رواية نسمة متمردة
الفصل الاول1بقلم امل مصطفي
كانت تسير على مهل وهي تبحث داخل حقيبتها عن هاتفها، حين اصطدمت فجأة بأحدهم دون قصد.
رفعت رأسها بسرعة وقالت بإحراج واضح:
– آسفة... آسفة جدًا، ماخدتش بالي!
قابلتها ابتسامة عذبة وهادئة من السيدة التي اصطدمت بها، وقالت بنبرة مرحة:
– مافيش مشكلة، ده أنا حظي حلو إني أشوف القمر ده على الصبح!
تورد وجه نَسمة خجلًا، وتمتمت بامتنان:
– شكرًا جدًا... حضرتك ذوق قوي.
مدت لها السيدة يدها مبتسمة وقالت بتعارف لطيف:
– أنا سهير، أصحابي بينادوني "سوسو"، والناس الغريبة بيقولوا "سهير هانم". تحبي تناديني بإيه؟
ردّت نَسمة بمرح طفولي:
– سوسو طبعًا!
ضحكت سهير وقالت:
– خلاص، بقينا أصحاب. إنتِ كمان بتصيفي هنا زينا؟
أجابت نَسمة بابتسامة هادئة:
– لأ، دي مدينتي... أنا عايشة هنا.
– أحسن! لقيت حد يخرجني، أنا هنا من يومين بس، وابني مشغول دايمًا وبيرجع متأخر.
إيه رأيك نتفسّح سوا اليومين الجايين... على ذوقك؟
– مافيش مشكلة، بس لازم أستأذن بابا الأول.
– طبعًا، ده رقمي... وهاتي رقمك، علشان نرتب.
قالت نَسمة بابتسامة عذبة:
– تمام، بكرة أقابل حضرتك فين؟
– تيجي تاخديني من الفندق.
– حضرتك نازلة فين؟
– أنا في فندق ****.
نظرت لها نَسمة بدهشة لم تستطع إخفاءها، مما جعل سهير تسألها باهتمام:
– مالك؟ شكلك اتغيّر!
أجابت نَسمة بتعجب:
– أصل... نزلاء الفندق ده من الطبقات المخملية!
ردّت سهير بحذر:
– وده فيه مشكلة بالنسبالك؟
هزّت نَسمة رأسها نفيًا وقالت:
– لأ، بس... روح حضرتك مش بتقول إنك من الطبقة دي أبدًا.
ابتسمت سهير بتواضع وقالت:
– سيبك، أنا أصلًا مش بحب الشكليات والمظاهر الكدابة.
مدّت نَسمة يدها مرة أخرى وقالت بودّ:
– أنا اتشرفت بحضرتك جدًا، وبإذن الله هكون عندك من الساعة تسعة صباحًا.
نظرت لها سهير بدهشة ممزوجة بالصدمة وقالت مازحة:
– ياااه! إنتِ بتصحي بدري كده؟
ضحكت نَسمة بمرح، وردّت بخفة دمها المعتادة:
– لا، ده أنا بصحى من الفجر!
– بجد؟!
– آه والله... إحنا متعودين على كده من زمان.
معلش، مضطرة أمشي دلوقتي، اتأخرت.
– خلاص يا حبيبتي، على معادنا.
*******
عادت سهير إلى الفندق، بينما اتجهت نَسمة إلى منزلها.
بمجرد أن دخلت، ألقت التحية بصوت مرح:
– السلام عليكم يا أهل الدار... أنا جعانة!
خرجت والدتها، هيام، من المطبخ وهي تجفف يديها في المريلة، وقالت بنبرة محبة:
– الأكل جاهز يا قلبي. أول مرة تتأخري كده، إحنا ظبطين الساعة عليكي!
ابتسمت نَسمة، وخلعت حجابها وهي تسير نحو والدتها، ثم طبعت قبلة على وجنتها:
– قابلت واحدة واتعرفت عليها... والكلام خدنا من بعض.
