:

"إيه يا بنتي؟ كل ده نوم؟ بتخرفي! إنتِ بتقولي إيه؟ ومين 'حبيبي' ده؟ وعلاج إيه اللي بتاخديه؟! والله لأقول لبابا عليكي!"

ثم قلّدت صوتها النائم بسخرية:

"استنى، يا حبيبي... أنام شوية وأخد الدوا!"

ثم نظرت إليها بمكر:
"كنتي بتحلمي بحبيب القلب ها! مين يا 'سولي' اللي بيديكي الدوا؟ شكلك كنتِ بتحلمي حلم جميل! عقبالي بقى بعد ما أخلص الثانوية العامة، اللي طلّعت عيني!"

لكنها انتبهت لتأخر أختها وملامح الصدمة على وجهها وعينيها المفتوحتين كأنها في عالم آخر، فقالت بسرعة:

"يلا، يلا، بسرعة! قومي، ماما وبابا مستنيينك برا عشان تفطري معاهم، وبابا هيوصلك للجامعة!"

عند هذه الجملة، أفاقت سيلا من شرودها. هل ما زالت تحلم؟ نهضت فجأة، وعيناها تترقرقان غير مصدقة:

"ق... قلتي مين؟ بابا؟ ماما؟! هما عايشين؟! ولا أنا بحلم؟!"

نظرت إليها همسة بضيق وقالت:

"تفو من بقك! بعد الشر عليهم! إيه الكلام اللي بتقوليه ده؟ حد يقول كده برضه؟! يلا، انجزي قبل حفلة التخرج بتاعتك تبدأ!"

تركتها همسة وخرجت، بينما ظلت سيلا تتلفت حولها، غير مصدقة. هذا منزلها! وتلك غرفتها! وقفت أمام المرآة تحدق في انعكاسها.
هل يُعقل أن يكون كل ما عاشته مجرد حلم؟!
رفعت يدها تلامس شعرها، ثم نظرت لنفسها في المرآة. ابتسمت رغم دموعها التي انسابت. ثم عادت تبكي، ثم تبتسم مرة أخرى، وأخفت وجهها بين يديها وهمست:
"يعني كل ده حلم؟!"
ثم أبعدت يديها بسرعة وقالت بصوت مرتعش:
"لا... مش حلم!"

قفزت من فرحتها كالبلهاء وركضت إلى الخارج. وجدت والدها ووالدتها ينتظرانها، وهمسة بجانبهما، يبتسمون ويتحدثون. نظر والدها إليها مبتسمًا، ومدّ يده إليها قائلاً:

"أخيرًا صحيتي! ليكي حق طبعًا، خلّصتي امتحانات بقى!"

اقتربت سيلا منه بتردد، خائفة أن يكون هذا مجرد حلم آخر، ثم قبلته على وجنته وهي تتحسس يده بلهفة:

"حبيبي يا بابا... وحشتني أوي، أوي!"
ربّت محسن على وجنتها بحنان:

"حبيبة قلب بابا! ليكي مكافأة النهاردة بمناسبة نجاحك وتخرجك، بعد ما تحتفلي مع أصحابك هتلاقي هديتك وصلت."

قالت سيلا بحب وسعادة:
"أنت أعظم أب في الدنيا! أنت هديتي الحقيقية، كفاية حضنك الدافئ ده."

تدخلت والدتها بمرح:
"أحم أحم! نحن هنا، يعني أنا ماليش في الحب والحنية دي؟ آه ما انتي بنت أبوكي!"

اتجهت سيلا إليها بحب وقالت:
"إنتِ الحب كله! هاتي بوسة!"

ثم احتضنتها بشدة، تغرق في دفء حضنها الأمومي، حتى قطعت اللحظة همسة، متذمرة بطفولية وغيرة:

"آه، ما انتي الكبيرة! واخدة الحب كله، وأنا يا عيني محدش بيعبرني!"

قهقه الجميع على كلماتها، ورد محسن:

"اتجدعي الأول، وجيبي مجموع عالي، وادخلي الكلية اللي نفسك فيها، وهجيبلك اللي تؤمري بيه!"

ضحكت سيلا وسجدت شكرًا لله في قلبها، فقد مُنحت فرصة أخرى... فهل ستغيّر مصيرها؟!

