رواية ارشيف الارواح الفصل الاول1والثاني2بقلم امير مروان


رواية ارشيف الارواح الفصل الاول1والثاني2بقلم امير مروان

كانت السماء في ذلك المساء تميل إلى الرمادي، وكأنها تعكس المزاج الكئيب الذي يسكن البلدة. لا أحد يتحدث عن "مكتبة آل قنطار"، كما لو أن ذكرها يحرّض لعنةً قديمة. حتى الخرائط تجاهلت موقعها، ومرّت السنوات كأنها تمسح وجودها من ذاكرة المكان... إلا من ذاكرة "هالة". 

هالة، تلك الشابة التي كانت تحفر في تاريخ البلدة كمن يبحث عن ظلّه المفقود، لم تكن تصدق الروايات المحذوفة من السجلات الرسمية، ولا تكتفي بما تقوله الوثائق المنمّقة. كانت تبحث عن شيء أبعد، شيء لا يُكتب... بل يُهمس به في الظلام. 

حين عثرت على المفتاح، لم يكن في صندوق قديم ولا داخل جدار متهالك، بل في حلم. حلمٌ جاءها ثلاث مرات: مكتبة غارقة في الغبار، طاولة حجرية تتوسطها، ورفوف لا تحمل كتبًا... بل أوراقًا، كل واحدة منها موضوعة بعناية، وكأنها تحوي سرًا لا يُقال. 

استيقظت في المرّة الثالثة والبرد يلسع أطرافها، رغم أن شقتها صغيرة ودافئة. وقفت أمام المرآة، تحدق في عينيها التي بدا وكأن أحدًا غيرها يحدّق من داخلهما، ثم تمتمت:
"إذا لم يكن الحلم حقيقيًا، فلِمَ أشعر أنني خرجت منه ناقصة؟" 

بوابة المكتبة كانت مغلقة بسلسلة صدئة، ولكن الأقفال كانت مهترئة كأنها تنتظر لمسة خفيفة لتتهاوى. لم يكن هناك صوت سوى أنفاسها، وصدى خطواتها وهي تعبر العتبة. 

رائحة عتيقة من ورق محترق، وعود قديم، وشيء آخر يشبه الخوف، استقبلتها فور دخولها. الجدران العالية بدت وكأنها تحتفظ بأكثر من مجرد الغبار، والهواء نفسه بدا وكأنه يتنفس ببطء، ككائن حيّ نائم يراقبها بصمت. 

تقدّمت نحو الرفوف، لتجد أول ورقة. صفراء، مكتوبة بخط يدٍ مائل، عنوانها: 

"اعترافات قبل أن تُسحب روحي." 

ورغم تحذير في صدر الصفحة — "لا تقرأ إن كنت تخشى أن ترى نفسك في عينيّ الغائب." — قرأتها. 

ولم يعد شيء كما كان. 

الليل لم يعد ليلًا، بل ماضٍ متجسّد. صارت ترى بعيون شخص آخر، تسير في طرقات لم تعرفها لكنها تعرفها، تبكي ألمًا لم تعشه لكنها تشعر به. كوابيس بدأت تتسلل إلى نومها، لكنها لم تكن كوابيس... بل ذكريات. لم تدرِ في أي لحظة بدأت تُجذب، وتتشقق هويتها كالزجاج تحت ضغط لا يُرى. 

وفي اليوم الخامس، رأتها — الورقة. 

ورقة جديدة، نظيفة، مكتوبة بخط يدها. 

تقدّمت منها ببطء، تتردد، لكن عينيها سبقتها. قرأت السطر الأول، وارتعشت: 

"أنا هالة، وهذه اعترافاتي... قبل أن يُسحب النصف الآخر من روحي."

صوت خطواتها ارتدّ في الفراغ كنبض قلبٍ متسارع. كانت المكتبة واسعة على نحو مريب، أكبر بكثير مما يفترض أن تكونه من الخارج، كأن جدرانها تُخفي شيئًا آخر... بُعدًا لا يُرى. 

