رواية اصوات الليل
الفصل الثاني2
بقلم فادي مسالمه
مرّت الأيام في القرية على وتيرتها البطيئة، وكانت الشمس تُشرق كل يوم على إيقاع الرتابة الهادئة، لكن في قلب سامر، كانت هناك يقظة جديدة... صوت خفيّ بدأ يوقظه كل صباح، يدفعه لأن يرتدي قميصه ويخرج إلى الزقاق، وكأنّه على موعد غير مُعلن.
وفي معظم الأيام... كان يجدها.
ريما، بوجهها الهادئ، وعينيها التي تلمع كما لو أنّها تخبّئ شتاءً كاملاً من التأملات. كانت غالبًا ما تجلس في نفس الزاوية، تمسك كتابًا أو تراقب المارّة، وأحيانًا تنظر نحو السماء وتبتسم كأنها تُحادث غيمة.
في البداية، كانت لقاءاتهما مقتضبة... تحية خفيفة، ثم حديث بسيط عن الجو، عن كتاب، عن الطريق، ثم صمت مريح يشبه نغمة موسيقى خافتة في الخلفية.
لكن شيئًا فشيئًا، بدأ الحوار يطول.
ريما (في أحد الأيام، وهي تشير إلى دفتر صغير):
ـ بتكتب؟
سامر (ينظر للدفتر بارتباك بسيط):
ـ خواطر… بس مو دايمًا بكتب. أحيانًا بس بكتب كلمة، وبتركها، وأستنى تحكيلي الباقي.
ريما (تبتسم بخفة):
ـ حلوة الفكرة... يعني الكلمات بترجع لك لما تكون مستعد تسمعها.
سامر (ينظر إليها):
ـ مثل الناس...
كانت تلك المرة الأولى التي تطول نظراته لها. لم تكن نظرة إعجاب عابرة، بل تأمّل. كأنّه يُحاول فكّ لغزًا مكتوبًا على وجهها.
**
في أحد الأيام، وبينما كانت تمشي على حافة الطريق الترابي، سمع صوت خطوات تقترب منها.
سامر (بهدوء):
ـ بتمشي لحالك دايمًا؟
ريما (تبتسم دون أن تنظر إليه):
ـ لما أمشي لحالي... بحكي مع أفكاري. بس لما حدا بيمشي جنبي، أفكاري بتصير تتصرف وكأنّها خجولة.
سامر (ضاحكًا بخفة):
ـ طيب إذا وعدتك إنّي ما أزعجها... ممكن أمشي معك؟
ريما:
ـ ممكن، بس على مهلك... أنا ما بحب الركض.
سامر (ينظر أمامه):
ـ أنا كمان... تعبت من الركض، عشت سنين بمكان كله جري... واليوم، كل اللي بديه أمشي على مهل.
**
صار لقاؤهما صباحيًا وعصريًا أحيانًا، وفي أحد المرات، دعتها والدته ـ التي لاحظت تعلق ابنها المتزايد بالفتاة الهادئة ـ إلى تناول الغداء معهما.
كانت ريما مترددة، لكنها وافقت على مضض.
ارتدت فستانًا بسيطًا بلون السماء، وشالاً أبيض ناعمًا، دخلت إلى البيت بخطوات خجولة، وحيّت والدته بلطف، وجلست مقابلة سامر على مائدة الغداء.
والدة سامر (بابتسامة دافئة):
ـ ريما، سامر صار يطلع كل يوم من الصبح... قلبي بيحكيلي إنّه في سبب حلو.
ريما (تحمرّ وجنتاها):
ـ يمكن القرية حلوة... فيها ناس طيبين.
سامر (ينظر إليها ويمزح):
ـ في حدا طيب جدًا...
ضحك الجميع، وشعرت ريما للمرة الأولى أن هذا البيت، رغم غيابه الطويل عنه، يشبهها.
**
في مساء هادئ، دعاها سامر لتمشية قصيرة بعد الغروب.
ريما (تسأله وهي تنظر نحو القمر):
ـ بتعرف... فيك شي غريب.
سامر (ينظر إليها):
ـ غريب حلو ولا غريب يخوّف؟
ريما (بابتسامة حزينة):
ـ غريب بيخلي الواحد يحسّ بالأمان... مع إنّه مش مفهوم.
سامر:
ـ وأنتِ... فيك شي بيريّح. بحسّ إنّي بعرفك من زمان، من قبل ما أرجع لهون.
ريما:
ـ ممكن نكون التقينا بزمان تاني... يمكن بس كنا لسه مش جاهزين لبعض.