قالت هيام وهي تشير باتجاه الغرفة:
– طيب، ادخلي غيري هدومك وصلي، يمكن يكون بابا رجع.
أنا حضرت السفرة.
– حاضر، يا مامي.
******
عند سهير
– حنين صحت يا دادة؟
– لا يا هانم، لسه نايمة.
فتحت سهير باب غرفة حفيدتها ذات الخمسة أعوام، ودخلت بهدوء. نظرت إلى الصغيرة النائمة بعينين ممتلئتين بالحنين، وهمست بحزن:
– حبيبتي... اتحرمتي من الحب والحنان بدري أوي.
جلست بجانب السرير، تتأمل ملامح الطفلة البريئة، وفجأة غزت ذاكرتها صورة ابنتها الراحلة. دمعت عيناها وبكت في صمت، دون أن تُصدر صوتًا.
– مش عارفة ليه... شوفتك النهارده في نَسمة.
يمكن روحها، قلبها الأبيض، شبهك.
ربنا يرحمك يا بنتي... ويصبرني على فراقك.
رنّ هاتفها، نظرت إلى الشاشة، فرأت اسم "مروان" ابنها. أجابت فورًا بنبرة عتابٍ رقيقة:
– إيه يا حبيبي؟ كده تخرج بدري من غير ما أشوفك؟
أجابها مروان من الطرف الآخر:
– معلش يا حبيبتي، غصب عني. أنتي عارفة إني جاي شغل، مش سياحة.
– أنا عارفة... بس كنت حابة أخرج حنين شوية. يمكن تتصاحب على حد، وتشوف أماكن تانية غير الفيلا. دي طفلة ومحتاجة تغيير.
شعر مروان بنبرة الحزن في صوت والدته، فردّ بلطف:
– خلاص يا حبيبتي... هحاول آخد يومين إجازة نقضيهم سوا، وأفسحها زي ما هي عايزة.
ابتسمت سهير، وقالت بمحبة:
– منتحرمش منك يا حبيبي.
---
في بيت نَسمة
ركضت نَسمة نحو والدها بمجرد دخوله من الباب، وألقت بنفسها في حضنه.
– قلب نَسمة... وحشتني!
ضحك والدها خالد وهو يضمها إليه:
– وإنتي أكتر يا قلب خالد.
من خلفهم، جاءت هيام، زوجته، وقالت مازحة بنبرة مصطنعة الغيرة:
– آه يا قلبي... بتخوني يا خالد؟ ومع بنتي كمان؟! ده مكانش العشم!
ضحك خالد بصوت عالٍ وهو ينظر إليها بمودة:
– ماقدرش يا حبيبتي... إنتي اللي في الحتة الشمال من قلبي.
ضحكت نَسمة وقالت بمزاح:
– بقى كده يا سي بابا؟ لما هي في الشمال... أنا أروح فين؟
– في حاجات كتير جوّه... شوفي إنتي عايزة إيه، بس الشمال لهيام... قلبي وبس!
– الله الله يا حج! مش كبرتوا على الكلام ده شوية؟
ردّ خالد بحب:
– مين قال كبرنا؟ ده مافيش واحدة تملي عيني زيها... مهما كبرنا.
احمرّ وجه هيام خجلًا وقالت برقة:
– وبعدين معاك يا خالد؟ كده تكسفني قدام الولاد!
نظرت نَسمة إلى والديها وقد امتلأت عيناها بالحب، و همست بدعاء:
– ربنا يخليكوا لبعض... و يرزقني بواحد يعيشني نفس الحب ده يا بابا.
– يا رب، يا حبيبتي... يلا بينا ناكل.
ذ"*****
تحدث مروان بضيق وهو يسألها قبل الوصول
لبوابة الجناح الخاص بسهير
– مالك بس يا حبيبتي؟
أجابت "شاهي" بدلال مصطنع، متظاهرة, بالضعف:
– كده يا مروان؟ أهون عليك تسيبني كل ده؟!
