رواية نسمة متمردة الفصل التاسع عشر19بقلم امل مصطفي
وصل نادر عند الفجر.
دلف إلى الداخل بهدوء، ووجد الجميع نيامًا. تسلل بصمت حتى لا يوقظ أحدًا. رآها نائمة على الكنبة، ودموعها لا تزال على وجنتيها. اقترب منها وظل يتأملها.
همس بحب:
"وحشتيني يا لمار..."
أعطى ظهره لأخته، ثم انحنى يقبّل وجنتها وهمس بجوار أذنها:
"اصحي يا لمار، أنا جيت."
فتحت لمار عينيها، وحين رأته أمامها، ارتمت في أحضانه وبكت بألم.
أغمض نادر عينيه بقوة، فهو يقترب من فتاة بهذه الطريقة لأول مرة. همس لها:
"فين إسدالك؟"
جذبها معه إلى الخارج.
سألته وهي تسير إلى جواره:
"إحنا رايحين فين؟"
ضغط على يدها بحب، وفتح شقة أحمد ودلف إلى الداخل. جذبها إلى أحضانه بقوة:
"آه يا لمار، لو تعرفي وحشتيني قد إيه... كنت هتجنن وأشوفك."
تورّد وجهها بحمرة الخجل، ولم تستطع الرد.
استكانت في أحضانه، وكان يعتذر لها عن تقصيره في حقها.
ابتعد عندما شعر بفوران مشاعره، وقال:
"آسف يا لمار... دي مشاعر جديدة عليا، اتولدت بيكي، وعشانك إنتِ بس."
أجلسها على الكنبة وهو ما زال يحتضنها، وظلّا يتحدثان حتى غفوا في أحضان بعضهما.
**********
وقفت نسمة أمام المرآة تسرّح شعرها.
وفجأة، سمعت للمرة الأولى صراخ حنين، صراخًا هزّ أركان المكان. ركضت بسرعة إلى خارج الغرفة.
كان مروان في مكتبه، وما إن سمع الصراخ حتى خرج مسرعًا هو الآخر.
رأى شاهي تقف أمام حنين، ووالدته تحاول تهدئتها، لكنها لم تستجب. حتى مروان، بكل حضوره وهيبته، لم يستطع تهدئتها.
نزلت نسمة الدرج بسرعة، وقد نسيت تمامًا ما ترتديه. كانت ترتدي چيب جلدي قصيرفوق الركبة، و توبًا من نفس الخامة، بلون أحمر ناري. كان شعرها منسدلًا بنعومة، يزيد من جاذبيتها.
جلست على ركبتيها لتكون في مستوى حنين، وأخذت تبحث في جسد الصغير عن أي موضع قد يؤلمها.
وعندما لم تجد شيئًا، احتضنتها بحنان العالم كله. هدأت الطفلة وسكنت بين يديها.
لكن نسمة لم تلحظ تلك العيون التي كانت تتابعها بصمت، بدهشة، وصدمة.
لم يكن يتخيّل أن تلك الفتنة المتحرّكة تخفي خلف ملابسها الفضفاضة هذا الجمال الطاغي.
جسدها كان منحوتًا بطريقة تبهر الأعين، وذلك الرداء كان يرسم معالمه بإثارة خفية.
تواري خلف الحائط، لا يريد أن يعلم أحد بأنه رآها في تلك الهيئة المذهلة.
**********
وفي مكان آخر، كان مروان يتحدث بغضب اشتعل في صدره بسبب حالة ابنة أخته:
— "إيه جابك هنا؟ مش إنتهينا من الموضوع ده خلاص؟!"
اقتربت منه وهي تتحدث بدلال:
— "جايه أشوف حبيبي... اللي مش بيسأل على حبيبته."
ثم أردفت، وقد تغير نبرتها إلى الحقد:
— "موضوعنا صعب ينتهي... أنا مش ممكن أسيب واحدة زي دي تاخدك مني، مهما حصل. حتى لو اضطريت... أقتلها!"
هجم عليها مروان، وأمسك بذراعها بقوة، فتألمت، وهمس لها بشراسة:
— "جربي بس تقربي منها... ويكون آخر يوم في عمرك. فاهمة؟"
ثم دفعها بقوة، فسقطت أرضًا.
**********
حاولت نسمة الوقوف وهي تحمل حنين، لكنها صرخت بقوة وجثت أرضًا من جديد.
التفت لها مروان سريعًا عندما سمع صرختها، وسأل بقلق:
— "مالك يا نسمة؟"
أجابت بدموع:
— "مش قادرة أقف... رجلي بتوجعني جدًا."
