رواية نسمة متمردة الفصل الرابع عشر14بقلم امل مصطفي
اقترب أيهم يواسيها، لكنها ابتعدت عن مرمى يده بحدة، أشعرته بالخجل من تهور تصرفه، أردف معتذرًا:
– آسف، أنا... كان قصدي أهديكي.
رمقته بنظرة قوية:
– أنا عارفة قصدك، وعارفة إن حياتك اللي كنت عايش فيها ده عادي، بس أرجوك... ما تخليش ثقتي فيك تضيع.
ثم تابعت وهي تلتفت:
– ويلا، عايزة أصلي العصر.
أخذت حنين وتركته خلفها.
كان ردّ فعلها إعلانًا واضحًا عن ضيقها من تصرفه، حدث نفسه وهو ينظر إلى أثرها:
– أنا لازم أمشي قبل الموضوع ما يقلب حب... أنا بقالي كام يوم بس عارفها، ومشاعري بتروح باتجاه غلط. أنا كده بخون خالتي وصاحب عمري، وأنا مش ممكن أسمح بكده.
******"*""
عاد مروان، وجد والده ووالدته. ألقى عليهما التحية وهو يمرر عينيه في المكان يبحث عنها:
– مساء الخير، هم لسه مرجعوش؟
وجدي: مساء النور.
لترد سهير:
– لا يا حبيبي، أنا كلمت نسمة، و جايين في الطريق.
زفر بضيق، وتوجه للأعلى وهو يتمتم:
– هاخد شاور، يكون العشاء جهز.
دخل غرفته وهو متضايق مما يحدث، لكنه لا يريد إظهار ضعفه أمامها بعد رفضها له في المرة الأخيرة. تنهد بتعب، وجلس على إحدى الكنب. لم يعد يحب غرفته منذ أن تركتها... كأنها أصبحت شيئًا أساسيًا في حياته.
*******
نزل مروان في نفس توقيت دخول نسمة وأيهم، وهما يضحكان.
شعر بنار في جسده من شدة الغيرة، وتمنى لو يستطيع أن يأخذها في حضنه، يمنعها من الابتسام أو الحديث معه.
– مساء الخير.
رفعت سهير وجهها عما بيدها، وهي تبتسم:
– مساء النور. شكلكم اتبسطتوا النهارده.
توجهت لها نسمة، تقبلها بسعادة:
– جدًا جدًا يا سوسو، اليوم كان محتاجك.
والد مروان قال مبتسمًا:
– ربنا يخليك يا أيهم، لأنك رجّعت لنسمة ضحكتها اللي كانت وحشاني بقالها فترة.
شدّت نسمة من احتضان سهير:
– اليوم كان جميل... بس ابن أختك يتخاف منه على البنات!
كل هذا الحوار جرى دون أن يشعروا بمن يقف يتملك منه الغيرة والغضب...
جلس أيهم وقال بابتسامة هادئة:
– أنا برده... دانا اللي خايف على قلبي منك. أنا عمري ما قضيت وقت جميل وخفيف زي ده. أنا حقيقي بشكرك.
لاحظت سهير وجود ابنها واشتعال مشاعره، فقطعت ما يحدث قائلة:
– طيب، يلا عشان العشاء.
رد أيهم ونسمة في نفس اللحظة:
– لا والله، إحنا كلنا قبل ما نيجي.
أكملت نسمة، وهي تنهض:
– أنا حاليًا نفسي أنام... بس هطلع أحمّي حنين و أنيمها. تصبحوا على خير.
ثم التفتت إلى أيهم:
– أوعى تنام قبل ما تصلي العشاء.
تمتم أيهم برضوخ:
– حاضر.
******
رمقه الجميع بتعجّب، وأولهم سهير، وهي تسأل باندهاش:
– أنت بتصلي؟
هتف أيهم بمرح:
– صليت كل فروض النهارده... بأوامر عليا!