اقتربت من الورقة الأولى التي قرأتها، يدها ما زالت ترتجف رغم مرور ساعات. أمسكت بها مجددًا، وكأنها بحاجة لتأكيد ما حدث. 

"مستحيل..." تمتمت، "أنا ما كنتش هناك... مستحيل أكون عشت ده فعلاً." 

لكن صوتًا خافتًا، رقيقًا كنسمة شتاء، خرج من اللاشيء خلفها: 

"كل ورقة... بتختار مين يقرأها." 

استدارت بسرعة، لترى امرأة مسنّة تقف في الزاوية، شعرها أبيض منسدل، وملامحها تشبه من عاش كثيرًا ونسي كيف يبتسم. 

"مين حضرتك؟ وإزاي دخلتي؟ أنا لسه فاتحة المكتبة النهاردة!" 

المرأة ابتسمت ابتسامة مائلة، كأنها تعرف أكثر مما ينبغي. 

"أنا ما دخلتش... أنا هنا من زمان." 

"يعني إيه؟ تقصدي إنك كنتي جوه؟"
"لا... أقصد إني بقيت من المكتبة." 

هالة تراجعت خطوة، الحذر في عينيها. 

"اسمعي يا بنتي، الورق هنا مش للقراءة... الورق ده فخ. اللي بيقرأ، بيعيش. بس مش حياته هو... حياة غيره. ولما يتأخر في الهروب، الورقة بتكتب سطر جديد... عنه." 

"أنا... أنا حلمت بيها قبل ما أجي. حلم غريب، فيه الورق والطاولة والريحة الغريبة دي. كنت حاسة إني ناقصة، وكأن حاجة مني هناك." 

المرأة اقتربت منها ببطء، وقالت بنبرة هامسة: 

"يبقى الورقة اختارتك. وساعتها، فيش مفر. الروح اللي جوه ابتدت تتغذى، وهتفضل تاكل... لحد ما تضيع روحك الأصلية." 

"وإزاي أرجّع نفسي؟ أرجّع نص روحي اللي ضاع؟"
"فيه طريقة... بس لازم تعرفي هي مين، الروح اللي قرأتي قصتها. تعيشي كل تفاصيلها، وتواجهي نهايتها، وتكتبي آخر سطر بإيدك." 

"وإيه اللي يحصل لو فشلت؟"
"هتبقي... صفحة جديدة في الأرشيف." 

تجمدت الدماء في عروق هالة، لكن عقلها كان يعمل بجنون. الورقة التي قرأتها لم تكن مجرد سرد، بل كانت بوابة. كانت ترى ومضات من حياة فتاة تُدعى "ميس"، عيونها مليئة بالفزع، تحبس سرًا ثقيلًا، وصوت في الخلفية يهمس دائمًا باسمٍ واحد: 

"سليمان... سليمان... هو اللي بدأ كل ده." 

وبينما كانت تغمض عينيها، هربًا من الصداع، سمعت الهمسة ذاتها خلفها — ليست في الورق، بل في الواقع: 

"سليمان... رجّع الورق، يا ميس..." 

فتحت عينيها، لكنها لم تكن في المكتبة بعد الآن. 

كانت في غرفة صغيرة، خافتة الضوء، فيها مرآة مكسورة، وسرير من الحديد. وعلى الجدار، صورتها... ليست صورتها الحالية، بل صورة وجه آخر — وجه ميس. 

تخبطت أنفاسها، وضربت صدرها وهي تصرخ: 

"أنا هالة! مش ميس! افتكروا ده... أنا لسه هنا!" 

لكن الصوت نفسه ردّ عليها بهدوء مخيف: 

"مش مهم انتي مين دلوقتي... المهم مين هتكوني في آخر الصفحة." 

                     الفصل الثالث من هنا

تعليقات



<>