رواية ارشيف الارواح الفصل الثالث3والرابع4بقلم امير مروان
كانت الغرفة باردة، لا نافذة فيها ولا باب. وحده الجدار كان ينبض... كقلب. هالة جلست على الأرض، تلتقط أنفاسها كمن خرج من الغرق. المكان بدا كأنه من الماضي، لكن الهواء فيه كان يهمس بأصواتٍ من المستقبل، أصوات مكتومة تبكي، تهمس، تضحك بهستيريا.
أغمضت عينيها لحظة، وعندما فتحتهما، رأت الكتابة على الجدار قد تغيّرت.
"انتهت حياتها عندما قاومت الطقوس."
تحتها مباشرة، كانت مكتوبة كلمة واحدة بخطٍ أحمر دامٍ:
"ميس."
"أنا مش هي... أنا مش هي!" صرخت، لكن الجدران لم تجب.
وفجأة، سُمِع صرير قفل، والجدار الذي بدا صلبًا انشقّ، وانفتح على ممر حجري، تضيئه مشاعل صغيرة كأنها من زمنٍ غابر. وعلى الجدران، نقوش محفورة بدقة: جماجم، عيون مفتوحة، وورقات تطير حول رؤوس بشرٍ بلا وجوه.
خطت داخل الممر بخطوات مترددة، تحاول أن تتمسك بوعيها الذي يضعف شيئًا فشيئًا.
وفجأة... ظهر أمامها.
رجل طويل، يرتدي عباءة سوداء، ووجهه مغطى بقناع ذهبي بلا ملامح.
"أهلاً بكِ... يا حارسة الذاكرة."
"مين أنت؟!"
"أنا من تبقّى من الطائفة. نحن من كتبنا أول ورقة، ومن علّقنا أول روح."
"ليه؟ ليه تحبسوا أرواح الناس؟!"
"لأننا لا نؤمن بالموت... نؤمن بالحفظ. كل روح هي كتاب، وكل ألمٍ هو باب للخلود."
تراجعت خطوة، جسدها يرتجف، لكن السؤال خرج رغم الخوف:
"و... سليمان؟"
لحظة صمت، ثم قال الرجل:
"سليمان كان أول من جرب الطقس الكامل... كتب مذكراته الأخيرة بدمه، وسمح لنا بربطه بين العوالم. لكن ميس خذلته، قطعت الطقس قبل نهايته. والآن، هي معلقة بين الحياتين... لا ميتة ولا حية. مثلكِ."
"يعني أنا بقيت زيها؟!"
"ليس بعد... لكن الوقت يضيق."
أشار بيده فظهرت على الجدار ورقة جديدة، بيضاء، تتشكل عليها سطور تدريجيًا:
"أنا هالة، آخر من دخل الأرشيف... ونصف روحي هناك."
صرخت: "لا! مش هكمّل اللعبة دي!"
اقترب منها الرجل وهمس:
"كل من دخل الأرشيف... خرج منه شخصًا آخر. أو لم يخرج أبدًا."
ثم اختفى.
هالة ركضت داخل الممرات، تتقاطع وتتشابه، وكل ممر يحمل نقوشًا عن طقوس الطائفة: دوائر مشتعلة، أقنعة مكسورة، وأشخاص يُعلّقون بين صفحتين.
توقفت أمام غرفة كبيرة، بابها نصف مفتوح. دخلت...
وفي الداخل، كانت هناك نسخ كثيرة من الورقة التي قرأتها أول مرة... لكن كل واحدة تحمل اسمًا مختلفًا.
ميس. شريف. رامي. نادين. هالة.
تقدمت نحو واحدة تحمل اسمها... كانت ما تزال تُكتب.
السطر التالي بدأ بالظهور أمام عينيها:
"وفي الساعة الأخيرة، وجدت الطائفة جسدها مناسبًا للطقس الأخير..."
تجمدت في مكانها.
الطقس الأخير؟!
هم لا يريدون أرواحًا فقط... بل يريدون جسدها.
قلبها بدأ ينبض بقوة. لم تعد خائفة فقط، بل غاضبة.
"لو جزء مني محبوس هنا... يبقى الباقي هيفجر المكان ده كله!"
صوت جديد خرج من العتمة، ناعم ومكسور:
"لو عايزة ترجعي نص روحك... لازم تكتبي نهايتك بإيدك."