بعدما أوصلها والدها إلى الجامعة، التقت سيلا بصديقاتها، حيث انتهت حفلة التخرج وارتدت جميع الفتيات زي التخرج الرسمي. استلم الجميع شهادات التخرج والتقدير، ولم يخلُ اليوم من توثيق هذه اللحظات الجميلة بالصور والفرح الذي ملأ الأجواء.

وسط الحماس، صاحت رودينا بفرح:

"مبرووووك لينا يا بنات! أخيرًا خلصنا!"

ردت مي بمرح:
"أيوه، خلصنا وأخيرًا هتتجوزي يا رورو! ابن عمك اللي قاعد جنبك ده بقاله سنين مستني! والله صعبان عليّا إخواتك، حاجه مكلكعة يا ساتر!"

ضحكت رودينا وردّت بمزاح:

"يابنتي، هما عارفين مصلحتي! وبعدين بابا هو اللي صمم إني أستنى لحد ما أخلص الجامعة، بدل ما أدخل أمتحانات وأنا شايلة مواد وأقعد في الكلية خمسين سنة!"

لكن فجأة، انتبهوا إلى سيلا الواقفة بينهم وكأنها غارقة في عالم آخر، لم تشاركهم فرحتهم ولم تعلق بشيء.

أشارت مي بعينيها نحوها وسألت رودينا:

"مالها دي واقفة سرحانة كده؟

هزّت رودينا كتفيها بعدم معرفة، بينما دفعتها مي من كتفيها برفق حتى انتبهت لهم، وقالت بملل:

"في إيه يا مي؟ يلا نروح."

نظرت مي إليها بصدمة:

"إيه نروح؟ لا طبعًا! إحنا اتفقنا نحتفل بعد التخرج، ولا إيه يا رودينا؟ مش هتحتفلي معانا؟"

ردّت رودينا بتوتر:

"والله يا مي، بابا وإخواتي موصييني ما أتأخرش..."

قاطعتها مي وهي تلوّح بيدها بعدم اهتمام:

"لا بلا متأخرش بلا نروح منك ليها! أنا عايزة أحتفل! هو إحنا هنشوف بعض تاني؟ كل واحدة فينا عندها مشاغلها، إنتي هتحضري لجوازك، وأنا وسيلا هندور على جريدة نشتغل فيها... يعني من الآخر، اليوم ده مش هسيبكم تضيعوه أبداً! قال نروح قال!"

ثم نظرت إلى سيلا مباشرة، وسألتها بريبة:

"وإنتِ؟ مالك النهاردة؟ مش طبيعية كده ليه؟"

لم ترغب سيلا في التحدث أو تعكير فرحتهم. كيف ستشرح لهم ما تشعر به؟ سيقال عنها إنها مجنونة...

فردّت بتوهان:

"مفيش، أنا كويسة أهو."

لكن المشهد كان يتكرر أمامها كأنه حلم عاشته من قبل. سمعت صوت مي وهي تقول بحماس:

"طيب تعالوا نشوف مكان نقعد فيه."

ثم وجّهت كلامها لرودينا:

"روحي اتصلي بباقي البنات وهكلمك نتقابل هناك."

وانصهر الجليد_شروق نصطفى
اتجهت مي مع سيلا للخروج من الجامعة، وسحبتها مي من يدها بينما الأخرى كانت تائهة، تتكرر أمامها نفس المشاهد، يهاجمها حلمها... الطريق، الحادثة، الفتاة...

توقفت سيلا فجأة وجذبت مي من يدها بقوة، وقد تسارعت دقات قلبها بشكل مخيف. نظرت إليها مي بدهشة:

"وقفتي ليه؟ في إيه؟ خلينا نمشي عشان نلحق البنات!"

حاولت سيلا أن تتمالك نفسها، ثم أخرجت كلماتها بحذر:

"مي، في حادثة هتحصل دلوقتي في الشارع ده! لازم ننقذ البنت قبل ما يحصلها حاجة، صدقيني!"

أشارت بيدها المرتجفة نحو الشارع الخالي أمامها.

نظرت مي إلى الشارع ثم إليها بضيق وقالت بنفاد صبر:

"حادثة إيه بس؟ الشارع فاضي، وإحنا في عز النهار! بنت إيه اللي بتتكلمي عنها؟ إنتِ مش طبيعية النهاردة بجد!"

علا صوت سيلا يشبه الصراخ وهي تقول بانفعال:

"افهمي بقا!"

