رواية احببتك حتي انطفائي
الفصل الاول1
بقلم ماسه الحريري
في الزمان الذي كان يزحف فيه ضوء الشمس ببطء عبر نافذة لمى، كانت روحها تتنقل بين أحلامها وواقعها. كانت تجلس هناك، على كرسيها الخشبي في زاوية الغرفة، تحمل بين يديها قلمًا تنقله بحركات خفيفة فوق الورق. تلك الورقة كانت صندوقها السحري الذي يخفي فيه كل أفكارها، مشاعرها، حتى تلك اللحظات التي تعجز عن التعبير عنها.
في عمق قلبها، كانت هناك مساحة فارغة، شعور يملؤها لكن لا تعرف مصدره. هل هو فراغ الحب؟ أم شعور بالوحدة؟ أم هي فقط تلك اللحظات التي تجد نفسها فيها بلا وجهة، بلا هدف؟ على الرغم من أنها تعيش في مدينة ساحلية جميلة، يشعرها البحر دائمًا بالوحدة، وكأن كل موجة تلامس الشاطئ تسحب معها جزءًا من نفسها.
"لمى، أين أنتِ؟" فجأة، قطعت صوت أفكارها صوت والدتها التي دخلت الغرفة.
رفعت لمى رأسها بتثاقل وأجابت بصوت منخفض، وكأنها لم ترد أن تزعج هدوء لحظتها:
"هنا، أمي. فقط كنت أفكر في شيء."
اقتربت والدتها منها، وهي تبتسم برقة:
"أنتِ تكتبين، أليس كذلك؟"
"نعم، أكتب."
لكن لمى كانت تعرف أنها لا تكتب فقط، كانت تحاول أن تجد شيئًا في الكلمات التي تخرج من قلبها. أحيانًا كان الأمر يبدو لها كأنها تبحث عن شيء مفقود، شيء لا تعرف كيف تلتقطه إلا عبر الحروف.
"أنتِ تحتاجين إلى التغيير، لمى. ربما لو خرجت قليلًا من هذا البيت، ذهبت إلى المعرض الفني الذي يقام في المدينة. هناك شيء مميز عن هذا المعرض. اسمعي، ستجدين فيه بعض اللوحات التي قد تُلهمك، قد تمنحك فكرة جديدة."
تردد في قلب لمى شعور غريب. لم تكن تحب أن تبتعد عن مكانها هذا، عن عالمها الذي تخلق فيه أفكارها. لكن، في النهاية، وافقت على مضض. ربما كانت بحاجة لهذا التغيير، حتى لو كان مؤقتًا.
وصلت إلى المعرض في وقت متأخر من الظهيرة. كان المعرض هادئًا، والهواء هناك مليء برائحة الألوان والفرشاة. كانت اللوحات تتناثر على الجدران بألوانها المختلفة، كل واحدة تحكي قصة. لكن شيء ما كان يربط بينها وبين إحدى اللوحات بشكل خاص.
كانت لوحة كبيرة في الزاوية تجذب كل انتباهها. صورة امرأة تجلس في الظل، عيونها مليئة بالحزن والألم، وكأنها تبحث عن شيء مفقود في هذا العالم. لم يكن مجرد ألم، بل كان هناك شيء أعمق. كان هناك نوع من الشوق، نوع من الفقد الذي لا يوصف بالكلمات.
آدم، كان اسم الفنان مكتوبًا بخط صغير أسفل اللوحة. كانت الحروف متشابكة وكأنها تخفي وراءها شيئًا غامضًا. تجمدت لمى في مكانها، كأن قلبها بدأ ينبض بشكل أسرع. لم تكن تعرف لماذا، لكن تلك اللوحة كانت تذكرها بشيء عميق، شيء لم تكن تستطيع تحديده. كأنها كانت تلمس جزءًا من روحها المفقودة.
بينما كانت تتأمل اللوحة، شعر أحدهم بأنها تراقبها. التفتت لتجد شابًا يقف على مقربة منها، ينظر إلى اللوحة ذاتها. كان يحمل فرشاة في يده، وعيناه مليئتان بالحزن. لم تكن تعرف لماذا، لكنها شعرت بشيء غريب في تلك النظرة، شيء جعل قلبها يهتز.