استدارت. كانت هناك امرأة تقف خلفها، وجهها مشقوق من المنتصف، وكأنها كانت تحاول الانقسام إلى شخصين... وفشلت.
"مين أنتي؟!"
"كنت زيّك... صدقت إني أقدر أقاوم. لكن الأرشيف أذكى من الكل. بيكتبنا قبل ما نعرف إحنا مين."
هالة اقتربت من الطاولة، أمسكت القلم، ونظرت إلى الورقة...
لكن يدها ارتجفت.
هل تكتب وتكمل الطقس؟ أم تمزق الورقة وتجازف بكل شيء؟
هل تتابع كتابة الورقة؟ أم تتمرد على قواعد الأرشيف؟
كانت الورقة ترتجف بين أصابعها، كأنها تتنفس... أو تراقب.
صوت المرأة المتشققة عاد يهمس، هذه المرة أقرب:
"اختاري... إما أن تكتبي، أو تُمحى."
هالة نظرت إلى الورقة، ثم إلى القلم. شعرت أن يدها تتحرك رغمًا عنها، القلم يلامس الصفحة، وشيئًا فشيئًا بدأت الكلمات تتشكل بخط يدها، ولكنها لم تكن هي من تكتب.
"في اللحظة التي تجرّأت فيها على قراءة الورقة، لم تعد هالة هي هالة..."
تراجعت بعنف وأسقطت الورقة على الأرض.
"كفاية... كفاية!"
ثم نظرت إلى المرأة وسألتها بصوت خافت:
"إيه اللي بيحصل؟ مين الطائفة دي؟ وليه بيعملوا كده؟"
المرأة اقتربت منها، وخلف عينيها المتشققتين، سكنت حكاية قديمة.
"كانوا في الأصل مؤرخين... ناس بيجمعوا القصص، بس مش اللي في الكتب. كانوا بيجمعوا الألم، الأحلام، الصرخات اللي محدش سمعها. الطائفة اسمها ظل سليمان، تأسست من مئات السنين لما اكتشفوا إن الروح بتسيب أثر على الورق لو كانت لحظتها الأخيرة كافية من الألم أو الشغف أو الخوف..."
هالة همست: "يعني كل ورقة هنا... موت حقيقي؟"
"وأكتر. الطقوس بتربط الروح بالورقة، لكن مش كل روح بترضى. بعضهم بيفضل يقاوم، ويتحوّل لكابوس... حرفيًا."
"وسليمان؟ كان إيه دوره؟"
المرأة التفتت إلى جدار فيه لوحة ضخمة، تُمثّل رجلًا يمد ذراعيه نحو السماء، تحيط به ألسنة لهب وأوراق تطير من حوله.
"سليمان كان أول من كتب إرادته كاملة. صدّق إن الألم هو سر الخلود، وإن كل ما علينا فعله هو تدوين اللحظة بدقة... وهو اللي أسّس الطقوس. لكن تجربته فشلت."
"فشلت إزاي؟"
"لأن ميس... حبيبته... خانته."
هالة شهقت: "ميس؟!"
"كانت أقوى منه، شافت الكارثة قبل ما تحصل، وحاولت توقفه. لكنها ما لحقتش. روحه اتشقّت... نصه في ورقة، ونصه في المكان ده. ومن ساعتها، الطائفة بتحاول تكمّل الطقس... محتاجين جسد يحمل الروحين معًا."
هالة تراجعت، فهمت الآن لِمَ كانت ترى ماضي ميس وكأنها تعيشه. ميس لم تختفِ... بل صارت جزءًا منها.
وفجأة، دوّت أصوات في الممرات. وقع أقدام، صدى أناشيد خافتة بلغة غريبة.
المرأة شهقت:
"جه الوقت... الطقوس بدأت. لازم تهربي!"
"فين؟! كل الممرات بتوصل لنفس المكان!"
"فيه سرداب خلف الحائط التاني. خديه، بس خدي الورقة بتاعتك... لو سابوها، هيسجنوك للأبد."
ركضت هالة نحو الورقة، حملتها رغم نبضها العنيف. اتجهت إلى الحائط الذي أشارت إليه المرأة، دفعت حجرًا بارزًا فانشق الجدار ببطء، كاشفًا عن سرداب ضيق مظلم.
