
رواية بك احيا الفصل الثالث3 والرابع4 بقلم ناهد خالد
"ليلة جحيمية"
"ماذا ستفعل إن وجدت ذاتك في كذبة كبيرة، وأن كل ما مرَ عليكَ مجرد خدعة، حياتك لم تكن كما عشتها، والشخص الذي كنت معه لم يكن كما تظنه، تستفيق فجأة لتدرك أنك مجرد مغفل عاش أكذوبة رسمها لك الآخر باحترافية حتى لم تشك يومًا في الحياة التي تعيشها، وحين يُرفع الستار وتكتشف ما جهلته عمرًا، تكن الفاجعة! "
لم تبرح مكانها، لم تصدر فعلاً آخر غير أنها جالسة أرضًا مستندة بظهرها على باب الخزانة، وبيدها تقبع الكارثة" البطاقة الورقية" التي قلبت حياتها رأسًا على عقب، وعيناها تائهة رغم احتقان الدموع بها لكنها أبت أن تنسدل، وعقلها لم يتوقف برهة عن التفكير حتى شعرت بهِ يكاد ينفجر، ظلت هكذا لساعة ونصف كاملين حتى أتى زوجها المصون أخيرًا الذي لم تعد تعرف له اسمًا أو دينـًا! ها هو أتى واقفًا أمامها باستغراب بدى على وجهه وهو يطالع حالتها، استغراب لم يدم طويلاً حين وقعت عيناه على بطاقته الورقية التي تقبع في يدها، وللعجب لم يصدر ردة فعل، فقط تحرك ببرود يخلع عنه سترة بدلته ويضع أشياءه الخاصة في مكانها دون اهتمام لها ولحالتها! وهذا ما دفعها لأن تستفيق فهي لديها كامل الحق في أن تفهم كل شيء الآن وهو لديهِ الحق في التبرير، نهضت واقفة خلفه وهو يخلع قميصه ببرود، أجلت حلقها لتحاول التحدث بصعوبة فهي تشعر بأن حجرًا ما قد وُضع في حنجرتها يحرمها من التحدث او حتى ابتلاع ريقها، ولكنها قاومت كل هذا وهي تسأله بنبرة مختنقة وبها بحة واضحة:
_ أنتَ مين؟ مين حسن ومين جورج؟
ظل صامتًا كما هو وكأنه لم يسمعها أساسًا، فاهتاجت أعصابها وجذبته من ذراعه بقوة ليستدير لها وصرخت بقدر استطاعتها:
_ رُد عليَّ.. أنا متجوزة مين؟ وليه كل ده؟ أنا.. أنا مش فاهمة حاجة، معقول تكون خدعتني كده؟ معقول تكون حياتي كلها كانت كدبة!؟
_عاوزه تفهمي ايه؟
هكذا فقط؟ وبهذه البساطة! يا لبرود أعصابه! كيف يمكن أن يكون هادئًا هكذا وهناك كارثة قد تنهي حياتهما، أم أن الأمر ليس كما تظن؟ إذاً كيف هو الأمر!!؟ نفضت رأسها من كل هذه الأسئلة البائسة والتي لن تجد لها اجابات، وقررت أن تحصل على اجابتها منه هو، فأردفت بضعف:
_ عاوزه افهم أنتَ مين؟ ايه البطاقة دي؟ وأنتَ جورج ازاي؟
أغمض عيناه لوهلة ثم فتحهما وهو يجيبها بهدوء:
_ دي بطاقة مزورة.
كشخص كان على وشك التقاط آخر أنفاسه في قاع المحيط وفجأة وجد يد تجذبه للسطح فارتاح صدره حين وجد متسع من الهواء، هكذا شعرت، شعرت بجثم هائل أُزيل من فوق صدرها، ولكن مازالت هناك أمور مجهولة لابد لها من معرفتها، أخذت نفسًا عميقًا تهدأ من ذاتها قبل أن تسأله:
_ وليه؟ ليه يبقى معاك بطاقة مزورة؟ وباسم شخص مسيحي، بتعمل بيها ايه يا حسن؟
تحرك من أمامها للخزانة يخرج ثيابًا بيتية مريحة له، وهو يجيبها ببرود:
_ مش شغلك، أنتِ كان يهمك تعرفي إذا كنتِ متجوزة مسيحي ولا مسلم وعرفتي يبقى غير كده مش من مصلحتك تعرفي.
صرخت بهِ ببحتها التي تلازمها الآن:
_ بس من حقي اعرف، ازاي عاوزني اتجاوز الموضوع كده؟ ازاي عاوزني اعمل نفسي مشوفتش حاجة ويا فرحتي إنك طلعت مسلم واسمك حسن! من حقي اعرف مين جورج وليه موجود في حياتك؟
القى الثياب التي بيده بعصبية ومسد بكفه على وجهه يستدعي بعض الهدوء ورغم خوفها من غضبه إلا أنها لم تتراجع، أزال كفه ونظر لها لبرهة كأنه يتغلغل لأعماقها ثم هتف بغموض:
_ متأكدة إنك عاوزه تعرفي؟
ابتلعت ريقها الجاف بأنفاس متسارعة وأجابته رغم رعبها الداخلي:
_ اه، متأكدة.
التوى جانب فمه مبتسمًا بتهكم وبدأ في الحديث بنبرة باردة تمامًا وكأنه لا يلقي عليها بحمم بركانية تحرقها من قسوة ما تحمله الكلمات من معنى:
_ طيب.. جورج ده شخصيتي في الشغل، محدش يعرف حسن غيرك أنتِ هنا، لكن بره أنا جورج وبس.. ولو حابة تعرفي ليه، فهو عشان شغلي مبيسمحش للمسلمين أنهم يكونوا فيه، كان لازم اغير ديانتي عشان يقبلوني، وبالمناسبة أنا بقالي معاهم اكتر من ١٧ سنة، ها في حاجة تانية حابة تعرفيها؟
لم تستوعب كل ما يخبرها بهِ دفعة واحدة، لكنها رددت بتساؤل تائه:
_ شغل ايه؟ أنتَ مش شغال في المقاولات؟؟ شغل ايه الي مينفعش مسلمين يدخلوه؟!
وبجمود تام كان يوضح لها الرؤية وهو يقول بسأم:
_ شكلك مُصرة تعرفي حاجات هتتعبك، As you like (كما تحبين)، أنا شغلي ملوش علاقة بالمقاولات، وأنتِ متعرفيش عنه حاجة أصلاً، ورافضين المسلمين لأن البيج بوص بتاع الشغل كله في عداوة كبيرة بينه وبين الإسلام والمسلمين عمومًا، عشان كده اي حد بينضم ليهم لازم يغير ديانته.