ثم أكملت بسرعة وتشتت:

"أنا حلمت بكل ده! صدقيني، في حاجة هتحصل دلوقتي، جريمة! لازم ننقذ البنت! بس لازم نلاقي حد يساعدنا!"

بقلم شروق مصطفى
تلفتت في المكان بعصبية حتى وقعت عيناها على منظم المرور في الاتجاه الآخر من الطريق. أشارت إليه بسرعة وهي تخاطب مي:

"شايفة ده؟ روحي هاتيه بسرعة وأنا هراقب المكان! أول ما العربية توصل، نلحقها قبل ما يعتدوا عليها!"

دفعتها مي باتجاه العسكري وهي مذهولة من تصرفاتها، لكنها اتجهت نحوه دون اقتناع.

أما سيلا، فظلت تراقب المكان وقلبها يكاد يقتلع من مكانه من شدة التوتر. فجأة، شعرت بيد تُمسكها من كتفيها، شهقت بفزع والتفتت لتجدها رودينا ومي!

صرخت بغضب:
"فين اللي قلتلك عليه؟ مش عايزة مساعدة منكم خلاص، أنا هتصرف! امشوا أنتم بس!"

تدخلت رودينا لتهدئتها:

"اهدي، أنا اللي وقفتها قبل ما تكلم العسكري."

وقبل أن تكمل حديثها، قاطعها صوت رجولي خرج من سيارة سوداء توقفت للتو:
في إيه الدوشة دي؟

كان رجلًا طويل القامة، عيناه حادتان، بدا غامضًا وهو يركز نظراته على سيلا الغاضبة، ثم وجه سؤاله لرودينا:

"إيه يا رودينا؟ صاحبتك مالها؟ مش مراعين إنكم في الشارع ولا إيه؟ ليه الصوت العالي ده؟"
بقلم شروق مصطفى

لم تصدق سيلا أنها تراه الآن أمامها. هل سيُعاد كل شيء مرة أخرى؟ تجاهلت أفكارها واندفعت نحوه فجأة، أمسكت بيده وسحبته نحو الشارع وهي تتحدث بسرعة دون حتى أن تلتقط أنفاسها:

إنت ظابط؟ لازم تنقذ البنت دي! أنا حلمت بكل ده، الشارع ده، العربية اللي بتوقف في النص، الخطف، الاعتداء... بس المرة دي لازم نلحقها!"

رفع حاجبه باستغراب وقال:
"إيه؟! هششش، استني شوية! عربية إيه وشارع إيه؟ إنتِ مجنونة؟! الشارع فاضي، مفيش حد أصلاً!"

حدّقت فيه بغضب:
"أنا مش مجنونة! إنت ظابط، ولازم تنقذ الحادثة اللي هتحصل دلوقتي!"

ثم تغيرت نبرة صوتها لتصبح أقرب إلى الرجاء:

"استنى، أرجوك! أنا حلمت بكل ده... يوم تخرجي، وحفلة التخرج، وحلمت بيك..."

نظر إليها بتعجب:
"حلمتي بيا؟!"

انتبهت فجأة لما قالته، وكانت ستنفي، لكن حينها وقع نظرها على سيارة تتوقف وسط الطريق، تمامًا كما رأت في حلمها. شهقت بفزع وصاحت:

"هي دي! العربية دي! بسرعة، لازم نلحقها!"

عاصم لم تعجبه تصرفاتها، شعر أنها تهذي، فتمتم بسخرية:

وإيه يعني؟ هروح أقولهم أنتم خاطفين حد؟ وبعدين مين قالك إني ظابط أصلاً؟

ثم أكمل بجدية:
"وبعدين، هو في حد عاقل هييجي يخطف حد في عز النهار، في شارع الجامعة؟ إنتِ بتفكري إزاي؟"

لكن سيلا لم تهتم لكلامه، وأصرت بعناد:
خلاص، مش عايزة مساعدة من حد، أنا هتصرف!

استدارت لتنطلق نحو السيارة، لكنه أمسك معصمها بقوة:
استني هنا! ارجعي عند البنات، وأنا هتصرف!

ابتعدت خطوة، لكنها تبعته، وبينما تحاول اللحاق به، لوت قدمها بسبب حجر صغير، وكادت تسقط على وجهها، لكنه أمسكها في اللحظة الأخيرة، ممسكة بها بحزم. رفعت رأسها ببطء، فالتقت عيناهما، ظلا على هذه الحال، تائهين في تفاصيل وجوه بعضهما البعض، حتى أيقظهما من شرودهما صوت بوق سيارة مرتفع. انتفضت بسرعة، معتدلة في وقفتها، بينما تنحنح هو محاولًا استعادة توازنه قائلاً بنبرة عملية:... 