قال بصوت منخفض، لكنه وصل إلى أعماقها:
"هل تعرفين أن هذه اللوحة ليست مجرد رسم؟ هي جزء من حياتي، من تجربتي. كنت أبحث عن نفسي فيها، وأنا لا أزال أبحث."
كان صوته يحمل في طياته ما لا تستطيع الكلمات شرحه. نظرت إليه لمى بفضول، شعرت أن هناك شيئًا غامضًا في عينيه، شيئًا يشبه الحزن، لكنه أيضًا يحمل قوة غير مألوفة.
"أنا لم أكن أبحث عنك في هذه اللوحة... لكن، ربما كنت تبحث عني."
قالتها لمى بصوت خافت، وكأنها لا تستطيع أن تتحكم بالكلمات التي خرجت من قلبها.
رفع الشاب نظره إليها، وحين تلاقيا العيون، شعر كل منهما بشيء غريب، وكأن هناك رابطًا غير مرئي يجذبهم نحو بعضهما.
"آدم." قال وهو يمد يده تجاهها، كانت يده ترتجف قليلاً.
"لمى." قالت، ولم تستطع منع نفسها من الابتسام رغم الحزن الذي كانت تشعر به في قلبها.
وتبدأ اللحظات تتسارع، وكأن الزمن قد توقف، ومعه كل شيء آخر. كانت عيناها تلتقيان بعينيه، كل منهما يشعر بشيء لا يستطيع تفسيره. هل كان هذا هو الحب؟ أم كان مجرد بداية لشيء آخر؟
كان الحديث بينهما بسيطًا، لكنه يحمل معاني عميقة. جلسا معًا لعدة دقائق، يتحدثان عن الفن، عن الحياة، عن آمالهما وآلامهما. وكان كل لحظة تمر تزيد من هذه المشاعر التي تبدأ بالنمو داخل قلبيهما. لم يكن هناك كلام واضح عن الحب، لكنه كان شعورًا بدا كأنه يتسلل بين كلماتهما، بين نظراتهما.
"أنتِ لا تعرفين، لمى." قالها آدم بنبرة هادئة، بينما كان يخطط لخطوط جديدة على لوحته. "لكنك تجعلينني أؤمن أن هناك شيء جميل في هذه الحياة، رغم كل الألم الذي نمر به."
فجأة، شعرت لمى بشيء غريب في قلبها، وكأن كلمات آدم لامست شيئًا عميقًا في روحها. كانت هناك في تلك اللحظة، وهي تشعر بالتيه، وبالحب الذي بدأت مشاعره تندلع فيها.
لكنها لم تكن تعرف بعد أن هذا اللقاء البسيط سيغير حياتها إلى الأبد. وأن هناك شيء مظلم سيطفو قريبًا بينهما، شيء يهدد بكل تلك الأحلام التي بدأ قلبها في بنائها.
بينما كانت لمى تراقب آدم وهو يرسم، شعرت بأن الوقت أصبح غير ذي معنى. كان كل شيء في تلك اللحظة يتناغم معها، وكأن العالم كله كان يتنفس معها. لكن، كما يحدث دائمًا في القصص المخبأة بين جدران الزمن، لم يكن كل شيء في حياتها يسير كما تمنت.
"هل أنت متأكد أن هذا هو الطريق الوحيد؟" سألته لمى فجأة، وكان السؤال يختبئ وراءه فضول غامض. كانت تسأل عن لوحته، لكنها كانت تدرك أن هناك شيئًا ما يتجاوز مجرد الألوان والخطوط.
نظر إليها آدم بعينيه المتعبة، التي كانت تحكي قصة مؤلمة لا يرغب في الكشف عنها. "أحيانًا، لا نختار الطريق... بل هو من يختارنا." قالها بصوت حزين، لكنه كان يحمل في طياته قوة غريبة، وكأن كلماته كانت تحمل معها حقيقة مؤلمة.
توقفت لمى عن الكلام، لكنها كانت تشعر أن هناك شيئًا أكبر من مجرد حديث فني يدور بينهما. كان هناك شيء في تلك اللحظات يجعلها تشعر بأنها تعرفه منذ سنوات، رغم أنه كان غريبًا عن عالمها. شعرت وكأن قلبها بدأ ينبض بسرعة، كما لو أن هناك دقات غير مرئية كانت تقترب منها شيئًا فشيئًا.