**
ومنذ تلك الليلة، تغيّر كل شيء. لم تعد لقاءاتهما عادية. صار الصمت بينهما أعمق، والضحكات أغلى، والأحاديث أكثر دفئًا. شاركته خوفها من الوحدة، وشاركها ألمه من الغربة. عرفا أنّ ما بينهما لم يكن افتتانًا عابرًا، بل حضورًا طويلاً، ناعمًا، يتسلل ببطء، مثل نسمة ليل على خدّ عاشق.
في أحد الأيام، بينما كانت الشمس تميل نحو الغروب، والسماء تُعانق الأفق بألوان البنفسج، جلس سامر وريما على إحدى الصخور المطلة على حقل الزيتون، حيث النسيم يلعب بشعرها وهي تحاول أن تثبّت خصلة عنيدة خلف أذنها.
سامر (ينظر إليها بخفة):
ـ بتعرفي إنك بتحاربي الريح؟
ريما (تبتسم وهي تحني رأسها):
ـ بحاول أكون مرتبة قدّامك… مع إنه الريح أحيانًا بيكسب.
سامر (ينظر بعيدًا):
ـ أنا طول عمري كنت أرتب كلامي، أفكاري، حياتي… بس من رجعت لهون، حاسس كل شي عم يتخبّط جواي. وأنتِ… وجودك مشوّشني، بطريقة حلوة.
ريما (بهمس):
ـ يمكن لأنك مش راجع لنفس المكان، يمكن رجعت لشخص جديد.
سامر (يلتفت إليها، بصوت أكثر عمقًا):
ـ وشو يعني إني رجعت لإلك؟
ريما (تتلعثم قليلاً، تنظر إلى يديها):
ـ يعني… يمكن هاد اللي كنا محتاجينه. حدا يسمعنا… مش بس يسمع الكلام، يسمع الصمت اللي بين الكلمات.
سادت لحظة من السكون، لم تكن محرجة، بل كانت مليئة بالأمان. الرياح تمرّ بهدوء، وصوت الأشجار حولهما بدا كأنه يبارك ما ينشأ بهدوء بين القلبين.
**
في الأيام التالية، بدأت الأمور تأخذ طابعًا مختلفًا.
كان سامر يحضر لها كتبًا جديدة من مكتبته القديمة، وبعض المرات، يترك لها وردة صغيرة على سور الحديقة دون أن يقول شيئًا.
أما ريما، فكانت تعد له فطورًا بسيطًا تضعه له في علبة، وتعلّق عليها ورقة فيها عبارة مثل:
"لأنه يومك بيبدأ بابتسامة... حبيت أكون سببها."
**
في أحد الأيام، بعد جلسة طويلة بينهما في الحديقة الخلفية لمنزل عائلته، سألها:
سامر:
ـ لو قلت لك إني بلشت أتعلّق… بتخافي؟
ريما (تُحدّق في عينيه):
ـ بخاف… بس مش منك.
سامر:
ـ من شو؟
ريما (بصوت خافت):
ـ من إني ألاقي حالي بعد سنين من الضياع… وبعدين أخسرك.
سامر (يقترب منها قليلًا، نبرة صوته تهدأ):
ـ أنا كمان ضعت سنين… بس وجودك بعلّمني كيف أرجع.
**
ثم جاء ذلك اليوم الذي لمس فيه يدها، لا بقصدٍ واضح، بل لأن كفّها كان قريبًا جدًا من كفه، والحديث كان صادقًا جدًا، واللحظة كانت أنقى من أن يُهدرها بالصمت.
يده لامست يدها… بلطف، باطمئنان، كأنها وعدٌ صغير.
ريما (تبعد يدها ببطء، لكن دون رفض):
ـ سامر…
سامر:
ـ ولا مرّة كنت واثق من شعور… مثل هالمرة.
ريما (تنظر إليه، والدمعة في عينيها):
ـ لا تِجْرَحني… لو قربك مش حقيقي، قولها من هلق.
سامر (يأخذ نفسًا عميقًا):
ـ أنا ما بعرف كيف بيبدأ الحب، بس بعرف إنّي بحب هدوءك، بعيشك، بضحكتك اللي بتجي ببطء… يمكن عم أقع، بس ببطء... متل كل شي حقيقي.
**
في تلك الليلة، لم تنم ريما.
كانت تنظر إلى السقف، تتذكّر كلماته، نظراته، دفء يده… وتشعر بشيء غريب ينمو داخلها.
شيء لا يشبه الأحلام... بل يشبه الواقع حين يكون طيبًا.
