رواية قربك يطمئني الفصل الاول1بقلم سامر الحريري
في الزاوية الهادئة من المدينة، حيث تمضي الحياة ببطء يشبه حكايات المساء، كانت سارة تمشي بخطى ثابتة نحو المركز الصحي. لم يكن اليوم مختلفًا عن غيره، السماء رمادية بلا شمس، والهواء يحمل نسمات باردة تُذكرها بأن الخريف يطرق الأبواب. ورغم الرتابة الظاهرة، كانت سارة تعرف أن كل يوم يحمل احتمالًا جديدًا. احتمال أن تزرع كلمة، أو تضيء طريقًا في روح أنهكها الغياب.
هي ليست مجرد طبيبة نفسية. بل كانت – على طريقتها الخاصة – ضوءًا صغيرًا في نفق طويل. كانت تستمع أكثر مما تتكلم، تقرأ الوجوه كما تقرأ صفحات الكتب القديمة: صامتة، مليئة، وتنتظر من يفهم ما بين السطور.
دخلت إلى مكتبها المضيء بنور طبيعي، رتبت الأوراق على الطاولة، جلست على الكرسي الجلدي البسيط، وأخذت نفسًا عميقًا. فتحت ملف اليوم. اسم جديد، حالة جديدة، حكاية جديدة.
طارق مراد. العمر: ٣٢ عامًا. المهنة: مهندس معماري. التشخيص المبدئي: قلق واكتئاب بسيط.
قرأت الملف مرتين، كما اعتادت أن تفعل حين تشعر أن هناك ما لم يُكتب بعد. اسم طارق لم يبدُ غريبًا عليها، لكن العقل قد يخدع صاحبه أحيانًا، وربما هي مجرد مصادفة.
لم يكن لديها وقت للظنون. سمعت طرقًا خفيفًا على الباب.
– "تفضل."
دخل شاب طويل، عريض الكتفين، يرتدي قميصًا رماديًا بسيطًا وبنطال جينز، خطواته واثقة لكن عينيه تخونانه. كان واضحًا أنه رجل يواجه العالم بشجاعة، لكنه خسر معركة داخلية لا أحد يراها.
– "صباح الخير." قالها بصوت هادئ دون أن يبتسم.
– "صباح النور، أستاذ طارق. تفضل، ارتاح."
جلس أمامها بصمت، نظر إلى الطاولة، ثم إلى النافذة، وكأنه يبحث عن طريقة للهروب من أول الكلمات.
– "أنا سارة، ودي أول جلسة بينّا. مش هنحاول نحل كل حاجة النهاردة، بس ممكن نبدأ نفكّر سوا."
لم يُجب فورًا. ثم قال بعد لحظة من الصمت:
– "أنا مش عارف أنا بعمل إيه هنا بالضبط. بس... حد قالي إني محتاج أتكلم، وأنا... جربت كل حاجة تانية وما نفعش."
ابتسمت ابتسامة دافئة، من تلك التي لا تُجبرك على الكلام، بل تمنحك مساحة لتلتقط أنفاسك.
– "أوقات الكلام هو آخر خطوة مش أولها. ناخد وقتنا."
نظر إليها هذه المرة، نظرة قصيرة لكنها كافية لتخبرها أن الجدار بينهما قد تشقّق قليلًا.
لم يكن طارق يدري حين جلس أمامها، أن تلك الجلسة لن تكون مجرد حديث عابر. ولم تكن سارة تعلم أن هذا الرجل – بصمته وتردده – سيكون بداية حكاية لن تُشبه شيئًا عرفته من قبل.
في ذلك المكتب الصغير، بدأت الحكاية. حكاية حب لا تبدأ بصاعقة، ولا تنهار بجنون، بل تنمو مثل نبتة هادئة في صباح خريفي: لا صوت لها، لكنها تملأ القلب دفئًا.
ساد صمت قصير بينهما، من ذلك النوع الذي لا يثقل الجو، بل يفسح مساحة للتأمل. كانت سارة تراقب ملامحه دون أن تُشعره، تحاول أن تفكّ شيفرات التعب خلف عينيه. أما طارق، فقد بدا كأنه يريد أن يتكلم، لكنه يبحث عن الكلمات كما يبحث الغريق عن طوق نجاة.
– "أنا دايمًا ببان قدام الناس إني متماسك... مرتّب، ناجح، وعندي كل حاجة. بس الحقيقة إني مش عارف أختار. مش عارف أقرر. حتى الحاجات اللي المفروض أفرح بيها... مش بحس بيها."