– غصب عني، يا حبيبتي... ده شغل، وكان لازم أكون موجود.
قالت وهي تلوي شفتها باعتراض طفولي:
– وأنا كنت هعطلك؟! والله العظيم ما كنت هزعجك، كان فيها إيه لو خدتني معاك؟!
تنهد مروان بتعب واضح، وكأن الحديث تكرّر كثيرًا:
– حبيبتي، افهمي... أمي بتتضايق لما بتشوفني معاكي، وأنا مش بحب أزعلها.
ثم وأكمل بإتهام :
– وبعدين، أنا قلتلك كتير... حاولي تغيّري من لبسك وطريقتك، وقربي منها، يمكن تتقبلك.
بس أنتي مش راضية... أعمل إيه؟!
شاهي بخبث واضح، علّقت بسخرية ناعمة:
– نحطها قدام الأمر الواقع؟ ولا أنت خايف منها؟!
ارتفعت نبرة مروان، وقد بدت عليه الجدية والحزم:
– شاهي، إلزمي حدودك!
أنتِ عارفة كويس أنا ما بخافش من أي حد على وجه الأرض.
بس دي "أمي"... وليها احترامها.
قلبها تعبان، و خايف يحصلها حاجة.
أنتِ عارفة إنّ كنت هتجوزك قبل حادثة ندى... وكانت محتاجة وقت، وهتتقبلك لما تلاقيني مبسوط معاكي.
لكن موت ندى كسرها... وجبلها القلب، وأنا مش ممكن أجازف بيها.
صمت لحظة، ثم قال بصوت منخفض:
– علشان كده طلبت منك تقربي منها... تكسبي حبها.
شاهي، وقد بدأ وجهها يتحول من الدلع إلى الحقد، تمتمت بمرارة:
– مامتك مش هتتقبلني أبدًا.
المشكلة مش لبسي ولا طريقتي...
هي بتكرهني أنا، بالذات.
ردّ مروان بهدوء فيه نفَس طويل من الصبر:
– معلش، يا حبيبتي...
بُكرة لما تلاقيني رافض الجواز علشانك، هتوافق.
أنا هقفل دلوقتي، علشان وصلت قدام الجناح، ومش عايزها تنزعج مني.
سلام.
– سلام، يا قلبي... هتوحشني أوي.
أغلقت شاهي الخط، ثم اتسعت ابتسامتها بخبث وهي تمتمت لنفسها:
– أنا مش هسكت...
لحد ما أبقى مراتك، ويكون ليّا حرية التصرف في كل حاجة.
بس أدخل الفيلا... وأنا أخلّص منها خالص.
*********
دخل مروان إلى الجناح بهدوء، وكان صوت التلفاز ينبعث من غرفة المعيشة. لمح والدته جالسة تتابع برنامجًا دون تركيز واضح، وكأنها تنتظر شيئًا.
– مساء الخير يا أمي.
رفعت سهير عينيها نحوه وابتسمت:
– مساء النور يا حبيبي.
اقترب منها وجلس قبالتها:
– إيه اللي مسهرك لحد دلوقتي؟
– كنت مستنياك... على فكرة، بكرة أنا وحنين خارجين مع واحدة اتعرفت عليها النهارده.
تجهم وجه مروان فورًا، وقال بقلق:
– إزاي حضرتك عايزة تخرجي مع واحدة متعرفيش عنها حاجة؟!
ردّت سهير بنبرة هادئة وواثقة:
– البنت طيبة... وأنا حبيتها.
هزّ مروان رأسه بعدم اقتناع، وقال بجدية:
– حضرتك عارفة إن المظاهر خداعة، وبعدين إنتِ عارفة مركزي، وعارفة كمان إن ليا منافسين... نفسهم يكسروني بأي طريقة.