لكن قبل أن تدخل، سمعت صرخة...
المرأة.
استدارت لترى رجالًا مقنّعين بالعباءات السوداء يسحبونها، يجرّونها نحو المذبح الحجري.
صرخت المرأة:
"ما تبصيش وراكي يا هالة! إنتِ الأمل الوحيد!"
دوت الأناشيد بصوتٍ أعلى... وهالة غرقت في السرداب، تقبض على الورقة وكأنها تمسك بقلبها.
يتبع...
ارشيف الارواح _الجزء الثالث
هالة اندفعت داخل السرداب، زاحفة على الأرض الضيقة، بينما صدى الأناشيد كان يتلاشى خلفها. جسدها كان يرتجف، وعقلها يعجز عن متابعة ما يحدث. الورقة في يدها كانت تنبض بالحياة، وكأنها تحتوي على سر عميق، لا يفهمه سواها الآن.
كلما تقدمت في السرداب، كانت جدران الحجر القاسية تزداد ضيقًا، وكأنها تلتف حولها تدريجيًا. قلبها يدق بسرعة، والهواء يصبح أثقل، ثقيلًا، يشبه وزن العالم كله.
لكن صوت الأناشيد، الذي كان يرافق خطواتها، بدأ يختفي شيئًا فشيئًا.
ثم فجأة، توقف. ساد صمت مميت، وكأن الزمن نفسه تجمد.
توقفت هالة، فركت عينيها، وأعادت النظر إلى الورقة في يدها. الكتابة على الورقة تبدلت، كانت تبدو كأنها تتشكل أمام عينيها بأحرف جديدة. كلمة واحدة ظهرت بخط يديها، ولكنها لم تكتبها:
"هالة... ستحل اللغز، ولكن هل ستنجو؟"
تعثرت، وأخذت خطوة للأمام، ثم شعرت بشيء غريب. في تلك اللحظة، عندما فكرت في الهروب، فكرت أيضًا في مواجهة الحقيقة.
"لا!" همست لنفسها، "مش هتهرب... هعرف كل حاجة."
أغمضت عينيها، وبدأت تركز على الذكريات التي بدأ عقله يتحرك بها. شيئًا فشيئًا، بدأ كل شيء يتحول أمام عينيها، وانقلبت جدران السرداب إلى مشهد مختلف... مشهد يعود إلى الماضي.
فلاش باك:
كان العام 1887، في نفس البلدة التي تقف فيها هالة الآن. كانت المدينة تشتهر بتقاليدها القديمة، وتاريخها المليء بالأسرار. في تلك الحقبة، كان هناك رجل يُدعى سليمان، وكان مؤرخًا شابًا. كان يتجول في أرجاء العالم، يجمع القصص والأسرار القديمة، حتى وصل إلى مكتبة قديمة عثر عليها في أطلال بلدة نائية.
كانت المكتبة تبدو وكأنها كانت مغلقة منذ زمن طويل، ولكن سليمان شعر بشيء غريب يشده إليها. دخل المكتبة، وفي الداخل، اكتشف شيئًا لم يتوقعه... أرشيف الأرواح.
سليمان، الذي كان قد عانى من ماضٍ مليء بالحزن، بدأ في دراسة الأرشيف بشغف، محاولًا فك رموزه. ومع مرور الوقت، بدأ يكتشف أن الأرواح التي كانت مسجونة في الأوراق كانت تحمل قصصًا غريبة. كل روح كانت تروي قصة موتها، ولكن مع مرور الوقت، بدأ يشعر بشيء غريب. كان يشعر كأن الأرشيف يمتلك قوى خارقة، وكان لديه القدرة على التأثير في الواقع.
ثم ظهرت ميس.
كانت فتاة غامضة، جاءت إلى المكتبة مع والدها. كانت ميس تملك عقلًا حادًا، وجمالًا يلامس الغموض. مع مرور الوقت، بدأ سليمان وميس يتقاربان، وعاشا قصة حب محمومة، لكنها كانت مليئة بالأسرار. كان سليمان يحاول اكتشاف أسرار الأرشيف، بينما كانت ميس تدرك ما لا يدركه.