شعرت سهير بالخوف على قلب ابن أختها، وابنها الثاني، من حبه لنسمة... وكسر قلبه، لأنها متأكدة من عشق نسمة لمروان.
**********
بينما كانت نسمة تصعد بحنين، تقابلت مع مروان. كانت نظرته لها غريبة لم تفهمها. ألقت عليه التحية:
– مساء الخير.
نظر لها مروان، ولم يرد، ثم تركها وصعد السلم مرة أخرى.
شعرت نسمة بالحزن... فهي كانت تحلم معه بحياة رومانسية سعيدة، وليست تلك التي تعيشها الآن.
********
في الصباح، جلس الجميع على السفرة.
نزل مروان قائلًا:
– صباح الخير.
فأجاب الجميع في صوت واحد:
– صباح النور.
نادا، الخادمة، وهو يمر بجانبهم:
– اعملي لي قهوة و هاتيها المكتب.
توجهت إليه سهير برجاء:
– طب افطر الأول يا حبيبي.
لكنه لم يحِد بنظره عن نسمة، التي كانت تتناول فطورها مع حنين وأيهم، دون أن تُظهر أي اهتمام بغيابه،
ليهتف ببرود:
– مليش نفس.
رقّ له قلب سهير، التي لم تغب عنها نظرته نحو نسمة:
– بس إنت يا حبيبي نمت من غير عشاء...
أجابها وهو يبتعد:
– معلش يا أمي، مصدّع شوية.
ثم تركهم دون أن يضيف كلمة.
أما نسمة، فقد اعتصر الحزن قلبها. كانت تتمنى لو استطاعت منعه عن شرب القهوة قبل الإفطار، لكنه لم يمنحها فرصة.
ظل مروان يتحرك في غرفة مكتبه. كان يتمنى أن ترفض وتطلب منه تناول طعامه أولًا... لكنها مجرد تخيلات لم تحدث.
دخل عليه وجدي وسأله:
– هتعمل إيه في الحفلة؟
رد مروان بثقة:
– أنا مجهّز كل حاجة، ما تشغلش بالك.
ثم تناول قهوته، لكنه لم يحتمل البقاء في المكتب أكثر، توجه إلى حيث يجلس الآخرون.
قال وهو يوجّه كلامه لأيهم:
– اعمل حسابك يا أيهم، الشلة كلها مستنياك النهاردة... وشاهي عايزة تشوفك.
شعرت نسمة بنغزة في قلبها. أما زال على اتصال بها؟
هل يتلاعب بمشاعري؟
هل يستغل حبي له وهو ما زال يكن لها المشاعر؟
بيحبها؟
جلدت نفسها بكلمات قاسية:
– أوعي تحلمي إنك تكوني شيء مهم بالنسباله... ده حتى مش مراعي مشاعرك، وهو بيجيب سيرتها قدامك.
فاقت من شرودها على صوت أيهم:
– إيه رأيك يا نسمة، لما تيجي معانا؟ الجو ده هيعجبك.
تمتمت بصوت مختنق بالحزن، وهي تكاد تبكي:
– مش هينفع... عندي محاضرات بدري.
كانت كلماتها ثقيلة، محمّلة بوجع أكثر من أن يُخفى.
هتف أيهم بإصرار:
– مافيش مشكلة... نروح ساعة ونرجع.
كانت تنتظر منه هذا الطلب، وهذا الإصرار.
لو أن مروان طلب منها الأمر نفسه، لرقصت فرحًا، ووافقت حتى لو كان غدًا يوم تتويجها العلمي. لم تكن لتهتم؛ كل ما يهمها هو تواجدها معه... هو فقط.
لكنها ردّت بإصرار هادئ:
– معلش يا أيهم.
فجأة، هتف مروان بحدّة وغيرة لم يستطع إخفاءها، وهو يوجه حديثه لأيهم:
– سيبها... هي ملهاش في السهرات دي.
فهمت كلماته بالخطاء ونظرت إليه بحزن، ثم قالت بنبرة خافتة:
– عندك حق... السهرات دي ليها ناسها.
