رواية اصوات الليل الفصل الاول1بقلم فادي مسالمه



رواية اصوات الليل
 الفصل الاول1
بقلم فادي مسالمه

لم تكن قريتنا تعرف الضجيج، ولا تستسيغ العجلة. كل شيء فيها يمشي على مهل، كما لو أن الزمن نفسه يجلس على حافة النهر يتأمل الموج ويتثاءب. في هذا الركن الهادئ من العالم، عاشت ريما، تلك الفتاة التي كانت تمر كنسمةٍ باردة في نهار تموز، لا تزعج أحدًا، ولا يزعجها شيء. 

كانت تحب السير وحدها في الطرقات الضيقة، تنصت لأصوات الليل، وتؤمن أن في كل صوت حكاية... في صرير نافذةٍ لم تُغلق جيدًا، في نباحٍ بعيد لكلبٍ لم يرَ أحدًا، وفي همسات الريح التي تمرّ بين أوراق التوت في حديقة جارتهم العجوز. 

ذات مساء، وبينما كانت عائدة من بيت خالتها، وقفت فجأة عند مفترق الطريق، حين رأت شابًا غريبًا يسأل رجلًا عجوزًا عن منزلٍ معين، لكن العجوز لم يسمع جيدًا. توقفت ريما، وشهقت في سرها حين أدركت أن ملامحه مألوفة بعض الشيء. كان يحمل حقيبةً جلدية على كتفه، ويرتدي معطفًا خفيفًا لا يناسب دفء المساء. 

اقتربت منه ببطء. 

ريما (بخجل):
ـ لو سمحت... سمعتك تسأل عن بيت أبو فؤاد؟ 

سامر (يبتسم بخفة):
ـ أيوا، تعرفيه؟ 

ريما (تهز رأسها):
ـ طبعًا... أنا كنت راجعة من طريقه. فيك تمشي معي، أوصف لك الطريق. 

سامر (يمد يده بلطف):
ـ سامر... ابن فؤاد. يمكن سمعتي عني. 

ريما (بدهشة خافتة):
ـ إنت سامر اللي سافر من سنين طويلة؟! 

سامر (ينظر بعيدًا):
ـ من أكتر مما بتحسبي... سبع سنين.
(يضحك بصوت خفيف)
ـ بتعرفي، ولا مرّة تخيلت إنّي لما أرجع، أضيع بطريق بيتنا. 

ريما (بابتسامة خجولة):
ـ القرية بتضل متغيّرة شوي، بس قلبها بيضل متل ما هو. 

مشيا معًا في صمتٍ لبضع خطوات، ثم بدأت ريما تشير إلى المعالم التي لم تتغير، إلى الشجرة الكبيرة التي كانت مرسم الأطفال، وإلى بيت أبو فارس الذي صار مهجورًا بعد وفاته. سامر كان ينظر لكل شيء بنظرةٍ مشوبة بالحيرة... كما لو أنه يبحث عن نفسه في تفاصيل ماضيه. 

سامر:
ـ الناس هون... بيضلوا متل ما هني؟ ولا في شي تغيّر؟ 

ريما:
ـ الناس بتتبدّل ملامحهم، بس أرواحهم إذا طيبة، بتضل متل ما هي. يعني خالتي بتقول: "القلوب الطيبة ما بتتعلم الزعل، بتضل بتسامح حتى وهي موجوعة." 

سامر (ينظر إليها بدهشة):
ـ بتحكي حكي كبير على سنك... 

ريما (تخفض عينيها):
ـ الحياة بتعلّم، بس بهدوء. متل الليل... 

وصلا إلى باب البيت القديم. وقف سامر أمامه للحظات، ولم يتحرك. الريح مرّت فوق وجهيهما، ومعها رائحة ترابٍ مبلل رغم أن السماء لم تمطر. 

سامر (بصوت متهدج):
ـ كتير كنت أحلم بهاللحظة، بس ما كنت أعرف إني لما أرجع، راح أحس حالي غريب. 

ريما (بصوت خافت):
ـ الغربة مش بس بالأماكن... أوقات بتكون جوّا القلب. 

سكت سامر. نظر إلى الباب، ثم إلى ريما. أراد أن يقول شيئًا، لكنه اكتفى بهزة رأسٍ صامتة. 

سامر:
ـ شكراً... ما كنت بعرف إنّي اليوم راح أرجع، وألاقي إنسانة بتفهمني بهالسرعة. 

ريما (تبتسم بهدوء):
ـ يمكن لأنك ما حكيت كتير، بس صوتك حكى عنك. 

وقبل أن تودعه، التفتت إليه وقالت: 

ريما:
ـ أنا بمرّ من هون كل يوم، إذا احتجت شي... بس قُل. 

سامر (يبتسم بخفة):
ـ أنا محتاج أعرف شو في بهالصوت اللي خلاني أحس إني مش لحالي. 