وفي أحد الأيام، بينما كان سليمان يحقق في بعض الأوراق، اكتشف حقيقة رهيبة... الطائفة التي أسست الأرشيف كانت تؤمن أن الأرواح يمكن أن تمنحهم الخلود. ولكن الطقوس كانت تتطلب أن يتحد روحان معًا، وأن يصبح الجسد الحامل لهما قادرًا على استيعاب قوتهم.
سليمان كان مقتنعًا أن هذا هو سر الخلود. قرر أن يكتب اسمه في الأرشيف، ولكن كان هناك شرط واحد. يجب أن يموت أحدهم قبل الآخر، ويمر الطقس الذي يربط الروحين.
كان يعتقد أن ميس هي التي ستحمل معه هذا الطقس، ولكن ميس كانت ترى فيه فخًا. عندما اكتشفت أن الطائفة كانت تخطط للسيطرة على الأرواح، قررت الهروب. حاولت تحذير سليمان، لكنه كان قد دخل في مرحلة من الجنون. وهو يرى أن الموت ليس النهاية، بل بداية جديدة.
وفي تلك الليلة... حدث ما كان يخشاه الجميع.
ميس، في محاولة لإنقاذ سليمان من الطائفة، قطعت الطقس قبل اكتماله. سليمان، الذي كان قد بدأ في فقدان عقله بسبب الطقوس، أصبح الآن عالقًا بين عالمين، بين الحياة والموت، بين الذاكرة والوجود.
قبل أن تغادر، تركت رسالة في الورقة... وصفت فيها نهاية الطقس، وقالت: "لن أسمح بأن أكون جزءًا من هذا الأرشيف. سأحرقه."
لكنها لم تدم طويلًا.
سليمان اكتشف بعد فوات الأوان أنه كان قد فقد جزءًا من نفسه في تلك الطقوس. ظل يطارد الأرواح في المكتبة، محاولًا إحياء ميس، محاولًا أن يُعيد نفسه، ولكن إلى الأبد كان عالقًا في الأرشيف... مجرد ذكرى.
عودة إلى الحاضر:
تلاشى الفلاش باك ببطء، وعادت هالة إلى السرداب. عقها مليء بتفاصيل الماضي، لكن هناك سؤالًا لا يزال يطاردها: هل ستنجو؟
فجأة، أدركت أن الطائفة قد تكون ما زالت تراقبها. هل كان ما عايشته في الفلاش باك حقيقة؟ أم أنها كانت مجرد جزء من الأرشيف أيضًا؟
في يدها، كانت الورقة لا تزال تحتفظ بنفس الكلمات التي كُتبت في الماضي... ومع ذلك، هناك كلمة واحدة جديدة ظهرت في أسفل الورقة:
"الطقس مستمر."
فجأة، شعرت بشيء غريب. كأنها بدأت تتحول... شيء داخلها ينهار.
هالة أخذت خطوة أخرى إلى الوراء، ولكنها شعرت بشيء غريب في جسدها. كان الألم يشتعل في صدرها، وكأن قلبها يضرب بقوة غير طبيعية. شعرت بأن هناك شيئًا يتحرك بداخلها، شيئًا ليس منها. كما لو أن نصفها الآخر بدأ يطل برأسه، يقتحمها شيئًا فشيئًا.
أغمضت عينيها، محاولة أن تتماسك. كانت تلك اللحظة هي اللحظة الفارقة التي قد تُحدد مصيرها. إذا لم تجد طريقة للخروج من هذا السرداب، ستُصبح مثل الآخرين في الأرشيف، جزءًا من قصة أخرى لا عودة منها.
كان صوت الأناشيد لا يزال يطاردها، وكأنها تهمس في أذنيها. ثم رأت في الظلام وجهًا آخر. كان وجه سليمان. ظهر فجأة أمامها، عينيه مظلمتين، يحاول الوصول إليها.
"هالة... تذكري." قال بصوت يملؤه الحزن والندم.
"ماذا تذكّر؟" همست هالة بصعوبة، عيونها غارقة في الظلام الذي يحيط بها.
"التاريخ يتكرر... الطقوس مستمرة، وهذه ليست النهاية."
بينما كانت تنظر إلى وجهه، شعرت بتمزق داخلي، وكأن شيئًا في روحها بدأ ينفصل. هل كان هو مجرد ذكرى؟ أم أنه كان روحًا حبيسة في الورقة، يحاول إخراجها من هذا السجن؟ أم أن تلك الصورة كانت انعكاسًا لجزء منها؟
كانت ترى الأشباح تتراقص حولها، تلمع من بعيد، صرخات خافتة وأجساد تتحرك كما لو كانت محاصرة في إطار زمني لا نهاية له.
