رواية نسمة متمردة الفصل الثامن عشر18بقلم امل مصطفي
طرقت نسمة على باب غرفة شرين، وجدتهم مستعدين للرحيل.
تحدثت شرين بابتسامة شكر:
ـ "إزيك يا نسمة؟ وحشتيني."
ردّت نسمة باعتذار:
ـ "إزيك يا شوشو؟ آسفة والله إني غبت عنكم اليومين اللي فاتوا."
هتفت شرين بامتنان:
ـ "كفاية وقفتك معايا يا نسمة، عمري ما أنساها. و البشمهندس سيف كل يوم بيعدّي علينا مرتين."
قالت نسمة:
ـ "طيب، لو جاهزين، يلا علشان أوصلكم وأنا في طريقي."
هتفت شرين بفزع:
ـ "لا كفاية اللي حصل قبل كده!"
دخلت نسمة لتسلّم على والدة شرين، و قبّلت جبينها:
ـ "معلش يا طنط، بنتك رغّاية ونستني أسلّم عليكي."
ضحكت والدة شرين بتعب، بينما شهقت شرين:
ـ "كده يا نسمة؟ أنا رغّاية؟! مخصماكي."
اقتربت منها نسمة قائلة:
ـ "كده يا شوشو؟ فيه واحدة تخاصم أختها؟"
قالت والدتها بدعاء حانٍ:
ـ "ربنا يخليكم لبعض، وما يدخلش بينكم شيطان."
وضعت نسمة يدها في يد والدة شرين، وهتفت بطيبة:
ـ "طب يلا يا قمر نخرج من جو المستشفى الخانق ده."
...
بعد فترة، وقفت نسمة تحت عمارة في حي متوسط، لكن بدا واضحًا الفرق الشاسع بينها وبين سكنهم القديم.
سألت شرين باندهاش:
ـ "إحنا وقفنا هنا ليه؟"
ردّت نسمة باختصار:
ـ "انزلي بس."
نزلت شرين و سندت والدتها، ثم صعدن إلى الدور الثاني. فتحت نسمة الباب و دخلن إلى الداخل. كانت الشقة نظيفة جدًا، وبها أثاث مرتب وأنيق.
أجلست نسمة والدة شرين، وسألتها بابتسامة:
ـ "إيه رأيك يا طنط؟"
ردّت الأم بإعجاب:
ـ "جميلة يا حبيبتي... ربنا يباركلك فيها."
قالت نسمة بنبرة مطمئنة:
ـ "دي بتاعتك إنتي وشرين، يا طنط."
مررت شرين عينيها في المكان، و تمتمت:
ـ "يعني إيه؟"
شرحت نسمة بهدوء:
ـ "أنا قولت إن شقتكم إيجار مش ملك... إيجار بإيجار يبقى مكان تاني أحسن. دي مدفوع إيجارها، و كلمت بابا تشتغلي في الشركة بعد الكلية، علشان علاج طنط، والمكان هنا أحسن. إيه رأيك؟"
...
احتضنتها شرين وبكت بحرقة.
ظلّت نسمة تربّت على ظهرها بحنان، وقالت:
ـ "اهدي يا حبيبتي... إيه حصل لكل ده؟"
رفعت شرين وجهها والدموع تملأ عينيها:
ـ "كل ده و بتسألي إيه حصل؟ مافيش حد أصله وقف معانا، ولا حتى عطاني لقمة عيش... وإنتي تعملي كل ده و إحنا مجرد زمايل؟!"
هتفت نسمة بزعل واضح:
ـ "يعني إنتي معتبراني مجرد زميلة؟"
ردّت شرين بسرعة:
ـ "لا طبعًا، مش قصدي كده! يعني إحنا نعرف بعض من حوالي ثلاث شهور بس، و بنتعامل كأننا أصحاب من سنين.
و أصحابي من سنين، محدش منهم كان بيكلّف نفسه ييجي يطّمن على ماما... عارفة ليه؟ لأنهم بيحتقروا المكان والبيت اللي ساكنة فيه."
رفعت نسمة أناملها تمسح دموعها، وهي تشجّعها:
ـ "طيب يلا، دخّلي طنط ترتاح، وتعالي نضبط الحاجات دي... لأني اتأخرت على حنين."