تنهدت سهير بضيق، وقد بدأ القلق المبالغ فيه من ابنها يتعبها :
– مروان، أنا كبيرة، وأعرف أميز بين الكويس والوحش... بلاش القلق ده.
ردّ بنبرة شبه معاتبة:
– بس حضرتك أول مرة تتعاملي مع حد بالسرعة دي.
مش ممكن تكون حد حطها في طريقك علشان توصل لي؟
ردّت سهير بنفاد صبر، وقد نفذ حبل تحملها:
– أولًا، أنا اللي طلبت رقمها... وأنا اللي عرضت عليها نخرج سوا
يعني مفيش حد "حطها" في طريقي، زي ما بتقول!
تنهد مروان، مستسلمًا أمام إصرارها، وقال:
– خلاص يا أمي، الحرس هيكون معاكم.
لوّحت له بيدها، وقالت بإصرار:
– لا يا حبيبي، خليني براحتي.
مش عايزة أكون مقيدة، لو مصرّ... ممكن يراقبونا من بعيد، ولو حسوا بأي خطر يقربوا.
إيه رأيك؟
قال مروان، وقد خفتت نبرة صوته إلى استسلامٍ واضح:
– خلاص ، يا حبيبتي... تصبحي على خير.
ابتسمت سهير ابتسامة خفيفة، وهي تتابع ابنها المغادرة، تدعو له في سرّها
*******
في صباح اليوم التالي، كانت نَسمة في الموعد تمامًا، جالسة في "ريسبشن" الفندق بهدوء، تنتظر قدوم سهير.
مرت دقائق قليلة، حتى ظهرت سهير أمامها، تبتسم ابتسامة واسعة، ونادت عليها بود:
– مواعيدك مظبوطة يا نَسوم!
ابتسمت نَسمة بحب، ثم مازحتها وهي تؤدي تحية عسكرية بمرح:
– حبيبتي يا سوسو! إحنا تربية عسكرية يا فندم!
ضحكت سهير و جلسَت إلى جوارها، بينما سألتها نَسمة باستغراب:
– مش هنمشي؟
أجابت سهير بابتسامة دافئة:
– مستنيين حنين تصحى... هاخدها معايا.
نظرت نَسمة إليها باهتمام صادق، وسألت:
– دي بنتك؟
هزّت سهير رأسها وقالت بفخر رقيق:
– لاء... حفيدتي الوحيدة.
– ربنا يخليهالك، يا رب.
كانت سهير على وشك أن تردّ، لكن صوتًا رجوليًا قاطع اللحظة فجأة.
– مش ممكن! آنسة نَسمة عندنا؟! أنا مصدقتش لما عرفت... قلت لازم أتأكد بنفسي! الفندق كله نور!
خفضت نَسمة وجهها بخجل واضح، و تمتمت بأدب:
– إزيك يا بشمهندس كريم؟
راقبَت سهير الموقف بإعجاب خفي...
أعجبها حياء نَسمة وطريقتها المتواضعة في الرد، وكذلك احترام الشاب لنفسه ولها.
قال كريم بنبرة يغلب عليها الحرج والهدوء:
– و صَلني ردّك على طلبي... ممكن أعرف؟ المشكلة فين؟ ولا في حاجة تانية؟
ردّت نَسمة بإخلاص، وصوتها يفيض بالإحترام:
– لا والله أبدًا... حضرتك من الشباب المعروف عنهم الأخلاق الطيبة، ومن عيلة كبيرة تشرف أي بيت تدخله... ومليون بنت أحسن مني تتمنى قربك.
قال كريم بصدق:
– بس أنا بتمنّاكِ إنتي.
نظرت نَسمة إليه بعينين دامعتين قليلًا، وقالت بهدوء:
– أنا آسفة والله... مش حابة أرتبط بالطريقة دي.
أردف كريم بلطف، محاولًا الفهم:
– لو علشان التعليم... أكيد مش همنعك.
أنا أحب زوجتي وأم أولادي تكون على مستوى عالٍ من التعليم.