"لن تخرجين... إلا إذا اخترت." قال سليمان بصوت أشبه بالهمس، كأنه يبتعد، كأن الظلام يبتلعه.
هالة رفعت يدها، محاولةً الوصول إليه، لكن يده ابتعدت عن متناولها، وكأنها أصبحت جزءًا من هذا العالم المظلم. ثم سقطت الورقة التي كانت تحملها على الأرض، وكان الحبر على حوافها يتحول إلى صورة مشوهة.
"الطقس مستمر..." تكرر النص بشكل غير طبيعي.
"الطقس؟!" صاحت هالة، محاولة السيطرة على أنفاسها، "ماذا يعني هذا؟!"
"الروح... تتناقص... لا تستطيعين إيقافه. كلما اقتربت من الحقيقة، كلما اقتربت من النهاية." كانت الكلمات تأتي مثل صواعق، ملتهبة في الهواء، ثقيلة كما لو كانت تُمزق الواقع نفسه.
هالة شعرت بدوار، وكأن الأرض تختل تحت قدميها. نظرت إلى الورقة في يدها، وتحتها... كانت صورة أخرى تظهر تدريجيًا: هي نفسها، ولكن بشكل مختلف. كانت مشوهة، عينيها مليئة بالخوف، شعور غريب يملأ قلبها.
فجأة، ظهر صوت آخر، صوت يملأ أرجاء السرداب:
"هل أنتي مستعدة لمواجهة الحقيقية؟"
استدارت هالة بسرعة، لكن لم تجد أحدًا. كانت أصواتهم تملأ المكان، الجميع يراقبونها، الجميع يُراقبون ما سيحدث الآن.
"أنتِ في قلب الطقوس الآن، لا يمكنك الهروب. الاختيار كان دائمًا ملكك."
هالة بدأت تتنفس بسرعة، وشعرت بأن جسدها بدأ يتحول، أن روحها بدأت تنفصل عن نفسها. كانت تحاول أن تتمسك بما تبقى منها، ولكن شيئًا كان يقيدها، يقيد عقليتها، كأنها تُسحب إلى أعماق بحر مظلم.
ثم، فجأة، تذكرَت. ذكرى حديث سليمان، عندما كان يقول:
"كل شيء يبدأ من النهاية."
النهاية؟ كانت هذه هي اللحظة التي كان يتحدث عنها، اللحظة التي كانت فيها عالقة بين الحياة والموت، بين الذاكرة والواقع. وفي تلك اللحظة، أدركت هالة أنها يجب أن تختار. إما أن تتخلى عن روحها التي أصبحت مشوهة، أو أن تُغرق في الطقوس التي لا رحمة فيها.
"الطائفة... الطائفة يجب أن تُنهي الطقس." همست.
فجأة، عاد صوت سليمان:
"ليس الطائفة فقط، هالة. أنتِ جزء منهم الآن."
ثم أظلم السرداب فجأة.
كانت هالة تتحرك بسرعة، تمسك بالورقة، وتحاول الهروب. ولكن، كلما ابتعدت خطوة، كانت الأرواح تقترب أكثر.
كانت تعرف الآن أن الخروج ليس هو الحل. يجب أن تواجه هذا الكابوس، حتى لو كان يعني اختفاء هويتها، حتى لو كانت ستُمحى تمامًا من هذا العالم. لكن هناك شيئًا واحدًا كانت تعرفه تمامًا: لن تكون جزءًا من الأرشيف إلى الأبد.
وأخيرًا، تراجعت، وأخذت نفسًا عميقًا، وقلبها ينبض بقوة. رفعت الورقة عاليا، وأغمضت عينيها، مشددة قبضتها على الكلمة الأخيرة.
"نهاية... ولكن بداية جديدة."
سادت لحظة من الصمت... ثم بدأ كل شيء ينفجر حولها، كأن الزمن قد عاد إليها.
يتبع.