نظر مروان إلى قدمها، فوجد الدماء تغطي الأرض حولها. انحنى نحوها بخوف:
— "أنتِ اتخبطتي في رجلك؟"
هتفت باكية:
— "مش عارفة... لما سمعت صرخة حنين اتفزعت، ومش عارفة إيه حصل!"
أخرج مروان منديلاً وبدأ يمسح قدمها برفق، لكنها صرخت من شدة الألم.
فزع مروان عندما رأى قطعة زجاج كبيرة مغروسة في قدمها، فحملها فورًا بين ذراعيه:
— "ماما، اتصلي بالدكتور مصطفى بسرعة!"
لكن صوته توقف عندما سمعها تقول:
— "استنى... عايزة حنين معايا."
ردّت سهير بهدوء:
— "أنا هطلّعها."
لكن نسمة رفضت بعناد:
— "لا، هاخدها معايا."
قامت سهير برفع حنين إلى حضن نسمة، التي ضمّتها بقوة رغم الألم.
وفي الخلف، كانت شاهي تراقبهم بنظرات مليئة بالحقد والكره.
التفتت إليها سهير بابتسامة باردة:
— "أظن وجودك معدش ليه لزوم... اتفضلي بره."
ردّت شاهي، ونبرة الحقد تتقطر من صوتها:
— "عارفة إنك فرحانة... لأنك أخيرًا اتخلصتي مني.
بس صدقيني... فرحتك مش هتطول."
************
---
كان يعمل باجتهاد شديد على اللاب أمامه، يحاول إنهاء كل أعماله، عندما رن هاتفه. نظر إلى الشاشة، فوجد رقم "شهد" يضيء. رد بسعادة:
— "السلام عليكم، إزيك يا شهد؟ أخبارك؟"
جاءه صوتها الهادئ:
— "الحمد لله... أنا قلت أتصل بيك بدل ما أنت مش عايز تطمّن عليّ."
ردّ بحب:
— "أبدًا يا حبيبتي، بس والله مشغول."
سألته بإحباط:
— "يعني مش فاضي نتعشّى مع بعض؟"
وقف أحمد فجأة، غير مصدّق:
— "بجد؟ أنتي هنا؟ في شرم؟!"
هتفت بسعادة:
— "آه، لسه واصلة حالًا... ها، فاضي ولا؟"
بدأ يجمع أشياءه بسرعة وهو يقول:
— "ثواني... وأكون عندك."
*********
انتظرته شهد نصف ساعة بتوتر.
وحين أتى، قابلته بابتسامة كبيرة، وتمنت لو تضمه وتشعر بدقات قلبه.
أما هو، فاحتضنها بعينيه... بنظرة عاشق ولهان.
اقتربت منه، وهمست:
— "وحشتني يا أحمد."
هتف بعشق:
— "وإنتي أكتر... يا قلب أحمد."
ضحكت وقالت:
— "أنا بحب الكلمة دي منك، بحس إني ملكت العالم... ما تحرمنيش منها."
ابتسم لها:
— "أنا بقولها عشان قلبي عارف إنه عايش... بسبب حبيبته اللي بيستناه."
قالت برجاء:
— "أوعي تتنازل عني يا أحمد، مهما واجهت."
نظر لها بحنان:
— "أنا عمري ما هسيبك مهما حصل... حتى لو اضطرّيت أخطفك ونبعد خالص عن الكل.
ما تتخيليش أنتي بالنسبالي إيه... وما أتحمّل بعدك إزاي."
ثم سألها بفضول:
— "أنتي جاية مع مين؟"
أجابته بخوف من رد فعله:
— "لوحدي."
نظر لها بحدّة:
— "نعم؟ يعني إيه لوحدِك؟!"
قالت مترددة:
— "ما كانش حد موجود في الفيلا من يومين... قلت أجي أشوفك، ركبت العربية وجيت."
وقف يتحدث بغضب:
— "يعني سايقة كام ساعة لوحدِك بالليل؟!
افرضي حصلّك حاجة؟ أو قابلك شباب ضايقوكي زي قبل كده؟
هيكون إيه العمل؟
اللي حصل ده غلط...
لو ماكنتش مقدّر مجيئك، كنت سبتك ومشيت!"
شعرت بالخوف من غضبه، وزاد توترها من فكرة تركه لها، فهتفت بحزن:
— "أنا آسفة، والله مش هكررها تاني... بس ماتزعلش."
لم تجد منه ردًا، وأدار وجهه عنها إلى الجهة الأخرى.
تحدثت وهي تبكي:
— "لا، أوعى تخاصمني... زعّقلي، اضربني،
بس بلاش تخاصمني... أرجوك!"
رقّ قلبه لدموعها، فقال مستأنفًا الحديث:
— "خلاص يا شهد، ما تعيطيش...
بس دي آخر مرة تتصرفي لوحدِك.