ازداد عناد أيهم، وقال بحدة:
– خلاص يا نسمة، والله لو ما جيتي معايا... مش رايح.
تدخل وجدي، مشجعًا بلطف:
– خلاص بقى يا حبيبتي، روحي معاهم، غيري جو. الحفلة فيها بنات وشباب، وجوزك معاكي.
لم ترد أن ترفض أول طلب من والد زوجها، لذلك تمتمت بموافقة، رغم التردد الذي سكنها:
– حاضر يا بابا.
********
عند أحمد
تحدث نادر بصوت مرتفع:
– أنا خارج أكلم أهلي برّه.
خرج أحمد خلفه وهو يردّ بخبث:
– أهلك برضه؟ ربنا يسهله يا عم... عقبالنا!
رد نادر بغيظ:
– هو إنت محدش يعرف يضحك عليك أبدًا؟
ضحك أحمد وهو يهز رأسه بثقة:
– لا، لأني بشغل عقلي... لو كنت هتكلّم مامتك، كنت كلّمتها قدامي عادي، لكن دي مش ملامح واحد هيكلم أمه... ده توتر واحد هيكلم حبيبته.
نفخ نادر بضيق:
– أنا مش هخلص!
ثم ترك الغرفة، وخرج ليتصل بـ لمار.
ردّت بسرعة وكأنها كانت في انتظاره.
قال بلهفة:
– إزيك يا لمار؟ أنا صحيتك؟
تمتمت بخجل:
– لا، أبدًا... لسه مانمتش.
سألها بحنان:
– عاملة إيه؟
– أنا الحمد لله بخير، وإنت عامل إيه؟
– ماشي...
قالتها ثم ساد صمتٌ قصير، قطعته بصوت حزين:
– بابا وحشني جدًا يا نادر...
شعر نادر بصخب داخلي، وازدادت ضربات قلبه من نطقها لاسمه للمرة الأولى.
– إن شاء الله أول ما أرجع، نروح أنا و إنتِ نطمن عليه...
أنا مش هأمن أبعتك لوحدك، وأنا وعدته إنك مش هتروحي هناك خالص.
قالت لمار بصوت مرتجف:
– بس أنا خايفة عليه...
هتف باطمئنان:
– إن شاء الله خير... أنتي وحشتيني يا لمار.
تهرّبت من الردّ وقالت:
– بسمع إن المكان عندكم جميل جدًا.
قدّر خجلها، وردّ بابتسامة:
– فعلًا جميل... لما المشروع يخلص، هاخدكم يومين قبل ما نسلّم السكن.
ضحكت وقالت بمكر:
– بيقولوا الأجانب عندكم بيمشوا بمايوهات!
ضحك نادر بمرح:
– آه والله، حاجة صعبة... بس أحمد لازق في قفايا، يقول لي "غُض بصرك، غُض بصرك"، لحد ما خنقني!
تمتمت بغيرة:
– يعني إنت عايز تبص؟
– لا خالص! أوعي تفهميني صح...
ثم انفجر ضاحكًا.
قالت لمار بغضبٍ مصطنع:
– طيب، ابقى خلّيهم ينفعوك... تصبح على خير.
هتف بضحكة:
– استني يا بنت! أنتي خُلُقك ضيق ليه كده؟ ما توسّعيه شوية!
لم تعرف لمَ تضايقت بهذه الطريقة، فقط تمتمت بضيق:
– طيب يا خفّة... سلام.
ثم أغلقت الخط.
نظر نادر إلى الهاتف بعدم تصديق، وقال محدثًا نفسه:
– آه يا بنت المجنونة! البت دي هبلة ولا إيه؟ قفلت في وشي!
******
في المساء، تجهّز الجميع للخروج، ووقف كلٌّ من مروان وأيهم في انتظار نسمة.
نزلت نسمة وهي ترتدي فستان سهرة أوف وايت، طويل وواسع، يزينه حجاب بسيط زاد وجهها نورًا وجمالًا.