ارشيف الارواح _الجزء الرابع
كانت الظلمة قد ابتلعت المكان، لكن هالة كانت تشعر أن شيئًا آخر، أعمق من الظلام، يحيط بها. كان جسدها في حالة انهيار تام، وعقلها يتأرجح بين الوعي واللاوعي. تحركت بخطوات بطيئة، وكأنها في حلم طويل، عينيها غارقتين في ذلك السكون الذي أصبح أكثر ثقلاً مع كل ثانية تمر.
في تلك اللحظة، أدركت أن الزمن لم يكن كما اعتقدت. كانت اللحظة التي دخلت فيها إلى الأرشيف لحظة تغيير لا يمكن الرجوع عنها. كلما حاولت الهروب، كانت الأرواح تلاحقها أكثر. وكانت تحاول فك رموز الطقوس القديمة، لكن ما كان يتضح أمامها هو سلسلة متشابكة من الأكاذيب، والذين كانوا جزءًا من هذا المشروع القديم كانوا يراقبونها، يراقبون ما سيحدث الآن.
ثم سمعت الصوت مجددًا.
"أنتِ لم تختاري بعد، هالة." قال الصوت بصوت رقيق، لكن مشبع بالكثير من الرعب. "تخيلي، إذا اخترتِ أن تُصبحين واحدة منّا، فلا عودة بعد ذلك. ستكونين جزءًا من الأبدية، جزءًا من الأرشيف."
هالة وقفت فجأة، متوترة، تتنفس بصعوبة. ولكن ما رأته أمامها جعل قلبها يتوقف لحظة. كان هناك شخص آخر. لم يكن أحدهم، لكنه كان شخصًا غريبًا، عيونه تتوهج بلون أحمر قاتم، وكان يتنفس بطريقة غير طبيعية. وقف هناك، كظلال تتراقص على الحائط، تنبثق منها زفرات الهواء الحارّة.
"من أنت؟" همست هالة بصوت مضطرب.
"أنا من كانوا قبلكِ." أجاب بصوت مبحوح، ثم ابتسم ابتسامة مظلمة، وكأن ابتسامته كانت تزداد شراسة كلما اقتربت منه. "أنا روحٌ حُبست هنا قبل أن تتاح لك الفرصة، لم أختر، ولكنني الآن جزء من الأرشيف."
هالة شعرت بالأرض تتمايل تحت قدميها، كان هذا الصوت يشدها نحوه. قلبها يخفق بشدة، وعقلها يحاول الهروب، لكن خطواتها كانت تتجه نحوه بطريقة غريبة، كما لو كانت محكومة بها.
"أنتِ لستِ الوحيدة، هالة." قال وهو يقترب، وكأن خطواته كانت تترك وراءها آثارًا مظلمة. "لقد بدأ الجميع في اختيار مصيرهم. أنتِ الآن تواجهي النهاية، لأنكِ فهمتِ أسرار الطائفة."
هالة تراجعت، وشعرت برعب يتسرب إلى جسدها. "الطائفة... ماذا تريد مني؟ لماذا أنا؟"
"الخلود... هي أكبر كذبة اخترعوها. لكنهم لا يعرفون الحقيقة. نحن هنا، مختبئون في الظلام، وكل من يدخل يصبح جزءًا من الحقيقة المظلمة." قالها بنبرة شديدة العزم، ثم أضاف: "نحن نتنقل بين الأوقات، لكن لا نملك الزمن. نحن عالقون."
في تلك اللحظة، ظهر شكل آخر أمام هالة. كان وجهًا مألوفًا، ولكنه كان مشوهًا، مرعبًا. كانت ملامحه نصف محطمة، والدماء تتدفق منه. كانت تلك صورة سليمان، ولكنه كان يشبه شبحًا آخر، شبحًا يتحرك في الظلام دون هوية.
"سليمان؟" قالت هالة بصوت مرتجف.
"لا تظني أنني هنا لمساعدتك، هالة." أجاب الصوت، ولكن لم يكن من سليمان، بل كان الصوت نفسه الذي كان يردد كلمات الطائفة. "لقد كنتِ قريبة جدًا، ولكنكِ لم تكتشفي الحقيقة بعد. كل شيء مرهون باختياركِ."