الفصل الرابع عشر🌹وانصهر الجليد
التقت عيناهما ظلّا على هذه الحال، تائهين في تفاصيل وجوه بعضهما البعض، حتى أيقظهما من شرودهما صوت بوق سيارة مرتفع. انتفضت بسرعة، معتدلة في وقفتها، بينما تنحنح هو محاولًا استعادة توازنه، قائلاً بنبرة عملية:
— ابقي خلي بالك وارجعي للبنات، وأنا هشوف العربية."

تركها واتجه نحو السيارة المتوقفة، متكئًا للأمام على نافذة السائق، متقمصًا دور الضابط وهو يلقي نظرة سريعة على من بداخلها:

— "فين رخصتك؟"

نظر إليه السائق ثم أخرج الرخصة بامتثال:

— "اتفضل يا باشا."

التقطها عاصم بلا اهتمام، ألقى عليها نظرة سريعة، ثم فاجأ السائق بسؤال آخر وهو يعيد له الرخصة:

— واقف هنا بتعمل إيه؟

وجه نظراته للمرأة الجالسة في الخلف، ثم للرجل الجالس بجانب السائق، غير مكترث بنظرات سيلا الملاصقة له، والتي كانت تترصدهم بعدائية كأنها تنتظر لحظة الانقضاض عليهم. لم يجد في مظهرهم أي علامة تدل على الإجرام الذي زعمت هذه "المجنونة" أنهم متورطون فيه.

تحدث الرجل الجالس بجانب السائق باحترام:

— "إحنا مستنيين أختي، زمانها خلصت حفلة تخرجها وطالعين على البلد."

أردف السائق:

— "يا باشا، هو في حاجة ولا...؟"

لم يكمل جملته حتى دلفت الفتاة إلى السيارة وأغلقت الباب، ثم سألت والدتها بقلق:

— "إيه ده؟ في إيه يا ماما؟ مين ده؟"

نظر عاصم إليهم جيدًا، فلم يجد أي شيء مريب كما ادعت سيلا. تنهد ثم قال للسائق:

— تحركوا.

انطلقت السيارة مبتعدة، فالتفت إلى سيلا، ليجدها خافضة رأسها بأسى وخيبة أمل. في تلك اللحظة، أيقنت أن كل شيء عاشته لم يكن سوى حلم، حلم لم يكن له أي أساس من الواقع.

ضحك عاصم بصوت عالٍ، ثم توقف عندما لاحظ لمعة الدموع في عينيها، فاقترب منها متسائلًا بسخرية:

— "شُفتي بنفسك اللي حصل؟ مكنتيش هتصدقيني لو كنت رحت لوحدي، صح؟"

صمتت قليلًا، ثم انفجرت بالكلام، غير قادرة على كتم مشاعرها أكثر، بينما كانت تحرك يديها بعشوائية:

— "شُفت كل حاجة! شُفت يوم تخرجي، ونفس صحابي، ونفس الشارع، ونفس العربية دي، ونفس اللي جواها! معقول كل ده مش حقيقي؟ كنت عايزة أنقذها في الحلم، بس ملحقتهاش! حلمت بناس كتير... وموت... ومرض... وزواج... وبك أنت كمان!

قالت جملتها الأخيرة بإشارة خجولة نحوه، لكنها شعرت أنها ربما تحدثت أكثر مما ينبغي، فالتزمت الصمت.

ابتسم عاصم بسخرية، ثم قهقه مستمتعًا بالموقف:

— "والله وماله! وأنا كمان كنت في أحلامك؟ يا ترى شوفتيني إزاي؟ أوعي أكون أنا اللي كنت جوه العربية!"

ثم انفجر ضاحكًا من جديد، بينما حاولت سيلا الهروب من الموقف بتوتر:

— "ها؟ لا، لا طبعًا! أبدًا... أنا تأخرت ولازم أمشي حالًا."