هزّت نَسمة رأسها نفيًا:
– لا... مش ده السبب.
أنا بس عايزة يكون فيه توافق حقيقي بين الطرفين.
أنا بصراحة... بعتبرك زي أخويا أحمد.
وبتمنى تلاقي الإنسانة اللي تستاهلك.
وأرجوك... تسامحني، أنا ماكنتش حابة أحطك في الموقف ده مرة تانية.
قال كريم بصوت مكسور، لكنه لا يزال هادئًا:
– وأنا كمان... بتمنالك السعادة، مع الإنسان اللي قلبك يختاره.
ثم استأذن بهدوء، وغادر، بينما ظلّ في قلبه أمل صغير...
تمنى لو أنها غيّرت رأيها، فقد وجد فيها الزوجة الجميلة، المتديّنة، التي تحافظ عليه وتربي أولاده على القيم.
أما نَسمة، فشعرت بالحزن بعد الموقف مع كريم، وتسللت مرارة الرفض إلى قلبها رغم يقينها بصواب قرارها. لكن صوتًا طفوليًا قطع عليها شرودها:
– تيته!
رفعت عينيها بسرعة، فرأت طفلة جميلة تقف أمامها. بشرتها قمحية، شعرها الأسود منسدل على كتفيها، ترتدي فستانًا أحمر زاد من بهجتها.
ابتسمت سهير، واحتضنت الصغيرة بحب وهي تقول:
– تعالي يا حبيبتي، سلمي على نَسمة.
انحنت نَسمة وجلست على إحدى ركبتيها، وابتسمت في وجه الصغيرة:
– ما شاء الله... تسمحيلي يا برنسيسة حنين نكون أصحاب؟
نظرت إليها الطفلة بعينين واسعتين وسألت ببراءة:
– هتلعبِي معايا؟
ضحكت نَسمة وقالت بحماس:
– طبعًا! نلعب ونركب المراجيح، ونسوق عربيات التصادم، ونعمل كل حاجة تأمري بيها!
أومأت حنين بحماس وقالت:
– خلاص، موافقة نكون أصحاب!
حملتها نَسمة بين ذراعيها، وقبّلت وجنتها بحنان:
– يلا نبدأ اليوم من أوله!
نظرت سهير إليهما بفرحٍ داخلي؛
فلم تكن تتوقع أن تنجذب حفيدتها سريعًا إلى نَسمة. حنين نشأت في عائلة محافظة
لا تختلط كثيرًا بالغرباء، بل وتبكي أحيانًا عند رؤية شاهي، تصرخ وكأنها رأت شبحًا.
قادتهم نَسمة إلى كافتيريا صغيرة لكنها مميزة. ديكورها بسيط، لكنه يبعث على الدفء.
ما إن دخلوا حتى استقبلهم صاحب المكان بترحاب واضح:
– أهلاً أهلاً... بست البنات!
ابتسمت نَسمة وقالت بمودة:
– إزيك يا أونكل رضا؟ أخبارك إيه؟
– أنا تمام... لما شوفتك بقيت أحسن.
إزاي بابا؟
– الحمد لله... هو مش بييجي لحضرتك؟
ضحك رضا بخفة دم مصرية أصيلة:
– لاء يا ستي، بقاله يومين من ساعة ما كسبته في الشطرنج!
ضحكت نَسمة ضحكة صافية صاخبة:
– لااا... حضرتك بتهزر! غلبت بابا؟!
قال رضا بفخر ووجهه مشرق:
– كأنه أمّم القناة!
جبت واحد علّمني، أصلي تعبت من كتر ما بيكسبني... ومن ساعتها، ماجاش!
– اتفضلوا، هنا أحسن ترابيزة.
جلس الجميع حول طاولة مستديرة، يغطيها مفرش أحمر أنيق، تحيط بها كراسٍ بيضاء بسيطة.