كانت متألقة بهدوء، يشعّ منها سحر أنيق لا يحتاج إلى بهرجة.
نظر إليها مروان بصمت، دون أن ينبس بكلمة.
شعرت نسمة بخيبة أمل، فقد توقعت منه تعليقًا... لمسة إعجاب... نظرة تختلف، لكنها لم تجد منه شيئًا. صمته كان كفيلًا بأن يُطفئ شيئًا من فرحتها.
أما أيهم، فأطلق صفارة إعجاب طويلة، ثم قال بمرح:
– إيه يا بنتي! الشياكة والجمال ده كله!
لو البنات تعرف إن الحجاب بيزيدهم جمال، ماكنتش واحدة خلعته!
ابتسمت نسمة بخجل، ثم قالت بهدوء:
– شكرًا على ذوقك.
***********
وصلوا بعد وقت، وكان في استقبالهم سيف وفريد وشاهي، واثنان من أصدقاء مروان وزوجاتهما.
أمسك مروان يد نسمة بتملّك، مما أشعرها بفرحة كبيرة...
لكن هذه الفرحة ما لبثت أن ماتت في مهدها، حين رأت شاهي تقيمها بنظرة فاحصة
من رأسها حتى قدميها، وكأنها تزنها بعينٍ لا تخفي احتقارها. شعرت نسمة بضيق.
اقتربت شاهي من مروان، وقامت بتقبيله أمام نسمة، ثم فعلت الأمر ذاته مع أيهم، الذي علّق مستنكرًا:
– إيه يا شاهي، مش هتسلمي على نسمة... مرات مروان؟
********
رمقتها شاهي بتعالٍ، ثم قالت ببرود:
– هاي، هي دي بقى؟
لم يرد مروان، وترك الأمر لنسمه فهو يعلم كبرياء أنثاه وأنها لن تسمح لأحد مهما كان مس كرامتها لذلك لم يرد علي شاهي بل تركها وجذب نسمة ناحيته، وسلّم على الجميع.
جلست نسمة، وبدأ الندم يتسلّل إليها... تشعر بالغربة في تلك الجلسة. هنا، ليس مكانها. فالجميع يتشاركون الحياة، الأفكار، وحتى أسلوب اللبس.
لكنها لم تستطع إنكار روعة المكان ورُقيّه، فقد جذب انتباهها من اللحظة الأولى.
كانت شاهي تجلس وهي تشتعل من الغيرة. لقد خدعها مروان عندما سألته عن شكل زوجته، فقال إنها "عادية"،
لكنها الآن ترى أمامها فتاة جميلة، ذات ملامح أجنبية لافتة، رغم خلو وجهها من أي مساحيق تجميل.
ومع ذلك، كانت تعرف كيف تتلاعب... والمستوى الاجتماعي هو السلاح الأمثل للانتقام.
قالت بغرور، وهي تتفحص المكان بنظرة مفتعلة:
– شايفة المكان عاجبك؟
أنتِ طبعًا أول مرة تدخلي مكان زي ده.
تمتمت نسمة لنفسها بسخرية:
هل هي مجنونة؟ تريد إحراجي و كأني من طبقة أدنى؟
ثم رفعت حاجبها بسخرية خفيفة، وأجابت بابتسامة مرحة:
– آه والله، أصل إمكانياتي ما تسمحش بمكان زي ده.
ابتسم الجميع على روحها وتواضعها...
فهي زوجة مروان الفيومي، وهل يوجد أغنى من ذلك؟
ثم أكملت بثقة:
– رغم إنّي بحب الأماكن البسيطة... بتحسي فيها بروح طيبة وجميلة، وألفة من غير مصالح ولا مظاهر كدابة.
بس بحاول أتعود، بما إني بقيت فرد من أفراد الطبقة المخملية!
ازداد ضيق شاهي و غضبها، وهي ترى الإعجاب في عيون الحاضرين تجاه نسمة، من ردودها الدبلوماسية، وهدوء شخصيتها.