رحلت ريما، وصوت خطواتها ظلّ يتردد في أذنه، كأن الليل بدأ يهمس له من جديد، بعد صمتٍ دام سبع سنين.

دخل سامر البيت، وفتح الباب الخشبي الذي صرّ كأنه يشكو سنوات الغياب. رائحة التراب القديم، ودفتر الصور المنسية، والغبار الذي يعلو أثاثًا لم يمسه أحد منذ زمن… كل شيء بدا له كأنه صفحة من ماضي مؤجّل. 

وقف في منتصف الصالة، وتنهّد. 

سامر (بصوت هامس لنفسه):
ـ رجعت... بس ما بعرف إذا أنا بعدني متل ما رحت. 

** 

في اليوم التالي، استيقظ على ضوء الشمس المتسلل من بين الستائر. جلس على حافة السرير وأخذ يتأمل السقف، يتذكر طفولته، صوته وهو يركض في أرجاء هذا البيت، ضحكة أمه، وصوت والده وهو يناديه: "سامر، تعال شوف أمك شو طبختلك!" 

نهض بتكاسل، وخرج يتمشى في الحي. لم يتغير الكثير، إلا ملامح الوجوه التي لم تعد كما كانت. رأى بعض الأطفال يلعبون في الزقاق، بعض النساء ينشرن الغسيل، ورجال يجلسون في مقهى صغير يتبادلون أخبار القرية. 

لكنه ما إن مرّ قرب الطريق الذي التقاه فيه بريما حتى تباطأت خطواته، كأن قلبه سبقه هناك. 

وما إن وصل إلى زاوية الحي، حتى لمحها من بعيد... كانت تجلس على سور حجري منخفض، تمسك كتابًا صغيرًا وتقرأ. شعر بشيء من التردد، ثم اقترب. 

سامر (بابتسامة هادئة):
ـ بظن إنّك بتحبي هالزاوية... 

ريما (تبتسم من دون أن ترفع نظرها):
ـ فيها ضي كتير حلو بهالوقت من النهار... وفيها هدوء بيخليني أفكر. 

سامر (يجلس بالقرب منها):
ـ شو عم تقري؟ 

ريما (تمد له الكتاب):
ـ خواطر... بس مو لأي كاتب مشهور. شاب من القرية، كان بيكتب بجرناله الخاص. خطه مو حلو، بس كلماته بتشبه الحياة. 

سامر (يقرأ بصوتٍ منخفض):
ـ "الحزن مش دايم، بس بيسكن الأماكن اللي فقدنا فيها حدا بنحبّه"...
(يصمت قليلًا)
ـ عن جد كلماته صادقة. 

ريما (تتأمله):
ـ واضح إنّك مش مرتاح يا سامر. 

سامر (يتنهّد):
ـ راجعت حساباتي كلّها، وما قدرت أفهم كيف الغربة بتخلينا نكبر بسرعة، بس برضه بتخلينا نحسّ حالنا لسه أولاد.
(ينظر بعيدًا)
ـ لما رجعت، حسّيت إنّي تايه، وكأنّي ما بعرف شو المفروض أعمل. 

ريما (بصوت دافئ):
ـ ما لازم تعمل شي بسرعة. الحياة هون بتمشي على مهل. امشي معاها... مش ضدها. 

سكت كلاهما، وأخذا ينصتان معًا لصوت العصافير، والريح وهي تلاعب أوراق التين. لحظة سكونٍ جمعت بين شخصين لا يعرفان عن بعضهما الكثير، لكن شيئًا ما كان يُبنى في الصمت. 

سامر:
ـ غريب كيف في حكي بنقوله من غير كلمات. 

ريما:
ـ لأنّ في ناس بتعرف تقرأ ما بين الصمت... وإنت منهم. 

ابتسم سامر، وشعر بأن ثقله خفّ قليلًا. نهض، وأخذ خطوة إلى الوراء. 

سامر:
ـ بظنّ إنّي اليوم، صرت أعرف ليه رجعت... 

ريما (ترفع عينيها نحوه):
ـ وليه؟ 

سامر (يبتسم):
ـ عشان أسمع صوت الليل... وأفهمه. 

** 

في تلك الليلة، جلس سامر في شرفته، يحمل فنجان قهوة، ويُنصت لصوت الريح بين الأشجار. ومن بعيد، لمح ظلًا أنثويًا يمرّ من الشارع المقابل... شعر بشيءٍ يتحرك في قلبه، شيء يشبه الحنين لكنه جديد تمامًا. 

كانت ريما قد أصبحت جزءًا من صوته الداخلي، كأنّها النغمة الوحيدة التي لا تُشبه الضجيج، بل تُشبه السكون... الجميل. 


                  الفصل الثاني من هنا
تعليقات



<>