لكن فجأة، أطفأ آدم فرشاته بشكل قاسي، وكأن لحظة الإلهام قد اختفت فجأة. نظر إلى اللوحة وكأنها تحمل له شيئًا بعيدًا عن المتناول، ثم عاد بنظره إلى لمى.
"أعتقد أنني بحاجة إلى بعض الهواء." قالها بصوت هادئ، ثم نهض بسرعة، وكأن همًّا ثقيلًا قد تَسرب إلى قلبه فجأة.
"هل أستطيع مرافقته؟" لم تستطع لمى منع نفسها من سؤاله، كان هناك شيء في نبرته جعلها تشعر أنه يهرب من شيء ما. كانت تلك اللحظة بمثابة فرصة أخيرة لتكتشف سرًا خفيًا.
"أنا آسف، لمى." رد آدم، وعيناه تحاولان تجنب النظر في عينيها. "الحديث اليوم طويل، ربما في وقت لاحق."
لم يكن حديثه عن "الوقت لاحق" مجرد تعبير، بل كان يشير إلى شيء أكبر. شيء كان يخبئه. كان يحاول الهروب من شيء لا يستطيع البوح به، شيء كان يعصف به داخليًا.
مشى بسرعة، لكن لمى كانت تلاحقه بعينيها. وعندما ابتعد عن المعرض، شعرت برغبة ملحة في متابعته. قلبها كان ينبض بشدة، وكأن هناك شيئًا في قلبها كان يقودها إليه، لكن ما الذي كان هذا الشيء؟
قبل أن تتمكن من اتخاذ خطوة واحدة، رن هاتفها فجأة. كانت تلك رسالة، وحين فتحتها، كان محتواها غير متوقع. كانت رسالة نصية من رقم مجهول، تقول:
"إذا كنتِ تظنين أن آدم هو من تبحثين عنه، فاعلمي أن المظاهر قد تخدعك. ابحثي في ماضيه، وستجدين الحقيقة المرة."
شعرت لمى بكهرباء تمر عبر جسدها. كانت الرسالة غامضة، لا تحمل سوى التهديد والريبة. لكنها لم تستطع أن تتجاهلها. هل كان هذا هو سبب تردد آدم؟ هل كان هناك شيء مظلم في ماضيه يمنعه من الاقتراب منها؟ كان هذا السؤال يحرق قلبها.
وفي تلك اللحظة، قررت لمى أن تكتشف كل شيء. ربما كان هناك جانب مظلم في حياته، لكن كان من الصعب عليها أن تتراجع الآن. فكلما ابتعدت عنه، كلما زاد شعورها بأن هذا هو الطريق الوحيد الذي يجب أن تسلكه.
مرت أيام، وكان آدم يتجنب لقاءها. رغم أنها حاولت الاتصال به أكثر من مرة، إلا أنه لم يرد على مكالماتها. كانت قلوبهما تبتعد شيئًا فشيئًا، لكن لمى كانت تعلم أن شيئًا ما قد تغيّر. لقد شعرت بهذا في أعماقها، لكنها لم تستطع أن تشرح ما يحدث.
ثم جاء اليوم الذي لم تتوقعه. كان في أحد المساء الممطرة، عندما جاء إلى منزلها فجأة، وهو يلهث من التعب.
"لمى..." قالها وهو يخطو نحوها بخطوات مترددة. "أحتاج إليكِ."
نظرت إليه بتمعن، وكان قلبها ينبض بشدة. لكنها أيضًا شعرت بشيء غريب. لم تكن تعرف ما إذا كان هو بالفعل من تحتاجه، أو إذا كان هو من يحتاجها أكثر.
"أين كنت؟ لماذا اختفيت عني كل هذا الوقت؟" سألته بصوت منخفض، وكان الصوت يحمل في طياته الخوف والحزن.
"أنا آسف. لم يكن لدي خيار. هناك أمور في حياتي تحتاج إلى التوضيح." رد آدم، وعيناه مليئتان بالألم. "لكنني الآن هنا. وأريد أن أشرح كل شيء."
لكنه لم يكن يخطط فقط لشرح الأمور. كان يحمل في جعبته مفاجأة لم تكن لتخطر ببالها أبدًا. لقد جاء ليخبرها بحقيقة لم تكن تعرفها. حقيقة قد تغيّر حياتها إلى الأبد.