قطبت حاجبيها بحيرة شديدة، لا تفهم عن أي عمل يتحدث، أي عمل هذا من يرفض الإسلام بهذا الشكل؟ ورغم أن قلبها يحذرها من التمادي في الأسئلة، وعقلها يشعر بالخطر حيال القادم، لكن المواجهة حتمية لا بد منها:
_ انا عاوزه افهم دلوقتي اي نوع الشغل ده؟
رفع حاجبيهِ ساخرًا وردد بتهكم:
_ فضول الستات ده غريب! عمومًا هقولك عشان بس تتعلمي إنك متنبشيش في حاجة ممكن تفضل مجهولة بالنسبة لك وده احسنلك..
نظراتها المرتقبة لا توازي أبدًا انتفاضة قلبها، رأسها الشامخة لا تحاكي حدقتيها المهتزتين، ولكن شحوب وجهها هو ما ماثل ريقها الجاف.. تعلم جيدًا أن ما هي على وشك سماعه لن يكون هين، وبعده سيكون عليها الاختيار إما أن تستمر معه إما أن تكون هذه الليلة هي نهاية قصتهما، والأمر يتوقف على ما ستسمعه الآن.. ولكن ما جهلته أن دلوف وقر "الشيطان" لا يمكن الخروج منهُ!
أُعجب بشجاعتها وإصرارها على معرفة المستتر، فلم يجد مفرًا من الإقرار:
_ بشتغل مع كوزا نوسترا.
هزت رأسها بعدم فهم، وطالعته صامتة، لكنها رأت في عيناه نظرة تعلمها جيدًا، أنه يتلاعب بها! صاحت بضيق وهي تشعر بشيء يطبق على عنقها كاد يخنقها:
_ قولي حاجة افهمها! حسن بلاش طريقتك المستفزة دي!
ابتسم بسماجة وهو يجيبها:
_ ماشي.. كانت آخر محاولة يمكن تبطلي نبش، بس زي ماتحبي! بشتغل مع مافيا إيطالية يا ليلى، ها، ارتاحتِ؟ فضولك هدي؟
دار رأسها فجأة وشعرت أن الأرض تميد بها، استندت بوهن على السراحة التي كانت قريبة منها لحد ما، ونظرت بعيناها أرضًا بعد أن اخفضت رأسها قسرًا من شدة ما أصابها من دوار، لا تستوعب ما سمعته، ولوهلة تمنت لو لم تصر على معرفة الحقيقة، لكن قد فات آوان الندم الآن، رفعت عيناها التائهة له وقالت في حين تتمعن في ملامحه الجامدة:
_ يعني ايه؟ يعني عيشت كل السنين دي مع واحد شغال مع المافيا! عيشت كل السنين دي باكل من حرام أنا وابني؟ عيشت مع واحد مش مسلم!؟
رفض جملتها الأخيرة وهو يعقب بهجوم:
_ مش مسلم ايه؟ قولتلك البطاقة دي مزورة عشان الشغل بس لكن أنا...
لا تعلم من أين أتتها القوة الآن، لكنها وجدت بها قوة تكفي لأن تنهال عليهِ بالضرب حتى تخور قوته أو قوتها! فانتفضت واقفة مقتربة منه حتى أصبحت تواجهه تمامًا وأخذت تشيح بيدها بلا هوادة وصوتها يصرخ:
- مسلم؟ مسلم فين؟ ايه الدليل على إسلامك؟ أنا كل السنين دي ساكتة وبتغاضى وبقول بكره ربنا يهديك، لكن دلوقتي بس فهمت.. المسلم ميقبلش أنه يتقال عليه مسيحي حتى لو تزوير، المسلم مايروحش يشتغل في المافيا ويقتل ويسرق ويأذي الناس، بتقولي مسلم بناءً على أيه؟ امتى صليت؟ امتى صومت؟ انا ولا مرة شوفتك بتعمل حاجة تدل على إسلامك، وكل ما كنت اكلمك في المواضيع دي يا تتعصب عليَّ وتقولي ملكيش دعوة، يا تقولي مش لازم تشوفيني انا معظم اليوم بره وبصلي وبصوم عادي.. ودلوقتي بس عرفت إنك كداب.
اغاظه طريقتها وصراخها ووقوفها أمامه بلا خوف هكذا، لتحتقن عيناه وهو يهتف ببرود رغم غضبه الخفي:
_ ايوه كداب.. يهمك في ايه إذا كنت مسلم ولا مسيحي ولا ملحد حتى؟ الي يهمك الي مكتوب في ورقي عشان جوازنا يبقى سليم، وورقي مكتوب فيه إني مسلم.. حتى شغلي ملكيش دعوة بيه، المهم أنه بعيد عنك أنتِ وابنك ومأمنلكم حياة زي دي.
نفت برأسها بهستيرية وهى ترى أمامها رجلاً لم تعرفه قط، ترى رجلاً لم يكن هو من تخلت عن كل شيء من أجله، ليس نفس الرجل الذي كان يتغنى في حبها، وفعل المستحيل كما كان يقول ليحصل عليها، هل كان ما يقصده بالمستحيل هو عمله مع المافيا؟
_ أنتَ مين؟ مش أنتَ حسن الي سيبت كل حاجة عشانه.. مش أنتَ الراجل الي بيعت جوزي وقبلت يتقال عليَّ ست خاينة عشانه.
خطوة واحدة كانت ما اقتربها منها حتى أصبحت بين قبضتيهِ وهو يمسك ذراعيها بقسوة مرددًا من بين أسنانه والشر يسكن عينيهِ:
_ أنتِ كنتِ حقي أنا من الاول، لولا إن ابويا رفضك ووقف قدامي مكنتيش اتجوزتِ حد غيري، جوزك مين الي بتفتكريه دلوقتي؟
هتفت بصلابة رغم ما بها من ألم أثر قبضته عليها:
_ جوزي الي كان بيشتغل وبيكسب بالحلال، جوزي الي كان مقدرني ومحترمني، بس أنا الي عملت كده في نفسي، انا الي كنت على ذمته وقبلت اتواصل معاك تاني لما عرفت توصلي وجريت زي الهبلة اطلب الطلاق منه عشان اتجوزك.. واهو ربنا بيخلص ذنبه.