*******
كانت دموع والدة شرين تسيل في صمت.
بعد صبر طويل، جبر...
أرسل الله لهم من يأخذ بيد ابنتها، ويرفع عن أكتافها حملًا ثقيلًا، كان يكوي قلبها على صغيرتها، التي حملت ما لا يطيقه الرجال.
**********
في المساء، خرج مروان من غرفة ملابسه، فوجد ملاكه تقف أمام المرآة، ترتدي حجابها باهتمام. وقف خلفها واحتضنها، وهمس بجوار أذنها:
ـ "هو جمالك ده طبيعي؟"
تورّد وجهها بخجل.
أكمل وهو يبتسم:
ـ "شكلك بالحجاب تجنن، ومن غيره مفعول جمالك أقوى من زجاجة شامبانيا."
عبثت بوجهها وقالت مازحة:
ـ "أعوذ بالله، بتشبهني بالخمرة!"
ضحك وهو يقبل عنقها من فوق الحجاب قائلاً بتأثير:
ـ "أنا بحمد ربنا أن جمالك ده مش بيظهر لحد غيري، وكويس إنك لابسه حجاب، وإلا كنت لبستهولك بنفسي."
هتفت بتوتر من قربه:
ـ "طب ممكن تبعد شويّة؟ عايزة أخلص لبس."
هتف بمرح وهو يقترب أكثر:
ـ "هو أنا مضايقك في حاجة؟"
زاد توترها، لقد أصبحت تعشق قربه وتتمناه كل لحظة، لكنها ردّت متوترة:
...
مرر مروان عيناه على وجهها الأحمر من الخجل، وعلى عينيها التي تهرب منه، وهمس بمتعة:
ـ "يعني أنا بأثر فيكي."
رفعت عينها تواجهه، وقابلت نظرته الراغبة، ابتعدت بسرعة:
ـ "لا، أرجوك، أنا تعبت من كتر ما بأخد شاور. أنا هبوش كده."
ضحك مروان بكل رجولة وقال:
ـ "حسابنا بعد الحفلة."
**********
وقفت نسمه تتأمله وهو يرتدي ساعته وينثر عطره الأخّاذ. رفع عيونه، فوجدها تتأمله بعشق.
قال مروان مبتسمًا:
ـ "لا كده، أنتي مش عايزاني أخرج من الأوضة النهارده؟"
ركضت نسمه نحو الباب وهي تضحك:
ـ "لا خلاص، أنا خرجت أهو!"
في الحفلة، كان التنظيم رائعًا والحضور مميزًا، وبرامج الحفل مُعدة بعناية.
حضور نسمه كان قويًا وملفتًا، تتحرك بين الحضور بثقة وبراعة. قامت بدورها كزوجة رجل أعمال مهم بإتقان، أدهشت الجميع.
كأنها خلقت لهذا الدور، رغم حيائها الذي جذب الأنظار.
استقبلت الجميع وتعاملت معهم باحترام دون مصافحة بالأيدي.
وقف مروان مع الوفد الفرنسي، محتضنًا نسمه من خصرها، وهي تتحدث الفرنسية بطلاقة.
اعتذرت عن عدم المصافحة وشرحت السبب، فاحترموا رأيها.
بينما كانت آنجيلا، سكرتيرة الوفد، تتحدث مع مروان بإعجاب شديد، وكانت ترمقه بنظرات جريئة، فهو كان مثال الرجولة الطاغية.
بعد إمضاء العقد، هتفت آنجيلا بدلال:
ـ "ممكن مستر مروان كلمة؟"
ابتعد مروان عنها، وكانت عيون نسمه تتابعه بغيرة، وعيون أيهم تتابعها.
التفتت نسمه فوجدت أيهم يقف مع بعض الفتيات، ويضحك بقوة. ابتسمت وتوجهت إليه.
نسمه بمرح:
ـ "أيهم باشا، منور والله!"
ضحك أيهم وهو يرد بمرح:
ـ "أنتِ المنورة الدنيا والله يا قمر."