هالة كانت تغرق في دوامة من الأفكار، بين ذكرياتها مع سليمان، وبين ما يراه عينيها الآن. كانت تعرف أنها على وشك اتخاذ قرار مصيري. هل ستصبح جزءًا من هذا الأرشيف الأبدي؟ هل ستستسلم للطائفة وتكون واحدة منهم؟ أم أنها ستبقى تصارع هذا الظلام، وتبحث عن مخرج؟
بينما كانت تتساءل عن مصيرها، بدأت الأوراق في الأرشيف تتحرك من تلقاء نفسها. كانت ترفرف في الهواء، وكأن الأرواح التي كانت محبوسة داخلها قد بدأت تنبعث وتبحث عن مخرج. كان هناك شيء غريب يحدث، وكأن الطائفة قد شعرت بأنها على وشك فقدان السيطرة على هالة. وفي تلك اللحظة، كانت هالة تشعر بأن شيء أكبر من أي طقوس كان يحيط بها.
"إما أن تقتليهم، أو أن تقتلي نفسك." همست الكلمة الأخيرة في أذنها، كما لو أن العالم كله كان يدور حولها، والوقت كان يتوقف ليعلن النهاية.
هالة رفعت يدها، محاولًة أن تقاوم، ولكن جسدها كان ثقيلًا. "لا..." همست، "لن أكون جزءًا منكم."
لكن في لحظة واحدة، كانت يدها تتحرك تلقائيًا نحو الورقة التي كانت في يدها. كان هناك شيء غريب، شعرت بشيء يشدها نحوها. وكأن الورقة كانت جزءًا منها، جزءًا من سر قديم بدأ يظهر فجأة.
وبينما كانت الأوراق تطير في الهواء، تجمعت في دائرة حولها، وكأن الأرواح كانت تُجبر على اتخاذ شكل جديد.
"لن تنجحي." قال الصوت الأخير، مُتوعدًا. "الطائفة دائمًا تملك النهاية."
لكن هالة كانت قد وصلت إلى نقطة اللاعودة. كانت تعرف الآن أنها على حافة القرار الأخير. إما أن تصبح جزءًا من الأرشيف، أو أن تُحرر الأرواح التي كانت تحبسها الطائفة.
في تلك اللحظة، التقطت الأنفاس بصعوبة، ولكنها شعرت بشيء يتغير في داخلها.
"سأكون الحُرة." همست.
ثم، في لحظة واحدة، حدث ما لا يمكن تصوره. انفجرت الأوراق من حولها، وكأنها قنبلة زمنية، بدأت الأرواح تخرج من الحبس، وتبدأ في التحول إلى أشباح هائلة، تملأ الغرفة بأصوات مرعبة.
"الطائفة... ستموت." قالت هالة في تحدٍ.
كانت اللحظة تتسارع، وكأن الزمن قد تجمد للحظة، بينما كانت هالة تقف وسط عاصفة من الأوراق المتطايرة، وأشباح الأرواح المتمردة التي بدأت في الخروج من الأسر. كان الهواء مشبعًا بصوت الصراخ الصامت، صرخات تلك الأرواح التي لم تجد سبيلًا للخلاص إلا بالموت.
كان العقل يرفض استيعاب ما يحدث، ولكنها شعرت بقوة داخلها تنبثق كما لو كانت تعيد تشكيل كل شيء حولها. الأرواح كانت تتحول إلى كائنات غير مرئية، تقترب منها بنظرات فارغة، كأنها تبحث عن هويتها. كان الجميع يصرخ في صمت، لكن هالة وحدها كانت تملك القدرة على إدراك ما يحدث، وعلى فهم الخطر الذي يهددها.
وفجأة، تحولت المرايا القديمة التي كانت تزين جدران المكتبة إلى عيون حية، تشع بضوء غريب، بينما كانت تعكس صورًا مشوهة لكل من مرّ من هنا، كل روح كانت محبوسة في تلك الأوراق. كانت تلك المرايا تغذّي الظلام، وكان الظلام نفسه يزداد قوة في كل ثانية.
"أنتِ لا تملكين القوة لمقاومتهم، هالة." جاء الصوت المألوف، صوت الطائفة الذي كان يخرج من كل زاوية. "نحن هنا لنمنحك الخلود، لكنكِ تختارين الموت."