ومع آخر كلمة نطقت بها تبعها تأوة عنيف خرج منها جراء صفعته القاسية على وجنتها وهو يهدر بها بعنف:
_ ايه البجاحة دي! واقفه تذكري محاسن البيه قدامي وناسية إنك قدام جوزك! لا وكمان ندمانة إنك سبتيه! أنتِ شكل خبر شغلي أثر على مخك ومبقتيش عارفة بتقولي ايه.
طالعته بحسرة وقالت بمرارة بينما أنزلت كفها من فوق وجنتيها المحمرة:
_ مش بقولك ذنب وبخلصه..
ابتلعت ريقها بصعوبة وهي تلتقط أنفاسها الهادرة:
_ أنا مش هكمل معاك، من دلوقتي حياتنا مع بعض انتهت، مش هقبل يتصرف عليَّ أنا وابني من حرام، ولا هقبل أعيش مع شخص زيك كفاية الي عدى.
_ هعمل نفسي مسمعتش حاجة عشان مزعلكيش.
هكذا أردف قبل أن يلتقط ثيابه ثانيةً متجهًا صوب الحمام، لكنها أوقفته حين أمسكت ذراعه وهي تصر على موقفها:
_ لا سمعت، وهتنفذ.. انا هاخد ابني وامشي.
انهت حديثها متجهة صوب الخزانة الخاصة بها تخرج ثوبًا ملائمًا للخروج، لكنها لا تعلم متى وكيف وجدت ذاتها ملقية أرضًا وقد اصطدم جانبها بحافة السرير لتطلق تأوهُا خافت وهي تمسك بجانبها، وما كادت ترفع رأسها حتى شهقت بفزع حين انحنى عليها ووجهه أصبح مواجهًا لوجهها تمامًا، نظرته وقسوة ملامحه، تقسم أنها رأت لمحة من الشيطان الآن، وصوت الذي استرسل يقول:
_ خروجك من هنا يبقى بتكتبي لنفسك الموت، وابنك هيبقى تحت تصرفي أنا وبس، ووقتها صدقيني لو شايفاني وحش قيراط، فاوعدك إن ابنك هيبقى العن مني.
تهاوت دموعها بعد أن أصبحت عيناها حمراء كالدماء، وهزت رأسها نافية بعنف:
_ لأ، ابني لأ يا حسن ملكش دعوه بيه.
التوى فمه بابتسامة قاسية وهو يقول بلامبالاة:
_ خلاص يبقى تعقلي وتقعدي تراعي ابنك، ووقتها هتطمني إني ماجيش جنبه، لكن لو عندتي صدقيني عِندك هينتهي بموتك وإن ابنك هيكون تحت ايدي.
ولم يكن أمامها خيارًا آخر، تلك الليلة كانت بداية الجحيم بالنسبة لها، ولكن جحيم محيطه لا يتعدى أبواب الفيلا التي تقطنها، أبت أن تترك له طفلها ليشكله مثلما يريد، ولكن لم يعد شيئًا كما كان، هجرته تمامًا ولم تعد هناك علاقة خاصة بينهما، ورغم محاولته أكثر من مرة لكي تكف عن هذا لكنه لم ينجح أبدً في ارغامها.. إلا حين مارس هوايته المفضلة ألا وهي الإجبار والتهديد، وبالطبع كان المقصود "مراد" الذي تحملت الويلات لأجله، حتى أنها تحملت أن تعود زوجة له مرة أخرى بعد عامين من الهجر من أجله هو فقط.. حاولت لأكثر من مرة الهرب، وتحديدًا ثلاث مرات، وكان في كل مرة يُمسك بها، والعقاب لم يكن منصفًا أبدًا، فكان عقابها يكمن في عقاب طفلها "مراد".. مرة بحبسه بغرفة مظلمة، ومرة بضربه، والمرة الأخيرة كانت بجعلة يظل مستقيظًا يومان متتاليان وإن حاول النوم سيسقط في بركة من المياة الساخنة حد الغليان والتي أعدها "حسن" خصيصًا من أجل عقابه، وحينها كفت هي عن المحاولة، فكل مرة تجني الفشل الذي يعود بالخسارة على صغيرها الذي أصبح يعانى الويلات على يد والده، أُجبرت أن تظل معه، وتبقى زوجته وبنفس ذات المنزل فقط من أجل فلذة كبدها "مراد"..
__________________
منتصف يونيو لعام ٢٠٠٦..
" مبقاش غير بنت الخدامة وتلعب معاها"
جملة رغم اسمتاعها لها بوضوح وشعورها بالحزن جرائها، لكنها كانت تشعر بالحزن أكثر عليهِ هو، وتخشى أن تكن سببًا أن يعاقبه أبيهِ عقابًا قاسيًا ذات مرة كما هدده إن لم يبتعد عنها، ولهذا تسللت بخفة على أطراف أصابعها الصغيرة لتصل لغرفته قبل أن يراها أحد من ساكني المنزل، فتحت الباب بحرص كي لا تصدر صوتًا، ودلفت وهي تتلفت حولها تتأكد أن لا أحد يتبعها، رأته يجلس فوق الفراش محتضنًا ساقيهِ لجسده ومستندًا عليهما بذقنه وعيناه شارده أمامه بحزن طفل برئ، لم يشعر بدلوفها لهذا لم يتحرك، فاقتربت منهُ وهي تقول بصوتٍ منخفضٍ:
_مراد أنتَ كويس؟
رفع رأسه فورًا وأشاح نظره لها حين استمع لصوتها، لينهض واقفًا أمامها وتبدلت ملامحه كليًا عما كانت منذُ قليل وهو يسألها مبتسمًا:
_ أنتِ أول مره تيجي أوضتي!
رفرفت بأهدابها الصغيرة وهي ترد ببراءة:
_ ماما قالتلي عيب اطلع اوضة ولد.. بس أنا خوفت تكون زعلان عشان باباك زعقلك وقولت لازم اشوفك.
تنهد بحزن وهو يردف:
_ عادي، مش أول مرة.
_ انا مش عوزاه يزعقلك بسببي، هو قالك أنه مش عاوزك تلعب معايا، خلاص اعمل كده.
أنهت جملتها بدموع ترقرقت في عيناها الصغيرة التي تحمل كمًا هائلاً من البراءة، نظرة حزينة، منكسرة، امتزجت مع دموعها ليرق لها أي قلبٍ حتى لو كان غليظًا.