نسمه بضيق من تصرفاته:
ـ "وبعدين معاك؟ إحنا معانا ناس غريبة ومروان بيزعل."
أيهم بغيظ:
ـ "يا أختي، ما تجيبيش سيرته، مش كفاية؟ خلي الحفلة قرديحي!"
---
ابتسمت نسمه وقد فهمت قصده وقالت:
ـ "لا يا أخويا، ده الطبيعي. إحنا هنا مش في فرنسا. وبعدين، وريني بطاقتك كده."
تعجب أيهم وقال بفضول:
ـ "ما دخل بطاقتي في حواركم؟ ليه؟"
ردت نسمه بمرح:
ـ "عايزة أتأكد أنت مسلم ولا لأ."
ضحك أيهم بقوة، وهو ما لفت نظر مروان الذي ترك آنجيلا وذهب إليهم.
هتف مروان بعصبية واضحة:
ـ "ممكن أفهم إيه اللي بيضحك سيادتك كده؟"
قال أيهم:
ـ "هو فيه حد يوقف مع نسمه ونفسه ما تفتحش للدنيا!"
رد مروان بنرفزة:
ـ "أيهم، بلاش أسلوبك ده. نسمه خط أحمر، مش واحدة من حريمك."
ثم تركه وجذب نسمه إلى مكان بعيد.
سألها:
ـ "ممكن أعرف بيحصل إيه معاكم؟"
أضافت نسمه بتحذير:
ـ "أنتِ ناسية إن فيه صحافة وممكن حد ياخد لنا صورة ويتحفل علينا، وصورتي تتهز."
رد مروان بعدم تصديق:
ـ "أنت أخدت بالك إنت بتقول إيه؟"
ثم هتف بعنف يغذيه غيرته:
ـ "أه، عارف إن أيهم زير نساء، وكل مرة ينزل مصر الصحافة مالهاش سيره غير حريم اللي بيغير. هم زي البدل، ولما مراتي تقف معاه، مليون حاجة هتتقال."
روت نسمه بهدوء:
ـ "لو عمايلك دي غيرة، أنا..."
قاطعها مروان بسخرية:
ـ "أنا أغير من أيهم؟ لسه ما اتخلقش المروان يتحط معاه في مقارنة ويغير منه."
هتفت نسمه بصدمة:
ـ "يبقى كلامك ده شك! وأنا مش ممكن أسمح بكده. أنا فوق مستوى الشبهات، لأني بخاف من ربنا... بعد إذنك."
وقف مروان يتابعها وهي تبتعد، يلعن تسرّعه وإغضابه لها بتلك الطريقة.
جلست نسمه تنفخ بغضب إلى جوار سهير، التي سألتها:
ـ "مالك يا حبيبتي؟ شكلك متضايق."
ردّت نسمه، وهي تحاول رسم ابتسامة مصطنعة:
ـ "أبدًا يا ماما، بس أنا ماليش في الجو ده."
قالت سهير بفخر:
ـ "إزاي ده؟! أنا وبابا مش مصدقين وقفتك الجامدة دي، كأنك مولودة سيدة أعمال!"
كادت نسمه أن ترد، لكنها صمتت فجأة وهي تتابع آنجيلا تتوجه نحو مروان. وقفت نسمه في مكانها مرة واحدة، بينما نظرة سهير اتجهت تلقائيًا إلى مروان، وضحكت قائلة:
ـ "الله يرحمك يا مروان يا حبيبي!"
آنجيلا بدلال:
ـ "مروان، حبيبي، وحشتني كتير، ومش عارفة ألاقيك!"
هتف مروان بعدم اهتمام:
ـ "آنجيلا، أنا اتجوزت، وبحب زوجتي جدًا، ومش ممكن ألمس واحدة غيرها."
اقتربت آنجيلا، ووضعت يدها على صدره بإثارة. لكن فجأة، يدٌ أخرى نزعت يدها بعنف.
التفتت آنجيلا، لتجد أمامها نسمه، ترمقها
بنظرة غاضبة، وقالت بقوة:
ـ "معلش، مسز آنجيلا... مروان ده ملكي أنا، وأنا ما أسمحش لحد يلمس حاجة ملكي أبدًا.