تحركت سريعًا، لكنه وقف أمامها ليمنعها من الهروب، محدثًا إياها بنبرة أكثر جدية:

— عمومًا، أيا كان اللي شُفتيه، مش لازم يكون حقيقي ويتحقق. أحيانًا بنحلم ونقوم ناسيين كل حاجة، وبعد سنين نحس إننا شوفنا المكان قبل كده رغم إنه أول مرة ندخله! وممكن يكون الحلم رسالة، وممكن يكون مجرد تخيلات. على فكرة، لو حلمتي بدم، الحلم كله بيبقى فاسد ومش بيتحقق. ولو كان رؤية، ممكن يحصل فعلاً."

ظلت تنظر إليه بصمت، مستغرقة في كلماته، حتى قطع شرودها قائلًا بمكر:

— يا ريت ما تحلميش تاني بقا، كفاية اللي حصل النهارده! المهم... طمنيني، كنت شرير ولا طيب في حلمك؟

ثم تذكر ما قالته قبل قليل، فقهقه مجددًا وهو يردد:

— "آه، صح! أنتي شُفتيني ضابط، يبقى أكيد كنت شرير!"

ضحك بصوت عالٍ، غير قادر على التوقف، بينما اغتاظت سيلا من سخريته، فدبّت بقدميها على الأرض عدة مرات، ثم نفخت بضيق من أمامه:

— "وأنت ما صدقت تضحك عليَّ! أوف، أنا ماشية من قدامك أحسن!"

استدارت بعصبية وابتعدت، بينما كان هو يتبعها بخطوات هادئة، مبتسمًا بتسلية. توقفت عند مي ورودينا، حيث كان معتز معهما يلقي بعض المواقف المضحكة، بينما كانت الفتاتان تتابعان ما حدث بينها وبين عاصم بفضول.

نظرت مي إليها بدهشة، فالتفتت الأخرى إليها وملامح وجهها متجهمة، دليلًا على الغضب. حاولت مي كتم ضحكتها وهي تقول:

— المهم، لاقيتِ حاجة بعد ده كله؟

ربّعت سيلا يديها ونفخت بضيق:

— مش هنخلص بقى من الحوار ده، صح؟

تدخل عاصم بابتسامة سمجة تعلو وجهه، قائلًا:

— لا أبدًا، الآنسة كانت بتحلم بس، وشكلها ما تغطّتِش كويس...

ثم وجه نظره إلى رودينا وقال:

— مش يلا بينا بقى ولا إيه؟

نظرت سيلا إلى مي بملامح متبرمة، ثم زفرت قائلة:
— يلا بينا إحنا كمان من هنا بدل ما أولّع فيه، أنا تعبانة وعاوزة أنام.

تدخل عاصم مجددًا قبل أن تعترض سيلا، وقال بنبرة غير قابلة للنقاش:

— إنتِ بالذات ولا كلمة زيادة، اركبوا هنوصلكم معانا، يلا!

 بالفعل، انصاعت له وركبت السيارة. لم تدرِ لماذا لم ترفض، لكنها أرادت أن تراه، ربما يكون هذا آخر لقاء بينهما ولم تره مرة أخرى. حمدت الله أن الحادثة لم تقع كما توقعت، وأيقنت أن الحلم كان فاسدًا بأكمله. لم تعمل في جريدة، لم تسافر، لم تُختطف، لم تمرض، ولم يمت أحد. ابتسمت تلقائيًا لهذه الأفكار، لكن عينيها أدمعتا دون قصد وهي تحدق بشرود عبر نافذة السيارة، عندما مر بخيالها مشهدٌ له وهو يحتضنها بحنان ويعاملها كطفلته الصغيرة.

لمحها عاصم بطرف عينه، واندُهش من التغيرات التي مرت على ملامحها، لكنه سرعان ما عاد ليركز على الطريق أمامه.

قطع الصمت صوت معتز وهو يسأل البنات:

— ناويين تعملوا إيه بقى بعد التخرج؟

نظرت مي إلى سيلا، فوجدتها شاردة، فتحدثت بدلًا منها بحماس:

— ناويين نتدرب الأول في جريدة، أنا وسيلا.

التفت عاصم إليهما وسأل بفضول:

— وانتوا ناوين تمسكوا أقسام إيه في الصحافة؟

وجه كلامه إلى سيلا، لكنها لم ترد، فدفعتها مي بكتفها لتنبهها قبل أن تجيب عنها:

— أنا بحب الفن، وسيلا السياسة والجرائم.