نظرت نَسمة إلى سهير وقالت:
– المكان بسيط، بس نضيف جدًا... والطلبات هنا كلها بيتي، اليوم بيومه.
ابتسمت سهير بإعجاب حقيقي:
– فعلاً بسيط وجميل... بيدي إحساس بالراحة.
نادت نَسمة على رضا:
– طلبي حضرتك عارفه.
أومأ رضا بثقة:
– آه طبعًا... عصير برتقال فريش و تشيز كيك.
.
ضحكت حنين وهي تردد بحماس:
– أنا زي نَسمة!
ضحك عم رضا، صاحب الكافتيريا، وقال بدفء:
– أجمل طلب لأجمل بنوتة!
ثم نظر إلى سهير وسأل باحترام:
– وحضرتك؟
– أنا كمان عصير برتقال... وكيك برتقال، لو موجود.
– طبعًا موجود... ثواني .
ابتعد رضا، و عمّ الصمت لحظة قبل أن تهمس سهير إلى نَسمة بابتسامة خفيفة، ونظرة أكثر جدية:
– يلا نتكلم بصراحة... إنتي بتحبي حد؟
رفعت نَسمة حاجبيها في دهشة، ثم قالت بهدوء:
– لا والله... مفيش حاجة من دي خالص.
أومأت سهير بتفهم:
– بس أنا شايفة إن كريم عريس ما يتْرفضش... يبقى أكيد فيه سبب.
تنهدت نَسمة بعمق، ثم قالت بنبرة صادقة وهي تضع يدها على صدرها:
– بصي حضرتك... الماديات ما تفرقش معايا خالص، ولا الشكل.
هو غني، ومن عيلة كبيرة، وشاب وسيم... بس أنا عايزة الإنسان اللي أرتبط بيه ده... أحس بيه من أول لحظة .
يخطفني من نفسي قول: "ده اللي عايزه أكمل حياتي معاه".
مش لأزم يكون وسيم، أو ابن ناس، حتى لو ابن بواب... كل ده مش مهم.
المهم... أحس بيه. حضرتك فهماني؟
نظرت لها سهير نظرة إعجاب ممزوجة بشيء من الأسى، وقالت:
– طبعًا يا حبيبتي فاهمة... بس معدش فيه بنات كتير بتفكر بالطريقة دي.
ابتسمت نَسمة بثقة هادئة وقالت:
– لا، فيه... وفيه كتير كمان.
بس المشكلة إن الشباب دلوقتي عايزين يعيشوا حياتهم على الآخر،
وبعدين يدوروا على "الوحدة الخام"، اللي تحافظ عليهم!
يعني اللي زينا... بنكون آخر اختياراتهم.
ضحكت سهير بخفة، وظهر على وجهها التأثر بكلام نَسمة، بينما كانت حنين تلعب جوار الطاولة، تضحك وتنادي عليهما لتشاركاها اللعب.
قضوا اليوم كله في مرح ولعب، تجوّلوا في أماكن متعددة، وركبوا الألعاب، وكانت حنين في قمة السعادة... فقد وجدت أخيرًا من يشاركها طفولتها.
أما سهير، تتابع نَسمة وحنين بنظرات دافئة، وابتسامة حقيقية لم تزر شفتيها منذ ثلاث سنوات.
ضحكت من قلبها على حركات نَسمة المرحة مع الصغيرة، وشعرت و كأن الحياة دبّت في قلبها من جديد.
انتهى اليوم، لكن أثره ظل في قلوبهم.
وحين حان وقت العودة، عاد الجميع إلى بيوتهم، كلٌّ منهم يحمل في قلبه شيء جديد... دافئ... صادق.
*******
عند نسمة
فتح خالد الباب بلهفة، وما إن رآها حتى قال بفرح واضح:
– حمد الله على السلامة يا بنتي!
ابتسمت نَسمة وهي تُقبّله على وجنته:
– الله يسلمك يا بابا.