ولو ده اتكرر تاني، هتشوفي وش ما أحبش إنك تشوفيه."
وقف مروان مصدومًا مما يحدث. فقطته أخرجت أظافرها وأعلنت ملكيتها له دون لحظة تردد... وداخل قلبه، شعر بنشوةٍ لا توصف.
********
رجع أيهم من الحفلة وهو يلوم نفسه على تلك المشاعر التي خانته. جلس في غرفته، يدفن وجهه بين كفيه، والندم ينهش قلبه.
ـ "أنا مش عارف أعمل إيه... إحساس الخيانة هيموتني.
ورغم كده، مش قادر أشيلها من تفكيري. كل ما أبعد يومين أرتّب أفكاري، أرجع تاني ملهوف عليكي.
مش عارف إزاي قدرت أخون أخويا وصاحب عمري...
وثقة خالتي اللي جابتني عشان أقرّب بينكم."
كانت الكلمات تخرج منه كأنها طعنات، والندم يخنقه. صراعه الداخلي كان أقوى من قدرته على الاحتمال، لكنه لم يجد إجابة.
*********
دخلت نسمه غرفة الملابس، أخذت قميص النوم وإسدالها وتوجهت لتخرج، لكن مروان وقف في طريقها، يسألها بحدة:
ـ "رايحة فين؟"
أجابته بجمود:
ـ "هَنام مع حنين."
قال مروان برفض قاطع:
ـ "لا طبعًا، ماعدش نوم بره الأوضة دي."
ردّت نسمه بحزن:
ـ "أنا مش عايزة أنام هنا... أنت شكيت فيّ، وده مش ممكن أَغفره."
دفعها مروان للحائط خلفها، وقام بحجزها بين يديه، واقترب منها حد الالتصاق، وقال بصوت متوتر:
ـ "أنتِ بتلوي دراعي يا نسمه؟ بتهدديني ببُعدِك؟"
ردّت بجمود:
ـ "أنا مش بَهدد حد... بس مش ممكن أنام معاك في مكان واحد بعد ما شكيت فيّ.
أنا آه بعشقك... بس كله إلا كرامتي وشرفي.
نزع قلبي أهون من طَعن شرفي."
تأمّلها مروان بذهول مما وصل إليه تفكيرها، وقال بصوت خافت:
ـ "أنا مش ممكن أشكّ فيكي أبدًا.
أنا واثق فيكي أكتر من نفسي.
أنا كان قصدي... أنا غيران عليكي، لكن مش غيران من أيهم."
مرر يده على عنقها، وهتف باشتياق:
ـ "إنتِ حبيبتي... وروحي... وأماني الوحيد.
الفكرة دي عمرها ما مرت في خيالي."
هتفت بحزن:
ـ "سيبني النهارده... حقيقي مش قادرة أكون معاك في نفس المكان."
ابتعد مروان عن طريقها، وظلّا ينظران إلى بعضهما بألمٍ صامت، ثم تركته نسمه وذهبت إلى غرفة حنين.
**********
فتح مروان هاتفه، ليتفقد الكاميرا المثبّتة في غرفة الطفلة. وجدها هناك، تحتضن حنين، وقد غفت الصغيرة داخل حضن أمها الدافئ.
همس لنفسه بأسى:
ـ "يا بختك يا حنين... هتستمتعي بدفء حضنها، وأنا هعاني من الحرمان، والوحدة، وألم الفراق.
كل ده منك يا أيهم... حسبي الله فيك.
مش عارف زيارتك طولت قوي ليه كده المرة دي!"
أسند رأسه إلى الحائط، يغمره شعور بالندم والخسارة... وبقلبٍ يعتصره الوجع، أغلق عينيه على أمنية واحدة:
أن تعود نسمه إلى حضنه، كما كانت.
*****
جلست شاهي تحمل بين يديها إحدى المجلات، وقد تصدّر غلافها صورة لإحدى حفلات رجال الأعمال، وكانت الصورة تجمع بين نسمه ومروان، وتحمل عنوانًا بارزًا:
"ملاك بين رجال الأعمال"
صرخت شاهي بانفعال وهي تهلوس بكلامٍ غير مفهوم. اقتربت منها صديقتها، وقد بدا القلق على وجهها، وسألتها:
ـ "وبعدين يا شاهي؟ هتعملي إيه؟"
ردّت شاهي بغضب يشتعل في عينيها:
ـ "أنا لازم أخرّب حياتهم! ده أنا شاركت في قتل أخته لأنها كانت واخدة جزء كبير من اهتمامه.