أنا خايف عليكي."
أومأت برأسها، وقالت:
— "أنا عارفة، ومش هكررها تاني...
ومش أنا اللي أمد إيدي على واحدة!
تخيلي... حبيبتي ومراتي."
***********
دلف نادر ولمار إلى بيت والده، فوجد والده ووالدته يجلسان في الصالة.
سأله والده متعجبًا:
— "أنت رجعت إمتى؟... وإنتِ نزلتِ إمتى يا لمار؟"
تورّد وجه لمار من الخجل، ولم تعرف ما تقوله.
تدخل نادر سريعًا وقال:
— "أنا جيت من ساعتين، ولقيتها بتعيّط... فاخدتها تتمشى شوية علشان تهدّى."
قالت والدته بأسى:
— "آه يا حبيبي، من ساعة ما عرفت الخبر ودموعها ما نشفتش."
اقترب نادر من والدته، فاحتضنها وقبّل رأسها، ثم صافح والده وقبّله أيضًا.
قال والده بحنو:
— "حمد الله على السلامة يا حبيبي."
أجابه نادر بابتسامة:
— "الله يسلمك يا بابا... معلش، ماجبتش حاجة للبنات،
بس أول ما يصحوا هاخدهم وأجبّهم كل حاجة نفسهم فيها."
رد والده بسعادة:
— "ربنا يخليك لينا يا حبيبي."
قالت لمار بهدوء:
— "أنا هدخل أجهز الفطار."
ابتسم لها نادر، ثم التفت إلى والده وقال:
— "أنا عايزك يا حج بعد الفطار... في موضوع."
*********
وضعها مروان على السرير بهدوء واهتمام، حتى لا تتألم، ثم قال مطمئنًا:
— "حبيبتي، الدكتور على وصول."
تكلمت من بين دموعها، بصوت خافت:
— "ممكن إسدالي... وشراب؟"
ساعدها مروان في ارتداء إسدالها، ثم سألها بتعجّب وهو يرفع الشراب بين يديه:
— "بس الشراب ليه؟ ورجلك كده؟"
***********
هتفت بهدوء وثقة:
— "واحدة هلبسها في رجلي السليمة... والتانية هقص كعبها وألبسها في رجلي المصابة.
عشان لما الدكتور يرفع رجلي، جسمي ما يبانش."
نظر لها بإعجاب شديد... فقد كانت تهتم بأدق تفاصيل حيائها وتدينها.
وصل الطبيب، وبعد أن كشف على قدمها، قال بأسف:
— "آسف يا مروان باشا، المدام لازم تروح المستشفى. الجرح كبير وعميق، ومحتاج أشعة وتنضيف.
ممكن يكون فيه بقايا زجاج جوّه اللحم، ومش هيبان غير في الأشعة."
************
بعد فترة، كانت سهير وحنين وأيهم يجلسون خارج الغرفة، بينما رفض مروان تركها وحدها.
جلست نسمة على السرير، وكان مروان يمسك يدها بحب وحنان.
قال الطبيب أخيرًا:
— "الحمد لله، كله تمام.
بس طبعًا... ممنوع الحركة لمدة أسبوع أو عشرة أيام.
وده مسكن، لأن مفعول البنج هيروح و هتحسّي بوجع.
وكمان 3 أيام، هاجي أفك السلك."
***********
حملها مروان و توجّه بها إلى الخارج.
تألم أيهم عندما رأى قدمها الملفوفة، لكنه ابتسم ليخفف عنها، وقال:
— "سلامتك يا نسمة."
ردّت بابتسامة خفيفة:
— "الله يسلمك يا أيهم."
وضعها مروان على السرير، وأتت الخادمة بالطعام.
جلس جوارها، وقال برقة:
— "يلا يا حبيبتي، كلي وخدي علاجك."
هتفت بتوتر من قربه:
— "معلش... هاخد العلاج بس."
ابتسم بحنان:
— "ماينفعش يا قلبي، ده مضاد حيوي شديد...
وأنتِ كمان نزفتي كتير."
استجابت له،
وبدأت تأكل، بينما كانت حنين في حضنها، تقوم بإطعامها برقة واهتمام.
أنهت طعامها بهدوء.
اقترب منها مروان، وفي يده الدواء وكوب ماء.
ناولها إياه، وعندما انتهت من شربه، انحنى ليقبّلها، لكنها ابتعدت.
تنهد مروان بضيق. كانت عنيدة، ولم تنسَ أنها تركته منذ الحفلة.
قال بيأس:
— "برضه مصمّمة تبعدي؟"
لم يجد منها ردًا.
ابتعد عنها، وقال ببرود:
— "براحتك يا نسمة."
ثم خرج من الغرفة، تضيق أنفاسه من الغضب.