نظر إليها باهتمام وسأل:
– اتبسطتي؟
ردّت بسعادة، وبدأت تدور حول نفسها كطفلة:
– جدًا يا بابا! لو شُفت حنين، هتحبها أوي... و تنسا مع ضحكتها كل حاجة!
ضحك خالد، وقال برقة:
– طيب يلا نتعشى سوا.
– لا يا بابا، شبعانة. هدخل آخد شاور وأصلي وأنام، أصلنا خارجين بكرة كمان.
نظر إليها بقلق أبوي خالص:
– لانها تتعامل مع أناس غريبه بتلك الارياحية والسرعه بس خلي بالك من نفسك ..
مش مطمن لتعاملكم بالسرعة دي.
نَسمة وضعت يدها على كتف والدها بحب وقالت ممازحة:
– حاضر يا بابا... بس خفّ شوية على أونكل رضا.
طول عمرك بتغلبه، ما فيهاش حاجة لو يغلبك مرة من نفسه!
ضحك خالد من قلبه:
– هو اشتكى ليكي؟ طيب أما أشوفه بكرة...
لازم أخليه يغني "ظلموه" بنفسه!
قالت نَسمة باستسلام ضاحك:
– الداخل بينكم خسران!
ثم فتحت هاتفها بسرعة وأظهرت له صورة:
– بص حضرتك... دي حنين.
نظر خالد إلى الصورة، فابتسم وقال:
– ما شاء الله! شكلك "هصّيتي" النهارده.
ضحكت نَسمة من قلبها:
– جدًا جدًا... كأني رجعت طفلة تاني!
اقترب منها والدها، قبّل جبينها وقال بحنان:
– ربنا يسعدك يا حبيبتي... تصبحين على خير.
---
عند سهير
كانت سهير جالسة جوار حنين، تمشط لها شعرها وتبتسم.
دخل مروان وألقى التحية:
– مساء الخير يا أمي.
رفعت سهير رأسها نحوه وقالت بابتسامة واضحة:
– مساء النور يا حبيبي.
نظر إليها متعجبًا، وهو يخلع جاكيت بدلته:
– خير يا أمي؟ أول مرة أشوف الابتسامة دي من زمان!
تنهدت سهير، وبدت السعادة على ملامحها:
– النهارده كان جميل أوي، وحنين كانت فرحانة، بتضحك من قلبها.
أنا نفسي ضحكت معاها... النهارده كان أسعد يوم عدى عليا من ثلاث سنين.
– لسه فاضلك كام يوم هنا؟
سألها مروان وهو يضع الجاكيت على الكنبة.
– كلها أربع أيام ونرجع.
– إحنا خارجين بكرة كمان.
– طيب... بس خلي بالك من نفسك.
أنا مش مطمئن من العلاقة اللي توطدت بسرعة كده.
نظرت إليه سهير بجدية، وقالت:
– البنت جميلة من جوّه قبل برّه.
روحها حلوة، ومتواضعة، ومحبوبة من الكل هنا.
ده حتى صاحب الفندق طلب إيدها... ورفضته.
ضحك مروان بسخرية:
– وحضرتك صدّقتيها؟
في بنت بترفض صاحب ملايين؟
ردّت سهير بنفَس ضيق، وقد بدأ الغضب يتسرب إلى صوتها:
– آه طبعًا صدّقتها... لأن هو كلمها قدامي وسألها بنفسه: "رفضاني ليه؟"
قال مروان بسخرية أشد:
– تلاقيها بتدور على حد أغنى منه!
رفعت سهير حاجبيها بحدة، وقالت بلهجة نادرة في الحدة:
– ما تتكلمش عنها كده... أزعل منك!
نظر إليها مروان بدهشة، هذه أول مرة يرى أمه تتحدث معه بهذا الشكل... لأول مرة يشعر أن هناك أحدًا أخذ حيّزًا خاصًا من قلبها.
سكت، لكنه بدا داخله في صراع...
علم أن هذه الفتاة خطر... وخلفها سر.