تيجي حتّة فلاحه زي دي... تحتل كيانه كله؟ لا! لازم أخلّص منها، بس بطريقة تخليه يندم إنه فضّلها عليّا.
أنا مش ممكن أسيب الفلوس والمركز لوحده زي دي!"
ثم التفتت إلى المرآة خلفها، تحدّق في انعكاسها بوجه مشوّه بالحقد، وتحدثت إلى نفسها كشيطان:
ـ "أنا كنت بتفسّح وبلبس زي الأميرات، والكل بيعملّي حساب بسبب اسمه. دلوقتي ماعادش طايق حتى يسمع صوتي!
هجيب الفلوس اللي بصرفها منين؟"
ردّت عليها جيجي بقلق:
ـ "بس اتصرّفي بسرعة، لأن البنات هيسافروا الأسبوع الجاي."
********
جلس أحمد ونادر بين العمال، تتعالى ضحكاتهم في جو من الألفة والبساطة.
ارتفعت ضحكة أحمد بمرح وهو يهتف للجالس أمامه:
ـ "وبعدين معاك يا محي؟ أنا مش قادر من كتر الضحك!"
تنهد الشاب بغلبة وقال بصوت متعب:
ـ "أعمل إيه يا بشمهندس؟ لو ما عملتش كده هموت من الخنقة."
تحدث أحمد بتشجيع ودفء:
ـ "لا، اضحك وسيبها على الله. هو قادر يغير حالك للأحسن.
كل واحد بييجي له نصيبه لحد عنده، من غير ترتيب ولا حساب... بس قول: يا رب."
رن هاتف نادر، فظهر على الشاشة اسم "لمار". استأذن من أحمد وابتعد قليلاً ليجيب.
كاد يسألها عن حالها، لكن سبقه صوت بكائها الحار، فشعر بالخوف وسألها بقلق:
ـ "مالك يا لمار؟ فيه إيه؟ حد من أهلي ضايقك؟"
ردّت من بين شهقاتها، صوتها مكسور:
ـ "مات... وسابني. مات حتى ما خدتش عزاه...
ليه عمل معايا كده؟ حرمني من وجوده، حي وميت!"
تألم قلبه من حالها، وتحدث بلهفة:
ـ "إهدي يا حبيبتي، وفهميني... إيه اللي حصل؟
إهدي عشان خاطري."
قالت بانكسار:
ـ "بابا مات من أسبوع يا نادر. مات، وهو متفق مع عمي حسن إنه ما يبلغنيش غير بعد أسبوع!
وأنا اتصلت بيه، وبلغني.
كنت نفسي أشوفه، وأحضنه لآخر مرة.
ليه عمل كده؟ أنا بموت من فراقه..."
هتف نادر بحزن عميق:
ـ "البقاء لله... ربنا يرحمه.
أنا بكرة هكون عندك، ما تقلقيش.
هنروح نقرأ الفاتحة، وتقعدي جنبه، تحكي له كل اللي جواكي... لحد ما ترتاحي."
عاد نادر بخطوات متسارعة نحو أحمد، وجهه يحمل مزيجاً من الحزن والتوتر. اقترب منه وهمس:
ـ "والد لمار توفي من أسبوع... وهي منهارة."
نظر إليه أحمد بدهشة واضحة، وقال باستغراب:
ـ "إزاي من أسبوع وإحنا منعرفش؟"
تنهد نادر وأجاب:
ـ "ده كان طلبه... بس أنا محتاج أكون معاها، حالتها صعبة جداً."
أشار أحمد برأسه وقال بحسم:
ـ "خلاص... الصبح تسافر."
لكن نادر هتف بقلة صبر:
ـ "لا، عايز أروح دلوقتي."