قهقه عاصم بصوت عالٍ حتى انتبهت إليه، ثم قال بسخرية:

— تاني؟ محرمتش يا بنتي! بصراحة، بعد اللي شوفته منك النهاردة، أتوقع إنك أحسن حاجة تفضلي في البيت وتستني عريسك، لأنك أكيد هتكتبي عن البرئ وتسيبي القllاتل الحقيقي!

كتمت مي ضحكتها بصعوبة، أما سيلا فاصطكت أسنانها غيظًا، وحدّقت فيه بعناد، ثم ردّت بنبرة تحمل تهديدًا خفيًا:

— تأكد إنك هتكون أول واحد أكتب عنه!

ضحك أكثر وردّ بثقة وغرور:

— ولا تقدري أصلًا!

نظرت له سيلا بتحدٍ، وقالت بتأفف وهي تدير وجهها للجهة الأخرى:

— ولا أقدر ليه؟ هتمنعني من الكتابة كمان، ولا إيه؟

مي ورودينا تبادلتا نظرات الدهشة، فهذه أول مقابلة بينهما، ورغم ذلك كانت مليئة بالحرب والمشاحنات، لكنهما التزمتا الصمت.

قطعت رودينا التوتر قائلة بحماس:

— بقولكم إيه يا جماعة، عندنا سبوع مولود بليل، ما تيجوا نهيص شوية ونلعب مع البيبي الصغير!

هتفت مي بسعادة:

— الله! عندكم نونو؟ بحب الأطفال أوي! بس سبوع مين يا رودي؟

أشارت رودينا بعينيها إلى معتز وعاصم عبر المرآة، في محاولة لحثهما على الحضور أيضًا، قبل أن تجيب:

— سبوع ابن عمي وليد، أخو عامر خطيبي، ياريت تيجوا، والله هتنبسطوا أوي!

معتز هزّ كتف عاصم بحماس وقال:

— يا ريت تشرفونا بجد! وسيلا طبعًا تنورينا... ولا إيه، عاصم؟ اتكلم!

نظر عاصم باتجاه سيلا وقال بنبرة غامضة:

— ياريت... لأن لسه في كلام بينا، وأظن إنه مخلصش... ولا إيه؟

انتبهت سيلا لحديثه وفهمت ما رمى إليه، فاعتذرت قائلة:
"ألف مبروك بجد، بس مش هينفع... ولا إيه يا مي؟"

لكن مي، التي صدمتها إجابتها، فاجأت سيلا بقولها:
"أكيد هنيجي طبعًا، وهنغير جو بدل الحفلة اللي ضاعت الصبح."

جاءت سيلا لتعترض، لكن سبقها عاصم قائلاً:
"كده أظن مفيش حجة ليكم... هنكون في انتظاركم بالليل."

بعد قليل، قاموا بتوصيل مي أولًا ثم سيلا، قبل أن يتجهوا إلى منزلهم.

---

عادت سيلا إلى منزلها، فاستقبلها والداها بابتسامة دافئة، ثم قدم والدها لها هدية نجاحها وحصولها على درجة الامتياز، وهو يقول:
"اتفضلي يا ست البنات... هديتك، يارب تعجبك."

فتحت سيلا الهدية بلهفة، ثم هتفت بدهشة:
"واو! بجد دي ليا أنا؟! أوعي تقولي اللي راكنة تحت البيت دي؟!"

هزَّ والدها رأسه بالإيجاب، فما كان منها إلا أن قفزت فرحًا، وارتمت في حضنه، تقبّله على وجنتيه. قاطع هذه اللحظة صوت والدتها التي نظرت إليها بحب وابتسامة جميلة:
"أنا أزعل كده؟ أنا مشتركة معاه على فكرة..."
بقلم شروق مصطفى
ثم فردت ذراعيها واحتضنتها بحنان، فابتسمت سيلا قائلة:
"ربنا يبارك فيكم يارب... أنا بحبكم أوي."

تدخلت همسة مازحة:
"يا سيدي... ناس يجيبولها عربيات وناس مطحونة لسه في المذاكرة! أنتي عارفة يا سيلا لو مخدناش لفة، هعمل اعتصام!"

ضحكوا جميعًا وشاركوا سيلا فرحتها، ثم جذبها والدها مرة أخرى، وأخرج من جيبه علبة قطيفة زرقاء قائلًا:
"مقدرش أنساكي... ودي هديتنا أنا وماما."