قالت شاهي بسخرية مصطنعة:
– و ياترى... الموسيقى عاجباكي؟ أصل هنا مش بيشتغل غير أجنبي.
أجابت نسمة بثقة تناقض غرورها المفترض:
– أنا بحب الأجنبي... والعربي.
ليا ذوق من كل حاجة.
بينما مروان يستمتع إلى أبعد الحدود بثقتها في نفسها، وردودها الذكية المزدوجة التي تعبر عن فطنة وذكاء.
كم تمنى في تلك اللحظة أن يُقبّل يدها... فقط ليعبّر لها عن فخره بأن اسمها اقترن باسمه.
هتفت نهى، زوجة وائل، صديقهم، بإعجاب صادق:
– حقيقي... ذوقك يجنّن يا مروان!
نسمة جميلة جدًا ورقيقة... ربنا يخليكم لبعض.
خجلت نسمة من المدح الذي وُجّه لها، فردّت بذوق:
– شكرًا لذوقك.
وجّه وائل حديثه إلى أيهم، قائلاً:
– وحشتنا قعدتك وهزارك يا أيهم.
سأله فريد بفضول:
– ما جبتش واحدة من صحباتك ليه المرادي يا أيهم؟ أوعى تكون تبت!
ضحك أيهم وهتف نافيًا:
– لا، بس حبيت أكون "فري" المرة دي.
تدخل سيف ضاحكًا:
– كويس... عشان ترسمني زي ما وعدتني.
هتفت نسمة بدهشة صادقة:
– إيه ده! إنت بترسم؟
نظر إليها أيهم بتواضع:
– على قدي...
قاطعه زاهر بحماس:
– لا، ما تقولش كده! ده إنت أحسن من الرسّام اللي رسم الموناليزا نفسها!
هتفت نسمة بدهشة:
– مش معقول! دي خيانة! إزاي ما تقوليش؟
أخيرًا، وجدت شاهي ما تتلاعب به، فابتسمت بخبث وهي تهتف:
– و يقولك ليه؟ لِحقتوا تكونوا أصحاب!
ردّت نسمة بحدة وقوة، نبرة صوتها لا تخلو من الغضب:
–
مافيش صُحوبية بين بنت وولد... إحنا إخوات، وفيه فرق كبير، خلي بالك من كلامك.
تدخلت شاهي بدلال مصطنع وهي تتوجّه إلى مروان:
– شوف يا مروان... بتقول إيه!
نسمة في نفسها، وهي تكتم ضيقها:
طبيعي... هيقف في صف حبيبته. هو كمان من نفس الحياة ونفس الفكر.
كانت تنتظر أن يُصدّق على كلام شاهي، لكنها فوجئت بردّه.
فقد تحدث بهدوء وقال:
– أنا مع نسمة. دي تربيتها، وكل واحد تبع اللي اتعود عليه... وأنا باحترم رأيها جدًا.
*******
مرّ النادل على جميع الطاولات، وهو يسأل باحترام:
– عن وجود أحد يتكلم اللغه الالمانيه فكل الحضور من أصحاب الطبقه المخملية والمدارس الانتر ناشونال ؟
سألته نسمة باستغراب:
– فيه حاجة؟
أجابها:
– فيه ضيوف ألمان، مش عارفين نتعامل معاهم بالانجليزي
.
والمترجم اتأخر في الطريق.
استأذنت من مروان، الذي أومأ بالموافقة، ثم قالت:
– أوكي، أنا جاية معاك.
ذهبت مع النادل، وأخذت طلباتهم ونقلتها إليه بلغة سلسة وواضحة.
رفضت بشدة طلبهم للخمر، وشرحت لهم سبب الرفض بابتسامة لطيفة.
تفهموا موقفها و شكروها على لباقة تعاملها.
عادت نسمة إلى طاولتها، تحت نظرات شاهي الحاقدة.
نظر إليها مروان بتعجب وقال:
– أنا أول مرة أعرف إنك بتتكلمي ألماني!