قطب حاجبيهِ ضيقًا من حالتها ومعرفته لاستماعها لحديث والده المهين عنها، أمسك كفها بكفه الصغير وهو يقول بلطف:
_ بس أنا مش هقدر ابعد عنك، هو عاوزني مكلمكيش حتى، وأنتِ صاحبتي الوحيدة.
تهاوت دموعها وقد بدأت في البكاء بينما قالت بتذكير:
_ بس هو قالك لو عرف إنك بتكلمني هيعاقبك، وأنا مش عوزاك تتأذي بسببي.
رفع أنفه بكبرياء وهو يعقب بضيق جلي:
_ أنا مش صغير عشان يعاقبني، أنا عندي ١١ سنة، هو مش هيقدر يجبرني ابعد عنك، والي عاوز يعمله يعمله.
نظرت له بقلق فهي تعلم جيدًا أنه يخشى والده حتى وإن أراد إثبات العكس لها، لكن ارتجافته أمامه، وخوفه من صوته العالي، واهتزاز مقلتيهِ حين يكذب في حضوره، يعلمها جيدًا أنه يخشاه.. هو فقط يحاول أن يظهر أمامها بصورة الشاب الذي كبرَ فلم يعد يهاب أحد.
تنهدت بيأس فإن أدخل هذا برأسه إذًا لن يتراجع، فحاولت الوصول لحل وسط وقالت مقترحة:
_ طب اي رأيك نتكلم ونلعب وهو مش هنا، ولما ييجي منتكلمش خالص قدامه.
ضيق عيناه بغضب طفولي وهو يردد معاندًا:
_ قولتلك مش خايف منه.
وبأسلوب أكبر من عمرها كانت تستهويه وهي تقول بتبرير كاذب:
_ انا عارفه، بس ممكن يضايق ماما، او حتى يمشينا من هنا، مش بقول عشانك.
من الأساس هو يرتعب من أن يعلم أنه مازال يتواصل معها، لكنه كان يحاول أن يحافظ على ماء وجهه بعد أن علم أنها رأت توبيخ والده له، فيكفي الكم الهائل من المرات التي شهدت فيهم انهياره وبكاءه بسبب والده أيضًا، ودومًا كانت خير مواسية، وخير يد حنونه تترك لمستها بقلبه بمثل هذه الأوقات.
تنهد هادئًا وقال:
_ خلاص ماشي.. بس متخافيش حتى لو عرف مش هسمحله يأذيكِ.
انهى حديثه وهو يمد كفيهِ ليزيل دموعها برفق وحنو بالغين، في حين ابتسمت هي له ببراءة وامتنان لدفاعه عنها رغم ضعفه وقلة حيلته.
وفجأة احتل الحزن وجهها رغم محاولاتها لتبدو طبيعية أمامه، لكنه كان يعرفها أكثر من ذاتها فلم يكن عسيرًا عليهِ أن يلاحظ حزنها، فأردف متسائلاً بصوته الدافئ وهو يمد كفه ليحتضن كفها الصغير:
_ أنتِ زعلانة ليه؟ في حاجة تانية حصلت؟
وفي هذه اللحظة تحديدًا انسحبت من كانت تراقبهما من على باب الغرفة عبر فتحته الصغيرة، انسحبت بعد ان اطمئنت أن ولدها وجد من يربط على قلبه ويهون عليهِ قسوة والده، ولكن هي لن تجد من يفعل هذا.. لقد بلغ اليأس منها مبلغه ولا تجد للفرار سبيلاً، وأكثر ما تكرهه في حياتها البائسه هذه هو جسدها حين يلمسه غير مهتمًا بعدم رضاها، تتمنى بعدها لو تبدل جلدها بجلدٍ آخر، تكره أنفاسه، ولمساته، تكره كل شيء يتعلق بهِ.. وأحيانًا تتعجب كيف للإنسان أن ينتقل من منتهى الحب لمنتهى الكره هكذا! والسؤال لم يعد مهمًا بقدر أنها فعلت، تشعر أن كل يوم يمر يضيق الخناق حول رقبتها ولولا "مراد" لتخلت عن الدنيا بكل مُرها..
علمت أنه كشف حزنها فلا داعي للمراوغة، فأجابته بحزن طفولي:
_ ماما مش موافقة تجبلي فستان جديد عشان عيد ميلادي، بابا وافق بس هي الي رفضت.
قطب حاجبيهِ بضيق من أفعال والدتها التي لا يفهم بعضها أحيانًا، ولكنه لم يرضيه أبدًا أن يراها حزينة هكذا وأن تتمنى شيئًا ولا تناله:
_ عاوزه فستان بينك، وجزمة بيضا، وتوكة فيها ورد بينك..
اتسعت عيناها بذهول طفولي أثار ضحكته وهي تسأله:
- أنتَ عرفت ازاي؟ أنا مقولتش قبل كده.
وبذكاء كان يجيبها:
_ مقولتيش اه، بس متعلقة اوي بآخر عروسة أنا جبتهالك، وكتير قولتِ إن عاجبك الفستان البينك بتاعها والجزمة البيضا، يبقى أنتِ حابه تلبسي زيها.
اومأت برأسها عدة مرات بحماس، سرعًا ما اندثر وهي تتذكر قرار والدتها فقالت بشفاة مزمومة بحزن:
_ بس خلاص بقى ماما قالت إن مش هيجيلي فستان عشان كمان شوية المدرسة هتبدأ وهيجبولي لبس المدرسة.
ابتسم لها بحنانه المعهود واستطاع كالعادة صرف انتباهها عن حزنها حين قال:
_ كبرتِ يا كتكوتي وهتروحي المدرسة؟
عقدت حاجبيها ضيقًا وهي تعقب:
_ مراد، قولتلك مبحبش كتكوتي دي... بعدين أنا خايفة اوي عشان معرفش حد في المدرسة وهبقى لوحدي.
أردفت جملتها الأخيرة بخوف لمع بمقلتيها، ليمسد على كفها الذي مازال أسيرًا لكفه وقال بهدوء:
_ بصي انا كمان لما روحت المدرسة أول مرة كنت خايف، بس بعد كده هتتعودي، المهم انك متخافيش، وكمان مش اي بنت تتكلمي معاها، البنت الي تحسي انها طيبة هي بس الي تكلميها وتبقوا صحاب، وكمان زي ما قولتلك قبل كده ملكيش دعوه بالولاد خالص عشان عيب.
هزت رأسها بتفهم وهي تقر:
_ ماما كمان قالتلي مكلمش ولد عشان عيب.
اومئ برأسه تأكيدًا:
_ ايوه عيب خالص، وكمان انا اتفقت مع مامي أول يوم مش هروح مدرستي وهاجي معاكي.