فتحتها همسة بحماس، ثم هتفت بدهشة وسعادة:
"مش ممكن! دي نفس السلسلة الفضة اللي عجبتني من كم يوم على النت! بحبكم أوي أوي..."

---

في المساء، لم تكن سيلا ترغب في الحضور، لكنها في الوقت نفسه كانت متلهفة لرؤيته، ولا تعلم السبب. أرادت التقليل من حدة التوتر، فقررت اصطحاب همسة معها، وانضمت إليهم مي، التي أوصلها شقيقها وبقي في انتظارها.

عند وصولهم إلى الفيلا حيث تُقام الحفلة، كان الوقت لا يزال باكرًا، فاستقبلتهم رودينا وجلسوا قليلًا بإحراج. هاتفت رودينا شخصًا ما قائلة:
"محدش غريب موجود... إحنا وأخواتي و..."

لكن مي قاطعتها قائلة بإعجاب:
"بيتكم حلو أوي، ما شاء الله! والديكور بتاع المولود فظيع بجد!"

وأضافت بحماس:
"هو فين النونو؟ نفسي أشيلها!"

انبهرت سيلا أيضًا بالمكان، بينما كانت عيناها تبحث عنه دون أن تجده. شعرت فجأة بانقباض غريب في قلبها عندما لمحته من بعيد، متوقفًا عند أحد الجوانب، يحادث شخصًا ما، ويبتسم له بجاذبية.

تحدثت همسة بمرح:
"يا دودو، النونو فين؟ هي بنوتة صح؟ أصلكم عاملين بالونات روز، والديكوريشن تحفة بجد!"

ابتسمت رودينا وأجابت:
"أيوه، بنوتة زي العسل... هما شوية وجايين، لسه بيحضّروها."

بعد قليل، نهضت رودينا وحثّت الجميع على النهوض:
"تعالوا أعرّفكم على العيلة... والنونو وصلت كمان، يلا بينا يا بنات!"
بقلم شروق مصطفى وانصهر الجليد
تقدّم الجميع بينما كانت سيلا آخرهم، تتحرك على مهل، وعيناها لا تزالان معلقتين به. لاحظت أن الشخص الذي كان يحادثه لم تكن سوى فتاة ممشوقة القوام، بشعر أشقر طويل، تمسك بذراعه بملكية واضحة، بينما هو يعدّل شعرها خلف أذنيها بابتسامة وعبارات غزلية.

عندما اقتربوا من الواقفين، سمعت رودينا تكمل التعارف قائلة:
"أقدّم لكم دول أصحابي من الكلية، أجدع صحاب بجد... مسمّينا الثلاثي المرح!"

رحب الجميع ببعضهم، ثم واصلت رودينا التعريف قائلة:
أحب أعرّفكم... ده بابي ومامي، وعاصم طبعًا شوفتوه الصبح، ودي آسيا مراته! وده معتز، ودي سيلين القمر خطيبته! ووليد ابن عمي، ومراته القمر اللي جابتلنا القمر الصغنن ده!

اندمجوا جميعًا في مداعبة المولود، فتناولته رودينا أولًا، ثم أعطته لهمسة، ثم مي، وأخيرًا سيلا، التي حملته بآلية وابتسمت له برقة، قبل أن تعيده لرودينا مرة أخرى.

كانت الأخيرة قد تناست إكمال التعارف، فتدخل هو مشيرًا إلى نفسه بطريقة ساخرة:
"وأنا؟! إيه... هواء قدامك مش شايفاني؟!"

توقفت عن الكلام عندما نظرت إلى عامر، وشعرت بخجل انعكس على وجنتيها. حاولت رودينا تدارك الأمر قائلة بخجل:
"أحم... آسفة، عامر ابن عمي وخطيبي!"

رحّب الجميع به، عداها... لم يسعفها لسانها على النطق.

قالت رودينا بحماس:
"يلا بينا نحتفل!"

توجّه الجميع إلى أماكنهم مرة أخرى، بينما بقيت هي واقفة، مشدوهة، مفتوحة العينين، تنظر إليه دون أن تحيد بنظرها عنه. ترقرقت الدموع في عينيها، لكنها حاولت التماسك حتى لا تلفت الأنظار إليها. كانت في داخلها ممزقة الأشلاء... طُعـ.ن قلبها بسكيyن بارد، حتى نزف وجف.

لاحظ عاصم شحوب وجهها، فاقترب وسألها بقلق:....  

تعليقات