أحمد، وهو يرمقه بنظرة مليئة بالحنان، قال مبتسماً:
ـ "حبيتها يا نادر؟"
تلعثم نادر للحظة قبل أن يرد بتوتر:
ـ "حبيت مين؟!"
ابتسم أحمد بهدوء وأردف:
ـ "اللي مش طايق تستنى للصبح عشان تطمّن عليها."
لم يعد هناك مجال للهرب، تنهد نادر بعمق وكأن اعترافه يحمل ثقلاً على قلبه وقال:
ـ "أحمد... أنت أخويا وصاحبي، مش عارف أقولك إيه.
بس... أنا بقيت بفكر فيها، دايمًا مشتاق لها، وعايز أسمع صوتها.
في عز تركيزي، ألاقي صورتها قدامي.
ولما سمعتها بتعيط، حسيت بقلبي عايز يخرج من بين ضلوعي ويروح يهديها، عشان يطمن... ويهدي هو كمان."
سكت لثوانٍ ثم أكمل:
ـ "حاجات كتير جديدة عليّ... مش عارف ده إعجاب ولا حب."
ضحك أحمد بخفة وهو يربت على كتفه:
ـ "لا، دانت حالتك صعبة! خد مفتاح العربية واتوكّل على الله...
وخد كمان مفتاح الشقة، لأن البيت عندكم صغير، وأكيد هتحتاج مكان ترتاحوا فيه."
احتضنه نادر بحرارة، وقال بإمتنان:
ـ "ربنا يخليك ليا يا صاحبي."
عادا معاً إلى حيث يجلس العمال، وهتف أحمد معتذراً:
ـ "معلش يا رجالة، مضطرين نمشي... حما نادر توفّى."
وقف الجميع يواسونه، يقدمون له التعازي والدعوات بالرحمة للراحل.
تحرك نادر مسرعاً، لا يحمل معه سوى قلب مثقل، ووجهة واحدة... لمار.
********
نزل أيهم من سيارته، ليجد شاهي واقفة أمامه. لم يتمالك نفسه، وهتف بضيق:
— "خير يا شاهي؟ جاية ليه؟"
ردّت بصوتٍ يحمل الغضب والاحتقان:
— "جاية أشوف آخرتها مع صاحبك اللي مش طايق يسمع صوتي ولا يشوفني، من ساعة حتّة الفلاحة دي ما دخلت حياته!"
تنهد أيهم ببرود، قائلاً:
— "سيبيهم في حالهم يا شاهي. هو بيحبها وهي بتعشقه، وأنا وإنتي عارفين إنك عمرك ما حبّيتي مروان... شاهي بتحب الفلوس، وشاهي وبس."
أكمل بهدوء:
— "سيبيهم في حالهم، ومش صعب عليكي توقعي واحد غني يصرف عليكي وتاخدي كل حاجة إنتي عايزاها."
رمقته شاهي بنظرة حاقدة، وقالت بغلّ:
— "أنا أسيب؟ آه بمزاجي. لكن ماحدّش ياخد مني حاجة هو عايزها، أبداً... حتى لو هخرّب الدنيا على الكل."
هتف بحدة وتحذير، بطريقة لم تعهدها منه من قبل. فذلك الدنجوان المرح، الذي لا يفكر إلا في نفسه ومظهره، اختفى لحظة، ليحلّ محله رجل حاسم:
— "كله... إلا نِسمة! لو فكّرتي تأذيها، هتشوفي مني وش عمرك ما كنتي تتخيلي إنه موجود."
ضحكت شاهي ضحكة خليعة، وقالت بسخرية:
— "أوبس! مش ممكن... أيهم، زير النساء، واقع لشوشته! وفين؟ في مرات أخوه وصاحب عمره؟ دي طلعت مش سهلة."
ردّ أيهم بحدّة، وقد علا صوته بانفعال:
— "إيه التخاريف دي؟ أنا عمري ما أخون مروان، أبداً... مهما كانت الظروف!"
نظرت له نظرة خبيثة، كأنها تخترقه، وهمست بثقة:
— "أنا أعرفك... عزّ المعرفة، يا أيهم."
اقترب منها فجأة، وبدون مقدمات، أمسك بذراعها وضغط عليها بقوة، نظراته مشتعلة بالتهديد.