قالها وكأنه اعترف بسرٍ كبير. نظرت إليه سارة، لم تقاطعه، فقط أومأت برأسها لتشجّعه على الاستمرار.
– "بشتغل في شركة كبيرة، وبنشتغل على مشروع جديد المفروض إنه أهم إنجاز في مسيرتي. بس كل يوم بروح الشغل وأنا حاسس إني بضحك على نفسي. مش حاسس إني هناك... مش حاسس إني هنا... ولا في أي مكان."
تنهّد بعمق، ومرر يده على وجهه، ثم تابع:
– "أهلي مستنيين مني حاجات... شغلي مستني مني قرارات... نفسي مستنياني أكون شخص مش لاقيه جواي. وكل ده وأنا ساكت."
صمت مرة أخرى، لكنها شعرت أن جملة لم تُقال بعد كانت تخنقه. فقررت أن تفتح له بابًا صغيرًا:
– "ساعات لما بنكون مش قادرين نسمع صوت نفسنا، بنحتاج نكون في مكان آمن نقدر نرتاح فيه. تحب تعتبر الجلسات دي مساحة أمان؟ بدون أحكام. فقط استماع."
نظر إليها نظرة مختلفة هذه المرة. أقل توترًا، وأكثر قربًا.
– "أنا محتاج المساحة دي فعلاً... أنا تعبت من كل حاجة بتتلزق فيا وأنا مش راضي عنها."
كتبت سارة ملاحظة صغيرة على الورقة أمامها، دون أن تُبعد نظرها عنه تمامًا. ثم سألته:
– "قل لي يا طارق... إمتى آخر مرة حسيت إنك عايش؟ مش مجرد موجود؟"
ظل ينظر إليها بثبات للحظة، ثم ابتسم ابتسامة صغيرة، لكنها حملت الكثير من الحزن:
– "زمان... لما كنت برسم."
ارتفعت حاجباها باهتمام.
– "بترسم؟"
– "كنت. قبل ما الشغل ياخدني، قبل ما أسمع الجملة دي: الرسم مش هينفعك. لازم تفكر بعقل."
هزّ رأسه وكأن الذكرى تؤلمه.
– "رسمت بيتي اللي كان نفسي أعيشه، والأماكن اللي كنت بحب أزوّرها، والناس اللي حلمت أكون معاهم. بس سبت كل ده علشان أثبت إني واقعي."
قالتها سارة بنبرة دافئة:
– "ممكن الواقعية تكون سجن لو مشينا فيها واحنا مش بنحبها."
رفع نظره إليها، كانت نبرتها صادقة، لا تقولها كتوصية طبية، بل كإنسانة مرت بشيء يشبهه.
– "وإنتِ؟ إزاي بقيتي طبيبة نفسية؟"
ابتسمت بخفة، لم تكن معتادة أن تكون هي من تُسأل، لكن سؤاله كان نقيًا، مثل طفل يسأل دون أن يقصد شيئًا.
– "كنت بحب أسمع الناس من وأنا صغيرة. ماما كانت تقول إني بسمع أكتر من اللازم. يمكن علشان كنت بحس إن في كل حكاية ألم مش باين... وأنا كنت بحب أساعده يبان علشان يخفّ."
سكتت لحظة، ثم أردفت:
– "بس الحقيقة؟ يمكن أنا كمان كنت بدور على اللي يسمعني."
ساد صمت جديد، لكنه لم يكن ثقيلًا هذه المرة، بل بدا وكأنه بداية جديدة. كأن شيئًا لم يُقل بعد، لكنّه على وشك أن يولد.
نهض طارق ببطء عند نهاية الجلسة. نظر إليها وقال:
– "شكراً... مش علشان الجلسة، لكن علشان الكلام اللي خلاني أفتكر إني لسه أقدر أعيش."
ابتسمت سارة، وقالت بهدوء:
– "أنا هنا لما تحب تفتكر ده تاني."
غادر طارق الغرفة، تاركًا خلفه عطرًا خفيفًا وارتباكًا لطيفًا في الهواء. أغلقت سارة الملف ببطء، وكتبت فيه عبارة واحدة:
"خلف الصمت، أحيانًا، يختبئ قلب ينتظر فقط من يطرق عليه بلطف."
ولم تكن تعلم أن هذا القلب... سيكون قلبها هي أيضًا.