كانت كلمات الصوت تتسلل إلى عقلها، تحاول إرباكها، إغراقها في بحر من الشكوك. لم تعد تعرف من هي. هل هي هالة التي دخلت إلى المكتبة منذ ساعات قليلة، أم أنها أصبحت جزءًا من تلك الأرواح التي تتحكم بها الطائفة؟
ثم شعرت بشيء غريب، قشعريرة تسري في جسدها، وكأن شبحًا يحاول دخول أعماق روحها. في تلك اللحظة، أدركت أن الطائفة كانت تراقبها عن كثب، وأنهم لم يكونوا مجرد رجال ونساء مختبئين في الظلام، بل كانوا شيئًا آخر، شيئًا غير بشري.
"من أنتم؟" همست هالة، وهي تتمايل على قدميها.
"نحن من يتحكم بالزمن... الأرواح... ونحكم بالخلود." جاء الجواب من كل جانب، كان الصوت يتداخل، كأنه يتسرب من كل مكان. "نحن الطائفة التي تحكم العالم بصمت. نحن لا نريد أن تكوني جزءًا من الماضي... نحن نريدكِ في المستقبل."
كانت هالة تقف وحيدة، عيناها تشتعلان بأمل ضعيف في النجاة. ولكن الواقع كان مرعبًا. الأرواح التي خرجت من الأوراق، واصطفّت حولها، بدأت تتجمع بشكل دائري، كأنها تحاصرها. كانت تلك الأرواح تأتي من كل مكان، أشكالها مظلمة، لكن لا يمكن التنبؤ بها. بعضها كان مشوهًا، وبعضها كان قديمًا بشكل لا يُصدق.
"هل ستظل تراقبينهم وهم يتغذون على قلقك؟" قال الصوت أخيرًا. "لا مفر لكِ."
هالة شعرت بأن قلبها ينبض بشكل غير طبيعي. كان عقلها يدور، ثم تذكرت كلمات الطائفة قبل أن تتساقط الأوراق: "كل روح تحبس هنا تصبح جزءًا مننا، وكل روح تفلت، تُحرق."
كان الهدوء يملأ المكان، وكأن الجميع في انتظار لحظة النهاية. في تلك اللحظة، شعرت هالة بشيء يتغير داخلها. شيء عميق، شيئًا غريبًا يسرع نبضات قلبها، شيئًا كان قد انبثق من أعماقها.
"أنا... لست جزءًا منكم." قالت هالة بصوت عميق، رغم الرعب الذي كان يمزق قلبها. "أنا لست إلا امرأة من زمن مضى. ولن أسمح لكم بسرقة هويتي."
وبدأ الظلام يزداد كثافة حولها. كانت تعي أنها في نقطة اللاعودة. كان هذا ليس مجرد اختبار لقوتها، بل اختبار لوجودها.
وعندما انطلقت من شفتيها تلك الكلمات، تلاشى الهواء، واختفى كل شيء حولها، بينما كان الظلام يعصف بمحيطها. كانت الأرواح التي حولها تبدأ في التلاشي، تختفي واحدة تلو الأخرى، كما لو أنها تتناثر في الهواء، وتصبح جزءًا من الفراغ.
ولكن هالة لم تستطع إلا أن تلاحظ شيئًا غريبًا. كانت الأرواح التي تلاشت تتحول إلى رماد. ثم تشكل الرماد في شكل بشري، وبدأ يظهر شخص أمامها، شخصٌ يبدو مألوفًا جدًا. "سليمان؟"
نعم، كان هو، سليمان. لكنه لم يكن كما كانت تعرفه. كان ملامحه قد تغيرت، عينيه غارقتين في ظلال عميقة، وكان وجهه شاحبًا كالميت.
"لم يكن عليكِ أن تفعلي ذلك." قال سليمان بصوت بارد، غير الذي كانت تعرفه. "لقد اخترتِ أن تكوني جزءًا من هذا العالم المظلم، هالة. أنتِ الآن جزء منه."
شعرت هالة بحرارة عينيه التي تتأملها بحزنٍ غريب. كأنها كانت تراه للمرة الأولى، وكأن كل ما مرت به كان مجرد فخ.
"أنا لست جزءًا منه!" ردّت هالة بصرخة، وهي تحاول إبعاد يديه عن روحها التي كانت على وشك الانهيار. "لن أكون أبدًا جزءًا من هذا!"
ثم حدث ما لم تكن تتوقعه. بدأ سليمان يذوب أمام عينيها، يتحول إلى رماد، مثلما كان يحدث مع الأرواح التي تخرج من الأرشيف. وكلما اقتربت منه، تلاشى.