شهقت بطفولية وهي تقول:
_بجد؟ طب.. المدرس مش هيزعقلك لو مروحتش مدرستك؟
نفى برأسه قبل أن يخبرها:
_مامي هتكلمهم تستأذن، اصلاً اقنعتها بعد كتير اوي مكانتش راضية، بس انا مش عاوز اسيبك اول يوم لوحدك عارف إنك هتكوني خايفة.
اومأت برأسها تأكيدًا، وأقرت:
_ ايوه، رغم إن سارة معايا، بس هي اصلاً بتتريق عليَّ لما بقولها إني خايفة وبتقعد تقول لماما إني بتدلع.
_ سيبك منها أنتِ عارفة إن سارة مبتحبكيش، كمان انا هقول لمامي ونروح نجيبلك فستان لعيد ميلادك.
أردف الأخيرة بحماس وهي ينظر لها بتمعن ليرى ردة فعلها والتي كانت صيحة فرحة وعناق مفاجئ منها لهُ وهي تردد بسعادة:
_بجد! ثانكس يا مراد، انا بحبك اوي، أنتَ افضل صديق بالعالم.
بادلها العناق وثغره يعرف الطريق للابتسام معها هي فقط كالعادة وقال:
_ انا مبعرفش اشوفك زعلانة، وأنتِ كمان افضل صديقة بالعالم.
ابتعدت عنه وابتسامتها تكاد تصل لأذنيهِ، ورددت بنفس السعادة:
_ هنزل أنا بقى قبل ما حد يشوفنا، وعشان ماما شوية وهتخلص شغلها وهترجع الأوضة.
اومئ برأسه موافقًا وهو يبادلها الابتسام:
_ تمام، good night .
ردت له التحية برقة تناسبها:
_ good night.
وانسحب من الغرفة كانسحاب النسيم البارد فجأة تاركًا خلفه السخونة تتسلل مرة أخرى للأجواء، ارتمى بظهره فوق الفراش ناظرًا لسقف الغرفة بشرود، وللعجب لم يقضي ليلته في تذكر قسوة والده والبكاء! بل قضاها يتذكر المشهد الذي دار بينه وبين صغيرته "خديجة "! ضحكتها، حزنها، حماسها، فرحتها، كل هذا صرفه تمامًا عن التفكير في افعال أبيه أو الحزن حتى وهذا ليس بجديد، فهذا ما يحدث كل مرة تكن فيها خديجة هُنا.. في كل مرة اختتم يومه بها، يكن هادئـًا، صافي الذهن، رائق البال.. ولولاها لكان النقيض تمامًا..
--------------
"لم يقتل الحزن أحد" هذه أكثر مقولة خطأ على الإطلاق، من قال أن الحزن لم يقتل أحد؟ فالحزن مدمر، يمكنه أن يقتل وبجدارة، كثيرون لقوا حتفهم أثر أزمة قلبية حادة، أو ارتفاع مفاجئ في ضغط الدم، أو هبوط مفاجئ في الدورة الدموية، أو ذبحة صدرية،أو جلطة دموية أو....، وكل هذا إن بحثت خلفه، فستجد أن تسعين بالمئة من تلك الحالات كان جراء حزن شديد أصابهم، إذًا كيف لم يقتل الحزن أحد؟!
تسللت من جواره بعد أن شعرت بهِ قد خلد لنوم تدعو الله ألا يستفيق منهُ، لفت جسدها بروب قميصها حتى دلفت للحمام، وقامت بغسل جسدها جيدًا، جيدًا للحد الذي يترك أثرًا خلفه من كثرة خدشها له، لكنها لا تهتم، فقط يكفيها الشعور بأن لمساته لها قد أُزيلت، خرجت من الحمام بوهن بدى عليها، ودموعها لم تتوقف، ثلاث سنوات للآن ودموعها لم تتوقف يوم واحد، منذُ تلك الليلة التي كانت بمثابة فتح لأبواب الجحيم لها وهي لم تذق للراحة طعمًا.
جلست فوق الأريكة الموجودة في الغرفة، مطأطأة الرأس ومستندة على ذراع الأريكة بجسدها وصدرها بوهن تام، ودموعها تلازمها، حتى غمغمت بقهر تخاطب ربها:
_ يارب، يارب أنا تعبت، مبقتش قادرة اعيش كل ده، يارب مبقتش قادر اتقبله وأنا عارفه إنه مش مؤمن ولا مسلم حتى، أنا عارفة إنه مش مهتم بالدين أصلاً، يعني عايشه مع واحد كافر ومضطره اكمل وكمان اسمحله يلمسني عشان ابني.. يارب ترحمني وتبعتلي النجدة من عندك، حاسة إن قلبي بيتخنق، وده وجع مش قادرة اتحمله.. يارب الرحمة من عندك، ترحمني بالطريقة الي تشوف فيها رحمة ليَّ، ارحم عبدتك الضعيفة يارب، ضاقت بيَّ السُبل ومبقاش عندي غير رحمتك يا رحمان.
جهشت في بكاءٍ مريرٍ بآخر مناجتها لربها، ولكنها حرصت على ألا يصله صوتها، انتفض جسدها عدة انتفاضات أثر شهقاتها، حتى.. حتى شعرت فجأة بأن قلبها يختنق أكثر كما وصفت منذ قليل، شعرت بأنفاسها تحبس في صدرها وتأبى الخروج ولا تعلم متى وجدت ذاتها أرضًا بعد أن سقطت من فوق الأريكة محدثه ضجة بسقوطها أثر تلك التحفة الفنية التي كانت تُوضع فوق الطاولة الصغيرة التي صدمتها بسقوطها.. وآخر شيء استمعت له للأسف صوته الكريه وهو ينادي باسمها... تُرى هل أتت رحمة ربها بهذه السرعة؟!
بك احيا
ناهد خالد
الفصل الرابع (رَبٍّ رحيمٍ)
"هل يسعد الإنسان بمصيبة ألمت بهِ؟ هل يرتاح لعِله أصابته تبدو للجميع أمر مثير للشفقة ولكن بالنسبة له رحمة كبيرة من ربهُ؟ يفعل، حين تكن في عِلته سببًا للنجاة مما ظن أنه مهلك بهِ"
أواخر سبتمبر لعام ٢٠٠٦..