رمقته بحزن، فهي تعلم الآن كم هو بعيد عنها، لا يعرف عنها شيئًا.
تمتمت بهدوء:
– أنا بتكلم أربع لغات.
علقت هدى، زوجة أحد أصدقاء مروان، بدهشة:
– بس شكلك صغير... لحقتي تتعلمي كل ده إزاي؟
أجابت نسمة ببساطة:
– في المدرسة اتعلمت إنجليزي و فرنساوي، وفي الصيف ، كنت باخد كورسات أنا و أخويا أحمد.
**********
أكد سيف كلام نسمة وهو يهتف:
– فعلاً، أحمد كاتب في الـ CV بتاعه أربع لغات.
ابتسمت نسمة بخجل، بينما كان الحضور لا يزال مندهشًا من بساطتها وعمق ثقافتها.
وفجأة، سألت شاهي مروان بدلال مصطنع:
– ممكن ترقص معايا؟
قام مروان دون اعتراض.
وهذا جرح نسمة بشدة، بل شعرت بالإهانة.
كيف لم يراعِ وجودها، و هيئتها بين أصدقائه، عندما يتركها ليشارك امرأة أخرى الرقص أمام عينيها؟ بقيت وحدها، تئن في داخلها، تندم على مجيئها... تلوم نفسها في صمت.
حتى أيهم، اقتربت منه فتاة تطلب منه مشاركتها الرقص، فوافق دون تردد.
كانت نسمة وحدها، غريبة وسط من اعتقدت لوهلة أنها بدأت تنتمي إليهم.
*******
أثناء الرقص، اقترب مروان من شاهي، ونظر إليها نظرة حادة وهو يهمس بتهديد واضح:
– إلزمي حدودك وإنتي بتتكلمي مع نسمة... عشان ما أعملش حاجة تزعلك.
إحنا لما اتقابلنا في المول قلتلك إني صديق، مش أكتر.
ونسمة مراتي، وحبيبتي، واللي مش ممكن أسمح لحد يتعدى حدوده معاها... فهماني؟
تحدثت شاهي بغيرة وغضب:
– مش هي دي اللي كنت بتقول عليها "عادية"؟!
والكل دلوقتي بياكلها بعينه!
ردّ مروان بغضب لا يخفيه:
– نسمة خط أحمر! وآخر مرة تحاولي تقللي منها قدام حد... وإلا حسابك هيكون معايا.
اقتربت شاهي منه أكثر، وصوتها ينزف دلالًا مكسورًا:
– مالك يا بيبي؟ أول مرة تعمل معايا كده؟ وكل ده... عشان "حتة بنت" زي دي؟!
ضغط مروان على خصرها بعنف.
تألمت بشدة من ضغط يده، وهتفت بوجع:
– مروان... إيدك بتوجعني!
ردّ بحدة، صوته حاسم قاطع:
– ده تحذير... عشان تتكلمي على مراتي بأدب.
ودي آخر مرة أشوف فيها وشك في أي مكان أنا فيه.
جلست نسمه حزينة، تتمنى لو رفض حتى يحافظ على هيبتها أمام الجميع، لكن للأسف لم يكترث لمشاعرها.
نظر إليها مروان، ورأى حزنها، فشعر بألم في قلبه. تمنى أن يحتضنها، لكن قربها كان كاللسعة نار تكويه. لذا تعمد الإبتعاد، متحاشيًا شوقه الذي يحرقه، رغم أنها ما زالت عذراء، لكنه يشعر بالراحة فقط عندما تكون في أحضانه. يصبر عليها لأنه، من الأساس، هو من أوصلهم إلى هذا الطريق.
نهضت نسمه لتسأل عن حنين، ثم ابتعدت إلى مكان هادئ، لكن عيني أيهم ومروان لم تفارقاها، تتابعان كل حركة.
أنهت الاتصال، و التفتت وجدت أمامها شابّين يحاولان الإقتراب. وقبل أن تتحرك...