مسدت على خصلاته بحنو وهو يتسطح فوق الفراش مجاورًا لها، التمعت حدقتيها بامتنان لله تعالى على حالتها التي تبدو بائسة للجميع ولكن بالنسبة لها لقد منَّ الله عليها مرةً أخرى، المرة الأولى كانت حين كشف لها حقيقة زوجها الشنعاء، والمرة الثانية حين أصابها بجلطة دموية تسببت بشلل نصفي تام لها، شلل كان رحمة لها فقد كان سببًا قويًا لابتعاد "حسن" عنها، خشى عليها! وللعجب الشيطان يخشى! ويشعر، وظهر صدقه في حبه لها، فحين أخبره الطبيب أنها إن تعرضت لحزن أو ضغط نفسي أو عصبي مرة أخرى ستتكون لديها جلطة أشد من سابقتها وحينها بلا شك ستودي بحياتها ولن يستطيعوا إنقاذها خشى أن يحدث ما حذره منه الطبيب،فكانت المواجهة حين قرر معرفة السبب الحقيقي وراء تدهور حالتها هكذا، فبالطبع الأمر لا يتعلق بحقيقته التي علمتها فحقيقته تلك تعلمها بالفعل منذُ ثلاث سنوات ولم تصل حالتها لهذا الوضع، وحين واجهها لم تراوغ وهي تقذف بالحقيقة في وجهه..
اواخر يونيو لعام ٢٠٠٦..
بقت في مرضها لعدة أيام مكثتهم في المستشفى حتى خرجت اليوم، ولكن لم تخرج كما دلفتها، خرجت على كرسي متحرك يساعدها على الانتقال بعد أن أُصيبت قدمها اليسرى وذراعها الأيسر بشلل تام مع اعوجاج طفيف في جانب فمها لليسار، كانت آلمها النفسية أكبر من أن يتحملها جسدها الهزيل فأعلن انهياره، في بداية الأمر لم تفهم مغزى أن تُصاب بالشلل عوضًا أن يرحمها ربها وتُذهق روحها، أين النجاة! فستظل تعاني من حياتها معه، ومعانتها ستتضاعف مع عجزها، ولأن حكمة الله لا نراها إلا بعد أن يرى هو ردة فعلاً عمَ أصابنا، فهذا ما حدث معها.. لم تدرك حكمته جلَ وعلَ في بداية الأمر لكنها لم تنقم الوضع، بل دعت الله أن يعينها عمَ بلاها بهِ، وبآخر الليلة الأولى لها في الفيلا بعد عودتها، كان يقف أمامها متسائلاً عن سبب ما وصلت له، ولم تتوانى وهي تخبره بكره تجلى واضحًا بنظراتها:
_ عشان مبقتش متحملة اكون زوجة ليك، مبقتش متحملة تقرب مني وتلمسني غصب عني، كل مرة بحس بسيخ نار بيكوي جسمي وقلبي، أنا هنا بس عشان مراد، واتحملت وبتحمل، لكن الي مقدرتش اتحمله قربك مني، كنت بتمنى وانا بقع إني مقومش تاني، كنت بتمنى يكون ربنا رحمني وخدني عنده، بس.. بس حكمته.
هل رأت نظرة ألم في عينيهِ!؟ بالطبع تتخيل، فهو لا يملك مشاعر حتى لترى نظرة كهذه، ولكن حديثه تاليًا شككها في أن تكون قد رأت تلك النظرة بحق:
_ للدرجادي؟ أنا كنت عارف إنك مش حابة قُربي، بس كنت بقول مع الوقت هتنسي وحبك ليَّ يغلبك وتتقبلي قربي، كنت بقول إني لو بعدت يبقى بصنع حاجز بينا عمره ما هيتشال بالعكس هيقسي قلبك أكتر.. لكن عمري ماتوقعت إنك فعلاً مش طيقاني كده، حبك ليَّ راح فين يا ليلى؟
ابتسمت بألم وهي تخبره:
_ مات، مات من أول ما اكتشفت خداعك ليَّ، من أول ما عرفت إنك معندكش مشاعر ولا ضمير ولا دين، مات مع كل مرة بتأذي فيها ابننا وتعاقبه على غلطي، حتى صورة الأب الي كنت رسمهالك دمرتها، قولي كام مرة عاملت مراد بقسوة، كام مرة أذيته، كام مرة مراعتش إنه طفل صغير وعاقبته عقاب بشع، بعد كل ده جاي تسألني حبي فين؟! أنتَ يمكن من جواك متكنش وِحش يا حسن، بس أنتَ مصمم تكون وِحش.
وكأنه أصبح شخص آخر، بأعين جامدة وملامح مماثلة، وهو يخبرها:
_ من هنا ورايح مش هقربلك، ووجودك في البيت عشان مراد وبس، مش ناوي اكون سبب في موتك.
أنهى حديثه منسحبًا من أمامها، فركض الذي استمع للحديث بأكمله حين اوشك على الدلوف لرؤية والدته، لم يفهم بعض الكلمات، ولكنه فهم أن كل ما يلاقيه من والده بسبب أفعال والدته! وأن ما أصاب
والدته الآن بسبب والده! وكان هذا سببًا جديدًا له ليحمل ذرات جديدة من الكره لوالده.
عودة...
زفرت أنفاسها براحة وهي تردد:
_ الحمد لله يارب إنك نجدتني منه، الحمد لله على رحمتك بيَّ، عمري ما كرهت شللي لمجرد أنه كان سبب في رحمتي منهُ.
عادت تمسد خصلات صغيرها بحزن بعدما أتى بعقلها ما ناله على يد والده اليوم، صفعتان قويتان لا يتحملهما وجه شاب بالغ نالها وجهه الصغير، والسبب أنه رفض تعلم رياضة الكاراتية كما أراد والده، لم يفهم سبب الصغير فهو بات يكره العنف من كثرة ما لقاه من أبيهِ، فلم يحبذ تلك الرياضة، ولكن هيهات أن يخضع والده لغربته، حين تشجع لأول مرة ووقف أمامه معبرًا عن عدم رغبته في ممارسة تلك الرياضة لينال الصفعتان مع صراخ والده عليهِ وهو يخبره أن يتجهز غدًا لأول تدريب له، وبعد بكاء دام لساعتان خلدَ الصغير للنوم بحضن والدته وهو يشكو لها قسوة والده وما بيدها حيلة، حتى اليوم ولسوء حظه لم تكن صديقته معه فقد ذهبت مع عائلتها في زيارتهم السنوية لبلدة والدها، فلم يجدها معه لتخفف عنه تلك القسوة التي يلاقيها..
-------------------
في صباح اليوم التالي..
خرج من باب الفيلا بخطى متكاسلة ورأس مُنكسة أرضًا وأكتاف متهدلة، كل هذا يعلن عن عدم رغبته في الذهاب لِمَ هو ذاهب له، ملامحه الواجمة، الحزينة، لم تؤثر ذرة في والده منذُ قليل حين اجتمعا على طاولة الفطار، بل بالعكس ردد بجمود كأنه لا يهتم لأمره وهو بالفعل هكذا! :
_ يلا عشان السواقك يوصلك، تمرينك الساعة ٧.
وبخضوع مرغم كان ينهض جاذبًا حقيبته التي أعدتها له والدته التي تتابعه الآن بنظرات مشفقة ولكنها حاولت التحدث لحسن أمس حيال الأمر، وكل ما لاقته منه جملة حادة وهو يقول " انا عارف مصلحة ابني فين، ابنك خواف وضعيف ومش هسمحله يطلع كده" وكأنه لم يكن هو السبب في هذا الخوف الذي اختلط بدماء الصغير...
_ مراد.
رفع رأسه على الفور حين سمع صوتها يناديه، ليبصرها جالسة بجوار حوض الزهور وعلى قدمها يجلس شقيقها الصغير "مصطفى" صاحب العامان، تحرك على الفور تجاهها وما إن أصبح أمامها حتى هتف بعصبية دون اعطاءها فرصة للحديث حتى:
_ متكلمنيش وملكيش دعوه بيَّ تاني..
هكذا فقط وانسحب بغضبه الطفولي من أمامها متجهًا للسيارة التي تنتظره، لتسرع واضعة شقيقها أرضًا وهي تلحق بهِ بخطوات راكضة بجسدها الصغير:
_مراد استنى بس.. يا مراد اااه..
تأوهت بألم حين تعرقلت قدماها في أحد رشاشات المياة فسقطت أرضًا وقد تلوث فستانها وقدميها بالطين لأن الأرض لم تجف بعد حيث يُدير والدها هذه الرشاشات يوميًا في السادسة صباحًا..
التف على الفور حين سمع لتأوهها ليجدها ساقطة أرضًا فهرول تجاهها متناسيًا غضبه وجثى على ركبتيهِ أمامها غير مهتمًا بتلطخ ثيابه هو الآخر وهتف بخوف:
_ أنتِ اتعورتي؟ وريني رجلك يا ديجا.
أردف بالأخيرة بحنق حين حاولت الابتعاد بجسدها عنهُ،فقطبت حاجبيها ضيقًا هي الأخرى وهي تعاتبه:
_مش أنتَ الي جرتني وراك؟ وزعقتلي كمان وانا معملتش حاجة!
لاطفها بحديثه وهو يقول:
_ طب ممكن اشوف رجلك الأول بعدين هقولك انا زعقتلك ليه؟!
ورغم امتعاضها إلا أنها تركت له المجال ليرى قدمها أسفل ملامحها الواجمة، اطمئن أنها لم تُصاب بأذى فزفر انفاسه براحة وهو يساعدها على النهوض وجذبها لأحد صنابير المياة لينظف قدمها من الطين، فأردفت وهي تخفض رأسها للأسفل تحدثه:
_ ماما هتضربني عشان الفستان اتوسخ.
رفع رأسه بغتًة حتى أنها رجعت للخلف خطوة بخضة ولكنه جذبها من ذراعها لتعود تلك الخطوة مرة أخرى وسألها بغضب:
_ هي بتضربك؟
توترت ملامحها بشدة وهي تتذكر أنها عزمت ألا تخبره بضرب والدتها لها أحيانًا، لأنه أخبرها ذات مرة إن فعلت والدتها هذا عليها بإخباره وسيتحدث هو مع والدتها ويحذرها أن تكرر فعلتها إما سيجعلهم يتركون العمل لدى والده، ولأنها تخشى والدتها فخشت أن تخبره فيفعل ما عزم عليه وحينها ستلاقي ترهيبًا أشد من والدتها، نفت برأسها وهي تبتلع ريقها الجاف:
_ لأ، مبتضربنيش.
ورمشت بأهدابها سريعًا، وهو يعلم هذه الحركة جيدًا،فعلم أنها تكذب، وما كاد ينهرها على كذبها حتى ارتعد جسده حين استمع لصوت هادر يناديه:
_ مراد!
انتفض واقفًا والتف ليرى والده "حسن" يقف خلفه بعدة سنتيمترات وعيناه تقدح شرًا حين رأى ولده جاثيًا على ركبتيهِ أمام ابنة الخادمة كما يدعوها وينظف قدمها!
ابتلع "مراد" ريقه بخوف جلي من نظرات والده الحارقة، وتقهقر خطوة للوراء بينما عيناه قد اهتزت حدقتيها بوضوح.
اقترب "حسن" خطوتان والشر ينضح من عينيهِ واجزاء جسده المشدوده توحي بمدى غضبه:
_ دي الي قولت مبقاش ليَّ علاقة بيها! بتنحني قدامها يا حيوان وبتنضفلها رجليها!؟
رفرف بأهدابه بتوتر ولم يجد القوة للحديث، وجسده تسللت له البرودة رويدًا من شدة خوفه، استشاط "حسن" غضبًا من صمت "مراد" فصرخ هادرًا:
_ يا محمود.. أنتَ يا زفت يالي اسمك محمود.
أتى المدعو "محمود" مهرولاً من أحد الجوانب، وقد كان رجلاً بسيطًا يرتدي بنطال وقميص مناسبين لعمله كجانيني، ورغم بساطته إلا أن وجهه حملَ قدرًا كبيرًا من الراحة والرضا، هتف سريعًا وهو يهرول تجاه رب عمله:
_ نعم يا سعادة الباشا.
التفت له "حسن" بغضب وهدر:
- البت بنتك دي لو مبعدتهاش عن ابني هتبقى أنتَ وعيلتك كلها بره فليتي، الظاهر إنك نسيت تعلم بنتك متصاحبش اسيادها.
ورغم حنق "محمود" من طريقة الأخير في الحديث عن ابنته، إلا أنه رد كارهًا:
_ أمرك يا باشا.
ولم يكتفي "حسن" بهذا بل التفت للصغيرة يهددها بعنف جعلها تنكمش على ذاتها:
_لو شوفتك قريبة تاني من ابني، بتكلميه او تلعبي معاه هكسرلك رجلك فاهمة؟ ولسانك ده لو سمعتك بتناديه مراد من غير بيه هقطعهولك.. مبقاش غير ولاد الخدامين كمان ويبقالهم سعر!
تهاوت دموع الصغيرة وطأطأت رأسها بانكسار أثناء حديثه حتى جملته الأخيرة فلم تستطع الصمت وهو يهين والديها بهذا اللفظ الذي اطلقه عليهما، وعن "مراد" فلم يرضيه أبدًا حديث والده لها وطريقته الفظه معها لكن خوفه منعه من أن يصدر ردة فعل فوقف يتابع الموقف بغضب داخلي لم يستطع التعبير عنه.
رفعت رأسها قدر المستطاع لتنظر ل "حسن" ورغم خوفها من مظهره الذي لا يوشي بخير، لكنها رددت بكبرياء طفولي:
_ لو سمحت ياباشا متقولش على اهلي خدامين، هم بيشتغلوا هنا بس مش خدامين.
طفلة بعمر الست سنوات تقف أمامه وتناطحه هكذا! ازاد هذا من غضبه ليمتد كفه قابضًا على ذراعها بعنف فحدث ثلاث ردود فعل.. "خديجة" انكمشت بخوف تلقائي مع شهقة مرتعدة خرجت من فاهها، "محمود" هرول ناحية ابنته واقفًا أمام "حسن" وهو يقول خوفًا على ابنته:
_ سيبها يا باشا ابوس ايدك دي عيلة ومش عارفة هي بتقول ايه.
و"مراد" الذي لم يشعر بكفيهِ اللذان امتدان يفصلان بين كف "خديجة" وكف والده، لكنه تيبس أرضًا حين هدر بهِ حسن:
_ متدخلش يا حيوان أنتَ! أنتَ كمان هتقف قصادي عشانها.
وخوفه غلبه لصغر سنه، فترك كفيهما مبتعدًا عنهما وعيناه التي احتقنت بالدموع تحكي الكثير.
خلصَ "محمود" طفلته من يد "حسن" بعد الكثير من الترجي والوعود أنها لن تعاود فعلتها ولن تقترب من "مراد" خطوة..
وانسحبا "خديجة" ووالدها الذي احتضنها كي تكف عن بكاءها، وبقى هو في مواجهة طفله، وقبل أن يتفوه أحدهما بأي شيء كان كفه يطبع صفعة قاسية على وجه الصغير أطاحته أرضًا، ليعاود جذبه من ذراعه موقفًا إياه وهو يهزه بين يده بعنف:
_ده عشان كدبت ومفهمني إن مبقاش ليك علاقة بيها...
صفعة ثانية أقسى طرحته أرضًا فعاود جذبه وكرر المشهد وهذه المرة يقول:
_ ودي عشان معملتش كرامة لنفسك وقبلت تكون تحت رجل بنت خدامة وهِنت اسمك ومكانتك.
وتكرر المشهد للمرة الثالثة بقسوة أشد، وفي الأخير أردف:
_ وده عشان فكرت تقف قدامي عشانها وترفع ايدك تبعد ايدي عنها.. ولو غلط من دول اتكرر تاني، المرة الجاية ال٣ اقلام دول هيكونوا ١٠، سامع يابن وهدان!
وجنتيهِ محمرتان كالدماء، جسده يرتجف كمن أصابته حمى، عيناه استحال لونهما الأخضر للحمار، يشعر بأسلحه حادة تقطع في أنياط قلبه على ما يلاقيه، ومرغمًا هز رأسه بأنه يتفهم ما يمليهِ عليهِ من تحذيرات.
_ روح غير هدومك المعفنة دي عشان تروح التمرين كفاية تأخير كده.
هذا آخر ما قاله قبل أن ينسحب لأحد سياراته..
بخطى واهنة، ورأس مُنكِسة للأسفل كان يدلف للفيلا ثانيًة متجهًا للأعلى لكنه توقف على صوت والدته الذي أتى من غرفة المعيشة يقول:
_ مراد ايه الي رجعك يا حبيبي؟ وايه بهدل هدومك كده؟
كانت الغرفة مفتوحة على ردهة الفيلا بشكل ما فاتاحت لها الرؤية، رفع رأسه مستديرًا لها لترى مظهره ودموعه التي بدأت تتساقط بضعف، لتشهق بفزع وهي تسأله:
_ في ايه يا حبيبي تعالى، تعالى..
رددتها فاتحة ذراعها الأيمن له، لينطلق راكضًا لها مرتميًا بين أحضانها وقد أجهش في بكاءٍ عنيفٍ، ودون أن تسأله ثانيًة رددت هامسة بدموع لم تستطع توقيفها حزنًا على حالة صغيرها:
_ منك لله يا حسن.. منك لله!
---------------
يومان مروا عليهِ وهو يتدرب في تلك الرياضة التي لا يستهواها، يومان كان يتدرب فيهما كارهًا ويأخذ الموضوع بملل، حتى أتى المدرب باليوم الثالث وهو يسأله:
_ تعرف يا مراد ايه فايدة الكاراتية؟
نفى برأسه بلا اهتمام، ليكمل المدرب باصرار لجعله يتقبل هذه الرياضة ويبدع فيها:
_ غير انه رياضة بتخرج الطاقة السلبية والغضب الي جواك، لكنها كمان بتخليك تدافع عن نفسك وتعرف تاخد حقك وقت الضرورة.
وهنا استطاع المدرب لفت انتباه "مراد" الذي رفع رأسه يسأله باهتمام:
_ يعني ايه؟
تحمس المدرب حين وجده قد بدأ يتجاوب معه فقال موضحًا:
_ يعني مثلاً افرض وأنتَ ماشي بليل لوحدك طلع حد عليك وحب يسرقك، لو أنتَ مش متدرب على العاب زي الكاراتية او البوكس او التايكوندو، مش هتعرف تدافع عن نفسك والحرامي مش بس هيسرقك ده ممكن يأذيك وأنتَ عاجز.
التمعت عيناه بشيء خاص فهو لا يهتم للسارق او غيره، بل يهتم لشيء آخر تمامًا، فردد بمغزى:
_ ادافع عن نفسي وعن الي بحبهم!
وافقه المدرب بحسن نية وهو يقول:
_ بالضبط
وباصرار تام وأعين لمعت بها الجدية والعزيمة كان يقول:
_ كابتن أنا عاوز اتعلم كل حاجة في الكاراتية، عاوز اعرف ادافع عن نفسي وعن الي بحبهم..
وكانت هذه نقطة تحول فارقة في حياة الصغير..